الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد0%

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 320

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)
تصنيف:

الصفحات: 320
المشاهدات: 82274
تحميل: 7358

توضيحات:

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 82274 / تحميل: 7358
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد

مؤلف:
العربية

في الفعل ما يدل على أنه في جهة لا بنفسه ولا بواسطة، وقد بينا أنه لا يجوز وصفه بما يدل عليه الفعل لا بنفسه ولا بواسطة.

ولا يجوز عليه تعالى الحاجة، لان الحاجة لا تجوز الا على من يجوز عليه المنافع والمضار، والمنافع والمضار لا يجوزان الا على من تجوز عليه الشهوة والنفار، وهما يستحيلان عليه تعالى.

والذي يدل على أنه يستحيل عليه الشهوة والنفار أنه ليس في الفعل لا بنفسه ولا بواسطة ما يدل على كونه مشتهيا ونافرا وقد بينا أنه لا يجوز اثباته على صفة لا يقتضيها الفعل لا بنفسه ولا بواسطة.

وأيضا فالشهوة والنفار لا يجوزان الا على الاجسام، لان الشهوة تجوز على من اذا ادرك المشتهي صلح عليه جسمه [ واذا أدرك ما ينفر عنه فسد عليه جسمه ](١) ، وهما يقتضيان كون من وجدا فيه جسما، وقد بينا أنه ليس بجسم فيجب اذا نفي الشهوة والنفار عنه.

واذا انتفيا عنه انتفت عنه المنافع والمضار، واذا انتفيا عنه انتفت عنه الحاجة ووجب كونه غنيا، لان الغني هو الحي الذي ليس بمحتاج.

ولا يجوز عليه تعالى الرؤية بالبصر، لان من شرط صحة الرؤية أن يكون المرئي نفسه او محله مقابلا للرائي بحاسة أو في حكم المقابل، والمقابلة يستحيل عليه لانه ليس بجسم، ومقابلة محله أيضا يستحيل عليه لانه ليس بعرض على ما بيناه.

ولانه لو كان مرئيا لرأيناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة ووجوده، لان المرئي اذا وجد وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن نراه، وانما لا نراه اما لبعد مفرط او قرب مفرط او لحائل بيننا وبينه او للطافة او صغر، وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى لانه من صفات الاجسام والجواهر.

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٤١

وبمثل ذلك بعينه يعلم انه لا يدرك بشئ من الحواس الباقية، فلا وجه للتطويل بذكره.

والحاسة السادسة غير معقولة، ولو كانت معقولة لكان حكمها حكم هذه الحواس مع اختلافها واتفاقها في هذا الحكم.

وأيضا قوله تعالى( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (١) دليل على استحالة رؤيته، لانه تمدح بنفي الادراك عن نفسه، وكل تمدح تعلق بنفي فاثباته لا يكون الا نقصا، كقوله( لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) (٢) وقوله تعالى( مَا اتَّخَذَ اللَّـهُ مِن وَلَدٍ ) (٣) وقوله تعالى «( وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) ولا ولدا»(٤) وقوله تعالى( لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) (٥) وغير ذلك مما تعلق المدح بالنفي، فكان اثباته نقصا.

والاية فيها مدح بلا خلاف وان اختلفوا في جهة المدح، والادراك في الاية بمعنى الرؤية، لانه نفى عن نفسه ما أثبته لنفسه بقوله( وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (٦) وقوله( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (٧) لا يعارض هذه الاية، لان النظر المذكور في الاية معناه الانتظار، فكأنه قال: لثواب ربها منتظرة.

ومثله قوله( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ ) (٨) أي منتظرة.

وليس النظر بمعنى الرؤية في شئ من كلام العرب، ألا ترى انهم يقولون

___________________________________

(١) سورة الانعام: ١٠٣.

(٢) سورة البقرة: ٢٥٥.

(٣) سورة المؤمنون: ٩١.

(٤) سورة الانعام: ١٠١.

(٥) سورة يونس: ٤٤.

(٦) سورة الانعام: ١٠٣.

(٧) سورة القيامة: ٢٢ - ٢٣.

(٨) سورة النمل: ٣٥.

٤٢

« نظرت إلى الهلال فلم أره »، فيثبتون النظر وينفون الرؤية، ولو كان معناه الرؤية لكان ذلك مناقضة، ويقولون « ما زالت أنظر اليه حتى رأيته » ولا يقولون « ما زلت أراه حتى رأيته ».

ولو سلم أن النظر بمعنى الرؤية لجاز أن يكون معناه: إلى ثواب ربها رائية، وثواب الله يصح رؤيته.

ويحتمل أن يكون « إلى » في الاية واحد الالاء، لانه يقال الي والئ والئ والئ والى، وانما لم ينون لمكان الاضافة، فيكون « إلى » في الاية اسما لا حرفا، فيسقط بذلك شبهة المخالف.

وقول موسى عليه السلام( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) (١) يحتمل أن يكون سأل الرؤية لقومه على ما حكاه الله عزوجل في قوله( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّـهَ جَهْرَةً ) (٢) ، فسأل الله تعالى ذلك ليرد الجواب من جهته فيكون أبلغ.

ويحتمل أن يكون سأل العلم الضروري الذي تزول معه الخواطر والشبهات أو اظهار آية من آيات الساعة التي يحصل عندها العلم الذي لا شك فيه، وللانبياء أن يسألوا تخفيف البلوى في التكليف، كما سأل ابراهيم عليه السلام فقال:( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٣) وكل ذلك لا ينافي الاية التي ذكرناها.

___________________________________

(١) سورة الاعراف: ١٤٣.

(٢) سورة النساء: ١٥٣.

(٣) سورة البقرة: ٢٦٠.

٤٣

فصل: (في أنه تعالى واحد لا ثانى له في القدم)

لو كان مع الله تعالى قديم ثان لوجب أن يكون مشاركا له في جميع صفاته، لمشاركته له في القدم التي هي صفة ذاته التي باين بها جميع الموجودات لان جميع أوصافه - من كونه عالما وقادرا وحيا وموجودا ومريدا وكارها ومدركا - [ يشاركه غيره من المحدثات قديما ولا يشاركه في القدم، فبان أنه يكون قديما ](١) يخالف المحدثات.

والشئ انما يخالف غيره بصفته الذاتية وبها يتماثل ما تماثله، كما أن ما شارك السواد في كونه سوادا ويخالف غير السواد من أن السواد يخالف البياض(٢) والحموضة وغيرهما أيضا بكونه سوادا [ ويشارك سوادا آخر بكونه سوادا ](٣) ، فعلم بذلك أن الاشتراك في صفة الذات يوجب التماثل، وكان يجب من ذلك مشاركة القديمين في كونهما قادرين عالمين حيين وفي جميع صفاتهما.

ثم لا يخلو أن يكون مقدورهما واحدا أو متغايرا، فان كان واحدا جاز أن يدعو أحدهما الداعي إلى ايجاد مقدوره والثاني يصرفه عن ايجاده، فيؤدي ذلك إلى وجوب وجوده، لدعاء من دعاه الداعي إلى ايجاده ووجوب انتفائه لصارف من صرفه عن ايجاده، وذلك محال.

فان كان مقدورهما متغايرا لم يمتنع أن يدعو أحدهما الداعي إلى ايجاد

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

(٢) في ج « ويخالف السواد من البياض ».

(٣) الزيادة من ر.

٤٤

فعل ويدعو الثاني بصرفه عن ايجاده ووجوب صارف صرفه عن ايجاده، وذلك محال.

[ وان كان مقدورهما متغايرا لم يمتنع أن يدعو أحدهما الداعي إلى ايجاد فعل ويدعو الاخر إلى ايجاد ضده ](١) .

ثم لا يخلو أن يوجدا أو لا يوجدا أو يوجد أحدهما، فان وجدا أدى إلى اجتماع الضدين وذلك محال، وان لم يوجدا أدى إلى ارتفاع الفعل عنهما لا لوجه منع معقول، وان وقع أحدهما أدى إلى ارتفاع الفعل عن أحدهما لا لمنع معقول.

لانه لا يمكن أن يقال أن أحدهما أكبر مقدورا، لان كل واحد منهما يجب أن يكون مقدوراته غير متناهية.

فاذا ثبت ذلك بطل اثبات قديمين، واذا بطل وجود قديمين بطل قول الثنوية القائلين بالنور والظلمة، وبطل قول المجوس القائلين بالله والشيطان وبطل قول النصارى القائلين بالتثليث.

على أن قول الثنوية يبطل من حيث دللنا على حدوث الاجسام، والنور والظلمة جسمان، ولانهما أثبتوهما من حيث اعتقدوا أن الخير يضاد الشر، ولا يجوز أن يصدرا من فاعل واحد.

وذلك باطل، من حيث ان الخير من جنس الشر، لان أخذ مال الغير غصبا هو ظلم وشر وأخذه قضاء‌ا لدين حسن وعدل وهما من جنس واحد، ولطمة اليتيم ظلما شر ولطمته تأديبا حسن، ولو كانا ضدين لجاز أن يصدرا من فاعل واحد، لان القادر يقدر على الشئ وعلى جنس ضده، وهذا بعينه هو شبهة المجوس، والكلام عليهم واحد.

على أن قولهم أجمع يبطل المدح والذم، لان المطبوع لا يستحق مدحا ولا ذما، كالنار في الاحراق والثلج في التبريد.

ويؤدي إلى قبح الاعتذار لان الاعتذار حسن لا يقع عندهم من الظلمة وما يعتذر منه قبيح لا يقع عندهم

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٤٥

من النور، فيكون الاعتذار من غير فاعل الاساء‌ة، وذلك قبيح في العقول.

وأما النصارى فمن خالف منهم في نبوة نبينا فالكلام معهم في النبوة سيجئ، ومن قال بقول النصارى من القول بالتثليث والاتحاد والنبوة فقولهم باطل، لان قولهم ثلاثة أقانيم جوهر واحد متناقض، لان في اثباته واحدا نفيا لما زاد عليه وفي اثبات التثليث اثباتا لما نفى بعينه، وذلك محال.

وقولهم بالاتحاد وان الثلاثة صارت واحدا محال، وكذلك قولهم صار الناسوت الها والمحدث قديما كل ذلك محال.

ولو جاز ذلك لجاز أن يصير الواحد مائة وأن يصير القديم محدثا، وكل ذلك فاسد، فيبطل ما قالوه.

وأما قولهم بالبنوة فحقيقة الابن من ولد على فراشه أو خلق من مائه، وكلاهما يستحيلان عليه تعالى، ومجاز ذلك يطلق فيمن يجوز أن يولد على فراشه أو يخلق من مائه.

ألا ترى أنهم يقولون « يبنا فلان بفلان » إذا كان أصغر منه، ولا يقولون « يبنا شاب شيخا » ولا « يبنا الانسان بهيمة » لما لم يجز أن يكون مخلوقا من مائه، فمجاز هذه اللفظة يجوز على من يجوز عليه حقيقتها وحقيقتها مستحيل في الله تعالى، فمجازها مثل ذلك.

وقولهم « ابن الله » لمشاركته له في المشيئة، يوجب أن يكون الانبياء كلهم أبناء الله، لانهم يوافقونهم في المشيئة وهم لا يقولونه.

فبان بذلك فساد هذه المذاهب، وثبت أنه تعالى واحد لا يشاركه أحد في القدم.

فأما من عبد الاصنام أو الكواكب فقولهم باطل، لان عبادة من لا يستحقها قبيحة في العقول.

والعبادة انما تستحق بأصول النعم التي هي خلق الخلق وجعله حيا وقادرا واكمال عقله وخلق الشهوة فيه التي بها ينتفع وينال الملاذ وخلق المشتهيات وغير ذلك.

وكل ذلك لا يقدر عليه غير الله، فيجب أن تقبح عبادته.

٤٦

على أن هذه الاشياء جمادات ومسخرات، وكيف يصح منها فعل ما يستحق به العبادة.

وقولهم( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ ) (١) باطل، لان التقرب إلى الله بالقبائح قبيح في العقول.

وليس يجري ذلك مجرى تعظيما للبيت الحرام والحجر وسجودنا اليه، وذلك انا نسجد لله تعالى ونتقرب اليه لا إلى البيت والحجر، وانما تعبدنا الله بذلك ورغبنا فيه.

فنظير ذلك أن ثبت بشرع مقطوع به التقرب إلى الله والسجود له بالتوجه إلى هذه الاشياء، والقوم لا يذهبون اليه، فبطل تشبيههم بما قلناه وبان الفرق بينهما.

(الكلام في العدل)

الغرض بالكلام في العدل الكلام في تنزيه الله تعالى عن فعل القبيح والاخلال بالواجب، فاذا حصل العلم بذلك حصل العلم بالعدل.

والطريق الموصل إلى ذلك أن نبين أنه تعالى قادر على القبيح ثم نبين بعد ذلك أنه لا يفعله بعد أن نبين تقدم معنى الفعل وانقسامه ثم نعود إلى الغرض.

وحقيقة الفعل ما وجد بعد أن كان معدوما.

ولا يخلو الفعل من أن يكون له صفة زائدة على حدوثه أم لا يكون له صفه زائدة، فما ليس له صفة زائدة هو كلام الساهي والنائم وحركات أعضائه التي لا تتعداه، وماله صفة زائدة على حدوثه اما أن يكون حسنا أو قبيحا، فالحسن هو كل فعل اذا فعله العالم به أو المتمكن من العلم به مختارا لا يستحق عليه الذم.

وهو على ضربين: أحدهما له صفة زائدة على حسنه، والاخر لا صفة له زائدة على حسنه.

فما لا صفة له زائدة على حسنه هو الموصوف بأنه مباح اذا

___________________________________

(١) سورة الزمر: ٣.

٤٧

علم فعله أو دل عليه، وما له صفة زائدة على حسنه فهو كل فعل يستحق به المدح على بعض الوجوه.

وهو على ضربين: أحدهما اذا لم يفعله استحق الذم على بعض الوجوه، والاخر لا يستحق الذم اذا لم يفعله على حال.

فالاول موصوف بأنه واجب على ثلاثة أقسام: أحدها واجب مضيق كالصلاة المفروضة وكرد عين الوديعة، والثاني يكون مخيرا فيه كالكفارات الثلاث في اليمين، والثالث من فروض الكفايات اذا قام به بعض سقط عن الباقي كرد السلام والجهاد والصلاة على الاموات.

وما هو ندب على ضربين: أحدهما يكون نفعا واصلا إلى الغير فيوصف بأنه انعام واحسان اذا قصد ذلك، والاخر لا يتعداه فلا يوصف بأكثر من أنه ندب.

وأمثلة ذلك في أفعالنا وأفعاله قد ذكرناها في شرح الجمل والمقدمة وغير ذلك من كتبنا.

والقبيح هو كل فعل اذا وقع من عالم بقبحه أو متمكن من العلم بقبحه استحق عليه الذم على بعض الوجوه.

والعلم بقبح القبائح ووجوب الواجبات [ يكون عقليا وشرعيا: فالعقليات كالعلم بقبح الظلم والجهل والكذب العاري من نفع أو ضرر والعبث وغير ذلك، والواجبات ](١) كالعلم بوجوب رد الوديعة والانصاف وقضاء الدين والعلم بحسن الاحسان وغير ذلك.

وأما ما يعلم بالشرع فكلما لا يمكن معرفته بالعقل كالعبادات الشرعية من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك، وكقبح شرب الخمر والزنا وغير ذلك، فانه لا مجال للعقل في العلم بذلك.

___________________________________

(١) الزيادة ليست في ر.

٤٨

والذي يدل على ما قلناه من أن العلم بما تقدم هو العقل دون الشرع، هو أن كل عاقل مفطور العقل يعلم قبح الظلم وقبح الجهل والكذب والعبث، فلو لا أن طريق ذلك العقل لما وجب شمول العلم لجميع العقلاء، ولكان يقف على من علم صحة السمع.

وفي علمنا باشتراك جميع العقلاء من موحد وملحد ومقر بالنبوات وجاحد لها في العلم بذلك دليل على أن طريق ذلك العقل.

وقولهم « انهم علموا ذلك لمخالطتهم للعقلاء من أهل الشرع » باطل، لانه لو كان كذلك لعلموا قبح كل ما علمه أهل الشرع من قبيح شرب الخمر والزنا وغير ذلك، وفي العلم بالفرق بينهما دليل على فساد ما قالوه.

ومتى قالوا: ان العقلاء لا يعلمون ذلك أو يعتقدونه اعتقادا ليس بعلم.

لزمهم أن يقولوا لا يعلمون المشاهدات أيضا، لان في الناس من قال طريق ذلك السمع، ولزم عليه قول السوفسطائية وأصحاب العنود في نفيهم العلم بشئ من الاشياء ونسبتهم ذلك كله إلى الظن والحسبان، وذلك باطل بالاتفاق.

فأما الذي يدل على أنه تعالى قادر على القبيح، فهو ما ثبت من كونه خالقا لكمال العقل والعلم بالمشاهدات، ومن شأن القادر على الشئ أن يكون قادرا على جنس ضده، فيجب أن يكون قادرا على ضد هذه العلوم من الجهل، والجهل قبيح.

وأيضا فالقبيح من جنس الحسن، بدلالة أن قعود الانسان في دار غيره غصبا من جنس قعوده فيها باذن مالكها، وأحدهما قبيح والاخر حسن.

والقديم تعالى قادر على الاجناس كلها، ومن كل جنس على مالا نهاية له، لانه قادر لنفسه على ما مضى، ولا اختصاص له بقدر دون قدر ولا بجنس دون جنس.

٤٩

وأيضا فهو تعالى قادر على تعذيب الكفار بلا خلاف وهو حسن، فاذا أسلم الكافر قبح عقابه ولم يخرج اسلامه اياه تعالى عن كونه قادرا، فبان بذلك أنه قادر على القبيح.

فاذا ثبت ذلك فالذي يدل على أنه لا يفعله علمه بقبح القبائح وعلمه بأنه غني عنه، والعالم بقبح القبيح وبأنه غني عنه لا يجوز أن يختاره.

ألا ترى أن من خير بين الصدق والكذب في باب الوصول إلى غرضه وهو عالم بقبح الكذب وحسن الصدق لا يجوز أن يختار الكذب على الصدق مع تساويهما في الغرض، ولا علة لذلك الا كونه عالما بقبح الكذب وبأنه غني عنه بالصدق فيجب أن يكون تعالى لا يفعل القبيح لثبوت الامرين.

على أنه لو جازت عليه الحاجة لما جاز أن يفعل القبيح، لانه يقدر من جنسه من الحسن على مالا يتناهى.

ألا ترى أن المخير بين الصدق والكذب مع تساوي الغرض قد بينا أنه لا يختار الكذب مع جواز الحاجة اليه، لانه يستغني عنه بالحسن الذي هو الصدق.

وكذلك القديم لا قبيح الا وهو يقدر من جنسه من الحسن على مالا يتناهى، فلا يجوز أن يختاره مع علمه بقبحه.

والقديم تعالى لا يريد القبائح على وجه، لانه لا يخلو أن يريده لنفسه أو بارادة قديمة أو محدثة، وقد بينا أنه ليس بمريد لنفسه ولا بارادة قديمة فبطل ذلك.

ولو أراده بارادة محدثة لكان هو الفاعل لها، لانه لا يقدر أن يفعل ارادة لا في محل سواه.

ولو كان هو الفاعل لها لكان فاعلا للقبيح، لان ارادة القبيح قبيحة، بدلالة أن من علمها ارادة القبيح علم قبحها ومن لم يعلمها كذلك لم يعلم قبحها، وذلك يؤدي إلى أن يكون فاعلا للقبيح، وقد دللنا على أنه لا يجوز أن يكون فاعلا للقبيح على حال.

وأيضا فقد ثبت بلا خلاف أنه ناه عن القبيح، وقد بينا أن النهي لا يكون

٥٠

نهيا الا بكراهية المنهي عنه، ولو كان مريدا للقبيح لادى إلى أن يكون مريدا للشئ كارها له، وذلك باطل.

وأيضا فلو أراد القبيح لكان محبا له، راضيا به، لان المحبة والرضا هي الارادة اذا وقعت على وجه مخصوص، وأجمعت الامة على خطأ من أطلق ذلك على الله تعالى وقد قال الله تعالى( وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) (١) و( مَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ) (٢) و( يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٣) .

ومن أعظم العسر الكفر والقبائح المؤدية إلى العقاب، وقد قال الله تعالى( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٤) ومعناه أراد منهم العبادة لان هذه اللام لام الغرض لانها لو كانت لام العاقبة لكان كذبا لوجودنا كثيرا من الجن والانس غير عابدين لله تعالى.

وقوله « وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقو بأسنا » إلى قوله « ان أنتم الا تخرصون »(٥) واضح في أنه لا يريد القبيح لانه كذب من أضاف ذلك إلى الله، ومن أنه اتباع للظن دون العلم، وآيات القرآن شاهدة بذلك وهي أكثر من أن تحصى.

وقوله « ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس »(٦) اللام ههنا لام العاقبة

___________________________________

(١) سورة غافر: ٣١.

(٢) سورة آل عمران: ١٠٨.

(٣) سورة البقرة: ١٨٥.

(٤) سورة الذاريات: ٥٦.

(٥) سورة النحل: ٣٥.

(٦) سورة الاعراف: ١٧٩.

٥١

كما قال( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) (١) ولم يلتقطوه الا ليكون قرة عين لهم.

وقوله( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) (٢) اخبار عن قدرته أنه قادر.

على أن يلجئ الخلق إلى الهدى والايمان، لكن لا يفعل ذلك لانه ينافي التكليف وينتقض الغرض به، وجرى ذلك مجرى قوله( إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) (٣) .

وكذلك كل آية يتعلقون بها فالوجه فيها ما قلناه في هذه الاية، نحو قوله( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) (٤) وقوله( ولو شاءاللَّـهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) (٥) وما يجري مجرى ذلك من الايات، فالوجه فيها ما ذكرناه.

فلا نطول بذكرها، وقد بينا الوجه فيها جميعه في تفسير القرآن مستوفى لا يحتمل ذكره ههنا.

وقولهم « لو أراد من خلقه الايمان والطاعة وما لا يقع للحقه بذلك وهن وضعف ونقص، لان الملك اذا أراد من رعيته مالا يقع دل على ضعفه » باطل، لان الامر بخلاف ما قالوه في الشاهد، لان السلطان متى أراد من رعيته ما يعود نفعه عليهم لا عليه فلم يقع أو وقع خلافه لا يلحقه ضعف ولا نقص، وانما يجوز أن يقال ذلك فيما يعود نفعه عليه من نصرته والدفاع عنه مما يستضر بفوته، والقديم تعالى لا يريد الا ما بكون نفعه للخلق دونه تعالى لاستحالة النفع عليه.

___________________________________

(١) سورة القصص: ٨.

(٢) سورة السجدة: ١٣.

(٣) سورة الشعراء: ٤.

(٤) سورة يونس: ٩٩.

(٥) سورة الرعد: ٣١ واول الاية( أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّـهُ ) .

٥٢

وكيف يشتبه الحال في ذلك ونحن نعلم أن سلطان الاسلام يكره من اليهودي الزمن المقعد الدخول إلى كنيسة ويريد منه الاسلام والدخول في المساجد ومع ذلك فانما يقع منه دخول الكنيسة دون المسجد، ولا عاقل يقول ان سلطان الاسلام ضعف بذلك.

ثم يلزمهم أنه اذا وقع من الكافر خلاف ما أمر الله به أن يلحقه ضعف، لان الشاهد لا يفصل بين الموضعين.

ولا خلاف أن الله أمر الكافر بالايمان، ومع هذا فلم يقع ذلك منه، فيجب على أصلهم أن يلحقه ضعف.

فبأي شئ فصلوا بين الامرين فهو فصلنا في الارادة.

وأيضا فالمعلوم ضرورة أن النبي عليه السلام أراد من الكفار كلهم الايمان ولم يلحقه باستمرارهم على الكفر وهن ولا ضعف ويلزمهم على ذلك أن يكون الله تعالى أمرهم بأن يضعفوه ويوهنوه من حيث أمرهم بما لا يريده منهم على قولهم، وذلك باطل بالاتفاق.

وقولهم « لو فعل العبد ما كره الله تعالى لكان قد فعل ما أباه وذلك لا يجوز » باطل، لان الاباء ليس بكراهية، لان الاباء هو المنع والامتناع، ولهذا يتمدحون بأن يقولوا « فلان يأبى للضيم » أي يمتنع منه، ولا مدحه في أنه يكره الضيم لان الضعيف أيضا يكرهه.

وتعلقهم بأن المسلمين قالوا « ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن » وذلك يمنع من أنه أراد الايمان من الكافر ولم يرد الكفر منه.

غير صحيح لان هذا الاطلاق غير مسلم، لان جميع أهل العدل يمتنعون من اطلاقه.

ثم ان المسلمين أيضا يقولون « لا مرد لامر الله ولا محيص منه »، وعلى قولهم الكافر قد رد أمر الله، ومتى منعوا من ذلك منعنا مثله وان تأولوا أولنا.

ولو سلم ذلك لكان المعنى ما شاء الله من فعل نفسه كان ومالم يشأ من فعل

٥٣

نفسه لم يكن أو ما شاء الله من فعل غيره وألجأ اليه كان.

ومتى قالوا لو شاء الله جميع الطاعات لكان القائل اذا حلف أنه يقتضي دينه غدا انشاء الله اذا لم يقضه يحنث، وأجمعوا على خلافه.

قيل: في الناس من قال انه يحنث وهو أبوعلي ومن قال لا يحنث قال المشيئة دخلت اتفاقا للكلام دون أن تكون شرطا ولاجل ذلك تدخل في الماضي وان كان الشرط لا يدخل في الماضي.

فان قيل: هل أفعال العباد بقضاء الله وقدره أم لا؟ قلنا: القضاء في اللغة على أربعة أقسام: أحدها: بمعنى الخلق والاحداث،( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) (١) أي خلقهن وأحدثهن.

والثاني: أن يكون بمعنى الحكم، كقوله( اللَّـهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) (٢) ومنه اشتقاق القاضي.

والثالث: بمعنى الامر والالزام، كقوله( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) (٣) أي أمر وألزم.

والرابع: بمعنى الاعلام والاخبار، كقوله( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٤) أي أعلمناهم وأخبرناهم(٥) .

ولا يجوز أن يكون قضى أفعال العباد بمعنى أحدثها، لان فعل العبد لا

___________________________________

(١) سورة فصلت: ١٢.

(٢) سورة غافر: ٢٠.

(٣) سورة الاسراء: ٢٣.

(٤) سورة الاسراء: ٤.

(٥) أصل الكلمة بمعنى احكام الامر واتقانه وانفاذه لجهته، والمعانى التى ذكرها المؤلف تعود إلى ما ذكر انظر معجم مقاييس اللغة ٥ / ٩٩.

٥٤

يخلو أن يكون قبيحا أو حسنا، فما هو قبيح لا يجوز أن يكون فعلا له، لانا قد بينا أنه لا يفعل القبيح، وما هو حسن لا يجوز أيضا أن يفعله لانه فعلنا، والفعل الواحد لا يكون من فاعلين على ما نبينه.

ولا يجوز أن يكون قضاء أفعالهم بمعنى حكم أو أمر وألزم، لان أحدا من الامة لا يقول ان الله ألزمنا فعل المعاصى أو حكم علينا بأن نفعلها.

وأما القضاء بمعنى الاعلام والاخبار فانه يجوز أن يقال على ضرب من التقييد، لان الله تعالى أخبر وأعلم مالنا في فعل الطاعة من الثواب وما علينا بفعل المعاصي من العقاب، فجاز أن يضاف إلى الله تعالى القضاء على هذا الوجه.

وأيضا فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يقول الله تعالى: « من لم يرض بقضائي ولم يشكر نعمائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ ربا سواي » فلو كانت المعاصي بقضاء الله واحداثة لوجب الرضا بها، وذلك خلاف الاجماع.

والقول في القدر على مثل ذلك، لان القدر يستعمل بمعنى الاحداث والخلق كما قال( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ) (١) فعلى هذا لا يجوز أن تكون المعاصي بقدر الله، لمثل ما قلناه في القضاء.

وقد يستعمل بمعنى التقدير كما قال تعالى( فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ) (٢) فعلى هذا يجوز أن يقال: أفعالنا بقدر الله، بمعنى أنه قدر ما علينا من الثواب أو العقاب، فينبغي أن يقيد القول في ذلك ولا يطلق به.

فان قيل: مضى في الكلام أن الواحد منا محدث لافعاله وموجد لها، فما

___________________________________

(١) سورة فصلت: ١٠.

(٢) سورة المرسلات: ٢٣.

٥٥

الذي يدل على ذلك.

قلنا: الدليل على ذلك وجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا وانتفائها بحسب صوارفنا وكراهتنا، فلو لا أنها فعلنا لما وجب ذلك كما لا يجب ذلك في طولنا وقصرنا وخلقنا وهيأتنا، ولا تجب أيضا في أفعال غيرنا لما لم تكن متعلقة بنا.

وانما قلنا بوجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا لان الواحد منا متى دعاه الداعي إلى القيام أو القعود ولا صارف له عن ذلك ولا مانع، فانه لابد أن يقع ما دعاه الداعي اليه، وليس كذلك مالا تعلق له به كطوله وقصره.

ولا فرق بينهما الا أنها محدثة بنا ومتعلقة بجهتنا.

ومتى قيل ان ذلك بالعادة، كان ذلك باطلا بالوجوب الذي اعتبرناه، لان ما يستند إلى العادة لا يجب وقوعه على كل حال.

ويلزم على ذلك أن يكون انتفاء السواد بالبياض وحاجة العلم إلى الحياة وما جرى مجراه من الواجبات كله بالعادة، وذلك باطل بالاتفاق.

على أن تعلق الفعل بالفاعل لابد أن يكون معقولا قبل اسناده إلى فاعل معين، ولا يعقل في تعلقه بالفاعل آكد من وجوب تعلقه بدواعيه وأحواله، وهذا حاصل معنى، فينبغي أن يكون كافيا في تعلقه بنا وهو في غيرنا مجوز، ولا يترك المعلوم إلى المجوز على ذلك.

ومتى قيل ان أفعالنا تحتاج الينا في كونها كسبا دون الحدوث.

قلنا ذلك باطل، لان الذي يتجدد عند دواعينا وأحوالنا هو الحدوث لا غير دون شئ من صفاته، فينبغي أن يكون هو من جهة الحاجة دون غيره هو الذي يتجدد عند وجود الحركة كونه متحركا، وكان كونه متحركا هو المحوج إلى الحركة دون غيره والكسب الذي يدعونه غير معقول، فكيف تعلق الحاجة به ويترك الحدوث

٥٦

الذي هو أمر معقول معلوم، والكسب ليس بمعقول ولا معلوم.

فان قيل: كيف لا يكون معقولا والانسان يفصل بين أن يمشي مختارا وبين أن يسحب على وجهه.

قلنا: الفرق يرجع إلى ما قلناه من أن مشيه مختارا متعلق به وبايثاره، واذا سحب على وجهه كانت الحركة فيه ضرورية فلذلك فرق بينهما.

فان قيل: يتجدد عند دواعينا صفات من حسن وقبح وحلول في محل وكونه غرضا وغير ذلك، فلم قلتم ان الذي يتعلق بنا الحدوث دون شئ من ذلك؟ قلنا: أما الحسن والقبح فقد يخلو كثير من الافعال منهما، نحو كلام الساهي والنائم وحركة أعضائه التي لا يتعداه وحلوله في المحل ليس له به صفة، وانما يفيد أنه من قبيل مالا يجب بقاؤه كبقاء المحل.

ثم كثير من الافعال يخلو من محل كالجوهر والغناء وارادة القديم وكراهته ولا يخلو فعل من حدوث فينبغي أن يكون جهة الحاجة الامر الشائع في سائر الافعال وسائر القادرين.

واستقصاء ما يورد على هذا الدليل وشعبه قد استوفيناه في شرح الجمل، وفيما ذكرناه كفاية انشاء الله.

وانما قلنا: انما هو مقدور لنا لا يجوز أن يكون مقدورا له لان ذلك يؤدي إلى كونه موجودا معدوما، لانا لو فرضنا أن الواحد منادعته الدواعي إلى ايجاده وجب حدوثه من جهته واذا لم يرده الله تعالى يجب أن لا يوجد، مجتمع في فعل واحد وجوب حدوثه ووجوب انتفائه، وذلك محال فوجب بطلانه على كل حال.

ومما يدل أيضا على أن الواحد منا محدث لافعاله، أنه يحسن مدحنا على بعض الافعال وذمنا على بعض، لان من فعل الطاعة يحسن مدحه ومن فعل

٥٧

الظلم يحسن ذمه، ولا يحسن مدحه ولا ذمه على طوله وقصره وحسنه وقبحه، وانما كان كذلك لان الاول متعلق بنا والثاني غير متعلق بنا لا بشئ سواه.

وأيضا فانه يحسن ان يأمر بعضنا بالقيام والقعود وينهاه عنه ولا يحسن أن يأمره.

بالطول والقصر ولا ينهاه عنهما، وانما كان كذلك لان الاول مقدور له فحسن امره والثاني غير مقدور له فلم يحسن أمره به ولا نهيه عنه.

فبان بجميع ذلك أن الواحد فاعل، والقرآن يؤكد ذلك، لانه قال( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) و( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) و «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »(٣) وقال( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) (٤) و( مَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ) (٥) وغير ذلك من الايات التي أضاف الفعل فيها الينا، [ فمن نفا الفعل عنا فقد خالف العقول والقرآن. ومتى قيل: اضافه الينا ](٦) من حيث كان كسبا لنا قلنا: ان الكسب ليس بمعقول، فلا يجوز له أن يعول عليه.

على أن عندهم ان المتولد لا كسب للعبد فيه [ عندهم، والظلم لا كسب للعبد ](٧) فيه لانه متعد عن محل قدرته لانه يوجد في المظلوم، وعندهم انما تعدى محل القدرة عليه لا كسب للعبد فيه فكيف يمكنهم حمل الاية عليه.

ومتى قالوا: ان الكسب الذي هو الظالم في الظلم كالقتل الذي ليس بمستحق عليه والضرب الذي ليس بمستحق عليه وانه في القاتل والضارب دون

___________________________________

(١) سورة الاحقاف: ١٤.

(٢) سورة التوبة: ٨٢.

(٣) سورة الزلزلة: ٧ - ٨.

(٤) سورة النساء: ١٢٣.

(٥) سورة الفرقان: ١٩.

(٦) الزيادة ليست في ر.

٥٨

المقتول والمضروب.

كان ذلك مكابرة للعقول، ويلزم على ذلك أن يكون البناء في الباني دون المبني والنساجة في الناسج دون الثوب المنسوج، وذلك تجاهل من بلغ اليه لا يحسن كلامه.

وقوله( وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (١) المراد به الاجسام، لان الذي كانوا يعبدون الاصنام دون أفعالهم فيها، فعنفهم الله تعالى بأن قال:( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) من الاجسام( وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) [ من الاجسام التي تنحتون منها الاصنام، وتقدير الكلام وما يعملون ](٢) فيه.

على أنه يضاف المعمول فيه إلى أنه عمل الصانع، فيقال هذا الباب عمل النجار وهذا البناء عمل الباني وهذا الخاتم عمل فلان، فيضيفون المعمول فيه إلى العامل، وذلك مجاز.

فهذا القدر الذي ذكرناه فيه كفاية واستيفاؤه مذكور في الموضع الذي ذكرناه.

فصل:(في ذكر الكلام في الاستطاعة وبيان أحكامها)

الواحد منا قادر على الفعل، بدلالة صحة الفعل منه وتعذره على غيره من الاحياء مع مساواتهما في جميع الصفات، ولا بد من أن يكون من صح منه الفعل مفارقا لمن تعذر عليه(٣) ، وهذه المفارقة تستند إلى جملة الحي دون أجزائها لان صحة الفعل راجع اليها.

فبطل بذلك قول من قال: ان ذلك يرجع إلى الصحة أو الطبع أو اعتدال

___________________________________

(١) سورة الصافات: ٩٦.

(٢) الزيادة ليست في ر.

(٣) في ر « لمن قدر عليه ».

٥٩

الامزجة على اختلاف أقوالهم.

لان جميع ذلك يرجع إلى المحل دون الجملة.

وهذه الصفه تستند إلى معنى، لانها تتجدد مع جواز أن لا تتجدد مع تساوي الاحوال والشروط، وبهذه الطريقة أثبتنا المعاني، فيجب من ذلك أن يكون الواحد منا قادرا بقدرة وهذه القدرة تتعلق بالشئ وبمثله وبخلافه وبضده، بدلالة أن الواحد منا متى كان قادرا صح أن يتصرف في جميع ذلك.

ألا ترى أن من قدر على أن يتحرك يمنه قدر أن يتحرك يسرة، والحركة في الجهتين متضادين، وكذلك من قدر على الحركة قدر على الاعتماد والصوت والتأليف وهذه الاشياء مختلفة، وكذلك من قدر على الاعتقادات قدر على سائر أجناسها وقدر على الارادة والكراهة وهذه الاشياء مختلفة ومتضادة.

فدل ذلك على أن القدرة تتعلق بالشئ وبمثله وبخلافه وضده اذا كان له ضد.

وأيضا لو لم تتعلق القدرة بالشئ وبضده وبخلافه لم يقع الفعل بحسب دواعيه وأحواله، بل كان يجب أن يقع بحسب ما يوجد فيه من القدرة، فكان لا يمتنع أن من يدعوه الداعي إلى القيام يقع منه القعود ومن دعاه الداعي إلى الحركة وقع منه الاعتماد، والمعلوم خلاف ذلك.

والقدرة ليست موجبة للفعل بل يختار الفاعل بها الغعل، بدلالة أن مقدور القدرة تابع لدواعيه واختياره، فلو كانت موجبة لبطل ذلك.

والقدرة قبل الفعل دون أن تكون مصاحبة له، بدلالة أن القدرة يحتاج اليها ليخرج بها الفعل من العدم إلى الوجود، فلو وجد مقدورها لاستغنى عنها.

وأيضا فالفعل في حال البقاء يستغني عن القدرة بلا شك، ولا علة لذلك الا وجوده، فينبغي أن يستغني عنها في أول حال وجوده أيضا.

وأيضا فقد دللنا على أن القدرة قدرة على الضدين وذلك محال، فاذا ثبت

٦٠