الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد12%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88043 / تحميل: 8113
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فبعيد، لان لقائل أن يقول: ان العاقل اذا تحفظ وتيقظ حتى لا يقع في كلامه تناقض لم يقع، فمن أين انه خارق للعادة.

ولو جعل ذلك من فضائل القرآن ومراتبه لكان جيدا.

فأما معجزاته التي هي سوى القرآن(١) كمجئ الشجرة حين قال لها اقبلي فأقبلت تخد الارض خدا(٢) ثم قال لها ارجعي فرجعت، ومثل الميضاة وانه وضع يده في الاناء فغار الماء من بين أصابعه حتى شربوا ورووا، ومثل اطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير، ومنها حنين الجذع الذي كان يستند اليه اذا خطب لما تحول إلى المنبر فلما جاء اليه والتزمه سكن، ومنها تسبيح الحصى في كفه وكلام الذراع وقولها له لا تأكلني فاني مسمومة، ومنها انه لما استسقى فجاء المطر فشكوا اليه تهدم المنازل فقال حوالينا ولا علينا واشار إلى السحاب فصار كالاكليل حول المدينة والشمس طالعة في المدينة، [ ومنها انشقاق القمر وقد نطق القرآن به، ومنها شكوى البعير ](٣) ومنها قوله لامير المؤمنين عليه السلام « تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين » وقوله له « انك تقتل ذا الثدية » وقوله لعمار « تقتلك الفئة الباغية ».

وغير ذلك من الايات الباهرات التي هي معروفة مذكورة.

وليس يمكن أن يقال: هذه الاخبار آحاد لا يعول على مثلها.

لان المسلمين تواتروها وأجمعوا على صحتها، ونحن وان قلنا انها لا تعلم ضرورة فهي معلومة بالاستدلال بالتواتر على ما يذهب اليه.

ولا يمكن أيضا ادعاء الحيل في ذلك، لان كثيرا منها يستحيل ذلك فيه، كانشقاق القمر والاستسقاء واطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير وخروج الماء من بين أصابعه واخباره بالغائبات ومجئ الشجرة اليه ورجوعها عنه،

___________________________________

(١) انظر تفاصيل هذه المعجزات في بحار الانوار.

(٢) تخد الارض: تشقها.

(٣) الزيادة من ر.

١٨١

لان جميع ذلك لا تتم فيه الحيلة، وانما يمكن الحيلة في الاجسام الخفيفة التي تحدث بالناقل ولا تتم في الشجرة العظيمة، وحنين الجذع لا يمكن أن يدعى كان لتجويف فيه دخله الريح، لان مثل ذلك لا يخفى وكان لا يستكن بمجئ النبى اليه ويحن اذا فارقه بل كان يكون ذلك بحسب الريح.

فأما كلام الذراع قيل فيه وجهان: أحدهما ان الله تعالى نبأها تنبيه الحي وجعل له آلة النطق فتكلم بما سمع وكان ذلك خارقا للعادة، والاخر ان الله تعالى فعل فيه الكلام وأضافه إلى الذراع مجازا.

ومن قال: لو انشق القمر لرآه جميع الخلق.

ليس بصحيح، لانه لا يمتنع أن يكون الناس في تلك الحال مشاغيل بالنوم وغيره، فانه كان بالليل فلم يتفق لهم مراعاته، فانه بقي ساعة ثم التأم.

وأيضا فلا يمتنع أن يكون هناك غيم حال بينه وبين جميع من لم يره ولا شاهده فلذلك لم يره الجميع.

والله أعلم بذلك.

(الكلام في الامامة)

الكلام في الامامة في خمس فصول: أولها - الكلام في وجوب الامامة.

والثاني - الكلام في صفات الامام.

والثالث - الكلام في أعيان الائمة.

والرابع - الكلام في أحكام البغاة.

والخامس - الكلام في الغيبة.

ونحن نبين فصلا فصلا من ذلك على وجه الايجاز انشاء الله.

١٨٢

فصل: (في الكلام في وجوب الامامة)

المخالف في وجوب الامامة طائفتان: احداهما تخالف في وجوبها عقلا، والاخرى تخالف في وجوبها سمعا.

فالمخالف في وجوبها سمعا شاذ لا يعتد به لشذوذه لانه لا يعرف قائلا به.

وعلماء الامة المعروفون مجموعون على وجوب الامامة سمعا، والخلاف القوي في وجوب الامامة عقلا، فانه لا يقول بوجوبها عقلا غير الامامية والبغداديين من المعتزلة وجماعة من المتأخرين، والباقون يخالفون في ذلك ويقولون المرجع فيه إلى السمع.

ولنا في الكلام في وجوب الامامة عقلا طريقان: احداهما أن نبين وجوبها عقلا سواء كان هناك سمع أو لم يكن، والثانية أن نبين أن مع وجود الشرع لابد من امام له صفة مخصوصة لحفظ الشرع باعتبار عقلي.

والذي يدل على الطريقة الاولى: انه قد ثبت أن الناس متى كانوا غير معصومين ويجوز منهم الخطأ وترك الواجب اذا كان لهم رئيس مطاع منبسط اليد يردع المعاند ويؤدب الجاني ويأخذ على يد السفيه والجاهل وينتصف للمظلوم من الظالم كانوا إلى وقوع الصلاح وقلة الفساد أقرب، ومتى خلوا من رئيس على ما وصفناه وقع الفساد وقل الصلاح ووقع الهرج والمرج وفسدت المعايش.

بهذا جرت العادة وحكم الاعتبار، ومن خالف في ذلك لا يحسن مكالمته لكونه مركوزا في أوائل العقول.

بل المعلوم أن مع وجود الرؤساء وانقباض أيديهم وضعف سلطانهم يكثر الفساد ويقل الصلاح، فكيف يمكن الخلاف فيه.

١٨٣

وليس لاحد أن يقول: انما يحصل من الصلاح عند الرؤساء أمور دنياوية ولا يجب اللطف لاجلها وليس فيها أمر ديني يجب اللطف لاجله، وذلك انما يحصل عند الروساء أمر ديني، وهو قلة الظلم ووقوع الفساد ومن تغلب القوي على الضعيف، وهذه أمور دينية يجب اللطف لاجلها وان حصل فيها أمر دنياوي فعلى وجه التبع.

ولا يبلغ الخوف من الرؤساء إلى حد الالجاء، لانه لو بلغ حد الالجاء لما وقع شئ من الفساد، لان مع الالجاء لا يقع فعل ما ألجئ اليه، وكان يجب أن لا يستحق [ تارك القبيح وفاعل الواجب مدحا لان ما يقع على وجه الالجاء لا يستحق به ](١) مدحا، والمعلوم أن العقلاء يستحقون المدح بفعل الواجب وترك القبيح مع وجود الرؤساء.

ولا يقدح فيما قلنا وقوع كثير من الفساد عند نصب رئيس بعينه، لانه انما يقع الفساد لكراهتهم رئيسا بعينه، ولو نصب لهم من يؤثرونه ويميلون اليه لرضوا به وانقادوا له، وذلك لا يقدح في وجوب جنس الرئاسة.

ولا يلزم أيضا نصب رؤساء جماعة، لان بهذه الطريقة انما يعلم وجوب جنس الرئاسة، فأما عددهم وصفاتهم فانا نرجع إلى طريقة أخرى غير اعتبار وجوب الرئاسة في الجملة.

والعقل كان يجوز نصب أئمة كثيرين في كل زمان، وانما منع السمع والاجماع من أنه لا ينصب من يسمى اماما في كل زمان الا واحدا ويكون باقي الرؤساء من قبله.

والذي يقطع به ان الرئاسة لطف في أفعال الجوارح التي يظهر قلتها بوجود الرؤساء وكثرتها بعدمهم، وأما أفعال القلوب فلا طريق لنا إلى كون الرئيس

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

١٨٤

لطفا فيها، ولا يلزم اذا كان الامام لطفا في بعض التكاليف أن لا يكون لطفا أصلا لان احكام الالطاف تختلف فبعضها عام من كل وجه وبعضها خاص وبعضها عام من وجه وخاص من وجه آخر، فلا ينبغي أن يقاس بعضها على بعض.

ألا ترى أن المعرفة عامة في جميع التكاليف الا ما تقدمها في زمان مهلة النظر.

وأما العبادات الشرعية فليس يخفى الاختصاص فيها، لان الصلاة تجب على قوم دون قوم فان الحائض لا تجب عليها، والزكاة لا تجب على من لا يملك النصاب والصوم لا يجب الا على من يطيقه فأما من به عطاش أو قلة صبر عن الطعام لفساد مزاج فلا يجب عليه، وكذلك جميع العبادات فلا يجب قياس بعضها على بعض فأما خلق الاولاد والصحة والسقم والغنى والفقر فالامر في اختصاصه ظاهر.

ومن هو معصوم مأمون منه القبيح وترك الواجب لا يحتاج إلى امام يكون لطفا له في ذلك وان احتاج اليه من وجوه أخر، نحو أخذ معالم الدين عنه وغير ذلك.

واللطف في الحقيقة هو تصرف الامام وأمره ونهيه وتأديبه، فان حصل انزاحت به العلة.

وحسن التكليف وان لم يحصل بأمر يرجع إلى المكلفين لا يجب سقوط التكليف عنهم، لانهم يؤتون في ذلك.

من قبل نفوسهم لا من قبل خالقهم.

وانما يجب على الله تعالى خلق الامام وايجابه علينا طاعته ليتمكن من التصرف، فاذا لم يمكنه لم يجب سقوط التكليف عنا، لانا نكون أتينا من قبل نفوسنا.

فاذا ثبتت هذه الجملة فلا يلزم اذا كان الامام غائبا أن يسقط التكليف عنا لانا أتينا من قبل نفوسنا بأن أخفناه وأحوجناه إلى الاستتار، ولو أطعناه ومكناه لظهر وتصرف فحصل اللطف.

وكل من لم يظهر له الامام فلابد أن تكون العلة ترجع اليه، لانه لو رجع

١٨٥

إلى غيره لاسقط الله تكليفه، وفي بقاء التكليف عليه دليل على أن الله تعالى أزاح علته وبين له ما هو لطف له فعل هو أم لم يفعل، كما نقول: ان الصلاة لطف لكل مكلف فمن لم يصل لم يجب سقوط تكليفه لانه أتي من قبل نفسه، وكذلك ههنا.

ولا يلزم على جواز الغيبة جواز عدمه، لانه لو كان معدوما لما أمكننا طاعته ولا تمكينه فلا تكون علتنا مزاحة واذا كان موجودا أمكن ذلك فاذا لم يظهر تكون الحجة علينا واذا كان معدوما تكون الحجة على الله تعالى، فبان الفرق بين وجوده غائبا وبين عدمه، فالوجود أصل لتمكيننا اياه ولا يمكن حصول الفرع بلا حصول الاصل.

وأولياء الامام ومن يعتقد طاعته فاللطف بمكانه حاصل لهم في كل وقت عند كثير من أصحابنا، لانهم يرتدعون بوجوده من كثير من القبائح، ولانهم لا يأمنون كل ساعة من ظهوره وتمكينه فيخافون تأديبه كما يخافونه وان لم يكن معهم في بلدهم بينهم وبينه بعد، بل ربما كانت الغيبة أبلغ، لان معها يجوز أن يكون حاضرا فيهم مشاهدا لهم وان لم يعرفوه بعينه.

وفيهم من قال: انه إذا لم يظهر لهم فالتقصير يرجع اليهم أو لما يعلم الله تعالى من حالهم أنه لو ظهر لهم لاشاعوا خبره أو شكوا في معجزه بشبهة تدخل عليهم فيكفرون به فلذلك لم يظهر لهم.

ولا يجوز أن تكون للامامة بدل يقوم مقامها في باب اللطف كما لا يجوز مثله في المعرفة، وان جاز كثير من الالطاف أن يكون له بدل.

وانما قلنا ذلك لانه لو كان بدل لم يمتنع أن يفعل الله ذلك البدل فيمن ليس بمعصوم، فيكون حاله مع فقد الرئيس كحاله مع وجوده في باب الانزجار عن القبيح والتوفر على فعل الواجب، والمعلوم ضرورة خلافه على ما بيناه.

والكلام في تفريع هذا الباب استوفيناه في تلخيص الشافى وشرح الجمل وفيما ذكرناه ههنا كفاية.

١٨٦

(وأما الطريقة الثانية) وهو أنه لابد من امام بعد ورود الشرع أنه اذا ثبت أن شريعة نبينا عليه السلام مؤبدة إلى يوم القيامة وان من يأتي فيما بعد يلزمه العمل بها كما لزم من كان في عصر النبي عليه السلام فلابد من أن تكون علتهم مزاحة [ كما كانت علة من شاهد النبى مزاحة في زمانه، ولا تكون العلة مزاحة ](١) الا بأن تكون الشريعة محفوظة، فلا تخلو من أن تكون محفوظة بالتواتر أو الاجماع أو الرجوع إلى أخبار الاحاد والقياس أو بوجود معصوم عالم بجميع الاحكام في كل عصر يجري قوله مثل قول النبى عليه السلام، فاذا أفسدنا الاقسام كلها الا وجود معصوم ثبت أنه لابد من وجوده في كل وقت ولا يجوز أن تكون محفوظة بالتواتر، لانه ليس جميع الشريعة متواتر بها بل التواتر موجود في مسائل قليلة نزرة، فكيف يعمل بها في باقي الشريعة.

على أن ما هو متواتر يجوز أن يصير غير متواتر، بأن يترك في كل وقت جماعة من الناقلين نقله إلى أن يصير آحادا، أما لشبهة تدخل عليهم أو اشتغال بمعاش وغير ذلك من القواطع ولا مانع من ذلك أو يعتمدوا تركه لانهم ليسوا معصومين لا يجوز عليهم ذلك.

ولا يجوز أن تكون محفوظة بالاجماع، لان الاجماع ليس بحاصل في أكثر الاحكام بل هو حاصل في مسائل قليلة والباقي كله فيه خلاف فكيف يعول عليه.

على أن الاجماع ان فرضنا أنه ليس فيهم معصوم - على ما يقولونه - فليس بحجة، لان حكم اجتماعهم حكم انفرادهم، فاذا كان كل واحد منهم ليس بمعصوم فكيف يصيرون باجتماعهم معصومين، ولو جاز ذلك جاز أن يكون كل واحد منهم لا يكون مؤمنا فاذا اجتمعوا صاروا مؤمنين، أو يكون كل واحد منهم يهوديا فاذا اجتمعوا صاروا مؤمنين، أو يكون كل واحد منهم يهوديا فاذا اجتمعوا صاروا مسلمين، وذلك باطل.

___________________________________

(١) الزيادة من ر.

١٨٧

ومتى قيل: في العقل وان كان الامر على ما قلتموه، فان أدلة الشرع لزمتنا من جواز اجتماعهم على خطاء من آيات وأخبار.

قلنا: لا دلالة في شئ من الايات والاخبار على ما تدعونه وبيننا وبينكم السير والاعتبار، وقد استوفينا الكلام في ذلك في أصول الفقه وتلخيص الشافي وشرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.

فأما أخبار الاحاد والقياس فلا يجوز أن يعمل عليهما عندنا، وقد بينا ذلك في أصول الفقه وغيره من كتبنا، فلم يبق من الاقسام الا وجود معصوم يجري قوله كقول النبي عليه السلام.

فان قيل: يلزم على هذا أن يكون من لا يعرف الامام لا يعرف أحكام الشرع، والمعلوم خلافه.

قلنا: من لا يعرف الامام لا يجوز أن يعرف من الشريعة الا ما تواتر النقل به أو دل دليل قاطع عليه من ظاهر قرآن أو اجتمعت الامة عليه، فأما ما عدا ذلك فانه لا يعلمه وان اعتقده فانما يعتقده اعتمادا ليس بعلم، فلم يخرج من موجب الدلالة.

والشرع يصل إلى من هو في البلاد البعيدة وفي زمن النبي أو الامام بالنقل المتواتر الذي من ورائه حافظ معصوم، ومتى انقطع دونهم أو وقع فيه تفريط تلافاه حتى يصل اليهم وينقطع عذرهم.

فأما اذا فرضنا النقل بلا حافظ معصوم من وراء الناقلين فانا لا نثق بأنه وصل جميعه، وجوزنا أن يكون وقع فيه تقصير أو كتمان لشبهة أو تعمد، وانما نأمن وقوع شئ منه لعلمنا أن من ورائه معصوما متى وقع خلل تلافاه.

وهذه حالنا في زمن الغيبة، فانا متى علمنا بقاء التكليف وعلمنا استمرار الغيبة علمنا أن عذرنا منقطع ولطفنا حاصل.

لانه لو لم يكن حاصلا لسقط التكليف أو اظهر الله تعالى الامام ليبين لنا ما وقع فيه من الخلل فلا يمكن التسوية بين نقل من وراء‌ه معصوم وبين نقل ليس من وراء‌ه ذلك، فيسقط الاعتراض.

١٨٨

فصل: (في صفات الامام)

يجب أن يكون الامام معصوما من القبائح والاخلال بالواجبات، لانه لو لم يكن كذلك لكانت علة الحاجة قائمة فيه إلى امام آخر، لان الناس انما احتاجوا إلى امام لكونهم غير معصومين، ومحال أن تكون العلة حاصلة والحاجة مرتفعة، لان ذلك نقص العلة.

ولو احتاج إلى امام لكان الكلام فيه كالكلام في الامام الاول، وذلك يؤدي إلى وجود ائمة لا نهاية لهم أو الانتهاء إلى امام معصوم ليس من ورائه امام، وهو المطلوب.

وانما قلنا « ان علة الحاجة هي ارتفاع العصمة » لان الذي دلنا على الحاجة [ دلنا على جهة الحاجة.

ألا ترى أن دليلنا ](١) في وجوب الرئاسة هو أن الفساد تقل عند وجوده وانبساط سلطانه وتكثر الصلاح، وذلك لا يكون الا ممن ليس بمعصوم لانهم لو كانوا معصومين لكان الصلاح شاملا أبدا والفساد مرتفعا، فلم يحتج إلى رئيس يعلل ذلك.

فبان أن علة الحاجة هي ارتفاع العصمة ويجب أن تكون مرتفعة عن الامام والا أدى إلى ما بينا فساده.

وليس يلزم على ذلك عصمة الامراء والحكام وان كانوا رؤساء، لانهم اذا لم يكونوا معصومين فلهم رئيس معصوم، وقد أشرنا اليه فلم ينتقض علينا.

والامام لا امام له ولا رئيس فوق رياسته، فلذلك وجب أن يكون معصوما.

فان قالوا: الامة أيضا من وراء الامام متى أخطأ عزلته وأقامت غيره مقامه.

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

١٨٩

قلنا: هذا باطل، لان علة الحاجة إلى الرئيس ليست هي وقوع الخطأ بل هي جواز الخطأ عليهم، ولو كان العلة وقوع الخطأ لكان من لم يقع منه الخطأ لا يحتاج إلى امام، وذلك خلاف الاجماع.

ثم على ما قالوه كان يجب أن تكون الامة امام الامام، وذلك خلاف الاجماع.

ومع هذا فلا يجوز أن يكون الشئ يحتاج إلى غيره في وقت يحتاج ذلك الغير اليه بعينه، لان ذلك يؤدي إلى حاجة الشئ إلى نفسه، وذلك لا يجوز.

وكل علة تدعى في الحاجة إلى الامام من قيامه بأمر الامة وتولية الامراء والقضاة والجهاد وقبض الاخماس والزكوات وغير ذلك، فان جميع ذلك تابع للشرع وكان يجوز ان يخلو التكليف العقلي من جميع ذلك مع ثبوت الحاجة إلى امام، للعلة التي قدمناها.

فان قيل: لو كانت علة الحاجة ارتفاع العصمة وجب أن يكون من هو معصوم لا يحتاج إلى امام يكون لطفا له في ارتفاع القبيح من جهة وان احتاج اليه لعلة اخرى غيرها من أخذ معالم الدين عنه وغير ذلك، كما نقوله في من هو أهل للامامة في زمن امام قبله أنه يجب أن يكون معصوما وله امام، لما قلناه من العلة لا لتقليل القبيح او ارتفاعه من جهته.

ويجب أن يكون الامام أفضل من كل واحد من رعيته في كونه اكثر ثوابا عند الله وفي الفضل الظاهر، يدل على كونه اكثر ثوابا ما بيناه من وجوب عصمته واذا ثبتت عصمته فكل من أوجب العصمة له قطع على كونه اكثر ثوابا، لان أحدا لا يفرق بين المسلمين.

وأيضا فالامام يستحق من التعظيم والتبجيل وعلو المنزلة في الدين مالا يستحقه أحد من رعيته، وهذا الضرب من التعظيم والتبجيل لا يجوز أن تفضلا، بدلالة أنه لا يجوز فعله بالبهائم والاطفال، واذا وجب أن يكون مستحقا دل على أنه اكثر

١٩٠

ثوابا لان التعظيم ينبي عنه.

فاذا ثبتت عصمته على ما قدمناه قطعنا على حصول هذه المنزلة عند الله من غير شرط، بخلاف ما شرطه في تعظيم بعضنا لبعض.

وأيضا فقد دللنا على أن الامام حجة في الشرع، فوجب أن يكون اكثر رعيته ثوابا كالنبي صلى الله عليه وآله، فانه انما وجب ذلك فيه لكونه حجة في الشرع.

وأما الذي يدل على أنه يجب أن يكون أفضل في الظاهر ما نعلمه ضرورة من قبح تقديم المفضول على الفاضل.

ألا ترى أنه يقبح من ملك حكيم أن يجعل رئيسا في الخط على مثل ابن مقلة ونظرائه من يكتب خطوط الصبيان والبقالين ويجعل رئيسا في الفقه على مثل أبى حنيفة والشافعي وغيرهما.

والعلم بقبح ذلك ضروري لا يختلف العقلاء فيه، ولا علة لذلك الا أنه تقديم المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه.

واذا كان الله تعالى هو الناصب للامام يجب أن لا ينصب الا من هو أفضل في ظننا وعلمنا.

وانما قلنا « انه يجب أن يكون أفضل فيما هو امام فيه » لانه يجوز أن يكون في رعيته من هو أفضل منه فيما ليس هو امام فيه ككثير من الصنائع والمهن وغير ذلك، والمعتبر كونه أفضل فيما هو امام فيه.

وبذلك نجيب من قال: ان النبي صلى الله عليه وآله قدم عمرو بن العاص على فضلاء الصحابة وقدم زيدا على جعفر [ وهو أفضل منه وقدم خالدا أيضا على جعفر ](١) .

وذلك أن كل هؤلاء انما قدموا في سياسة الحرب وتدبير الجيوش وهم أفضل في ذلك ممن قدموا عليه، وان كانوا أولئك أفضل في خصال دينية أو دنياوية، فسقط الاعتراض.

ولا يجوز تقديم المفضول على الفاضل لعلة وعارض، لان تقديمه عليه وجه قبح، ومع حصول وجه القبح لا يحسن ذلك كما لا يحسن الظلم، وان عرض فيه وجه من وجوه الحسن - ككونه نفعا للغير - لان مع كونه ظلما - وهو

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

١٩١

وجه القبح - لا يحسن على حال.

ولو جاز أن يحسن ذلك لعلة لجاز أن يحسن تقديم الفاسق المتهتك على أهل الستر والصلاح، وتقديم الكافر على المؤمن لمثل ما قالوه، وذلك باطل.

ويجب أن يكون الامام عالما بتدبير ما هو امام فيه من سياسة رعيته والنظر في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل.

ويجب أن يكون أيضا بعد الشرع عالما بجميع الشريعة، لكونه حاكما في جميعها.

يدل على ذلك أنه لا يحسن من حكيم من حكماء الملوك أن يولي وزارته والنظر في مملكته من لا يحسنها أو لا يحسن اكثر من ذلك، ومتى فعل ذلك كان مضيعا لمملكته واستحق الذم من العقلاء.

وكذلك لا يحسن من أحدنا أن يوكل انسانا على النظر في أمر ضيعته وأهله وولده وتدبير أموره من لا يعرف شيئا منها أو اكثرها، ومتى فعل ذلك ذموه العقلاء وقالوا له: ضيعت امر أهلك وضيعتك والتولية في هذا الباب.

بخلاف التكليف، لان أحدا يحسن منه أن يعرض ولده ليعلم العلوم وان لم يحسنها ولا يحسن منه أن يجعله رئيسا فيها وهو لا يحسنها.

فبان الفرق بينهما.

ولا يلزم اذا قلنا انه يجب أن يكون عالما بما أسند اليه، أن يكون عالما بما ليس هو اماما فيه كالصنائع وغير ذلك، لانه ليس هو رئيسا فيها.

ومتى وقع فيها تنازع من أهلها ففرضه الرجوع إلى أهل الخبرة والحكم بما يقولونه.

وكل من ولي ولاية صغرت أو كبرت كالقضاء والامارة والجباية وغير ذلك فانه يجب أن يكون عالما فيما أسند اليه ولا يجب أن يكون عالما بما ليس بمستند اليه، لان من ولي القضاء لا يلزم أن يكون عالما بسياسة الجند، ومن ولي الامارة لا يلزم أن يكون عالما بالاحكام، وهكذا جميع الولايات، ولا يلزم أيضا أن يكون عالما بصدق الشهود والمقرين على أنفسهم، لانه انما جعل اماما

١٩٢

في الحكم بالظاهر دون الباطن.

وانما يجب أن يكون الامام عالما بما أسند اليه في حال كونه اماما، فأما قبل ذلك فلا يجب أن يكون عالما.

ولا يلزم أن يكون امير المؤمنين عليه السلام عالما بجميع الشرع في حياة النبي صلى الله عليه وآله، أو الحسن والحسين عليهما السلام عالمين بجميع ذلك في حياة أبيهما، بل انما يأخذ المؤهل للامامة العلم ممن قبله شيئا بعد شئ ليتكامل عند آخر نفس من الامام المتقدم عليه بما أسند اليه.

ولو جاز أن يعلم الامام كثيرا من الاحكام ويستفتي العلماء لجاز أن لا يعلم شيئا منها ويستفتيهم، والا فما الفرق.

والمخالف يعتبر أن يكون من أهل الاجتهاد.

ويدل أيضا على كونه عالما بجيمع الشرع، أنا قد دللنا على كونه حافظا للشرع، فلو لم يكن عالما بجميعه لجوزنا أن يكون وقع فيه خلل من الناقلين أو تركوا بعض ما ليس الامام عالما به، فيؤدي إلى ان لا يتصل بنا ما هو مصلحة، ولا تنزاح علتنا في التكليف لذلك، وذلك باطل بالاتفاق.

ويجب أن يكون الامام أشجع رعيته، لانه فيهم والمنظور اليه، فلو لم يكن أشجع لجاز أن ينهزم فينهزم بانهزامه المسلمون، فيكون فيه بوار المسلمين والاسلام، فاذا يجب أن يكون أشجعهم وأربطهم جأشا وأثبتهم قلبا.

غير أن هذا يجب مع فرض العباد بالجهاد، فأما ان لم يكن متعبدا بالجهاد فلا يجب مع فرض ذلك.

ويجب أن يكون الامام أعقل رعيته، والمراد بالاعقل أجودهم رأيا و أعلمهم بالسياسة.

ويجب أن يكون على صورة غير منهرة ولا مشينة، ولا يلزم أن يكون أحسن الناس وجها.

١٩٣

ويجب أن يكون منصوصا عليه، لما قدمناه من وجوب عصمته.

ولما كانت العصمة لا تدرك حسا ولا مشاهدة ولا استدلالا ولا تجربة ولا يعلمها الا الله تعالى، وجب أن ينص عليه ويبينه من غيره على لسان نبي، ان المعجز لابد أن يظهر على يده علما معجزا عليه بينة من غيره.

غير أن المعجز لابد أن يستند إلى نص متقدم، لان الامام لا يعلم أنه امام الا ينص عليه نبي، فاذا نص عليه النبى أو ادعى هو الامامة جاز أن يظهر الله تعالى على يده علما معجزا، كما نقوله في صاحب الزمان اذا ظهر، فصار النص هو الاصل.

فان قيل: هلا جاز أن يكلف الله تعالى الامه أختيار الامام اذا علم الله تعالى أن اختيارهم لا يقع الا على معصوم، فيحسن تكليفهم ذلك.

قلنا: لا يعتبر بالعلم في ذلك، لان علمه تعالى بأنهم لا يختارون الا المعصوم لا يكفي في حسن هذا التكليف، لانه اذا لم يكن طريقا إلى الفرق بين المعصوم وغيره وكلفوا اختيار المعصوم كان في ذلك تكليف لما لا دليل عليه، وهو تكليف ما لا يطاق الذي بينا قبحه.

ويلزم على ذلك اختيار الانبياء واختيار الشرائع اذا علم الله تعالى أنه لا يقع اختيارهم الا على نبي وعلى ما وهو مصلحة لهم، ويلزم حسن تكليف الاخبار عن الغائبات اذا علم أنهم يخبرون بالصدق، وذلك باطل.

ومن ارتكب حسن ذلك كموسى بن عمران عليه السلام، قيل له: لم لا يكلف الله تعالى اعتقاد معرفته ولم ينصب عليه دليلا اذا علم أنه يتفق لهم معرفته من غير دليل.

ويلزم حسن تكليف الاخبار عن المستقبل وان لم يتعلق بالشرائع، ومعلوم قبح ذلك ضرورة.

فان قيل: لونص الله تعالى على صفة وقال من كان عليها فاعلموا أنه معصوم لكان يجوز أن يكلف الاختيار لمن تلك صفته.

قلنا:يجوز ذلك اذا كان هناك طريق إلى معرفة تلك الصفة، لان هذا نص

١٩٤

على الجملة، والنص على الصفة يجري مجرى النص على الغير، ولاجل هذا نص الله تعالى في الشرعيات على صفات الافعال دون أعيان الافعال، وكان ذلك جائزا لان العلة تنزاح به.

فعلى هذا لو كلف الله تعالى الامة أن يختاروا من ظاهره العدالة ثم قال لهم ان كان كذلك كان معصوما، والامارات على العدالة ظاهرة منصوبة معلومة بالعادة، فان ذلك جائز، كما جاز تكليفنا تنفيذ الحكم عند شهادة الشهادتين اذا ظننا عدالتهم ويكون تنفيذ الحكم معلوما وان كانت العدالة مظنونة، وكذلك كون المختار معصوما يكون معلوما اذا اخترنا من ظاهره العدالة، وذلك لا ينافي النص والمعجز.

ويمكن مثل هذا الترتيب في اعتبار كثرة الثواب وكونه أفضل عند الله تعالى، لانه لا يعلم ذلك الا الله كالعصمة فلابد أن ينص عليه أو يظهر معجزا.

ويمكن أن يعرف أعيان الائمة بضرب من التقسيم، بأن يقول اذا ثبت وجوب الامامة والامة في ذلك بين أقوال ثلاثة مثلا فيفسد القسمين منها فيعلم صحة القسم الاخر على ما سنبينه في أمير المؤمنين عليه السلام والائمة من بعده، ولا يحتاج مع ذلك إلى نص ولا معجز.

غير أن هذا انما اذا كانت الاحوال على ما هى عليه في شرعنا، ويمكن أن يقال قول من قال بامامة من ثبتت امامته لا بد أن يستند إلى دليل، لانه لابد أن يكون صادرا عن دليل، فهو اما أن يكون نصا أو معجزا، فقد عاد الامر إلى ما قلناه.

فان قيل: كيف تدعون وجوب النص أو المعجز، ومعلوم أن الصحابة لما حاجوا في الامامة فكل طلبه من جهة الاختيار ولم يقل أحد أنه لا تبثت الامامة الا بالنص أو المعجز.

١٩٥

قيل: لم نسلم ذلك بل نحن نبين أنهم اختلفوا في نفس الاختيار أيضا فيما بعد، ولو سلمنا لكان انكارهم واختلافهم في غير المختار، ويحتمل أن يكون انكارا لنفس الاختيار ويحتمل أن يكون لغيره، واذا احتمل أمرين سقط السؤال.

الكلام في ذكر أعيان الائمة (عليهم السلام) الامام بعد النبى صلى الله عليه وآله بلا فصل أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام.

يدل على ذلك أنه اذا ثبت بما قدمناه من الدلالة أن من شرط الامام أن يكون مقطوعا على عصمته فالامة بين قائلين: فكل من قال شرط الامام العصمة قطع على أن الامام بعد النبي علي عليهما السلام، ومن خالف في امامته خالف في أن من شرط الامام أن يكون معصوما، وليس فيهم من قال الامام يجب أن يكون معصوما وقال الامام غيره، فالقول بذلك خروج عن الاجماع، ومتى نازعوا في أن من شرط الامام العصمة كلموا بما تقدم.

فان قيل: ومن أين تعلمون أن عليا عليه السلام معصوم.

قلنا: اذا ثبت أنه الامام بالاعتبار الذي ذكرناه قطعنا على عصمته، لما ثبت من أن الامام يجب أن يكون معصوما.

فان قيل: فقد صرتم لا تعلمون عصمته الا بعد أن تعلموا امامته، ولا تعلموا امامته الا بعد أن تعلموا عصمته، فقد بنيتم كل واحد منهما على صاحبه، فلا يصح أن تعلموا واحدا منهما.

قلنا: ليس الامر على ذلك، لانا انما علمنا امامته بطريقة القسمة، اذ بنينا على أن من شرط الامام أن يكون معصوما على الجملة - أي امام كان ولم نعينه - فاذا علمنا بذلك امامته علمنا عصمته على التعيين، والكلام في الجملة

١٩٦

غير الكلام في التعيين.

ومثل ذلك اذا علمنا أن من شرط النبى أن يكون معصوما في الجملة ثم علمنا نبوة نبي بعينه قطعنا على عصمته.

ولك أن ترتب على وجه آخر فنقول: اذا ثبت أن من شرط الامام أن يكون معصوما ووجدنا الامة بعد النبى صلى الله عليه وآله بين ثلاثة أقوال: [ قائل يقول بامامة أبى بكر ](١) ، وقائل يقول بامامة العباس، وقائل يقول بامامة على عليه السلام.

ولا قول رابع يعرف، وكل من قال بامامة أبى بكر أو بامامة العباس لم يجعل من شرط الامامة العصمة، فينبغى أن نسقط قول الفريقين ويبقي قول القائلين بامامة علي، والا خرج الحق عن الامة وذلك لا يجوز.

ولك أن ترتب مثل هذا في كونه اكثر ثوابا عند الله، ولا أحد من الامة يقطع على أن أبا بكر أو العباس اكثر ثوابا عند الله، لان القائلين بكون ابى بكر أفضل يقولون انه أفضل في الظاهر وعلى غالب الظن، فأما على القطع والثبات عند الله فليس بقول لاحد، ومتى نازع فيه منازغ دللنا على أن عليا عليه السلام أفضل الصحابة ليسقط خلافه.

ولك أن ترتب مثل ذلك في كونه أعلم الامة بالشرع وتقول: اذا ثبت أن من شرط الامام العلم بجميع أحكام الشريعة فليس في الامة من يذهب إلى امامة من هو أعم الامة وأنه عالم بجميع أحكام الشرع الا القائلون بامامة علي عليه السلام، لان القائلين بامامة ابى بكر لا يدعون فيه ذلك وانما يقولون هو من أهل الاجتهاد، وكذلك القائلون بامامة العباس، بل ليس عندهم من شرط الامام أن يكون أعلم الامة.

وهذه طرق عقلية اعتبارية لا يمكن افسادها الا بالمنازعة في الاصل الذي بني عليه، والخلاف في ذلك يكون كلاما في مسألة أخرى.

___________________________________

(١) الزيادة من ج.

١٩٧

دليل من القرآن على امامته (عليه السلام) ويدل أيضا على الامام بعد النبى عليه السلام قوله تعالى( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) .

ووجه الاستدلال من الاية أن معنى( وَلِيُّكُمُ ) في الاية من كان مستحقا للامر وأولى القيام به وتجب طاعته، وثبت أيضا أن المراد ب‍( الَّذِينَ آمَنُوا ) أمير المؤمنين عليه السلام، واذا ثبت الامران ثبتت امامته عليه السلام.

وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء: أولها ان لفظة « ولي » تفيد الاولى في اللغة.

وثانيها أن المراد بها في الاية ذلك.

وثالثها أن المراد ب‍( الَّذِينَ آمَنُوا ) أمير المؤمنين دون غيره.

والدليل على الاول - استعمال هذه اللفظة في اللغة، لانهم يقولون « فلان ولي المرأة » اذا كان أولى بالعقد عليها، و « فلان ولي الدم » اذا كان له المطالبة بالقود والدية أو العفو ويقولون « فلان ولي عهد المسلمين » للمرشح للخلافة.

وقال الكميت: ونعم ولي الامر بعد وليه * ومنتج التقوى ونعم المؤدب ويعني بالولي الاولى بالقيام بالامر وتدبيره.

وقال المبرد: الولي هو الاحق، والمولى والاولى عبارة عن شئ واحد.

والدليل على أن المراد في الاية ذلك أنه اذا ثبت أن المراد ب‍( الَّذِينَ آمَنُوا ) من كان مؤتيا للزكاة في حال الركوع، لانه تعالى لما وصفه بالايمان وصفه بايتاء الزكاة في حال الركوع، فيجب أن يراعى ثبوت الصفتين، وقد علمنا أن أحدا لم يعط الزكاة في حال الركوع غير علي عليه السلام، فوجب

___________________________________

(١) سورة المائدة: ٥٥.

١٩٨

أن يكون هو المعني بها دون غيره.

وأيضا فانه تعالى نفى أن يكون وليا غير الله ورسوله والذين آمنوا بلفظة « انما »، وهي تفيد تحقيق ما ذكر ونفي الصفة عمن لم يذكر، بدلالة قولهم.

« انما لك عندي درهم » يريدون ليس لك عندي الا درهم، ويقولون « انما النحويون المدققون البصريون » يريدون نفي التدقيق عن غيرهم، ويقولون « انما الفصاحة في الجاهلية » يريدون نفي الفصاحة عن غيرهم.

وقال الاعشى: ولست بالاكثر منهم حصى * وانما العبرة للاكاثر وانما أراد نفي العبرة عمن ليس بكاثر.

واذا ثبت [ أن المراد بالولاية التخصيص ثبت ](١) ما أردناه من معنى الامامة والتحقيق بالامر، لان ولاية المحبة والموالاة الدينية عامة في جميع الامة للاجماع عليه، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.

والذي يدل على أن المراد ب‍( الَّذِينَ آمَنُوا ) علي عليه السلام أمران: أحدهما - أنه اذا ثبت أن المراد بالولي الاولى والاحق، فكل من قال بذلك قال هي متوجهة اليه عليه السلام، لان من خالف في ذلك حملها على الموالاة في الدين لجميع المؤمنين.

والثاني - أنه قد ورد الخبر من طريق العام والخاص بنزول الاية فيه عليه السلام عند تصدقه بخاتمه في حال الركوع، والقصة في ذلك مشهورة(٢) .

فاذا ثبت أنه المختص بالاية ثبتت امامته دون غيره، [ لان كل من قال ان الاية تفيد الامامة قال هو المخصوص دون غيره ](٣) ، ومن قال الاية نزلت في

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

(٢) راجع تلخيص الشافى ٢ / ١١.

(٣) الزيادة من ج.

١٩٩

عبادة بن الصامت فالكلام عليه من وجهين: أحدهما: ان هذه رواية شاذة أكثر الامة يدفعها، وما قلناه في نزولها فيه مجمع عليه.

والثاني: انه روي أن عبادة كان محالفا لليهود، فلما أسلم قطعت اليهود محالفته، فاشتد ذلك عليه فأنزل الله تعالى فيه الاية تسلية له وتقوية لقلبه.

ومن قال: ان الاية نزلت في أقوام كانوا في الصلاه في الركوع وأرادوهم راكعون في الحال لا أنهم آتوا الزكاة في حلال الركوع وانما أراد أن ذلك طريقتهم وهم في الحال راكعون.

فقوله باطل، لانه ذلك يخالف العربية ووجه الكلام، لان المفهوم من قول القائل « يستحق المدح من جاد بماله وهو ضاحك » و « فلان يغشى لاخوانه وهو راكب » معنى الحال، وكذلك لو قال « لقيت فلانا وهو يأكل » لم يعقل منه الا لقاؤه في حال الاكل.

على أنه لو حمل على ما قالوه لكان ذلك تكرارا، لان قوله( وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ) دخل فيه الركوع فلا معنى لتكرير قوله( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، لانه عبث.

على أن هذا القول لم يقله أحد غير الجبائي ولا ذكره أحد من أصحاب الاخبار، لان الاية لو كانت في قوم معينين لنقل وسطر، وفي تعري الاخبار من ذلك دليل على أن ذلك لا أصل له.

فان قيل: حمل لفظ( الَّذِينَ ) على الواحد مجاز، وحمل قوله( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) في الحال مجاز آخر لان حقيقتها الاستقبال، فلم لا يجوز أن يحمل على مجاز واحد.

فنقول: المراد من صفتهم ايتاء الزكاة ومن صفتهم أنهم راكعون، ولا يجعل احدى الصفتين حالا للاخرى.

قلنا: أما لفظ( الَّذِينَ ) وان كان لفظ جمع فقد صار بعرف الاستعمال

٢٠٠

يعبر به عن واحد معظم له، ولذلك نظائر كقوله( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١) وقوله( إِنَّا أَرْسَلْنَا ) (٢) و( لَقَدْ أَرْسَلْنَا ) (٣) وغير ذلك من الالفاظ.

وقال أهل التفسير: ان قوله تعالى( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ) (٤) المرادبه واحد معروف.

وأما لفظ « يؤتون » فمشترك بين الحال والاستقبال، وانما يختص بالاستقبال بدخول السين أو سوف عليه، وهي بالحال أشبه، لانهم يقولون « مررت برجل يقوم » كما يقولون « مررت برجل قائم »، ولو تساويا لكان الحمل على كل واحد منهما حقيقة ولم يكن مجازا.

على أن من مذهب من خالفنا من أهل العدل أن الله كان ولا شئ ثم أحدث الذكر، فعلى هذا حمل الاية على الاستقبال حقيقة.

على أن مجازنا له شاهد في الاستعمال ومجازهم لا شاهد له في عرف ولا لغة، يؤدي ايضا إلى ان لا نستفيد بالاية شيئا، لان الموالاة الدينية معلومة بغيرها.

على أن الخصوص في قوله تعالى( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) لابد منه، لانه لو حمل على العموم لادى إلى أن يكون كل واحد من المؤمنين ولي نفسه، فاذا لابد أن يكون المراد بقوله( وَلِيُّكُمُ ) غير المراد بقوله( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ليستقيم الكلام.

واذا وجب تخصيص الاية فكل من خصصها حملها على من قلناه دون غيره.

وليس لاحد أن يقول: المراد بالركوع في الاية الخشوع والخضوع

___________________________________

(١) سورة الحجر: ٩.

(٢) سورة المزمل: ١٥.

(٣) سورة الحديد: ٢٥.

(٤) سورة آل عمران: ١٧٣.

٢٠١

دون الركوع في الصلاة، وذلك أن المعروف في اللغة من معنى الركوع هو التطأطؤ المخصوص وشبه به الخضوع والخشوع، وقد نص على ذلك أهل اللغة، أنشد صاحب كتاب العين للبيد: أخبر أخبار القرون التي مضت * أدر كأني كلما قمت راكع وقال صاحب الجمهرة: الراكع الذي يكبو لوجهه، ومنه الركوع في الصلاة.

فاذا كانت الحقيقة ما قلناه فلا يجوز حملها على المجاز.

وليس اعطاء الخاتم في الصلاة فعلا يفسد الصلاة، لانه لا خلاف ان الفعل اليسير مباح.

وأيضا فقد مدح الله تعالى والنبي (ص) على ذلك، فلو كان نقصا لما مدحاه بذلك.

وقول من قال: أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يجب عليه زكاة لقلة ذات يده فكيف يحمل على ذلك.

باطل، لانه لا يمتنع أن يملك عليه السلام أول نصاب من المال نحو مائتي درهم، لان من ملك ذلك لا يسمى غنيا، فلا وجه لاستبعاد ذلك.

ويجوز أن يكون المراد زكاه التطوع، وليس في الاية انه زكاة فرض دون التطوع.

والنية بدفع الزكاة لابد منها، وهي لا تنافي الصلاة، لانها من أفعال القلوب لا تؤثر في الصلاة.

وليس لاحد أن يقول: لو اقتضت الاية الامامة لوجب أن يكون اماما في الحال.

وذلك أنا قد بينا أن المراد بالاية فرض الطاعة وقد كان له ذلك في الحال، [ فلا يمكن ادعاء الاجماع على خلافه.

ولو اقتضى الامامة في الحال ](١) لاقتضاها فيما بعد إلى حين وفاته، فاذا قام الدليل على أنه لم يكن اماما في الحال ثبت ما بعد النبي صلى الله عليه وآله.

___________________________________

(١) الزيادة من ج.

٢٠٢

وليس لاحد أن يقول: هل حملتموها على بعد عثمان.

وذلك أن هذا يسقط بالاجماع، لان أحدا لم يثبت له الامامة بعد عثمان من دون ما قبلها بالاية بل أثبتوا ألامامة بالاختيار، ومن أثبت امامته في تلك الحال بالنص في الاية وغيرها أثبتها له أيضا بعد النبي بلا فصل، فالفرق بين الامرين خلاف الاجماع.

دليل آخر على امامته (عليه السلام) ومما يدل على امامته عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل ما تواترت به الشيعة ونقلته مع كثرتها وانتشارها في البلاد واختلاف آرائها ومذاهبها وتباعد ديارها واختلاف هممها خلفا عن سلف إلى أن تصل بالنبي عليه السلام أنه قال: « على امامكم » و « خليفتي عليكم من بعدي »(١) و « سلموا عليه بأمرة المؤمنين »(٢) .

وغير ذلك من الالفاظ الصريحة التي لا تحمل التأويل وانهم علموا من قصده ضرورة انه أراد استخلافه من بعده بلا فصل.

فلا يخلو أن يكونوا صادقين أو كاذبين، فان كانوا صادقين فقد ثبتت امامته على ما قلناه، وان كانوا كاذبين لم يخل كذبهم من أمور: اما أن يكون اتفق لهم الكذب فوضعوه أو تواطؤا عليه اما باجتماع وموافقة أو بمكاتبة ومراسلة، أو حصل فيه ما يجري مجرى التواطؤ، أو حصل أحد هذه الاسباب في الوسائط التي بيننا وبين النبي عليه السلام، او كان القائل به في الاصل واحدا ثم انتشر القول وكثر معتقدوه، فاذا ثبت جميع ذلك دل على أن الخبر متصل.

ولا يجوز أن يكون اتفق لهم الكذب فوضعوه، لان ما هم عليه من الكثرة

___________________________________

(١) تلخيص الشافى ٢ / ٥٧.

(٢) بحار الانوار ٣٥ / ٢٩٠.

٢٠٣

يمنع من جواز ذلك عليهم، لان العلم باستحالة خبر واحد عن شي ء واحد من الخلق الكثير على وجه احد من غير تواطئ مستحيل في العادة.

ألا ترى أنه يستحيل من جماعة من الشعراء ان يتواردوا في قصيدة واحدة في معنى واحد وغرض واحد وقافية واحدة وروي واحد، ويجري ذلك مجرى استحالة اجتماعهم على طعام واحد وزي واحد.

واذا كان ذلك مستحيلا في العادة وجب المنع منه.

وليس الكذب في هذا الباب يجري مجرى الصدق، لان الصدق يجوز أن يتفق من الخلق الكثير من غير تواطئ، لان العلم بكونه صدقا داع إلى نقله، وليس كذلك الكذب، لان العلم بكونه كذبا صارف عن نقله، فيحتاج إلى داع غير ذلك يحمل على نقله.

ولا يجوز أن يكونوا تواطؤا عليه، لان ذلك مستحيل منهم، لتباعد ديارهم وانتشارهم في الارض، ولو تواطؤا بالاجتماع لما خفي ولعلم في أوجز مدة.

وكذلك يستحيل منهم المراسلة والمكاتبة لان اكثرهم لا يتعارفون وصحة المراسلة فرع على التعارف، واذا كانوا لا يتعارفون فكيف يصح منهم المكاتبة ولو صح أيضا لكان يجب أن يظهر في اوجز مدة، بذلك قضت العادات وحكم الاعتبار ولو ظهر لعلم.

وأما ما يجري مجرى التواطؤ فهو اما رغبة في الدنيا أو رهبة، وكلاهما منفيان عمن ادعى له النصر، لانه لو لم يكن له دينا فيطمع فيها فيكذب له بالنص ولم يبسط يده فيخاف منه فيدعو ذلك إلى وضع النص، بل الدواعي كلها إلى كتمانه وجحده والصوارف عن نقله واظهاره، فكيف يكون هناك ما يجري مجرى التواطؤ.

ولو كان ذلك ممكنا لما دعاهم إلى وضع فضيلة بعينها، بل كان يدعو

٢٠٤

الناس إلى وضع فضيلة غير الذي يدعو عليها الاخر، لان الاتفاق في مثل ذلك مستحيل في العادة على ما بيناه.

ولو كان أحد هذه الاشياء حصل في الوسائط الذين بيننا وبين النبى عليه السلام لعلم ذلك، كما لو كان في الطرف الذي بيننا لعلم.

ولو كان الاصل فيهم واحدا ثم انتشر لعلم الوقت الذي حدث فيه ومن المحدث له وما الذي دعاه اليه، كما علم سائر المذاهب الحادثة بعد استقرار الشرع، كمذهب الخوارج والمعتزلة والجهمية والكلابية والنجارية وغير ذلك من الفرق، وكما علم فقه أبى حنيفة ومالك والشافعي وأنه لم يتقدمهم أحد قال به على ما ذهبوا اليه وجمعوه، فكان يجب أن يعلم النص مثل ذلك ومن القائل به، واذا لم يعلم ذلك دل على أنه متصل.

وقولهم: انه علم ذلك وانه وضعه في هشام بن الحكم وابن الراوندي.

باطل، لان القائلين بالنص كانوا قبل هشام وكتبهم معروفة في ذلك، وأما ابن الراوندي فهو متأخر كثيرا وشيوخ الامامية قبله معروفون، ولو كان الامر على ما قالوه لما حسن مكالمتهم كما لا يحسن مكالمة من يحدث مقالة فيقول بامامة ابن مسعود وأبى هريرة أو غير ذلك، لان الاجماع سبقهم فلا يلتفت اليه، وفي حسن مكالمتهم لنا ووضعهم الكتب علينا دليل على فساد قولهم هذا فان قيل: لو كان هذا النص صحيحا لعلم صحته ضرورة كما علمت هجرة النبى صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وكما علم أن في الدنيا مكة وبلد الروم وغير ذلك من أخبار البلدان.

قلنا: ليس العلم بمجرد الاخبار عندنا ضرورة، بل هو مكتسب عند اكثر أصحابنا، وعند قوم انه مشكوك فيه.

فأما العلم بالنص فمستدل عليه قطعا ويجري العلم به كالعلم بمعجزات النبى عليه السلام التى هي سوى القرآن، وليس اذا

٢٠٥

اذا لم يعلم باقي المعجزات - كما علمنا البلدان والوقائع - وجب القطع على بطلانها لكونها معلومة بالاستدلال، وكذلك النص اذا لم يكن معلوما بالضرورة وكان معلوما بالاستدلال لم يجب القطع على بطلانه.

على أن العلم بالبلدان والوقائع لم يمتنع أن يكون حصل لما لم يقابل وأتوا به بالتكذيب ولم يعرض فيه ما عرض في النص، فسلم نقله فحصل العلم به.

والنص بخلاف ذلك، لانه عرض في نقله وانتهازه موانع ولقى راويه بالتكذيب واعتقد ضلالته وخطأوه ويدعى في روايته، فكيف يحصل العلم مع هذه الموانع.

وهكذا الجواب اذا قالوا: لم لا يعلم النص كما علمنا الصلوات الخمس والحج إلى الكعبة وصوم شهر رمضان وغير ذلك من أركان الشرائع.

لان الاسباب التي عرضت في الامامة لم تعرض في شئ من العبادات، فسلم نقله فحصل العلم به، ولما عرض ما قلناه في النص غمض طريق العلم به.

وليس لاحد أن يقول: قد ادعيتم حصول موانع من نقل النص فما دليلكم عليها؟.

قلنا: لا خلاف أن النص عقد الامر على خلاف متضمنه وان اعتقد في ناقله أنه ضال مبتدع ولقوا بالتكذيب، ويزيد المخالف على ذلك ويقول: هذا هو الواجب فكيف يمكن أن يدعى انه لم يكن هناك صارف.

على أن ههنا أمورا كثيرة في الشرع منصوصا عليها وليس العلم بها كالعلم بما ذكروه من العبادات.

ألا ترى أن صفات الامام وعدد العاقدين وكونه من قريش، كل ذلك طريقه النص ومع هذا العلم به كالعلم بما قالوه، وكذلك العلم بمعجزات النبى صلى الله عليه وآله التي هى سوى القرآن ليست مثل العلم بالقرآن وبأصول الشريعة، فكيف تسوى بين المنصوصات

٢٠٦

عليها في الشرع على اختلاف طرقها وغموض بعضها وظهور بعض، وهل يكون من سوى بين الكل في كيفية العلم الا غير منصف متحامل متعصب، وذلك لا يليق بالعلماء.

فان قيل: يلزم على هذه الطريقة قول البكرية والعباسية اذا ادعوا النص لاصحابهما وادعوا مثل ما ادعيتم بعينه، والا فما الفرق؟ قلنا: الفرق بيننا وبين هؤلاء: ان الشيعة معروفون وعلماء‌هم كثيرون ولهم كتب مصنفة ومقالات ظاهرة، وليس كذلك البكرية، لانا لم نشاهد قط بكريا ولا عباسيا، ولسنا نعني بالبكرية من ذهب إلى امامة ابى بكر بل نريد من ادعى النص عليه.

وأيضا هذا حكاية عن بعض من تقدم يعرف ببكر بن أخت عبدالواحد، فنسبوا اليه ولم ينسبوا إلى ابى بكر، والقائلون بامامة أبى بكر من علماء الامة يذهبون إلى امامته بالاختيار والاجماع الذي يدعونه، وليس منهم من يقول كان منصوصا عليه كما يقوله الشيعة في علي عليه السلام.

وأما القائلون بامامة العباس فلا يعرف واحد منهم أصلا، ولولا أن الجاحظ حكى هذه المقالة وصنف فيهم كتابا والا ما كان يعرف هذا القول لا قبله ولا بعده.

على أن ما دللنا به على أن من شرط الامام أن يكون مقطوعا على عصمته، يبطل هذين القولين، لانهما لا يدعيان ذلك لاصحابهما على ما بيناه.

على أنه قد ظهر منهما ومن غيرهما من الصحابة ما يدل على أنهما لم يكونا منصوصا عليهما، فروي عن أبى بكر لما احتج على الانصار يوم السقيفة قال « الائمة من قريش » ولو كان منصوصا عليه لقال أنا منصوص علي فأين يذهب بكم.

ولا يلزمنا مثله في أمير المؤمنين عليه السلام، لانه أولا لم يحضر الموضع فيحتج وثانيا ان الفريقين قصدوا إلى ان يدفعوا الامر عنه فكيف يحتج عليهم، وربما

٢٠٧

ادعوا نسخ الخبر أو جحدوه وكانت تكون البلية العظمى.

وليس يدعي المخالف مثل ذلك، لانهم يقولون كان الموضع موضع بحث واحتجاج.

فعلى قولهم كان يجب أن يذكر النص على نفسه.

ومنها أنه قال للانصار « بايعوا » أي أحد هذين شئتم يعني أبا عبيدة الجراح وعمر، ولو كان منصوصا عليه لما جاز ذلك.

ومنها قوله « أقيلوني » ولو كان منصوصا عليه لما جاز منه استقالتهم.

ومنها ما روي أنه قال عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله هل للانصار في هذا الامر نصيب فكنا لا ننازعهم.

ولا يتمنى مثل هذا من يعلم أنه منصوص عليه.

ومنها قول عمر لابى عبيدة « أمدد يدك أبايعك »، ولو كان ابو بكر منصوصا عليه لما قال ذلك.

ومنها قوله « كانت بيعة أبى بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ».

ومنها قوله حين قيل له: استخلف، قال: ان استخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني ابا بكر - وان أترك فقد ترك من هو خير مني - يعني رسول الله.

ومنها ان جميع ما يدعى من النص عليه لا دلالة فيه لكونه خبر واحد وانه ليس في تصريحه ولا فحواه دلالة النص، وقد ذكرنا الوجه في جميع ذلك في تلخيص الشافي وشرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.

وكذلك ما تتعلق به العباسية قد بينا الوجه فيه.

على أن العباس دعا أمير المؤمنين عليه السلام إلى مبايعته وقال له: أمدد يدك أبايعك فيقول الناس بايع عم رسول الله ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان.

ولو كان منصوصا عليه لما قال ذلك.

٢٠٨

فان قيل: اذا كان هو عالما بأن عليا منصوص عليه فلم أراد مبايعته؟ قلنا: أراد أن يحتج عليهم من الطريق الذي سلكوه، لانهم طلبوا الامامة من جهة الاختيار والبيعة دون النص فأراد أن يحتج عليهم بما أقروا به وعلموه دون ما لم يذكروه.

ومتى قال: انه أولى بالمقام لانه عمه والعم وارث.

باطل، لان الامامة ليست مورثة بلا خلاف لانها تابعة للمصالح كما أن البيعة مثل ذلك.

فان قيل: لو كان أمير المؤمنين منصوصا عليه لوجب أن يحتج به وينكر على من دفعه بيده ولسانه، ولما جاز أن يصلي معهم ولا أن ينكح سبيهم ولا يأخذ فيئهم ولا يجاهد معهم، وفي ثبوت جميع ذلك دليل على بطلان ما قلتموه.

قلنا: المانع لامير المؤمنين عليه السلام من الاحتجاج بالنص عليه الخوف بما ظهر له من الامارات التي بانت له من اقدام القوم على طلب الامر والاستبداد به واطراح عهد الرسول مع قرب عهدهم به وعزمهم على اخراج الامر عن مستحقه، فأيسه ذلك من الانتفاع بالحجة وخاف أن يدعو النسخ لوقوع النص، فتكون البلية به أعظم والمحنة به أشد، ولا يتبين لكل أحد أن نسخ الشئ قبل فعله لا يجوز.

وربما ادعوا أيضا أن ما ذكروا من النص لا أصل له فتعظم البلية، لان النص الجلي لم يكن بمحضر الجمهور بل كان بمحضر جماعة لو نقلوه لانقطع بنقلهم الحجة، فلو جحدوه لدخلت الشبهة على الباقين.

وأما ترك النكير عليهم باليد فلانه لم يجد ناصرا ولا معينا، ولو تولاه بنفسه وخواصه لربما أدى إلى قتله وقتل أهله وخاصته، فلذلك عدل عنه، وقد بين عليه السلام ذلك بقوله: أما والله لو وجدت أعوانا لقاتلتهم.

وقوله بعد بيعة

٢٠٩

الناس له ونكث أهل البصرة بيعته: والله لولا حضور الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله على أوليائه أن لا يقروا على كظة ظالم أو شغب مظلوم لا لقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولا لفيتم دنياكم عندي أهون على من عفطة عنز.

فبين أصحابه عليه السلام قابل من قابل أهل البصرة وغيرهم لقيام الحجة عليه بحضور الناصر، وكان في ذلك بيان أنه لم يقاتل الاولين لعدم الناصر، فلو قاتلهم لربما ادى إلى ارتداد اكثرهم وفي ذلك بوار الاسلام، وقد بين ذلك في خطبته بقوله: لولا قرب عهد الناس بالكفر لقاتلتهم.

فأما الانكار باللسان فقد أنكره في مقام بعد مقام بحسب الحال من القوة والضعف، نحو قوله عليه السلام: لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله « ص ».

وقوله: اللهم اني أستعديك على قريش فانهم ظلموني حقي ومنعوني ارثي.

وقوله: اللهم اني أستعديك على قريش فانهم ظلموني في الحجر والمدر.

وقوله: والله لقد تقمصها ابن ابى قحافة وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى الي الطير - إلى آخر الخطبة.

وذلك صريح بالانكار والتظلم على من منعه حقه.

فأما الصلاة خلفهم فانه عليه السلام كان يصلي معهم في مسجد رسول الله لا مقتديا بهم بل لنفسه وان كان يركع بركوعهم ويسجد بسجودهم، وذلك ليس بدليل الاقتداء بلا خلاف.

فأما الجهاد مع القوم فلا يمكن أحد يدعي أنه جاهد معهم أو سار تحت رايتهم وانما روي أنه قاتل أهل الردة دفاعا عن المدينة وعن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله لما دنوا منها، وان كان ذلك أيضا شاذا لا يعرف في السير، ولو صح لكان ذلك واجبا عليه وعلى كل أحد بحكم العقل والشرع وان لم يكن هناك من يقتدى به.

٢١٠

فأما أخذه من فيئهم فانما كان يأخذ بعض حقه، ومن له حق له أن يتوصل إلى أخذه بجميع الوجوه، ولم يكن يأخذ من أموالهم ولا من أموال المسلمين.

وأما نكاح سبيهم فقد اختلف في ذلك، فروى قوم أن النبى عليه السلام كان وهب له الحنفية فاستحل فرجها بقوله، وقال آخرون أسلمت فتزوجها أمير المؤمنين « ع » وقال قوم اشتراها فأعتقها ثم تزوجها.

فكل ذلك ممكن.

على أن سبي أهل الضلال يجوز أن يشترى ويحل وطؤ الفرج بذلك، لان المراعى استحقاق المسبي بالسبى ولا اعتبار بالسابى، ولذلك يجوز شراء ما يسبيه الكفار من دار الحرب وان أغار بعضهم على بعض أو يسرقونه، وهذا يسقط السؤال.

فان قيل: لو كان النص عليه صحيحا لما جاز له الدخول في الشورى ولا الرضا به، لانها باطلة على مذهبكم.

قيل: لاصحابنا على ذلك أجوبة: أحدها: انه انما دخل فيها تقية وخوفا، ولو لم يدخلها لقتل، انما يمتنع ذلك لتوهم أن الحق لك فحمله على الدخول فيها ما حمله على البيعة للمتقدمين.

والثاني: انه انما دخلها ليتمكن من ايراد حججه وفضائله ونصوصه، لانه أورد في ذلك اليوم جل مناقبه، ولو لم يدخلها لما أمكنه ذلك، فدخلها ليؤكد الحجة عليهم.

والثالث: انه انما دخلها تجويزا لان يختارونه فيتمكن من القيام بالامر، ومن له حق له أن يتوصل اليه بجميع الوجوه.

فان قيل: لو كان منصوصا عليه لكان دافعه ضالا مخطئا، وفي ذلك تضليل اكثر الامة ونسبتهم إلى معاندة الرسول واطراح أمره، وذلك منفي عن الصحابة

٢١١

قلنا: لا نقول ان جميع الصحابة دفعوا النص مع علمهم بذلك، وانما كانوا بين طبقات: منهم من دفعه حسدا وطلبا للامر، ومنهم من دخلت عليه الشبهة فظن أن الذي دفعوه لم يدفعوه الا بعهد عهد الرسول (ع) وأمر عرفوه ومنها أنه لما روي لهم قوله « الائمة من قريش » ظنوا أن الاخذ باللفظ العام أولى من الخاص فتركوا الخاص وعملوا بالعام، وبقي قوم على الحق متمسكين بما هم عليه [ فلم يمكنهم مخاصمة الجمهور ولا مخالفة الكل فبقوا متمسكين بما هم عليه ](١) ، قصاراهم أن ينقلوا ما علموه إلى أخلاقهم، فلا يجب من ذلك نسبة الاكثر إلى الضلال.

على أن الله تعالى أخبر عن أمة موسى وهم أضعاف امة النبي عليه السلام انهم ارتدوا حتى مضى موسى إلى ميقات ربه وعبدوا العجل مع مشاهدتهم لفلق البحر وقلب العصاحية واليد البيضاء وغير ذلك من المعجزات الباهرات، وما غاب عنهم موسى الا أياما قلائل، فكيف يتعجب من طائفة قليلة تدخل عليهم الشبهة ويندفع قوم منهم لدفع الحق، وقد قال الله تعالى( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (٢) وقال( وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (٣) ،( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (٤) ، وقال( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٥) ، فلم يذكر الكثير الا ذمه ولم يذكر القليل الا مدحه.

فأين التعجب من ذلك وقد قال الله تعالى( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ

___________________________________

(١) الزيادة من ج.

(٢) سورة هود: ٤٠.

(٣) سورة الانعام: ٣٧.

(٤) سورة المؤمنون: ٧٠.

(٥) سورة سبأ: ١٣.

٢١٢

انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (١) وقال النبى (ص): لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى أنه لو دخل أحدهم جحر ضب لدخلتموه.

فقالو: يا رسول الله اليهود والنصارى، فقال عليه السلام: فمن اذا.

وقال صلى الله عليه وآله بينا أنا على الحوض عرضه ما بين بصرى إلى العدن اذ يجاء بقوم من أصحابى فيجلسون دوني، فأقول: يا رب أصحابى.

فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك، انهم لا يزالوا على أعقابهم القهقرى.

والاخبار في ذلك اكثر من أن تحصى، فأين التعجب من وقوع الخطأ من القوم، وقال: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار.

فان قيل: لو كان الامر على ما ذكرتموه من النص لما زوج أمير المؤمنين عليه السلام بنته من عمر، وفي تزويجه اياها دليل على أن الحال بينهم كانت عامرة بخلاف ما تدعونه ويدعي كثير منكم أن دافعه كافر.

قلنا: في أصحابنا من أنكر هذا التزويج، وفيهم من أجازه وقال فعل ذلك لعلمه بأنه يقتل دونها، والصحيح غير ذلك وأنه زوجها منه تقية، لانه جرت ممانعة إلى أن لقي عمر العباس وقال له ما هو معروف، فجاء العباس إلى أمير المؤمنين (ع) فقال: ترد أمرها الي.

ففعل فزوجها منه حين ظهر له أن الامر يؤول إلى الوحشة.

وروي عن الصادق (ع) في ذلك ما هو معروف على أن من أظهر الشهادتين وتمسك بظاهر الاسلام يجوز مناكحته، و ههنا أمور متعلقة في الشرع باظهار كلمة الاسلام كالمناكحة والموارثة والمدافنة والصلاة على الاموات وغير ذلك من أحكام أخر، فعلى هذا يسقط السؤال.

فان قيل: كيف يكون النص صحيحا ويقول العباس له: تعال حتى نسال

___________________________________

(١) سورة آل عمران: ١٤٤.

٢١٣

النبى عليه السلام عن هذا الامر، فان كان فينا عرفناه وان كان في غيره أو صاه بنا.

ويقول له في دفعة أخرى: أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف علين اثنان ولو كان منصوصا عليه لما احتاج إلى ذلك وكان لا يخفى على العباس.

قلنا: أما رغبته إلى سؤال النبى لم يكن لشك في مستحق الامر، وانما قال ذلك ليعلم هل يثبت ذلك فيهم ويسلم لهم أم لا، فلذلك أراد مسألته لا عن موضع الاستحقاق.

وأما مبايعته فقد بينا أنه انما طلب ذلك رأى أن القوم يتحادثون الامر من جهة الاختيار وتركوا النص ودخلت اليه شبهة بين الاكثر أراد أن يحتج عليهم بمثل ما هم يطلبون، فلم يجبه أمير المؤمنين عليه السلام لما علمه من جهة النبى وما يؤول الامر اليه فلذلك لم يجب العباس إلى ما دعاه اليه.

فان قالوا: كيف يكون منصوصا عليه وهو يعينهم في كثير من الاحكام مستفهما ومستفتيا، فكان يجب أن ينقض أحكامهم لما أفضى اليه الامر وكان ينبغي أن يسترد فدكا إلى أربابها، وفي عدوله عن ذلك دليل على بطلان ما تدعونه.

قلنا: أما فتياه لهم فمما لا يسوغ له الامتناع منه، لان عليه اظهار الحق والفتوى اذا لم يخف وآمن الضرر، ولا سؤال على من أظهر الحق وانما السؤال فيمن أبطن.

وأما اقراره أحكام القوم فانه لم يمكن خلاف ذلك وانما أفضي الامر اليه بالاسم دون المعنى، واكثر من بايعه كان معتقدا لامامة القوم، فكيف يتمكن من نقض أحكامهم، ولذلك قال لقضاته وقد سألوه: بم نحكم؟ فقال: أقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابى - يعني من مات من شيعته - وخالف في مسائل علم شاهد الحال بأن الخلاف فيها لا يوحش وامسك عما يورث الوحشة.

وأما فدك فانما لم يردها لما قلناه من التقية وان ردها يؤدي إلى تظلم القوم

٢١٤

وتخطئتهم فعدل عن ذلك.

على أن فدكا كانت حقا له ولمن له عليه ولاية، ومن له حق له أن يترك المطالبة به لبعض الاغراض.

وفي أصحابنا من قال: الخصم في فدك كانت فاطمة عليها السلام وأوصت اليه بأن لا يتكلم فيها لتكون هي المخاصمة يوم القيامة لما جرى بينها وبين من دفعها من الكلام المعروف حتى قالت له: ستجمعني واياك يوم يكون فيه فصل الخطاب.

فأما الكلام في استحقاق فاطمة عليها السلام فدك بالنحلة أو الميراث فقد استوفيناه في تلخيص الشافي وطرف منه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.

وأما ما يعارضون به ويذكرونه من الايات نحو قوله تعالى( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ ) (١) وقوله( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) (٢) وغير ذلك من الايات، وان ذلك يمنع من وقوع خطأ منهم يدفع النص.

فقد بينا الوجه فيها مستوفى في تلخيص الشافي وطرفا منه في شرح الجمل والمفصح في الامامة وغير ذلك من كتبنا لا نطول بذكره ههنا، وفيما ذكرناه كفاية انشاء الله.

دليل آخر على امامته (عليه السلام) ومما يدل على امامته عليه السلام الخبر المعروف الذي لم يدفعه أحد من أهل العلم يعتد بقوله، ان النبى (ص) حين انصرف من حجة الوداع وبلغ الموضع المعروف بغدير خم نزل ونادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فلما رآهم رقى الرحال وخطب خطبة معروفة ثم أقبل على الناس فقال: ألست

___________________________________

(١) سورة التوبة: ١٠٠.

(٢) سورة الفتح: ١٨.

٢١٥

أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.

فقال عاطفا على ذلك: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله(١) .

فأتى بلفظ « أولى » وقررهم بها على فرض طاعته ثم عطف بجملة أخرى عليها محتملة لها ولغيرها، فوجب حملها على مقدميها بموجب استعمال أهل اللغة، فوجب بذلك أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مفترض الطاعة كما كان النبى « ص » كذلك، وفرض الطاعة يفيد الامامة فوجب أن يكون اماما.

وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء: أحدها أن نبين صحة الخبر، والثاني أن نبين أن لفظة « المولى » تفيد أولى في اللغة، ثم نبين انها أرادت ذلك في الخبر دون غيره من الاقسام.

والذي يدل على صحة الخبر تواتر الشيعة به خلفا عن سلف على ما بيناه في التواتر بالنص الجلي، وكلما يسأل عليه من الاسئلة فالجواب عنه ما تقدم.

وأيضا فقد رواه أصحاب الحديث من طرق كثيرة لم يرد في الشريعة خبر متواتر اكثر طرقا منه، فانه روى الطبري من نيف وسبعين طريقا وابن عقدة من ماء‌ة وخمس وعشرين طريقا.

فان لم يثبت بذلك صحته فليس في الشرع خبر صحيح.

[وايضا فأمير المؤمنين عليه السلام احتج به يوم الشورى فلم ينكره احد ولا دفعه، فدل على صحته](٢) .

وأيضا أجمعت الامة على صحته وان اختلفوا في معناه، وما يحكى عن ابن ابى داود من جحده له ليس بصحيح، لانه انما أنكر المسجد المعروف

___________________________________

(١) انظر تفصيل قصة الغدير ورواتها كتاب الغدير الجزء الاول.

(٢) الزيادة ليست في ر.

٢١٦

بغدير خم ولم يجحد نفس الخبر، وخلافه أيضا لا يعتد به لانه سبقه الاجماع وتأخر عنه.

وأيضا اذا ثبت ان مقتضاه الامامة على ما ثبت ثبتت صحته، لان الامة بين قائلين: قائل يقول مقتضاه الامامة فهو يقطع على صحته، وقائل يقول ليس مقتضاه الامامة فيقول هو خبر واحد.

وأما الذي يدل على أن « مولى » يفيد الاولى قول أهل اللغة: قال ابوعبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى « النار مولاهم »(١) قال: معناه أولى بهم، واستشهد ببيت لبيد:

قعدت كلى الفرجين يحسب أنه مولى المخافة خلفها وامامها

وقول ابى عبيدة حجة في اللغة، وقال الاخطل يمدح عبدالملك بن مروان:

فأصبحت مولاهم من الناس كلهم وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

أي أولى الناس بها.

وروي عن النبى (ص) أنه قال « ايما امرأة نكحت بغير اذن مولاها فنكاحها باطل »(٢) وفي خبر آخر « بغير اذن وليها »، وأراد بذلك من هو أولى بالعقد عليها.

وقد حكينا عن المبرد أنه قال: مولى وولي وأولى وأحق بمعنى واحد فمن عرف عادة أهل اللغة عرف صحة ما قلناه.

واذا ثبت ذلك فالذي يدل على أن المراد به في الخبر الاولى ما قلناه من أن النبي عليه السلام قدم جملة ثم عطف عليها بأخرى محتملة لها ولغيرها فوجب حملها على مقدمتها والا أدى إلى أن يكون عليه السلام ملغوا في كلامه واضعا له في غير موضعه، وذلك لا يليق به عليه السلام.

___________________________________

(١) الحديد: ١٥، والاية صحيحها( مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ ) .

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٦ / ٤٤.

٢١٧

ألا ترى أن القائل اذا أقبل على جماعة فقال: ألستم تعرفون عبدي سالما، فاذا قالوا بلى، قال فاشهدوا أن عبدي حر.

لم يفهم من كلامه الا عتق العبد الذي تقدم تقريرهم على معرفته، ولو أراد غيره لكان ملغوا، واذا قال لهم: ألستم تعرفون ضيعتى الفلانية، فاذا قالوا بلى قال لهم فاشهدوا أن ضيعتى وقف لم يحمل ذلك الا على الضيعة التى قررهم على معرفتها.

هذا هو المعهود من الكلام الفصيح.

وليس لاحد أن يقول: أليس لو قال مصرحا بعد تقريرهم على فرض طاعته « فمن يجب عليه طاعتي فيحب عليا » كان جائزا، فهلا جاز ذلك في غير المصرح، وذلك أنه ليس كلما حسن في التصريح حسن في الاحتمال.

ألا ترى أنه لو قال: ألستم تعرفون ضيعتي الفلانية، فاذا قالوا بلى، قال بعد ذلك فاشهدوا أن ضيعتي التي تحتها وقف.

مصرحا بها كان ذلك جائزا مفيدا، أولا يجوز ذلك مثل ذلك اذا قال كلاما محتملا على ما مضى بيانه، والفرق بين المصرح به والمكنى عنه واضح.

والذي يدل على أن لفظة « أولى » تفيد الامامة وفرض الطاعة استعمال أهل اللغة، لانهم يقولون « السلطان أولى بتدبير رعيته من غيره » و « ولد الميت أولى بميراثه من غيره ممن ليس بولد » و « المولى أولى بعبده من غيره » يعني بفرض طاعته عليه، ولا خلاف بين المفسرين أن قول النبى صلى الله عليه وآله( أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (١) المراد به ومعناه أولى بتدبيرهم وفرض طاعتهم ولا يكون أحد أولى بتدبير الامة الا من كان نبيا أو اماما، واذا لم يكن نبيا وجب أن يكون اماما.

وأيضا فلا خاف أن النبى عليه السلام كان أولى بنا من حيث فرض الطاعة،

___________________________________

(١) سورة الاحزاب: ٦.

٢١٨

وإذا حصل له هذه المنزلة وجب أن يكون مفترض الطاعة علينا، وانما يعلم وجوب فرض طاعته على جميع الامة في جميع الاشياء من حيث أن النبى عليه السلام كان كذلك وقد جعله بمنزلته فوجب أن يثبت له ذلك.

وأيضا فكل من أوجب لامير المؤمنين عليه السلام بهذا الخبر فرض الطاعة في شئ من ألاشياء أثبته في جميع الاشياء، والتفرقة بينهما خلاف الاجماع.

وليس لاحد أن يقول: كيف يكون المراد به الامامة وهي لم تثبت في الحال، والخبر يوجب ثبوت المنزلة في الحال، فلا دلالة لكم في الخبر.

وذلك انا اذا قلنا المراد به فرض الطاعة واستحقاق لها فذلك كان حاصلا له في الحال، فسقط السؤال.

فاذا قلنا المراد به الامامة فانه وان اقتضاها في الحال فهو يقتضيها في الحال وفيما بعده إلى وقت خروجه من الدنيا، فاذا علمنا أنه لم يكن مع النبى عليه السلام في حال حياته امام بالاجماع بقي ما بعده على جملته.

ولا يمكن حمله على بعد عثمان، لان أحدا لم يثبت له الامامة بعد عثمان بهذا الخبر الا وأثبتها قبله بعد النبى، ومن خصصه ببعد عثمان أثبت امامته بالاختيار لا بهذا الخبر، واستحقاقه عليه السلام، الامامة بهذا الخبر مثل استحقاق الوصي الوصية بقول الموصي « فلان وصيي »، فانه تثبت له الوصية في الحال وانا كان التصرف ليس له الا بعد الوفاة.

وكذلك استحقاق الامامة كان حاصلا في الحال وان وقف التصرف على بعد الوفاة، لان وجود النبي (ص) كالمانع من التصرف في حال وجوده، مثل قول المستخلف « فلان ولى عهدي » فانه يثبت استحقاقه في الحال وان كان التصرف واقعا على بعد الوفاة.

٢١٩

(طريقة اخرى)

وهي أن نقول: اذا بينا أقسام المولى كلها وأفسدناها عدا الاول دل على أنه المراد والا بطلت فائدة الخبر وذلك لا يجوز.

من أقسامه المعتق والمعتق والحليف والجار والصهر والامام والخلف، وهذا كله معلوم بطلانه، فلا يحتاج إلى افساده.

ومن أقسامه ابن العم، ولا يجوز أن يكون ذلك مرادا، لانه معلوم ضرورة أنه ابن عمه ولا فائدة في ذلك.

ومن أقسامه الموالاة في الدين، ولا يجوز أن يكون ذلك مرادا، لانه ليس فيه تخصيص له، لانها واجبة لجميع المؤمنين بالاجماع وبقوله تعالى( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (١) .

ومن أقسامه ولاء العتق، فلا يجوز أن يكون مرادا، لان ذلك معلوم من دينه، وكان قبل الشرع أيضا معلوما أن ولاء العتق يستحقه ابن العم، وبذلك ورد الشرع.

ولا يليق ذلك لمثل ذلك الوقت والمكان، وقول عمر « بخ بخ يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » ولا يليق شئ من ذلك.

وليس لاحد أن يقول: احملوه على الموالاة ظاهرا وباطنا.

وذلك أن هذا ليس بمستعمل في اللغة ولا يفهم من كلامهم، ولا يجوز أن يحمل اللفظ على مالم يوضع له في اللغة.

ومتى قيل: يحمل على ذلك، لانه أثبت الموالاة كما أثبتها لنفسه.

قيل: انما وجب الموالاة للنبى عليه السلام ظاهرا وباطنا من حيث كان نبيا، واذا كانت

___________________________________

(١) سورة التوبة: ٧١.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320