الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد0%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)
تصنيف:

الصفحات: 320
المشاهدات: 82271
تحميل: 7358

توضيحات:

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 82271 / تحميل: 7358
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

معصيته، سواء كان صغيرا أو كبيرا.

وفيهم من ذهب إلى أن الايمان هو التصديق بالقلب واللسان معا، والكفر هو الجحود بهما.

وفي أصحابنا من قال: الايمان هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح، وعليه دلت كثير من الاخبار المروية عن الائمة عليهم السلام.

وقالت المعتزلة: الايمان اسم للطاعات، ومنهم من جعل النوافل والفرائض من الايمان، ومنهم من قال النوافل خارجة عن الايمان.

والاسلام والدين عندهم شئ واحد، والفسق عندهم عبارة عن كل معصية يستحق بها العقاب، والصغائر التي تقع عندهم مكفرة لا تسمى فسقا.

والكفر عندهم هو ما يستحق به عقاب عظيم، وأجريت على فاعله أحكام مخصوصة، فمرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فاسق.

وقالت الخوارج تقريب من قول المعتزلة الا أنهم لا يسمون الكبائر كلها كفرا(١) ، وفيهم من يسميها شركا.

والفضيلية منهم يسمي كل معصية كفرا صغيرة كانت أو كبيرة.

والزيدية من كان منهم على مذهب الناصر يسمون الكبائر كفر نعمة، والباقون يذهبون مذهب المعتزلة.

والذي يدل على ما قلناه أولا هو أن الايمان في اللغة هو التصديق، ولا يسمون أفعال الجوارح ايمانا، ولا خلاف بينهم فيه.

ويدل عليه أيضا قولهم « فلان يؤمن بكذا وكذا وفلان لا يؤمن بكذا » وقال تعالى( يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ) (٢) قال( وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ) (٣) أي بمصدق، واذا كان فائدة هذه

___________________________________

(١) في ر « اللهم الا أنهم يسمون الكبائر كلها كفرا ».

(٢) سورة النساء: ٥١.

(٣) سورة يوسف: ١٧.

١٤١

اللفظة في اللغة ما قلناه وجب اطلاق ذلك عليها الا أن يمنع مانع، ومن ادعى الانتقال فعليه الدلالة، وقد قال الله تعالى( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (١) وقال( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ) (٢) وقال( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) (٣) وكل ذلك يقتضي حمل هذه اللفظة على مقتضى اللغة.

وليس اذا كان ههنا ألفاظ منتقلة وجب أن يحكم في جميع الالفاظ بذلك وانما ينتقل عما ينتقل بدليل يوجب ذلك.

وان كان في المرجئة من قال ليس ههنا لفظ منتقل ولا يحتاج إلى ذلك.

ولا يلزمنا أن نسمي كل مصدق مؤمنا، لانا انما نطلق ذلك على من صدق بجميع ما أوجبه الله عليه.

والاجماع مانع من تسمية من صدق بالجبت والطاغوت مؤمنا، فمنعنا ذلك بدليل وخصصنا موجب اللغة، وجرى ذلك مجرى تخصيص العرف لفظ « الدابة » ببهيمة مخصوصة وان كان موجب اللغة يقتضي تسمية كل ما دب دابة، ويكون ذلك تخصيصا لا نقلا.

فعلى موجب هذا يلزم من ادعى انتقال هذه اللفظة إلى أفعال الجوارح أن يدل عليه.

وليس لاحد أن يقول: ان العرف لا يعرف التصديق فيه الا بالقول، فكيف حملتموه على ما يختص القلب؟ قلنا: العرف يعرف بالتصديق باللسان والقلب، لانهم يصفون الاخرس بأنه مؤمن، وكذلك الساكت، ويقولون « فلان يصدق بكذا وكذا وفلان لا يصدق » ويريدون ما يرجع إلى القلب، فلم يخرج بما قلناه عن موجب اللغة.

وانما منعنا اطلاقه في المصدق باللسان أنه لو جاز ذلك لوجب تسميته بالايمان وان علم جحوده بالقلب، والاجماع مانع من ذلك.

___________________________________

(١) سورة الشعراء: ١٩٥.

(٢) سورة ابراهيم: ٤.

(٣) سورة يوسف: ٢.

١٤٢

فأما السجود للشمس فعندنا وان لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر وان فاعله ليس بمصدق في القلب، لحصول الاجماع على أن فاعله كافر ولم يجمعوا على أن نفس السجود كفر لان فيه الخلاف.

وكلما يسأل من نظائر ذلك فالجواب عنه ما قلناه.

واستدلت المرجئة على أن الطاعات ليست ايمانا، أنه لو كانت طاعة ايمانا لكانت كل معصية كفرا أو بعض كفر، ولو جاز أن يكون في الايمان ما ليس تركه كفرا جاز أن يكون في الايمان الكفر ما ليس تركه ايمانا.

وأيضا لو كانت كل طاعة ايمانا لم يكن أحد كامل الايمان لا الانبياء ولا غيرهم لانهم يتركون كثيرا من النوافل بلا خلاف، وعندهم يتركون من الواجب أيضا ما يكون صغيرا.

وأيضا قال الله تعالى( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ) (١) وقال( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ ) (٢) وقال( وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ) (٣) [ وذلك يدل على أنه يكون مؤمنا وان يعمل الصالحات ](٤) من أفعال الجوارح.

والمعتمد ما قدمناه، وما يتعلق به المخالف قد بيناه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.

وأما الكفر فقد قلنا انه عند المرجئة من أفعال القلوب، وهو جحد ما أوجب الله تعالى معرفته مما عليه دليل قاطع كالتوحيد والعدل والنبوة وغير ذلك، وأما في اللغة فهو الستر أو الجحود، وفي الشرع عبارة عما يستحق به العقاب الدائم الكثير، ويلحق بفاعله أحكام شرعية كمنع التوارث والتناكح.

___________________________________

(١) سورة الانعام: ٨٢.

(٢) سورة الانفال: ٧٢.

(٣) سورة طه: ٧٥.

(٤) الزيادة ليست في ر.

١٤٣

والعلم بكون المعصية كفرا طريقه السمع لا مجال للعقل فيه، لان مقادير العقاب لا تعلم عقلا، وقد أجمعت الامة على أن الاخلال بمعرفة الله تعالى و توحيده وعدله وجحد نبوة رسله كفر، لا يخالف فيه الا أصحاب المعارف الذين بينا فساد قولهم.

ولا فرق بين أن يكون شاكا في هذه الاشياء أو يكون معتقدا لما يقدح في حصولها، لان الاخلال بالواجب يعم الكل.

فعلى هذا المجبرة والمشبهة كفار، وكذلك من قال بالصفات القديمة، لان اعتقادهم الفاسد في هذه الاشياء ينافي الاعتقاد الصحيح من المعرفة بالله تعالى وعدله وحكمته.

وأما الفسق فهو في اللغة عبارة عن خروج الشئ إلى غيره، ولذلك يقولون « فسقت الرطبة » اذا خرجت عن قشرها، وسميت الفارة ويسقة من ذلك لخروجها من نقبها، الا أن بالعرف صار متخصصا بالخروج من حسن إلى قبح.

وأما في عرف الشرع فهو عندنا عبارة عن كل معصية سواء كانت صغيرة أو كبيرة، ولان معاصي الله تعالى كلها كبائر وانما نسميها صغائر بالاضافة إلى ما هو اكبر منها، وهي كبيرة بالاضافة إلى ما هو أصغر منها.

وشبهة المعتزلة في أن المؤمن لا يسمى به المصدق وان قالوا كان ينبغي أن لا يسمى بعد ايمانه بزمان أنه مؤمن كما لا يسمى بأنه ضارب لما تقدم من الضرب لان الاسماء المشتقة انما تطلق في حال وقوع على ما اشتقت منه.

باطلة، لانا نقول ان الاعتقاد بالقلب الذي هو الايمان يتجدد حالا فحالا، لئلا يبقى فيما خرجنا عن طريقة الاشتقاق.

وقولهم: انه لو كان كذلك لوجب أن لا يسمى من هو في مهلة النظر بأنه مؤمن، لانه ما صدق بالله ولا بصفاته.

فاسد، لان من هو في مهلة النظر قد صدق بجميع ما تجب عليه في تلك الحال فلذلك يسمى مؤمنا.

١٤٤

ومتى قالوا: يلزم من كل من صدق ما قلتموه يسمى مؤمنا وان لم يترك شيئا من القبائح الا ارتكبه ولا شيئا من الواجبات الا تركه، وهذا شنيع من المقال.

قلنا: ذلك يقوله المرجئة، غير أن الذي نختاره أن يعتقد ذلك لئلا يوهم فيقول هو مؤمن بتصديقه بجميع ما وجب عليه فاسق بتركه ما يجب عليه من أفعال الجوارح فيعتد له الامرين لئلا يوهم ارتفاع أحدهما اذا أطلقنا الاخر.

وما يتعلقون به من الظواهر تكلمنا عليه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.

وقول من قال من الزيدية انه كافر نعمة.

باطل، لانه معترف بنعمة الله تعالى معتقد لها، فكيف يكون جاحدا.

وأما قول الحسن انه منافق.

باطل، لان المنافق هو من أظهر خلاف ما في باطنه، ومن كان مظهرا للمعصية التي يستحق بها العقاب لا يكون منافقا.

وقول الخوارج واحتجاجهم على أن من يرتكب الكبيرة كافر بقوله( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (١) مبني على القول بالعموم والذي بينا فساده.

[ ولنا أن نخص ذلك بما تقدم من الادلة الموثقة ](٢) .

وقوله( فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ ، لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ) (٣) يفيد نارا مخصوصة، ولذلك خص بها الذي كذب وتولى وهم المرتدون، فأما من كان كافرا ابتداء‌ا فلا يدخل فيها.

وقوله( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ) إلى قوله( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ) (٤) لا يمنع أن يكون هناك قسم ثالث وان لم يكن منطوقا به ويكون عليها سمة أخرى.

___________________________________

(١) سورة المائدة: ٤٤.

(٢) الزيادة من ر.

(٣) سورة الليل: ١٤ - ١٦.

(٤) سورة عبس: ٣٨ - ٤٠.

١٤٥

وقوله( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) (١) لا يمنع من أن يكون وجوه أخر لا سوداء خالصة ولا بيضاء خالصة.

على أن هذه الاية مخصوصة بالمرتدين، لقوله( أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) .

وقوله( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (٢) لا يمتنع من احاطتها بالفساق كما لا يمتنع من احاطتها بالزبانية وخزنة النيران.

وقوله( وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) (٣) لو حمل على عمومه لوجب الاثبات المؤمن بحال على ذلك مخصوص بعقاب الاستيصال في دار الدنيا، وذلك مختص بالكفار بدلالة أول الاية وسياقها إلى آخرها.

واستقصاء القول في ذلك مذكور حيث أشرنا اليه(٤) وفي مسألة الوعيد للمرتضى رحمه الله.

فصل: (في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر)

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الامة، وان اختلفوا في أنه هل يجبان عقلا أو سمعا: فقال الجمهور من المتكلمين والفقهاء وغيرهم انهما يجبان سمعا وانه ليس في العقل ما يدل على وجوبه وانما علمناه بدليل الاجماع من الامة وبآي من القرآن وكثير من الاخبار المتواترة، وهو الصحيح.

___________________________________

(١) سورة آل عمران: ١٠٦.

(٢) سورة التوبة: ٤٩.

(٣) سورة سبأ: ١٧.

(٤) من شرح الجمل للمؤلف نفسه.

١٤٦

وقيل: طريق وجوبهما هو العقل.

والذي يدل على الاول أنه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل على وجوبهما وقد سبرنا أدلة العقل فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما، ولا يمكن ادعاء العلم الضروري في ذلك لوجود الخلاف.

وأما ما يقع على وجه المدافعة فانه يعلم وجوبه عقلا، [ لما علمنا بالعقل وجوب دفع المضار عن النفس، وذلك لا خلاف فيه، وانما الخلاف فيما عداه.

وكل وجه يدعى في وجوبه عقلا ](١) قد بينا فساده في شرح الجمل، وفيما ذكرناه كفاية.

ويقوى في نفسي انهما يجبان عقلا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيه من اللطف، ولا يكفي فيه العلم باستحقاق الثواب والعقاب، لانا متى قلنا ذلك لزمنا أن تكون الامامة ليست واجبة، بأن يقال: يكفي في العلم باستحقاق الثواب والعقاب وما زاد عليه في حكم الندب وليس بواجب فالاليق بذلك أنه واجب.

واختلفوا في كيفية وجوبه: فقال الاكثر انهما من فروض الكفايات اذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقال قوم هما من فروض الاعيان.

وهو الاقوى عندي، لعموم آي القرآن والاخبار، كقوله تعالى( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (٢) وقوله( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (٣) وقوله في لقمان

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

(٢) سورة آل عمران: ١٠٤.

(٣) سورة آل عمران: ١١٠.

١٤٧

( أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (١) في حكاية عن لقمان حين أوصى ابنه.

والاخبار اكثر من أن تحصى ويطول بذكرها الكتاب.

والمعروف على ضربين: واجب، وندب.

فالامر بالواجب واجب و المندوب مندوب، لان الامر لا يزيد على المأمور به نفسه.

والمنكر لا ينقسم بل كله قبيح فالنهي عنه كله واجب.

والنهي عن المنكر له شروط ستة: أحدها أن يعلمه منكرا، وثانيها أن يكون هناك أمارة الاستمرار عليه، وثالثها أن يظن أن انكاره مؤثر أو يجوزه، ورابعها ألا يخاف على نفسه، وخامسها ألا يخاف على ماله، وسادسها ألا يكون فيه مفسدة.

[ وان اقتصرت على أربع شروط كان كافيا، لانك اذا قلت لا يكون فيه مفسدة ](٢) دخل فيه الخوف على النفس والمال لان ذلك مفسدة.

وانما اعتبرنا العلم بكونه منكرا لانه ان لم يعلمه منكرا جوز أن يكون غير منكر، فيكون انكاره قبيحا، فجرى مجرى الخبر في أنه لا يحسن الا مع العلم بالمخبر، ومتى لم يعلم المخبر جوز أن يكون خبره كذبا، فلا يحسن منه الاخبار بذلك، وكذلك انكار المنكر.

واعتبرنا الشرط الثاني لان العرض بانكار المنكر أن لا يقع في المستقبل فلا يجوز أن يتناول الماضي الذي وقع، لان ذلك لا يصح ارتفاعه بعد وقوعه وانما يصح أن يمنع مما لم يقع، فلا بد من أمارة على استمراره على فعل المنكر يغلب على ظنه معها وقوعه واقدامه عليه، فيحصل الانكار للمنع من وقوعه.

وأمارات الاستمرار معروفة بالعادة، ولا يجوز الانكار لتجويز وقوعه بلا أمارة، لان ذلك

___________________________________

(١) سورة لقمان: ١٧.

(٢) الزيادة ليست في ر.

١٤٨

يؤدي إلى تجويز الانكار على كل قادر، والمعلوم خلافه.

واعتبرنا الشرط الثالث من تجويز تأثير انكاره لان المنكر له ثلاثة أحوال: حال يكون ظنه فيها بأن انكاره يؤثر فانه يجب عليه انكاره بلا خلاف والثاني يغلب على ظنه أنه لا يؤثر انكاره، والثالث يتساوى ظنه في وقوعه وارتفاعه.

فعند هذين قال قوم يرتفع وجوبه، وقال قوم لا يسقط وجوبه.

وهو الذي اختاره المرتضى رحمه الله، وهو الاقوى، لان عموم الايات والاخبار الدالة على وجوبه لم يخصه بحال دون حال.

فأما اذا خاف على نفسه أو ماله أو كان فيه مفسدة له أو لغيره فهو قبيح، لان المفسدة قبيحة.

وفي الناس من قال: مع الخوف على النفس انما يسقط الوجوب ولا يخرج عن الحسن اذا كان فيه اعزازا للدين.

وهذا غير صحيح، لما قلناه من أنه مفسدة.

والخوف على المال يسقط أيضا الوجوب والحسن، لما قلناه من كونه مفسدة، وفي الناس من قال هو مندوب اليه، وقد بينا فساده.

وجملته انه متى غلب على ظنه أن انكاره يؤدي إلى وقوع قبيح لولاه لم يقع فانه يقبح لا لانه مفسدة، سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا، من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير، فان الكل مفسدة.

ولا يلزم على ذلك سقوط فرض الصلاة والصوم عند الخوف على المال كما يسقط عند الخوف على النفس، لان الله تعالى لو علم أن في العبادات الشرعية مفسدة في بعض الاحوال لاسقطها عنا، ولما علمنا وجوبها على كل حال علمنا أن المفسدة لا تحصل في فعلها على حال.

ولا يلزم مثل ذلك في انكار المنكر، لانه لا خلاف أن وجوبه مشروط بأن لا يكون فيه مفسدة، وليس كذلك العبادات الشرعية، لان الامة مجتمعة على وجوبها من غير شرط.

١٤٩

وأما المفسدة فانما اعتبرت لان كونه مفسدة وجه قبح، فلا يجوز أن يثبت معه وجوب ولا حسن بلا خلاف.

والغرض بانكار المنكر أن لا يقع، فاذا أثر القول والوعظ في ارتفاعه اقتصر عليه، وان لم يؤثؤ [ جاز أن يغلظ في القول ويشدد، فان أثر اقتصر عليه، وان لم يؤثر ](١) وجب أن يمنع منه ويدفع عنه وان أدى ذلك إلى ايلام المنكر عليه والاضرار به واتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر أن لا يقع من فاعله ولا يقصد ايقاع الضرر به.

ويجري ذلك مجرى دفع الضرر عن النفس في انه يحسن وان أدى إلى الاضرار بغيره.

غير أن الظاهر من مذهب شيوخنا الامامية أن هذا الضرب من الانكار لا يكون الا للائمة أو لمن يأذن له الامام فيه، وكان المرتضى رضي الله عنه يخالف في ذلك ويجوز فعل ذلك بغير اذنه، قال: لان ما يفعل باذنهم يكون مقصودا، وهذا يخالف ذلك لانه غير مقصود، وانما القصد المدافعة والممانعة فان وقع ضرر فهو غير مقصود.

ويمكن أن ينصر الاول بأن يقال: اذا كان طريق حسن المدافعة بالالم السمع فينبغي أن يدفعه على الوجه الذي قرره الشرع، وهو أن يقصد المدافعة دون نفس ايقاع الالم والقصد إلى ايقاع الالم بأذن الشرع فيه، فلا يجئ منه ما قاله.

ومن قال ان انكار المنكر غير متعين، قال: يتعين في بعض الاحوال، لان المقصود أن لا يقع هذا المنكر، فاذا تساوى الكل في حكم هذا الانكار فلا يكون الوجوب عاما لهم، فاذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.

هذا اذا كان التمكن عاما في الجميع، فان تعين الانكار في جماعة أو في

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

١٥٠

شخص تعين عليه الوجوب.

وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى هذا التفصيل غير أن من لا يتمكن سقط عنه الوجوب.

فصل: (في الكلام في النبوة)

النبى في العرف هو المؤدي عن الله تعالى بلا واسطة من البشر ومعنى النبي في اللغة يحتمل أمرين: أحدهما - المخبر، واشتقاقه يكون من « الانباء » الذي هو الاخبار، ويكون على هذا مهموزا.

والثاني - أن يكون مفيدا للرفعة وعلو المنزلة، واشتقاقه يكون من « النباوة » التى هي الارتفاع.

ومتى أريد بهذا اللفظ علو المنزلة فلا يجوز الا بالتشديد بلا همز.

وعلى هذا يحمل ما روي عنه صلى الله عليه وآله انه قال « لا تبروا باسمي »(١) أي لا تهمزوه، لانه أراد علو المنزلة.

ولا يلزم أن يكون كل عال المنزلة نبيا، لان بالعرف صارت هذه اللفظة مختصة بمن علت منزلته، لتحمله أعباء الرسالة والقيام بأدائها اذا كان من البشر ولذلك لا توصف الملائكة بأنهم أنبياء وان كان فيهم رسل من قبل الله تعالى.

ولا يمتنع أن يقال أيضا: يراد به الاخبار، الا أنه مكروه لما ورد به الخبر.

وقولنا رسول يفيد في أصل اللغة أن من أرسله بشرط تحمله الرسالة، لانه لا يسمى بذلك من لا يعلم منه القبول لذلك.

___________________________________

(١) كذا في النسختين، وهو غير صحيح، وأصله النبر بمعنى ادخال الهمز في الكلمة فقوله صلى الله عليه وآله « لا تنبر باسمى » أى لا تجعل لفظة « النبى » مهمزة انظر النهاية لابن الاتير (نبر).

١٥١

والعرف خصص هذا اللفظ بمن كان رسولا من قبل الله، ولذلك اذا قيل « قال الرسول » لا يفهم الا رسول الله وفي غيره يكون مقيدا بأن يقال رسول فلان.

والمخالف في بعثة الرسل طوائف: منهم البراهمة الذين خالفوا في حسن بعثة الرسل، ومنهم اليهود وهم فرق: منهم من خالف في جواز النسخ عقلا، ومنهم من خالف في النسخ سمعا، ومنهم من أجاز النسخ وخالف في نبوة نبينا عليه السلام.

ولنا في الكلام على هؤلاء طريقان: أحدهما - أن يدل على أن الله تعالى بعث أنبياء وصحت نبوتهم، فلو لا أنه كان حسنا لما ثبت ذلك لانه تعالى لا يفعل القبيح.

ومتى تكلمنا على هذا الفصل فينبغي أن نتكلم في صحة نبوة نبينا عليه السلام، لانه المهم الذي نحتاج اليه لتعلق مصالحنا بشرعه دون من بعدوا من الرسل الذين نسخ شرعهم.

ومتى ثبت لنا نبوته عليه السلام بطلت جميع الاقوال، قول من خالف في حسن البعثة أو خالف في جواز النسخ عقلا أو شرعا أو خالف في نبوة نبينا، فصار الكلام في ذلك أولى من غيره.

والطريقة الثانية - أن نتكلم على فرقة فرقة بكلام يخصهم، فنتكلم أولا في حسن البعثة ليبطل مذهب البراهمة ثم نتكلم في نبوة نبينا عليه السلام.

والذي يدل على الفصل الاول من هذه الاقسام - وهو الكلام في حسن البعثة هو أنهم يؤدون الينا ما هو مصلحة لنا في التكليف العقلي، ولا يمكننا معرفة ذلك بالعقل.

ولا يمتنع أن يعلم الله أن في أفعال المكلف ما اذا فعله دعاه إلى فعل الواجب العقلي أو صرفه عن القبيح العقلي، أو ما اذا فعله دعاه إلى فعل القبيح أو الاخلال بالواجب، فيجب أن يعلمنا ذلك، لان الاول لطف لنا والثاني مفسدة، ويجب

١٥٢

عليه تعالى ازاحة علة المكلف في فعل اللطف على ما مضى القول فيه.

ولا يمكن اعلام ذلك الا ببعثة الرسل الذين يعلمونا ذلك، لانه لا يمكننا الوصول اليه بضرورة العقل ولا باستدلال، ولا يحسن خلق العلم الضروري بذلك لانه ينافي التكليف، فلم يبق بعد ذلك الا بعثة الرسل ليعرفونا ذلك.

وعلى هذا الوجه متى حسنت البعثة وجبت، ولا ينفصل الحسن من الوجوب.

وانما قلنا « لا يحسن خلق العلم الضروري بذلك » لانا بينا أن معرفة الله تعالى انما تكون لطفا اذا كانت كسبية، والعلم بالشرائع فرع على العلم بالله، فلا يجوز أن يكون الفرع ضروريا والاصل كسبيا، فيكون الفرع أقوى من الاصل.

ويجوز أن يبعث الله تعالى نبيا ليؤكد ما في العقول وان لم يكن معه شرع، ولا يكون ذلك عبثا، لانه لا يمنع أن يكون نفس بعثته لطفا للمكلفين.

فعلى هذا يجب اظهار المعجزات على يده، لانا فرضنا أن في بعثته لطفا ولو لم يكن في بعثته لطف لما كان أيضا عبثا، كما لا يكون نصب أدلة كثيرة على شئ واحد عبثا وان كان الدليل الواحد كافيا في هذا الباب.

وأما النظر في معجزة فان كان معه شرع أو كان نفس بعثته لطفا فانه يجب علينا، وان لم يكن كذلك بل بمجرد ما في العقل فانه يحسن النظر في معجزه وان لم يجب.

ومتى التزمنا على ذلك جواز اظهار المعجزات على يدي الائمة والصالحين فانا نلتزمه، وسنتكلم عليه فيما بعد انشاء الله.

ويحسن بعثة الانبياء لامور أخر، نحو تعريفنا القطع على عقاب الكفار، وليعرفونا بعض اللغات، وليعرفونا الفرق بين السموم القاتلة والاغذية، وكثيرا من مصالح الدنيا على ما بيناه وفرعناه في شرح الجمل.

وان لم يكن جميع ذلك واجبا، لامكان الوصول إلى هذه الاشياء من غير جهة الانبياء، على ما بيناه في الشرح.

١٥٣

وقول البراهمة: ان النبي لا يخلو أن يأتي بما يوافق العقل أو بما يخالفه فان أتى بما يوافقه فالعقل فيه كفاية، وان أتى بما يخالفه فما يخالف العقل [ لا يلتفت اليه لانه قبيح بالاتفاق.

باطل، لانا نقول: الشرع لا يأتي الا بما يوافق العقل ](١) على طريق الجملة لا على طريق التفصيل، وتفصيله لا يمكن معرفته بالعقل، فيبعث الله تعالى نبيا ليعرفنا تفصيل ذلك.

فأما ما يعلم مفصلا بالعقل فلا يحتاج إلى بعثة الانبياء فيه، وانما قلنا ذلك لان العقل دال على وجه الجملة على أن ما دعا إلى فعل واجب مثله وما صرف عن قبيح يجب فعله، وما يدعوا إلى قبيح أو اخلال بواجب يجب تجنبه.

واذا كان هذا معلوما جملة ويحصل ذلك في بعض الافعال التي لا نعلم بالعقل كونه كذلك ويجب اعلامنا ذلك ولا يتم ذلك الا ببعثة رسول على ما بيناه.

وانما يكون منافيا لما في العقل أو نفي السمع ما أثبته العقل أو أثبت ما نفاه والامر بخلافه.

ومثل ذلك ما نعلمه عقلا وجوب دفع المضار عن النفس وقبح الظلم على طريق الجملة، ثم يرجع في حصول بعض المضار في كثير من الافعال إلى التجربة والعادات أو إلى الخبر، فلا نكون بذلك مخالفين لما في العقل.

وكذلك القول في السمع.

وقولهم: ان الصلاة والصوم والطواف قبائح في العقل، لا يجوز أن يتغير كمالا يجوز أن يتغير قبح الظلم والكذب وغير ذلك.

باطل، لان القبائح في العقل على ضربين: أحدهما لا يجوز تغييره كالظلم والكذب والمفسدة والجهل وغير ذلك، ولا يجوز أن يرد السمع بخلافه.

والثاني ما يجوز أن يتغير من حسن إلى قبح ومن قبح إلى حسن كالضرر الذي متى عري من استحقاق نفع أو دفع ضرر كان قبيحا ومتى حصل

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

١٥٤

بعض هذه الامور كان حسنا.

والصلاة والصوم وجميع العبادات انما يقبح في العقل متى خلت من فائدة ومنفعة وغرض، فاذا عرض فيها نفع وغرض صحيح فانما يخرج من القبح إلى الحسن واذا كان السمع ورد بأن لنا في هذه العبادات منافع وجب أن يحسن، لانا لو علمنا ذلك بالعقل لعلمنا حسنه.

ولا طريق إلى معرفة النبي الا بالمعجز، والمعجز في اللغة عبارة عمن جعل غيره عاجزا، مثل المقدور الذي يجعل غيره قادرا الا أنه صار بالعرف عبارة عما يدل على صدق من ظهر على يده واختص به، والمعتمد على ما في العرف دون مجرد اللغة.

والمعجز يدل على ما قلناه بشروط: أولها أن يكون خارقا للعادة، والثاني أن يكون من فعل الله أو جاريا مجرى فعله، والثالث أن يتعذر على الخلق جنسه أو صفته المخصوصة، والرابع أن يتعلق بالمدعي على وجه التصديق لدعواه.

وانما اعتبرنا كونه خارقا للعادة لانه لو لم يكن كذلك لم يعلم أنه فعل للتصديق دون أن يكون فعل بمجرى العادة.

ألا ترى انه لا يمكن أن يستدل بطلوع الشمس من مشرقها على صدق الصادق ويمكن بطلوعها من مغربها، وذلك لما فيه من خارق العادة.

واعتبرنا كونه من فعل الله لان المدعي اذا ادعى أن الله تعالى يصدقه بما يفعله فيجب أن يكون الفعل الذي قام مقام التصديق من فعل من طلب منه التصديق والالم يكن دالا عليه، وفعل المدعي كفعل غيره من العباد لانه لا يدل على التصديق، وانما يدل فعل من ادعى عليه التصديق.

فان قالوا: ليس لو كان القرآن من فعل النبي عليه السلام لدل على صدقه وكذلك نقل الجبال وطفر البحار يكون معجزا، وان كان جميع ذلك من فعل المدعي للنبوة.

١٥٥

قلنا: لو كان القرآن من فعله وخرق العادة بفصاحته لكان المعجز في الحقيقة اختصاصه بالعلوم التي يأتي منه بها هذه الفصاحة وتلك العلوم من فعل الله، وكذلك طفر البحار ونقل الجبال انما يكون المعجز اختصاصه بالقدر الذي خلقها الله تعالى فيه التي يمكن بها من ذلك، وتلك من فعله تعالى ولم يخرج عما قلناه.

هذا على مذهب من يقول بالصرفة، وأما من يعتبر مجرد خرق العادة فقط فانه يقول: ان ذلك الكلام الخارق للعادة أو حمل الجبال هو المعجز، لانه لو لم يكن كذلك لما مكن الله تعالى منه.

وانما اعتبرنا أن يكون متعذرا في جنسه أو صفته لانا متى لم نعلمه كذلك لم نأمن أن يكون من فعل غير الله، وقد بينا أنه لابد أن يكون من فعله وسوينا بين تعذره في جنسه وصفته، لان تعذر الجنس انما دل من حيث كان ناقصا للعادة لا من حيث كان مختصا به تعالى، وكذلك اذا كان متعذرا [ في صفته ](١) وان كان جنسه مقدورا تصديقا لهذا المدعى.

وانما يعلم كونه خارقا للعادة بالرجوع إلى العادات المستقرة المستمرة، وذلك معلوم عند العقلاء، فاذا انتقضت بذلك لم يخف على أحد.

ألا ترى أن احدنا لا يشك في طلوع الشمس من مشرقها ولا يعرفون خلقا ولد الا من وطي، فاذا شاهدوا طلوعها من مغربها أو خلق حي من غير ذكر أو أنثى علموا أنه خارق للعادة.

وعلى هذا افتتاح العادات لا تكون عادة.

ومتى خلق الله تعالى خلقا ابتداء‌ا من مصلحته معرفة الشرائع ولم تعرف العادة لم يحسن أن يكلف حتى يبقيه غير مكلف زمانا يعرف فيه العادات، فاذا عرفها حينئذ كلفه وبعث اليه من يمكنه أن يستدل على صدقه بانتقاض ما عرف من العادات قبل تكليفه.

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

١٥٦

والعادة قد تكون عامة، وقد تكون خاصة، وقد تكون في بعض البلاد دون بعض.

فعلى هذا الاعتبار بانتقاض من تلك العادة عادة له، وانما نعلم أنه من فعله اذا عرفنا تعذره علينا على كل حال مع ارتفاع الموانع المعقولة كالحياة والقدرة وخلق الجسم، أو يقع على وجه مخصوص لا يقدر عليه أحد من الخلق كنقل الجبال وفلق البحر.

والكلام الخارق للعادة بفصاحته، انما نعلم اختصاصه بالمدعي بأن نعلمه مطابقا لدعواه، فان ادعى الدلالة على تصديقه طلوع الشمس من مغربها فطلعت فذلك غاية المطابقة، ويجري مجرى أن يصدقه بكلام يتضمن تصديقه فعلم أنه بكلامه، لانه لا فرق في الشاهد.

فمن ادعى على غيره أنه رسوله بين أن يقول ذلك الغير صدقت وبين أن يقول المدعي الدليل على صدقي أنه يفعل فعلا من الافعال لم تجر عادته بذلك، ثم يفعل ذلك الغير ما اقترحه، فانا نعلم أنه صدقه.

وليس لاحد أن يقول في التصديق بالقول مواضعة متقدمة وهو صريح في التصديق، وليس في الفعل الذي التمسه مواضعة، فكيف يعلم أنه قصد التصديق وذلك الكلام وان كان فيه مواضعة متقدمة ففي الفعل ما يجري مجرى المواضعة وهو طلب شئ مخصوص، فهذا يجري مجرى مواضعة متقدمة في ذلك على التصديق.

لانا قد بينا أنه لا يكون دالا لمساواته له في كونه خارقا للعادة.

وانما قلنا انه لابد أن يختص بالمدعي، لانا ان لم نراع ذلك لم يعلم اختصاصه به ولا تعلقه.

وجوزنا مع هذه المطابقة أن لا يكون فرقا بين التصديق بالقول وبين فعل ما يلتمسه المدعي اذا لم تجربه عادة، والعقلاء لا يفرقون بينهما.

ومتى قيل: ان أحدنا يعلم قصده ضرورة بفعله، فيعلم أنه صدقه اذا فعل عقيب الدعوى، وليس كذلك القديم تعالى، لانه لا يعلم قصده ضرورة.

١٥٧

قلنا: لا نعلم قصد أحدنا ضرورة بالتصديق بفعل ما يطابق الدعوى من تصديق بكلام أو فعل ملتمس به على وجه مخصوص، ومع هذا يعلم أنه صدقه ولو لم يكن صدقه لكان قبيحا، فقد ساوى القديم في هذا الباب.

فان قيل: لم لا يجوز أن يفعل تعالى ما يخرق العادة للمصلحة دون التصديق فلا يمكنهم أن يعلموا أنه فعل للتصديق.

قلنا: لا يجوز أن يفعل تعالى ما يخرق العادة الا للتصديق، كما لا يجوز أن يقول قولا يتضمن التصديق ولا يقصد التصديق بل يفعله للمصلحة.

ولا فرق بين القول والفعل في ذلك، ولذلك لو قال الواحد منا لمن ادعى عليه أنه أرسله صدقت ولا يقصد تصديقه كان مقبحا وان قصد إلى وجه آخر.

ألا ترى أنه لو قال عقيب ذلك أردت بذلك تصديق الله لم يعذره العقلاء في ذلك بل يستقبحون منه ما فعله ويذمونه عليه.

ولا يجب في مدع النبوة أن يعين ما يلتمسه من المعجز وان كان لو عين لكان أبلغ، بل يكفي أن يلتمس ما يدل على صدقه على الجملة، فاذا فعل الله تعالى عقيب ذلك ما يكون خارقا للعادة دل على صدقه كدلالة ما عينه، لان المعين انما دل على صدقه من حيث كان خارقا للعادة ومطابقا للدعوى ومختصا به ومفعولا عقيب الدعوى، وكل ذلك حاصل فيما ليس بمعين، فيجب أن يكون دالا على صدقه.

ولا يلزم في مدعي النبوة ان يطلب المعجز بلسانه، لان ادعاء النبوة يتضمن وجوب تصديقه بالمعجز على مجرى العادة، فان ادعى لفظا جاز كما لو عين المعجز جاز وان لم يكن ذلك واجبا على ما بيناه.

واذا كان فائدة المعجز تصديق من ظهر على يده فيجب جواز ظهوره على يد بعض الائمة والصالحين اذا ادعوا الامامة والصلاح وكانوا صادقين، فانه

١٥٨

اذا كان مقتضاه تصديق من ظهر على يده فان كان ذلك مدعيا للنبوة علمنا نبوته وان كان مدعيا للامامة علمنا بها صدقه وان ادعى صلاحا فمثل ذلك، لانه لابد من دعوى يقترن بها.

وأيضا فلا وجه لقبح ظهور المعجز على يدي من ليس بنبي اذا كان صادقا من كونه كاذبا أو ظلما أو عبثا أو مفسدة.

وهذه هي وجوه القبح المعقولة في العقل، فان ادعوا وجها غير ذلك فليبينوه لنتكلم عليه.

وليس يمتنع أيضا أن يعترض في ظهور المعجز على يدي من ليس بنبي وجه من وجوه المصلحة واللطف، فيجب اظهار ذلك.

ومتى قيل: ان المعجز يدل على النبوة على طريق الابانة بخلاف سائر الادلة.

قلنا: المعجز يدل على ابانة الصادق ممن ليس بصادق، فان كان مدعيا للنبوة علمناه نبيا، وان ادعى امامة أو صلاحا علمنا صدقة فيه وعلمناه كذلك.

هذا اذا سلمنا انه يدل من جهة الابانة، وقد بيناه في شرح الجمل، لانه ليس كذلك وأجبنا على كل ما يسأل عن ذلك لا نطول بذكره الكتاب.

ويجوز من اظهار المعجزات مالا يؤدي إلى كونها معتادة، فينتقض وجه دلالتها.

فلا يلزم على ذلك اظهارها على كل صالح وكل صادق.

ولا يلزم أن نقول في من لم يظهر على يده معجز أنه ليس بامام ولا صالح كما يجب أن نقطع على أنه ليس بنبي، لان المعجز انما يبين مدعيا صادقا من مدع غير صادق.

والامام اذا لم يدع الامامة والصالح اذا لم يدع الصلاح لا يجب اظهار المعجز على يده، واذا لم يظهر لا يجب نفي الصلاح عنه ولا نفي الامامة، بل لا يمتنع أن نعلمه اماما أو صالحا بغير المعجز.

وليس كذلك النبى، لانه لا طريق لنا إلى معرفته الا بالمعجز، فاذا لم يظهر على يده المعجز قطعنا على كذبه ان كان

١٥٩

مدعيا، وان لم يدع علمنا أنه ليس بنبى، لانه لو كان نبيا لوجب بعثته ووجب عليه ادعاؤه ولوجب ظهور المعجز عليه.

فبان الفرق بين النبى والامام والصالح.

فعلى هذا لا يلزم أن يظهر الله على يد كل امام معجزا، لانه يجوز أن يعلم امامته بنص أو طريق آخر، ومتى فرضنا أنه لا طريق إلى معرفة امامته الا المعجز وجب اظهار ذلك عليه وجرى مجرى النبى سواء، لانه لابد لنا من معرفته كما لابد لنا من معرفة النبى المتحمل لمصالحنا.

ولو فرضنا في نبي علمنا نبوته بالمعجز أنه نص على نبي آخر لاغنى ذلك عن ظهور المعجز على يد النبى الثاني، بأن نقول: النبي الاول أعلمنا أنه نبي كما يعلم بنص امام على امامته ولا يحتاج إلى معجز.

وليس لاحد أن يقول: تجويز اظهار المعجز على يد من ليس بنبى ينفر عن النظر في معجز النبى.

وذلك أن المعجز لا يكون الا عقيب الدعوى، فان كانت الدعوى للنبوة وجب النظر فيما يدعيه من المعجز، فان كان صحيحا قطعنا [ على صدقه وان لم يكن صحيحا قطعنا ](١) على كذبه.

ولا يجوز أن يكون نبيا ولا اماما اذا ادعى الامامة فمثل ذلك وليس ههنا موضع يظهر المعجز مع ادعائه النبوة ويجوز كونه اماما، فيكون فيه تنفير.

على أن تجويزنا كونه اماما ليس بأكثر من تجويزنا كونه محرفا كذابا، ومع ذلك يلزمنا النظر في معجزه فكيف يقال ان ذلك منفرا عنه.

فأما وجوب النظر في معجزه فان كان مدعيا للنبوة فانه يلزمنا ذلك لانا لا نأمن كونه صادقا، وكذلك ان ادعى كونه اماما يلزمنا مثل ذلك، لان لنا في معرفة الامام مصالح وربما لا نعلم كثيرا من الشريعة الا بقوله، وان كان مدعيا للصلاح لا يجب علينا النظر في معجزه وان كان لا يحسن ذلك، لان وجه وجب النظر في

___________________________________

(١) الزيادة في ر.

١٦٠