الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة9%

الفقه على المذاهب الخمسة مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 650

الفقه على المذاهب الخمسة
  • البداية
  • السابق
  • 650 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248378 / تحميل: 32994
الحجم الحجم الحجم
الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

7 - في قصر بني مقاتل:

وفي قصر بني مقاتل رأى فسطاطاً مضروباً، ورُمحاً مركوزاً، وفرساً واقفاً، فسأل عنه فقيل: هو لعبيد الله بن الحُرّ الجعفي، وبعث إليه الحجّاج بن مسروق الجعفي، فسأله ابن الحُرّ عمّا وراءه؟

قال: هدية إليك وكرامة، إن قبلتها. هذا حسين يدعوك إلى نُصرته، فإن قاتلت بين يديه أُجِرت، وإن قُتلت استشهدت.

فقال ابن الحُرّ: والله ما خرجتُ مِن الكوفة إلاّ لكثرة ما رأيته خارجاً لـمُحاربته، وخذلان شيعته، فعلمت أنّه مقتول ولا أقدر على نصره، ولست أُحبّ أن يراني وأراه(1) .

فأعاد الحجّاج كلامه على الحسين، فقام (صلوات الله عليه) ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحْبه، فدخل عليه الفسطاط فوسَّع له عن صدر المجلس.

يقول ابن الحُرّ: ما رأيت أحداً قطّ، أحسن مِن الحسين ولا أملأ للعَين منه، ولا رققتُ على أحدٍ قطّ رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حَوله، ونظرت إلى لحيَته فرأيتها كأنّها جناح غراب، فقلت له أَسَواد أم خضاب؟.

قال: (يا ابن الحُرّ، عجَّلَ عليّ الشيب)، فعرفت أنّه خضاب(2) .

ولمّا استقر المجلس بأبي عبد الله، حمَد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال: (يابن الحرّ، إنّ أهل مِصْركم كتبوا إليّ أنّهم مجتمعون على نصرتي، وسألوني القدوم عليهم، وليس الأمر على ما زعموا(3) . وإنّ عليك ذنوباً كثيرة، فهل لك مِن توبة تُمحي بها ذنوبك؟!).

____________________

(1)الأخبار الطوال: ص 249.

(2)خزانة الأدب للبغدادي: 1 / 298، ط بولاق. وأنساب الأشراف: 5 / 291.

(3)نفس المهموم: ص104.

١٦١

قال: وما هي يا ابن رسول الله؟ فقال: (تنصر ابن بنت نبيّك وتُقاتل معه)(1) .

فقال ابن الحُرّ: والله إنّي لأعلم أنّ مَن شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك، ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً؟ فأُنشدك الله أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرَسي هذه (الملحقة) - والله - ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلاّ لحِقته، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلاّ سبقته، فخُذها فهي لك.

قال الحسين: (أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا، فلا حاجة لنا في فرَسك(2) ولا فيك، وما كنتُ مُتّخذ الـمُضلّين عضداً(3) . وأنّي أنصحك كما نصحتني، إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا، فافعل، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم)(4) .

وندِم ابن الحُرّ على ما فاته مِن نصرة الحسينعليه‌السلام فأنشأ:

أيا لَك حسرةً ما دمتُ حيّاً

تردَّد بين صدري والتراقي

غَداة يقولُ لي بالقصر قولاً

أتتـركنا وتعزم بالفِراقِ

حسينٌ حين يطلب بذْل نصري

على أهل العداوة والشِقاقِ

فلو فلَقَ التلهّف قلب حُرٍّ

لهَمَّ اليوم قلبي بانفلاقِ

ولو واسيتُه يوماً بنفسي

لنلتُ كرامة يوم التلاقِ

مع ابن محمّد تُفديه نفسي

فودّع ثُمّ أسرع بانطلاق

لقد فاز الأُلى نصروا حُسيناً

وخاب الآخَرون ذَووا النفاق(5)

____________________

(1)أسرار الشهادة: ص233.

(2)الأخبار الطوال: ص249.

(3)أمالي الصدوق: ص94 (المجلس 30).

(4)خزانة الأدب: 1 / 298.

(5)مقتل الخوارزمي: 1 / 228. وذكره الدينوري في الأخبار الطوال: ص258.

١٦٢

وفي هذا الموضع اجتمع به عمرو بن قيس المشرقي وابن عمّه، فقال لهما الحسين: (جئتما لنُصرتي؟!) قالا له: إنّا كثيروا العيال، وفي أيدينا بضائع للناس، ولم ندرِ ماذا يكون، ونَكْره أن نُضيِّع الأمانة.

فقال لهماعليه‌السلام : (انطلقا، فلا تسمعا لي واعية ولا ترَيا لي سواداً، فإنّه مَن سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يُجيبنا، كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يكبّه على مِنْخريه في النار)(1) .

8 - في منزل شراف:

وفي (شراف) طلع عليهم الحُرّ الرياحي بألف فارس، بعثه ابن زياد ليحبس الحسينعليه‌السلام عن الرجوع إلى المدينة أينما يجده، أو يقْدِم به إلى الكوفة.

فسقاهم الحسينعليه‌السلام ماءً، وكانوا عطاشى، ثُمّ خطب فيهم الحسينعليه‌السلام وقال:

(إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم، وإنّي لم آتكم حتّى أتتني كُتبُكم، وقدِمت بها عليَّ رُسلُكم، أن اقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، ولعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فاعطوني ما أطمئنّ به مِن عهودكم ومواثيقكم، وإن كنتم لمقدَمي كارهين، انصرفت عنكم)(2) .

9 - في منزل البيضة:

وفي منزل البيضة، خطب الحسينعليه‌السلام في أصحاب الحُرّ فقال:

(أيّها الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (مَن رأى سُلطاناً جائراً، مُستحِلاًّ لحرام الله،

____________________

(1)مقتل الحسين: للسّيد عبد الرزاق المقرّم: 202 - 205.

(2)مقتل الحسين: للسيّد عبد الرزاق المقرّم: 195.

١٦٣

ناكثاً عهده، مُخالِفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفِعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مَدخله.

ألا وأنّ هؤلاء قد لزِموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر، وقد أتتني كُتبكم، وقدِمَت عليَّ رسُلُكم أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني، فإن تممتُم على بيعتكم تصيبوا رُشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وأمّي فاطمة بنت رسول الله. نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، ولكم فيَّ أُسوة، وإن لم تفعلوا، ونقضْتُم عهدكم، وخلعتُم بيعتي مِن أعناقكم، فلَعمري ما هي لكم بنُكر. لقد فعلتموها، بأبي وأخي وابن عمّي مُسلم. فالمغرور مَن اغترّ بكم. فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(1) .

10 - في كربلاء:

وفي كربلاء أقبل حبيب بن مظاهر الأسدي إلى الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، فقال: هاهنا حيّ مِن بني أسد بالقرب منّا، أتأذن لي أن أسير إليهم أدعوهم إلى نصرتك؟ فعسى الله أن يدفع بهم عنك بعض ما تكره، فقال له الحسينعليه‌السلام : قد أذِنتُ لك يا حبيب.

قال: فخرج حبيب بن مظاهر في جوف الليل متنكّراً حتّى صار إلى أولئك القوم، فحيّاهم وحيّوه وعرفوا أنّه مِن بني أسد، فقالوا: ما حاجتك؟ يا ابن عمّ! فقال: حاجتي إليكم قد أتيتكم بخير ما أتى به وافدٌ إلى قوم، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه في عصابة مِن المؤمنين، الرجُل منهم خيرٌ

____________________

(1)الطبري 6 / 229. ومقتل الحسين / للمقرّم: ص198.

١٦٤

مِن ألف رجُل، لن يخذلوه ولن يُسلموه وفيهم عينٌ نظرَت، وهذا عمَر(1) بن سعد قد أحاط به في اثنين وعشرين ألف، وأنتم قومي وعشيرتي، وقد جئتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالون غداً شرفاً في الآخرة، فإنّي أُقسم بالله أنّه لا يُقتَل منكم رجُل مع ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صابراً محتسباً، إلاّ كان رفيق محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلى علّيين.

قال: فوَثب رجُل مِن بني أسد يُقال له بشر بن عبيد الله فقال: والله أنا أوّل مَن أجاب إلى هذه الدعوة، ثمّ أنشأ يقول:

قد علِم القوم إذا توَاكلوا

وأحجم الفُرسان أو تناصلوا

إنّي شجاع بطل مقاتل

كأنّني ليث عرين باسل

قال: ثمّ تبادر رجال الحيّ مع حبيب بن مظاهر الأسدي.

قال: وخرج رجُل مِن الحيّ في ذلك الوقت حتّى صار إلى عمَر(2) بن سعد في جوف الليل فخبّره بذلك، فأرسل عمَر رجُلاً من أصحابه يُقال له الأزرق بن حرب الصيداوي، فضمّ إليه أربعة آلاف فارس، ووجّه به في الليل إلى حيّ بني أسد مع الرجُل الذي جاء بالخبر.

قال: فبينما القوم في جوف الليل قد أقبلوا يريدون معسكر الحسين، إذ استقبلهم جُند عمَر بن سعد على شاطىء الفرات، قال: فتناوش القوم بعضهم [بعضاً] واقتتلوا قتالاً شديداً، صاح به حبيب بن مظاهر: ويلك يا أزرق ما لك ولنا دعْنا؟ قال: واقتتلوا قتالاً شديداً.

فلمّا رأى القوم ذلك انهزموا راجعين إلى منازلهم، فرجع حبيب بن مظاهر إلى الحسينعليه‌السلام ، فأعلمه بذلك الخبر فقال: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم(3) .

____________________

(1)في النُسخ: عمْرو.

(2)في النُسخ: عمْرو.

(3)كتاب الفتوح لابن الأعثم الكوفي: ج5 / 159 - 162، ط 1.

١٦٥

11 - وفي كربلاء دعا الحسينعليه‌السلام بدَواة وبيضاء، وكتَب إلى أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنّه على رأيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، مِن الحسين بن عليّ إلى سليمان بن صرد الخزاعي(1) .

أمّا بعد فقد علِمتُم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال في حياته: مَن رأى سلطاناً جائراً إلى آخِر ما ذكره في خطبة الأصحاب).

يوم عاشوراء:

وللحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء استنصاران واستغاثة:

وفيما يلي تفصيل كلٍّ مِن الاستنصارين والإستغاثة الحسينية في يوم عاشوراء.

12 - الاستنصار الأوّل يوم عاشوراء:

دعا الحسينعليه‌السلام براحلته يوم عاشوراء، فركِبها ونادى بصوتٍ عال يسمعه جُلُّهم:

(أيّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعِظكم بما هو حقّ لكم عليّ، وحتّى اعتذر إليكم من مقْدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النَصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النَصف مِن أنفسكم).( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

____________________

(1)نفس المهموم: ص 207، البحار 44 / 382.

١٦٦

وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوا إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونِ ) (1) ( إِنّ وَلِيّيَ اللّهُ الّذِي نَزّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ ) (2) .

فلمّا سمعْنَ النساء هذا منه صحْنَ وبَكين وارتفعت أصواتهم، فأرسل إليهنّ أخاه العباس وابنه عليّ الأكبر وقال لهما: (سكّتاهن فلَعمري ليكثُر بكاؤهنّ).

ولمّا سكتْنَ، حمَد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء، وقال في ذلك ما لا يُحصى ذِكره، ولم يُسمَع متكلّم قبله ولا بعده أبلَغ منه في منْطقه(3) .

ثمّ قال: (الحمد لله الذي خلَق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرّته والشقيّ مَن فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتُخيّب طمَع مَن طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتُم الله فيه عليكم، وأعرَض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنِعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم، أقررتُم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتْلهم، وقد استحوَذ عليكم الشيطان فأنساكم ذِكر لله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين)(4) .

(أيّها الناس، انسبوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم قتْلي وانتهاك حُرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّة وابن عمّه

____________________

(1)يونس / 71.

(2)الأعراف / 196.

(3)تاريخ الطبري: 6 / 242.

(4)مقتل محمّد بن أبي طالب.

١٦٧

وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء مِن عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي، أو ليس جعفر الطيّار عمّي، أوَ لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟

فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحقّ فوَ الله ما تعمّدت الكذِب منذ علِمتُ أنّ الله يمْقت عليه أهله، ويضرّ به مَن اختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبدالله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس ابن مالك، يخبرونكم إنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي).

فقال الشمر: هو يعبُد الله على حرْف إن كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبُد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق، ما تدري ما يقول، قد طبَع الله على قلبك.

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام : (فإن كنتم في شكٍّ مِن هذا القول أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوَ الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويْحَكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟) فأخذوا لا يكلّمونه.

فنادى: ياشبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد ابن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن أقدِم قد أينع الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدِم على جُندٍ لك مجنّدة.

فقالوا: لم نفعل.

قال: سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم. ثمّ قال: (أيّها الناس، إذا كرهتموني، فدَعوني أنصرف عنكم إلى مأمَني مِن الأرض، فقال له قيس بن الأشعث: أوَ لا تنزل على حُكم بني عمّك؟ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه.

١٦٨

فقال الحسينعليه‌السلام : أنت أخو أخيك أتُريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر مِن دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا إفرّ فِرار العبيد (1)، عِباد الله( إنّي عُذْت بربّي وربِّكم أنْ ترْجِمُونِ ) أعوذ بربّي وربّكم مِن كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب(2) .

13 - الاستنصار الثاني في يوم عاشوراء:

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام ركِبَ فرَسه، وأخذ مصحفاً ونشَره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال: (يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله، وسنّة جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(3) .

ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة، وما عليه من سيف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه وعمامته، فأجابوه بالتصديق. فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد، فقالعليه‌السلام :

(تبّاً لكم أيّها الجماعة وترَحاً! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجِفين، سللتُم علينا سيفاً لنا في أَيمانكم، وحششتُم علينا ناراً اقتدحناها على

____________________

(1)بالفاء الموحّدة فيما رواه ابن نما في مثير الأحزان: ص26، وهو أصحّ ممّا يمضي على الألسُن، ويوجد في بعض المقاتل بالقاف مِن الإقرار؛ لأنّه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة إلاّ ما أفادته التي قبلها، بخلاف على قراءة (الفرار) فإنّ الجملة الثانية تفيد أنّه لا يفرّ من الشدّة والقتل كما يصنعه العبيد، وهو معنى غير ما تؤدّي إليه الجملة التي قبلها، على أنّه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له، ففي تاريخ ابن الأثير: ج3 ص148، وشرح نهج البلاغة: ج1 ص 104 المطبعة الأميرية: أنّ أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لمّا فرّ إلى معاوية: ما له فَعل فِعْل السيّد، وفرّ فِرار العبد، وخان خيانة الفاجر؟

(2)مقتل الحسين للسيّد عبد الرزاق المقرّم: 254 - 257.

(3)تذكرة الخواص: ص143.

١٦٩

عدوّنا وعدوّكم؟ فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدْلٍ أفشَوه فيكم، ولا أمَل أصبح لكم فيهم، فهلاّ لكم الوَيلات، تركتمونا، والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يُستحصف، ولكن أسرعتم كطَيرة(1) الدبا، وتداعيتم عليها، كتهافت الفَراش، ثمّ نفضتموها، فسُحقاً لكم يا عبيد الأمَة وشذّاذ الأحزاب، ونبَذة الكتاب، ومحرّفي الكلِم، وعصبة الإثم، ونفثة الشيطان، ومطفئي السُنن! وَيحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟ أجَل والله غدرٌ فيكم قديم وشِجَت عليه أُصولكم، وتأزّرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمَر، شجىً للناظر وأكْلة للغاصب).

(ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركَز بين اثنتين بين السِلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرَت وأنوفٌ حَمِية ونفوس أبيّة مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر)(2) .

14 - الاستغاثة الأخيرة للحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء:

ولمّا نظر الحسينعليه‌السلام كثرة مَن قُتل مِن أصحابه، قبض على شيبته المقدّسة وقال: (اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس إذ عبَدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتْل ابن بنت نبيّهم، أما والله لا أُجيبهم

____________________

(1)بالكسر فالفتح (تاج العروس).

(2)نقلناها من اللهوف: ص54، ورواها ابن العساكر في تاريخ الشام: ج4 ص333، والخوارزمي في المقتل: ج2 ص6.

١٧٠

إلى شيءٍ يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي)، ثمّ صاح: أما مِن مغيث يغيثنا، أما مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، فبكت النساء وعَلا صراخهنّ.

وسمع الأنصاريّان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسين واستغاثته وبكاء عياله وكانا مع ابن سعد، فمالا بسيفهما على أعداء الحسين، وقاتلا حتّى قُتلا(2) .

قال السيّد (رضي عنه الله): ولمّا رأى الحسينعليه‌السلام مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمُهجته ونادى: هل مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل مِن موحّد يخاف الله فينا، هل مغيث يرجو الله بإغاثتنا، هل مِن معين يرجو ما عند الله في إعانتنا. فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب: ناوليني ولَدي الصغير حتّى أودّعه، فأخَذه وأومأ إليه ليُقبّله، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهْمٍ، فوقع في نحره، فذبحه(3) .

فقالعليه‌السلام لزينب: خُذيه، ثمّ تلقّى الدم بكفّيه، فلمّا امتلأت رمى بالدم نحو السماء، ثمّ قال: هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعَين الله(4) .

وحكى السبط في التذكرة عن هشام بن محمّد الكعبي قال: لمّا رآهم الحسينعليه‌السلام مصرّين على قتْله، أخذ المصحف ونشره وجعله على رأسه ونادى: (بيني وبينكم كتاب الله وجدّي محمّد رسول الله، يا قوم بم تستحلّون دمي؟)، فَساقَ الكلام(5) إلى أن قال: فالتفت الحسينعليه‌السلام ، فإذا بطفل له يبكي عطشاً،

____________________

(1)اللهوف: ص57.

(2)الحدايق الوردية (مخطوط).

(3)الملهوف: ص102.

(4)الملهوف: ص103.

(5)هذا كلامهعليه‌السلام الذي ساقه: ألست ابن بنت نبيّكم، ألَم يبلغكم قول جدّي فيَّ وفي أخي =

١٧١

فأخذه على يده وقال: يا قوم إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، فرماه رجُل منهم بسهْم فذبَحه، فجعل الحسينعليه‌السلام يبكي ويقول: (اللهم اُحكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا). فنوديَ مِن الهواء: دعْه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة.

ثمّ قال: ورماه حُصَين بن تميم بسَهْم فوقع في شفتَيه، فجعل الدم يسيل مِن شفتيه وهو يبكي ويقول: (اللهم أشكو إليك ما يُفعل بي وبإخوَتي وولْدي وأهلي - الخ)(1) .

15 - استنصار زهير (رحمه الله) يوم عاشوراء:

وخرج إليهم زهير بن القين على فرَس ذنوب، وهو شاكٍ في السلاح فقال: (يا أهل الكوفة نذار لكم مِن عذاب الله نذار، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دينٍ واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أُمّة وأنتم أُمّة. إن الله ابتلانا وإيّاكم بذرّية نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عُمر سلطانهما، لَيسملان أعْينكم ويقطّعان أيديَكم وأرْجُلِكم، ويمثّلان

____________________

= (هذان سيّدا شباب أهل الجنة)، إن لم تصدّقوني فاسألوا جابراً وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدري، أليس جعفر الطيّار عمّي؟ فناداه شمر: الساعة ترد الهاوية. فقال الحسينعليه‌السلام : الله أكبر أخبرني جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: رأيت كأنّ كلباً وَلغ في دماء أهل بيتي وما أخالك إلاّ إيّاه. فقال شمر: أنا أعبُد الله على حرف إن كنتُ أدري ما تقول. فالتفت الحسين فإذا بطفل له - الخ (منه). تذكره الخواص: 143.

(1)تذكرة الخواص / ص143.

١٧٢

بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه).

فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودَعوا له وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سِلماً.

فقال زهير: عباد الله إنّ وُلد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر مِن ابن سميّة، فإن لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجُل وبين يزيد، فلَعمري إنّه لَيرضى من طاعتكم بدون قتْل الحسينعليه‌السلام .

فرماه الشمر بسهم وقال: اسكُت أسكَت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير: يابن البوّال على عقِبَيه ما إيّاك أُخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تُحكِم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال الشمر: إنّ الله قاتِلك وصاحبك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوّفني؟ فو الله للموت معه أحبّ إليَّ مِن الخُلد معكم، ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال:

عِباد الله لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلَف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذرّيته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرَهم وذبّ عن حريمهم.

فناداه رجُل مِن أصحابه أنّ أبا عبدالله يقول لك: أقبِل، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحت هؤلاء وأبلغت لو نفع النُصح والإبلاغ(1) .

____________________

(1)تاريخ الطبري 6 / 243.

١٧٣

ب - الدلالات

الدلالات الأربعة لخطاب الاستنصار الحسيني

لخطاب الاستنصار الحسيني أربع دلالات:

1 - الدلالة السياسية 2 - الدلالة الحركية 3 - الدلالة الولائية 4 - الدلالة الشمولية.

وفيما يلي توضيح وشرح لهذه الدلالات الأربعة التي يتضمّنها الخطاب الحسيني.

1 - المضمون السياسي لخطاب الاستنصار الحسيني

الاستنصار، والتعبئة، وتحشيد الرأي العام، والإعلام ضدّ الطاغية، مِن مقوّمات كلّ مواجهة سياسية ضد نظام حاكم، يحكم بالظلم.

فإنّ الصراع على الحكم بين الحاكم والمعارضة صراع غير متكافئ من الناحية الميدانية.

ذلك أنّ الحاكم يملك من القوّة والمال والإعلام والسلطان ما لا يتملّكه المعارضة.

ولا غِنى للمعارضة، أيّة معارضة، في معركة من هذا القبيل مِن أن تعمل كلّ جهدها، وتسعى لكسب الرأي العام إلى جانبها، وكسب القوّة والاستنصار،

١٧٤

وتحشيد الرأي العام والتعبئة.

ونحن على يقين أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن يفكّر، يوم أقدم على الخروج... في أن يهزم طاغية عصره في مواجهة عسكرية ميدانية، ولا نحتاج إلى محاسبات عسكرية وسياسية؛ لنعرف أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن بصدد إسقاط يزيد، وانتزاع السلطان والـمُلك والحُكم مِن يده، وهو أَولى به مِن غيره.

وإنّما كان الحسينعليه‌السلام يفكّر في أمرين أحدهما سياسي، والآخَر حرَكيّ.

أمّا الهدف السياسي مِن حركة الحسينعليه‌السلام : وهو إلغاء شرعية الخلافة الأُمَوية وفضْح يزيد، وكسْر هيبته وعزله سياسياً واجتماعياً.

وأمّا الهدف الحرَكي فهو توعية الناس، وكسْر حاجز الخوف، وتحريك الناس وتثويرهم؛ لإسقاط نظام الطاغية، واستنهاض الأمّة، وإعادة إرادتها المسلوبة ووَعيِها المسلوب إليها.

والهدف الأوّل هدف سياسي بالتأكيد، والحسينعليه‌السلام يدخل في مواجهة سياسية مع أعْتى نظام سياسي وأشرسه، والاستنصار جزء مِن هذه المعركة.

والاستنصار دعوة إلى تطويق النظام الأُمَوي ومحاصرته وعزله، وتحجيم دَوره وإلغاء شرعيّته... وهو جزء مِن رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه المعركة الشاملة.

2 - المضمون الحركي لخطاب الاستنصار الحسيني

والدلالة الأخرى لخطاب الاستنصار الحسيني هي الدلالة الحركية...

ولتوضيح ذلك لا بدّ أن نرسم الإطار العام لخروج الحسينعليه‌السلام ، وعناصر هذا الإطار ثلاثة:

1 - رفض البيعة ليزيد: وقد أعلن الحسينعليه‌السلام رفضه لبيعة يزيد عندما أرسَل

١٧٥

الوليد والي بني أُميّة في المدينة، يطالبه بالبيعة بعد هلاك معاوية، وكان ذلك بحضور مروان بن الحكم، فامتنع الحسينعليه‌السلام مِن البيعة، وقال مثْلي لا يبايع سرّاً، فإذا دعوت الناس دعوتنا معهم.

فاقتنع الوليد، لكن مروان ابتدره قائلاً: إن فارقك الساعة، ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عُنقه.

فقال الحسينعليه‌السلام : يابن الزرقاء(1) أنت تقتلني أمْ هو، كذِبتَ وأثِمْت.

ثمّ أقبل على الوليد، وقال: أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجُل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة، معلِن بالفِسق، ومثْلي لا يبايع مثْله، ولكن نصبح وتصبحون(2) .

وفي كربلاء خطَب الحسينعليه‌السلام وقال: (إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد خيَّر بين السِلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسولُه وحجورٌ طابت وطهُرَت).

2 - إعلان الرفض: لم يتكتّم الحسينعليه‌السلام برفضْه البيعة، وعرَف الناس جميعاً أنّ الحسينعليه‌السلام ممتنع عن البيعة، ونصَحه بعض الناس بالبيعة وآخَرون أن يُخفي نفسه عن الأمصار.

ولكن الحسينعليه‌السلام أعلن أنّه يرفض البيعة ويريد الخروج إلى مكّة، وترَك وصيّته إلى بني هاشم وكافّة المسلمين عند أخيه محمّد بن الحنفية، وغادر المدينة

____________________

(1)الزرقاء جدّة مروان وكانت مِن البغايا المعروفات. الفخرية: 88.

(2)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم، عن الطبري وابن الأثير، والإرشاد، وأعلام الورى، ومثير الأحزان لابن نما الحلّي.

١٧٦

إلى مكّة، سالكاً الطريق العام الذي يسلكه الناس، ويراه الناس فيه، فقيل له لو تنكّبت الطريق الأعظم، كما فعل ابن الزبير قال: لا والله لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ(1) .

ودخل مكّة، وهو يقرأ:

( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (2) .

ونزل دار العباس بن عبد المطّلب(3) ، واختلف إليه أهل مكّة ومَن بها مِن المعتمرين وأهل الآفاق، وكان ابن الزبير يأتي إلى الحسينعليه‌السلام فيمَن يأتيه.

وكان بإمكان الحسينعليه‌السلام أن يأخذ بنصيحة مَن ينصحه، بإخفاء نفسه، فيخفي نفسه عن الأنظار، ويذهب إلى بعض الثغور، ويبتعد عن الأضواء، وبذلك يسلَم مِن أذى بني أُمية وكَيدهم، وكان لا يخفى هذا الوجه على الحسينعليه‌السلام ، كما صرّح بذلك لجُملةٍ مِن الذين نصحوه، ولكنّه أصرّ أن يرفض البيعة، وأصرّ أن يُعلِن رفْضه، ويبقى تحت الأضواء، ويصارح الناس برأيه في يزيد وبيعته، وبأنّه أحقّ بذلك مِن كلّ إنسان آخَر على وجه الأرض.

3 - الخروج والثورة: وأصرّ الحسينعليه‌السلام بعد ذلك أن يخرج مِن الحجاز إلى العراق؛ ليواجه فيه بني أُمية.

وإذا أنعمنا النظر في كلمات أولئك الذين نصحوا الحسينعليه‌السلام بالامتناع عن الخروج إلى العراق، نجد أنّ كلامهم يتضمّن ثلاث نقاط.

الأُولى: إنّ خروج الحسينعليه‌السلام إلى العراق بمعنى الثورة(4) والمواجهة

____________________

(1)إرشاد المفيد.

(2)القصص / 22.

(3)تاريخ ابن العساكر: 4: 328.

(4)انظر نصيحة محمد بن الحنفية للحسينعليه‌السلام في المدينة - الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 7، =

١٧٧

بعَينها لنظام بني أُمية.

والثانية: إنّ شيعة الحسينعليه‌السلام في العراق إذا وفَوا للحسينعليه‌السلام بعهودهم ومواثيقهم، فلن يستطيعوا أن يدفعوا عن الحسينعليه‌السلام كيد بني أُمية ومكْرهم وشرّهم، ولن يغلبوا سلطان بني أُمية على العراق.

والثالثة: وبناءً على ذلك فإنّ الحسينعليه‌السلام إذا خرج إلى العراق فهو مقتول لا محالة.

ولم تكن هذه الحقائق تخفى على الإمامعليه‌السلام ، ولم يكن يجهل الإمامعليه‌السلام أنّ خروجه إلى العراق بمعنى الخروج على سلطان بني أُمية علانية، ولم تكن تخفى على الحسينعليه‌السلام عاقبة هذا الخروج.

ولا يصحّ ما يرويه بعض الناس أنّ الحسينعليه‌السلام طلب منهم أن يُخلوا له الطريق إلى بعض الثغور، بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن التصدّي والمواجهة، فلا يعطيهم يده للبيعة، ولا يتصدّى للخروج والمواجهة.

روى الطبري وابن الأثير عن عقبة بن سمعان أنّه قال: صحبت حسيناً، فخرجت معه مِن المدينة إلى مكّة ومِن مكّة إلى العراق، ولم أُفارقه حتّى قُتِلعليه‌السلام ، وليس مِن مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكّة، ولا في الطريق ولا بالعراق، ولا في معسكرٍ إلى يوم قتله إلاّ وقد سمعتُها. لا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون مِن أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن

____________________

ونصيحته له في مكّة - البحار: 44، ونصيحة عبدالله بن جعفر الطيّار له بالامتناع عن الخروج إلى العراق - الطبري 6: 219، ونصيحة عبدالله بن العباس له - الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 16، ونحن نشكّ في صدْق كلّ هؤلاء في نصيحتهم للحسينعليه‌السلام ، ولا نشكّ أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن يخفى عليه هذا الوجه مِن الرأي.

١٧٨

يُسيّروه إلى ثغْر مِن ثغور المسلمين، ولكنّه قال: (دعوني في هذه الأرض حتّى ننظر ما يصير أمر الناس)(1) .

وكان مِن رأي محمّد بن الحنفية أن يُخفي الحسينعليه‌السلام نفسه عن الأنظار، ويبتعد عن أجواء المواجهة والتصدّي، ويلتحق بالجبال وشُعَب الجبال، ويخرج مِن بلد إلى آخَر، حتّى ينظر ما يصير إليه أمر الناس(2) .

فأبى الحسينعليه‌السلام وأصرّ على الخروج.

ونصَحه ابن عباس أن يسير إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً وشِعاباً وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيهعليه‌السلام بها شيعة، وهو عن الناس في عزلة.

فقال له الحسينعليه‌السلام : (يابن العمّ إنّي والله أعلم إنّك ناصح مشفق، وقد أزمعت على المسير)(3) .

إذن فإنّ الحسينعليه‌السلام كان يقصد الخروج ويريده، وهو على عِلم بكلّ لوازمه وتبِعاته وعواقبه.

هذا هو الإطار العام لحركة الإمام الحسينعليه‌السلام وموقفه مِن المدينة إلى كربلاء، وفي هذا الإطار نستطيع أن نفْهم الاستنصار الحسيني.

إنّ الحسين يعلم أنّه إن خرَج إلى العراق يُقتل لا محالة، وكلّ القرائن والدلائل تشير إلى هذه الحقيقة.

إذن فإنّ الحسينعليه‌السلام يطلب النصر بالقتْل والدم. ولم يكن يفطَن يومئذٍ ابنُ عباس وعبدالله بن جعفر الطيّار ومحمّد بن الحنفية لهذه الوسيلة التي اتّخذها

____________________

(1)تاريخ الطبري 7: 314، والكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 15.

(2)تاريخ الطبري 6: 191، وأنساب الأشراف 4: 15.

(3)الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 16.

١٧٩

الحسينعليه‌السلام يومئذٍ طريقاً إلى النصر.

لقد كان الحسينعليه‌السلام شاهداً لنجاح المؤامرة الأُموية، التي قادها آل أبي سفيان للانقلاب على الأعقاب... وقد فقدت الأمّة في عرضها العريض حصانتها تجاه هذه المؤامرة، وعاد الضمير الإسلامي لا يملك الدرجة الكافية من المناعة والمقاومة.

ولا يختلف في ذلك أهل العراق عن أهل الشام، وأهل مصر عن أهل الحجاز، فأراد الحسينعليه‌السلام أن يُحدث هزّة بشهادته وشهادة الثُلّة الطيّبة مِن أهل بيته وأصحابه في الضمير الإسلامي، ويُعيد إليهم ما سلَبه منهم آل أبي سفيان مِن ضمائرهم وعزائمهم ورُشدهم.

وقد كان الذي يريده الحسينعليه‌السلام بمصرعه ومصرع أهل بيته وأصحابه والمأساة التي يتناقلها أهل السِيَر، فأحدث في الضمير الإسلامي هزّةً عنيفة، وصحوة ضميرٍ كانت مبدأ كثير مِن البركات والثورات والوعي واليقظة السياسية في تاريخ الإسلام.

المؤامرة الأُموية على دم الحسينعليه‌السلام

وقد خطّط آل أبي سفيان لإهدار دم الحسينعليه‌السلام في مكّة في موسم الحج، وبلغ الحسينعليه‌السلام أنّ يزيد أنفَذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحج ووَلاّه أمْر الموسم، وأوصاه بالفتْك بالحسين أينما وجدَهُ(1) ، فعجّل الحسين بالخروج مِن مكّة قبل الوقوف بعرَفات يوم الترْوية، ولم يُمكّن بني أُمية مِن اغتياله فيذهب دمه هدراً؛ وبذلك أحبط المؤامرة التي خطّط لها بنو أُمية.

____________________

(1)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم / ص172، والمنتخب / ص172.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

شروط الزوجة على الزوج

قال الحنابلة: إذا شرط للزوجة أن لا يخرجها مِن بلدها أو دارها أو لا يسافر بها أو لا يتزوج عليها صح العقد والشرط، ويجب الوفاء، فإن لَم يفعل فلها فسخ الزواج.

وقال الحنفية والشافعية والمالكية: يبطل الشرط ويصحّ العقد، ولكنّ الشافعية والحنفية أوجبوا لها - والحال هذه - مهر المثل لا المهر المـُسمّى. (المغني لابن قدامة ج٦ باب الزواج).

وقال الحنفية: إذا اشترط الرجل أن يكون الطلاق في يد المراة - كما لو قال لها: تزوجتُك على أن تطلّقي نفسك - كان الشرط فاسداً، أمّا لو اشترطت هي ذلك، وقالت له: زوّجتُك نفسي على أن يكون الطلاق في يدي، وقال: قبِلتُ، يكون العقد والشرط صحيحين، وتطلِّق نفسها متى شاءت.

وقال الإمامية: لو اشترطت الزوجة أثناء العقد أن لا يتزوج عليها، أو لا يطلّقها، ولا يمنعها مِن الخروج متى تشاء وإلى أين تريد، أو أن يكون الطلاق بيدها، أو لا يرثها، وما إلى ذلك ممّا يتنافى مع

٣٠١

مقتضى العقد يبطل الشرط، ويصحّ العقد(١) .

أمّا إذا اشترطت عليه أن لا يخرجها مِن بلدها، أو يسكنها منزلاً معيناً، أو لا يسافر بها يصحّ العقد والشرط معاً، ولكن إذا أخلف لا يحق لها الفسخ، ولو امتنعت عن الانتقال معه في مثل هذه الحال تستحق جميع الحقوق الزوجية مِن النفقة وما إليها(٢) .

إذا ادّعت الزوجة أنّها اشترطت على الزوج في متن العقد شرطاً سائغاً، وأنكر الزوج تُكلف بالبينة؛ لأنّها تدّعي شيئاً زائداً على العقد، ومع عجزها عن إقامتها يحلف هو على نفي الشرط؛ لأنّه منكِر.

____________________

(١) قال الإمامية: إنّ الشرط الفاسد في غير عقد الزواج يكون مفسداً للعقد، أمّا في الزواج فلا يفسد العقد ولا المهر إلاّ اشتراط الخيار، أو عدم ترتب جميع آثار العقد المنافي لطبيعته، واستدلوا على الفرق بين الزواج وغيره بأحاديث صحيحة، وقال بعض الفقهاء: السر إنّ الزواج ليس معاوضة حقيقية كما هي الحال في غيره مِن العقود. ولعلماء الإمامية في الشروط أبحاث لا توجد في غير كتبهم، ومَن أحبّ الاطلاع عليها فليراجع كتاب المكاسب للأنصاري، وتقريرات النائيني للخونساري ج٢، والجزء الثالث مِن فقه الإمام الصادق للمؤلف.

(٢) في كتاب فرق الزواج للاستاذ علي الخفيف: إنّ الإمامية يقولون بأنّ هذا النوع مِن الشرط باطل، وهو اشتباه بين هذا النوع وبين ما يتنافى مع طبيعة العقد.

٣٠٢

دعوى الزواج

إذا ادّعى رجل زوجية امرأة، فأنكرت، أو ادّعت هي، فأنكر، فعلى المدّعي البينة وعلى المنكر اليمين.

واتفقوا على أنّ البينة لا بدّ أن تكون مِن رجلين عدلين، وأنّ شهادة النساء لا تُقبل، لا منفردات ولا منضمات، إلاّ الحنفية فإنّهم قبلوا شهادة رجل وامرأتين على شرط العدالة، فالعدالة عندهم شرط في إثبات الزواج لدى الإنكار والخصومة، وليست شرطاً في صحة العقد لدى وقوعه.

وقال الإمامية والحنفية: يكفي أن يشهد الشاهد بالزواج دون ذكر الشروط والتفاصيل.

وقال الحنابلة: لا بدّ مِن ذكر الشروط؛ لأنّ الناس يختلفون فيها، فمِن الجائز أن يعتقد الشاهد صحة الزواج مع أنّه فاسد.

وقال الإمامية والحنفية والشافعية والحنابلة: يثبت الزواج بالاستفاضة، وإن لَم تبلغ حد التواتر.

هل يثبت الزواج بالمعاشرة:

ترفع لدى المحاكم الشرعية بين الحين والحين دعوى الزواج، وكثيراً ما

٣٠٣

يدلي المدّعي بأنّهما تعاشرا وسكنا في محل واحد كما يسكن الزوج وزوجته، ويأتي بشهود على ذلك، فهل يثبت - والحال هذه - أم لا؟

الجواب:

إنّ ظاهر الحال يقتضي الحكم بالزواج حتى يثبت العكس، أي أنّ المعاشرة تدل بظاهرها على وجود الزواج، وهذا الظاهر يستلزم الأخذ بقول المدّعي حتى نعلم أنّه كاذب، على أنّ الجزم بكذب مدّعي الزواج صعب جداً بناء على قول الإمامية مِن عدم شرط الشهادة في الزواج.

ولكن هذا الظاهر معارض بالأصل، وهو أصل عدم حدوث الزواج، لأنّ كل حادث شُك في وجوده فالأصل عدمه، حتى يقوم الدليل عليه؛ وعلى هذا يكون قول منكِر الزوجية موافقاً للأصل، فيطلب الإثبات مِن خصمه، فإن عجز عن إقامة البنية يحلف المنكِر وتُردّ الدعوى.

وهذا هو الحق الذي تستدعيه القواعد الشرعية، حيث تسالم فقهاء الإمامية على أنّه إذا تعارض الظاهر مع الأصل يقدم الأصل، ولا يؤخذ بالظاهر إلاّ مع قيام الدليل، ولا دليل في هذه المسألة.

نعم إذا علم بوقوع صيغة العقد، ثمّ شك في أنّها وقعت على الوجه الصحيح أو الفاسد يحكم بالصحة بلا ريب، أمّا إذا كان الشك في أصل وقوع العقد فلا يمكن أن نستكشف وجوده مِن المعاشرة والمساكنة بحال.

ولسائل أن يسأل: إنّ حمل فعل المسلم على الصحة يوجب الأخذ بقول مدّعي الزواج؛ ترجيحاً لجهة الحلال على الحرام والخير على الشر، فنحن مأمورون أن نحمل كل عمل يجوز فيه الصحة والفساد، أن نلغي جانب الفساد، ونرتب آثار الصحة.

الجواب:

إنّ الحمل على الصحة في مسألتنا هذه لا يثبت الزواج، وإنّما يثبت أنّهما لَم يرتكبا محرَّماً بالمعاشرة والمساكنة، وعدم التحريم أعم مِن أن يكون هناك زواج أو شبهة حصلت لهما، كما لو توهما الحلال، ثمّ

٣٠٤

تبين التحريم - ويأتي التفصيل في نكاح الشبهة -. وبديهة أنّ العام لا يثبت الخاص، فإذا قلت: في الدار حيوان، لا يثبت وجود الفرس أو الغزال. وكذلك هنا، فإذا قارب رجل امرأة ولَم نعلم السبب فلا نقول هي زوجة، بل نقول لَم يرتكبا محرَّماً، وقد تكون المقاربة عن زواج، وقد تكون عن شبهة. وإليك هذا المثال زيادة في التوضيح:

لو مر بك شخص، وسمعته يتفوه بكلمة، ولَم تدرِ هل كانت كلمته هذه شتماً أم تحية؟ فليس لك أن تفسرها بالشتم، كما أنّه لا يجب عليك رد التحية - والحال هذه -؛ لأنّك لَم تتأكد مِن وجودها. أمّا لو تيقنت بأنّه تفوه بالتحية، وشككت هل كان ذلك بقصد التحية حقيقة أو بداعي السخرية؟ فيجب الرد حملاً على الصحة، وترجيحاً للخير على الشر.

وكذلك الحال فيما نحن فيه، فإن حمل المعاشرة على الصحة لا يثبت وجود العقد، ولكن لو علمنا بوجود العقد وشككنا في صحته نحمله على الصحة مِن دون توقف.

ومهما يكن، فإنّ المعاشرة وحدها ليست بشيء، ولكنّها إذا ضمت إلى سبب آخر تكون مؤيدة ومقوية، والأمر في ذلك يُناط بنظر القاضي واطمئنانه وتقديره على شريطة أن لا يتخذ المعاشرة سنداً مستقلاً لحكمه(١) .

هذا بالقياس الى ثبوت الزواج، أمّا الأولاد فإنّ الحمل على الصحة يستلزم الحكم بأنّهم شرعيون على كل حال؛ لأنّ المعاشرة إمّا عن زواج وإمّا عن شبهة، وأولاد الشبهة كأولاد الزواج في جميع الآثار الشرعية، ولذا لو ادّعت امرأة على رجل بأنّه زوجها الشرعي وأنّه أولدها، فأنكر الزوج واعترف بالولد يُقبل منه؛ إذ مِن الممكن أن يكون عن شبهة.

____________________

(١) هذا، ولكنّ كلمات الفقهاء في البلغة مسألة اليد، وفي الشرائع والجواهر باب الزواج: تدلّ على أنّ المعاشرة تكشف بظاهرها عن الزواج، ولس هذا ببعيد.

٣٠٥

وبالتالي، فإنّ هذه المسألة إنّما تتم بناءً على عدم شرط الشهادة في العقد، كما تقول الإمامية، أمّا على قول سائر المذاهب فعلى مَن يدّعي الزواج أن يُسمّي الشهود، وإذا ادّعى تعذّر حضورهما لموت أو غياب يتأتى القول المتقدم.

ولا بدّ مِن الإشارة إلى أنّ المعاشرة لا تُثبت الزواج مع الخصومة والنزاع، أمّا مع عدم الخصومة فإنّنا نرتب آثار الزواج مِن الأرث ونحوه كما عليه العمل عند جميع المذاهب.

٣٠٦

المحرِّمات

يُشترط في صحة العقد خلو المرأة مِن الموانع، أي أن تكون محلاًّ صالحاً للعقد، والموانع قسمان: نسب وسبب، الأوّل سبعة أصناف، وتقتضي التحريم المؤبد. والثاني عشرة، منها ما يوجب التحريم المؤبد، وبعضها التحريم المؤقت، وإليك التفصيل:

النسب:

اتفقوا على أنّ النساء اللاتي يحرُمن مِن النسب سبع:

١ - الأُم، وتشمل الجدات لأب كنّ أو لأُم.

٢ - البنات، وتشمل بنات الابن، وبنات البنت وإن نزلن.

٣ - الأخوات لأب أو لأم أو لكليهما.

٤ - العمّات، وتشمل عمات الآباء والأجداد.

٥ - الخالات، وتشمل خالات الآباء والأجداد.

٦ - بنات الأخ وإن نزلن.

٧ - بنات الأخت وإن نزلن.

٣٠٧

والأصل في ذلك الآية ٢٣ مِن سورة النساء:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ ) .

فهذي أصناف المحرِّمات بالنسب، أمّا أصناف المحرِّمات بالسبب فهي:

الأوّل: المصاهرة

المصاهرة: علاقة بين الرجل والمرأة تستلزم تحريم الزواج عيناً أو جمعاً، وتشمل الحالات التالية:

١ - اتفقوا على أنّ زوجة الأب تُحرم على الابن - وإن نزل - بمجرد العقد، سواء أَدخل الأب أم لَم يدخل، والأصل فيه قوله تعالى:( وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ) .

٢ - اتقوا على أنّ زوجة الابن تُحرم على الأب - وإن علا - بمجرد العقد، والأصل فيه قوله تعالى:( وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ ) .

٣ - اتفقوا على أنّ أُم الزوجة - وإن علت - تُحرم بمجرد العقد على البنت، وإن لَم يدخل؛ لقوله تعالى:( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ) .

٤ - اتفقوا على أنّ بنات الزوجة لا تُحرم على العاقد بمجرد وقوع العقد، فيجوز له إذا طلقها قَبل أن يدخل وينظر ويلمس بشهوة أن يعقد على بنتها؛ لقوله سبحانه:( وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) ، وقيد(في حجوركم) بيان للأغلب. واتفقوا على تحريم البنت إذا عقد الرجل على الأُم ودخل، واختلفوا فيما إذا عقد ولَم يدخل، ولكن نظر أو لمس بشهوة:

قال الإمامية والشافعية والحنابلة: لا تُحرم البنت إلاّ بالدخول، ولا أثر للمس ولا للنظر بشهوة أو بغيرها.

٣٠٨

وقال الحنفية والمالكية: اللمس والنظر بشهوة يوجبان التحريم تماماً كالدخول. (بداية المجتهد ج٢، والفقه على المذاهب الأربعة ج٤ باب الزواج).

واتفقوا على أنّ حكم وطء الشبهة حكم الزواج الصحيح في ثبوت النسب وحرمة المصاهرة. ومعنى وطء الشبهة: أن تحصل المقاربة بين رجل وامرأة باعتقاد أنّهما زوجان شرعيان، ثمّ يتبين أنّهما أجنبيان، وأنّ المقاربة حصلت لمحض الاشتباه، ويفرق بينهما حالاً، وتجب العدة على المرأة، ومهر المثل على الرجل. ويثبت بالشبهة النسب وحرمة المصاهرة، ولا توارث بينهما، ولا نفقة للمرأة.

الثاني: الجمع بين المحارم:

اتفقوا على تحريم الجمع بين الأختين؛ لقوله تعالى:( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ ) . واتفقت المذاهب الأربعة على عدم جواز الجمع بين امرأة وعمتها، ولا بينها وبين خالتها؛ لأنّ عندهم قاعدة كلية، وهي: لا يجوز الجمع بين إثنتين لو كانت إحداهما ذكراً لحرم عليه تزويج الأخرى، فلو فرضنا العمة ذكراً لكانت عماً، والعم لا يجوز له الزواج مِن بنت أخيه، ولو فرضنا بنت الأخ ذكراً لكان ابن أخر، ولا يجوز لابن الأخ الزواج مِن عمته، وهكذا الحال بالقياس إلى الخالة وبنت الأخت.

وقال الخوارج: يجوز الجمع بينهما، سواء أذنت العمة بالزواج مِن بنت أخيها أو لَم تأذن.

واختلف فقهاء الإمامية: فمنهم مَن قال بقول المذاهب الأربعة، والأكثرية منهم ذهبوا إلى أنّه إذا تزوج أوّلاً بنت الأخ، أو بنت الأخت فله أن يتزوج العمة أو الخالة، وإن لَم تأذن بنت الأخ أو بنت

٣٠٩

الأخت، وإذا تزوج أوّلاً العمة أو الخالة، فلا يجوز له أن يعقد على بنت الأخ أو بنت الأخت إلاّ إذا أذنت العمة أو الخالة، واستدلوا بالآية ٢٤ مِن سورة النساء:( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) ، فبَعد أن عددت المحرَّمات أباحت غيرهن، وهذه الإباحة تشمل الجمع بين العمة وبنت الأخ، والخالة وبنت الأخت، ولو كان هذا الجمع محرَّماً لنص عليه القرآن، كما نص على تحريم الجمع بين الأختين. أمّا التعليل بأنّه لو كانت إحداهما ذكراً الخ، فمجرد استحسان، وهو غير معتبر عند الإمامية، هذا إلى أنّ أبا حنيفة أجاز للرجل أن يتزوج المرأة وامرأة أبيها، مع أنّه لا يجوز له أن يتزوج ابنته ولا ربيبته، كما أنّه لا يجوز له أن يتزوج أُمه، ولا امرأة أبيه. (أنظر كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، باب النكاح).

الثالث: الزنا

وفيه مسائل:

١ - قال الشافعية والمالكية: يجوز للرجل أن يتزوج بنته مِن الزنا، وأخته، وبنت ابنه، وبنت بنته، وبنت أخيه، وبنت أخته؛ لأنّها أجنبية عنه شرعاً، ولا يجري بينهما توارث ولا نفقة. (المغني ج٦ باب الزواج).

وقال الحنفية والإمامية والحنابلة: تحرم كما تحرم البنت الشرعية؛ لأنّها متكونة مِن مائه، فهي بنته لغة وعرفاً، ونفيها شرعاً لا يوجب مِن حيث الإرث نفيها حقيقة، بل يوجب نفي الآثار الشرعية فقط، كالميراث والنفقة.

٢ - قال الإمامية: مَن زنا بامرأة، أو دخل بها شبهة، وهي

٣١٠

متزوجة، أو معتدة مِن طلاق رجعي تحرم عليه مؤبداً، أي لا يجوز له أن يعقد عليها، ولو بانت مِن الأوّل بطلاق أو موت، أمّا لو زنا بها وهي خلية أو معتدة عدة وفاة، أو مِن طلاق بأئن فلا تحرم عليه.

وعند المذاهب الأربعة: لا يوجب الزنا تحريم الزانية على الزاني بها، خلية أو غير خلية.

٣ - قال الحنفية والحنابلة: الزنا يوجب حرمة المصاهرة، فمن زنا بامرأة حرُمت عليه أُمها وبنتها، وحرُمت هي على أبي الزاني وابنه، ولَم يفرقوا بين حصول الزنا قَبل الزواج أو بَعده، فإذا زنا الرجل بأُم زوجته، أو زنا ابن الرجل بزوجة أبيه حرُمت الزوجة على زوجها مؤبداً، بل في كتاب ملتقى الأنهر للحنفية ج١ باب الزواج: (لو أيقظ زوجته ليجامعها فوصلت يده إلى ابنةٍ منها فقرصها بشهوة، وهي ممّن تُشتهى، لظنٍ أنّها اُمّها حرُمت عليه الأُم حرمة مؤبدة، ولك أن تصورها مِن جانبها بأن أيقظته هي كذلك، فقرصت ابنه مِن غيرها).

وقال الشافعية: الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة؛ لحديث (الحرام لا يحرّم الحلال). وعن مالك روايتان: إحداهما مع الشافعية، والثانية مع الحنفية.

وقال الإمامية: الزنا قَبل العقد يوجب تحريم المصاهرة، فمن زنا بامرأة فليس لأبيه ولا لابنه أن يعقد عليها. أمّا الزنا الواقع بَعد العقد فلا يوجب التحريم، فمن زنا بأُم زوجته أو بنتها تبقى الزوجية على حالها. وكذا لو زنا الأب بزوجة ابنه، أو الابن بزوجة أبيه لَم تحرم الزوجة على زوجها الشرعي.

٣١١

الرابع: عدد الزوجات

اتفقوا على أنّ للرجل أن يجمع بين أربع نساء، ولا تجوز له الخامسة، الآية( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) (١) .

وإذا خرجت إحداهن مِن عصمة الزوج بموت أو طلاق جاز له التزوّج مِن أخرى.

وقال الإمامية والشافعية: إذا طلق إحدى الأربع طلاقاً رجعياً، فلا يجوز أن يعقد على غيرها حتى تنتهي العدة، أمّا إذا كان الطلاق بائناً فيجوز له ذلك، وكذا يجوز أن يعقد على الأخت في عدة أختها المطلّقة بائناً؛ لأنّ الطلاق البائن ينهي الزواج ويقطع العصمة.

وقالت سائر المذاهب: ليس له أن يتزوج خامسة، ولا أخت المطلّقة إلاّ بَعد انقضاء العدة، مِن غير فرق بين الطلاق الرجعي والبائن.

الخامس: اللعان

إذا قذف رجل زوجته بالزنا، أو نفى مَن ولِد على فراشه، وأكذبته هي ولا بينة له، جاز له أن يلاعنها. أمّا كيفية الملاعنة: فهي أن يشهد الرجل بالله أربع مرات أنّه لمن الصادقين فيما رماها به، ثُمّ يقول في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان مِن الكاذبين، ثُمّ تشهد المرأة أربع مرات أنّه لمن الكاذبين، ثُمّ تقول في الخامسة: أن غضب الله عليها إن

____________________

(١) مِن الغرائب أن ينسب الشيخ أبو زهرة في كتاب الأحوال الشخصية ص٨٣ إلى بعض الشيعة جواز الجمع بين تسع، لأنّ معنى مثنى وثلاث وربعا: ٢ و٣ و٤، فالمجموع ٩! ولا مصدر لهذه النسبة. قال العلاّمة الحلّي في كتاب التذكرة: نُسب هذا القول لبعض الزيدية، وقد أنكروه إنكاراً باتاً، ولَم أرَ أحداً يقول به.

٣١٢

كان مِن الصادقين، فإذا امتنع هو عن الملاعنة أُقيم عليه الحد، وإذا لاعن وامتنعت هي أُقيم عليها الحد، وإذا تمت الملاعنة مِن الطرفين يسقط الحد عنهما، ويفرق بينهما، ولا يُلحق به الولد الذي نفاه عنه.

والأصل في ذلك الآية ٧ مِن سورة النور:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ ) .

واتفقوا جميعاً على وجوب التفرقة بينهما بَعد الملاعنة، واختلفوا: هل تحرم الزوجة على الزوج مؤبداً بحيث لا يجوز له العقد عليها بَعد ذلك، حتى ولو أكذب نفسه، أو تحرم مؤقتاً ويجوز له العقد بَعد أن يكذب نفسه؟

قال الشافعية والإمامية والحنابلة والمالكية: إنّها تحرم مؤبداً، ولا تحلّ له ولو أكذب نفسه.

وقال الحنفية: الملاعنة كالطلاق، فلا تحرم مؤبداً؛ لأنّ التحريم جاء مِن الملاعنة، فإن أكذب نفسه ارتفع التحريم. (المغني ج٧، وميزان الشعراني - باب الملاعنة).

السادس: عدد الطلاق

اتفقوا على أنّ الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً بينهما رجعتان حرمت عليه، ولا تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره، وذلك أن تعتد بَعد الطلاق الثالث، وعند انتهاء العدة تتزوج زواجاً شرعياً دائماً، ويدخل بها الزوج، فإذا فارقها الثاني بموت أو طلاق وانتهت عدتها جاز للأوّل أن يعقد عليها ثانية، فإذا عاد وطلقها ثلاثاً حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره،

٣١٣

وهكذا تحرم عليه بَعد كل طلاق ثالث، وتحلّ له بمحلل وإن طُلقت مئة مرة، وعلى هذا يكون الطلاق ثلاثاً مِن أسباب التحريم المؤقت لا المؤبد.

ولكن الإمامية قالوا: لو طُلقت المرأة تسعاً طلاق العدة تحرم مؤبداً، ومعنى طلاق العدة عندهم: أن يطلقها، ثُمّ يراجعها ويطأها، ثُمّ يطلقها في طهر آخر، ثُمّ يراجعها ويواقعها، ثُمّ يطلقها في طهر آخر، وحينئذ لا تحلّ له لاّ بمحلل، فإذا عقد عليها ثانية بَعد مفارقة المحلل، وطلقها ثلاثاً طلاق العدة حلّت له بمحلل، ثُمّ عقد عليها، ثُمّ طلقها طلاق العدة، وأكملت الطلقات حرمت عليه مؤبداً. أمّا إذا لَم يكن الطلاق طلاق العدة، كما لو أرجعها ثُمّ طلقها قَبل الوطء، أو تزوجها بعقد بَعد انتهاء العدة فلا تحرم عليه، ولو طُلقت مئة مرة.

السابع: اختلاف الدين

اتفقوا على أنّه لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة التزويج ممّن لا كتاب سماوي لهم، ولا شبهة كتاب، وهم: عبدة الأوثان والنيران والشمس وسائر الكواكب وما يستحسنونه مِن الصور، وكل زنديق لا يؤمن بالله.

واتفق الأربعة على أنّ مَن لهم شبهة كتاب كالمجوس، لا يحلّ التزويج منهم، ومعنى شبهة كتاب: هو ما قيل بأنّه كان للمجوس كتاب فتبدلوه، فأصبحوا وقد رفع عنهم.

واتفق الأربعة أيضاً على أنّ للمسلم أن يتزوج الكتابية، وهي النصرانية واليهودية، ولا يجوز للمسلمة أن تتزوج كتابياً.

أمّا فقهاء الإمامية فقد اتفقوا على تحريم زواج المسلمة مِن كتابي، كما قالت المذاهب الأربعة، واختلفوا في زواج المسلم مِن كتابية، فبعضهم قال: لا يجوز دواماً وانقطاعاً؛ واستدلوا بقوله تعالى:( وَلاَ تُمْسِكُوا

٣١٤

بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) ، وقوله:( وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) ، إذ فسروا الشرك بالكفر وعدم الإسلام. وأهل الكتاب باصطلاح القرآن غير المشركين؛ بدليل قوله تعالى: ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ ) (البينة - ١). وقال آخرون: يجوز دواماً وانقطاعاً؛ واستدلوا بقوله تعالى:( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (المائدة - ٥)، وهو ظاهر في حل نساء أهل الكتاب. وقال ثالث: تجوز انقطاعاً ولا يجوز دواماً، جمعاً بين الأدلة المانعة والمبيحة، فإنّ ما دل على المنع يُحمل على الزواج الدائم، وما دل على الإباحة يُحمل على المنقطع.

ومهما يكن، فإنّ الكثيرين مِن فقهاء الإمامية في هذا العصر يجيزون تزويج الكتابية دواماً، والمحاكم الشرعية الجعفرية في لبنان تزوج المسلم مِن الكتابية، وتسجل الزواج وترتب عليه جميع الآثار.

واتفقوا ما عدا المالكية على أنّ أنكحة غير المسلمين كلها صحيحة إذا وقعت على ما يعتقدون في دينهم، ونحن المسلمين نرتب عليها جميع آثار الصحة مِن غير فرق بين أهل الكتاب وغيرهم حتى الذين يجيزون نكاح المحارم.

وقال المالكية لا تصحّ أنكحة غير المسلمين؛ لأنّها لو وقعت مِن مسلم لكانت فاسدة، فكذلك إذا وقعت منهم. وليس بجيد؛ لأنّ هذا ينفر غير المسلمين مِن الإسلام، ويوجب الفوضى واختلال النظام، وقد ثبت في الحديث عند الإمامية: (مَن دان بدين قوم لزمته أحكامهم)، (وألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)(١) .

تحاكم اهل الكتاب عند قاض مسلم:

في كتاب الجواهر للإمامية - باب الجهاد - بحثٌ مفيد يتناسب مع هذا المقام نلخصه فيما يلي:

____________________

(١) كتاب الجواهر باب الطلاق.

٣١٥

لو تحاكم غير المسلمين عند قاضٍ مسلم: فهل يحكم بأحكام دينهم، أو بحكم الإسلام؟

الجواب: على القاضي أن ينظر، فإن كان المتخاصمان ذميين كان مخيراً بين أن يحكم بحكم الإسلام، وبين الإعراض عنهما وعدم سماع الدعوى بالمرة؛ للآية ٤٢ مِن سورة المائدة:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) .

وسئل الإمام جعفر الصادق عن رجلين مِن أهل الكتاب بينهما خصومة ترافعا إلى حاكم منهم، ولما قضى بينهما أبى الذي قضى عليه، وطلب أن يحاكم عند المسلمين، فقال الإمام: (يحكم بينهما بحكم الإسلام).

وإذا كانا حربيين فلا يجب على القاضي أن يحكم بينهما، إذ لا يجب دفع بعضهم عن بعض، كما هي الحال في أهل الذمة.

وإذا كانا ذمياً ومسلماً، أو حربياً ومسلماً، وجب على القاضي قبول الدعوى، وأن يحكم بينهما بما أنزل الله؛ لقوله تعالى في الآية ٤٩ مِن سورة المائدة:( وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) .

ولو استعدت زوجة الذمي على زوجها حُكم عليه بحكم الإسلام.

وبالتالي، فقد تبيّن ممّا تقدم أنّ علينا نحن المسلمين أن نبني على صحة المعاملات التي تجريها الطوائف غير الإسلامية إذا كانت على طبق دينهم ما داموا لَم يتقاضوا إلينا، أمّا إذا تحاكموا عندنا فيجب أن نحكم عليها بحكم الإسلام في جميع الحالات، كما تقتضيه عموم الآيات والأحاديث الدالة على وجوب الحكم بالحق والعدل.

٣١٦

الثامن: الرضاع

اتفقوا جميعاً على صحة الحديث: (يحرم مِن الرضاع ما يحرم مِن النسب)؛ وعليه، فكل امرأة حرمت مِن النسب تحرم مثلها مِن الرضاع، فأيّ امرأة تصير بسبب الرضاع: أُماً أو بنتاً أو أختاً أو عمة أو خالة أو بنت أخ أو بنت أخت يحرم الزواج منها بالاتفاق. واختلفوا في عدد الرضعات التي توجب التحريم، وفي شروط المرضعة والرضيع.

١ - قال الإمامية: يُشترط أن يحصل لبن المرأة مِن وطء شرعي، فلو درّت مِن دون زواج، أو بسبب الحمل مِن الزنا لَم تنشر الحرمة. ولا يُشترط بقاء المرضعة في عصمة صاحب اللبن، فلو طلقها أو مات عنها، وهي حامل منه أو مرضع، ثُمّ أرضعت ولداً تنشر الحرمة، حتى ولو تزوجت ودخل بها الثاني.

وقال الحنفية والشافعية والمالكية: لا فرق بين أن تكون المرأة بكراً أو ثيّباً، ولا بين أن تكون متزوجة أو غير متزوجة متى كان لها لبن يشربه الرضيع.

وقال الحنابلة: لا تترتب أحكام الرضاع شرعاً إلاّ إذا درّت بسبب الحمل، ولَم يشترطوا أن يكون الحمل عن وطء شرعي. (الأحوال الشخصية لمحمد محي الدين عبد الحميد).

٢ - قال الإمامية: يُشترط أن يمتص الرضيع اللبن مِن الثدي، فلو وجر في حلقه، أو شربه بأي طريق غير الامتصاص مباشرة لَم تتحقق الحرمة.

وقال الأربعة: يكفي وصول اللبن إلى جوف الطفل كيف اتفق. (بداية المجتهد، وحاشية الباجوري باب الرضاع). بل جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة أنّ الحنابلة يكتفون بوصول اللبن إلى جوف الطفل مِن أنفه لا مِن فمه.

٣١٧

٣ - قال الإمامية: لا تتحق الحرمة ألاّ إذا رضع الطفل مِن المرأة يوماً وليلة، على أن يكون غذاؤه في هذه المدة منحصراً بلبن المرأة فقط لا يتخلله طعام، أو خمس عشرة رضعة كاملة، لا يفصل بينها رضعة امرأة أخرى، وفي المسالك: لا بأس بالطعام؛ وعللوا ذلك بأنّ في هذه الكمية مِن اللبن ينبت اللحم ويشتد العظم.

وقال الشافعية والحنابلة لا بدّ مِن خمس رضعات على الأقل.

وقال الحنفية والمالكية: يثبت التحريم بمجرد حصول الرضاع كثيراً كان أو قليلاً، ولو قطرة. (الفقه على المذاهب الأربعة).

٤ - قال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا يُشترط أن تكون المرضعة على قيد الحياة، فإذا ماتت، ودب إليها الطفل وارتضع مِن ثديها يكفي في التحريم، بل قال المالكية: إذا شك: هل الذي رضعه الطفل هو لبن أو غيره؟ فإنّه ينشر الحرمة. (الفقه على المذاهب الأربعة).

وقال الإمامية والشافعية: حياة المرضعة شرط لازم حين الرضاع، فلو ماتت قَبل إكمال الرضعات لَم تتحقق الحرمة.

واتفقوا على أنّ صاحب اللبن، وهو زوج المرضعة يصير أباً للرضيع، ويحرم بينهما ما يحرم بين الآباء والأبناء، فأُم صاحب اللبن جدة للرضيع، وأخته عمة له، كما تصبح المرضعة أُماً له، وأُمها جدة، وأُختها خالة.

التاسع: العدة

اتفقوا على أنّ المعتدة لا يجوز العقد عليها، كالمتزوجة تماماً، سواء أكانت معتدة مِن وفاة، أو طلاق رجعي أو بائن؛ لقوله تعالى:( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ) ، وقوله:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ

٣١٨

مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَـشْراً ) . والتربص معناه: الصبر والانتظار.

واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها: هل تحرم عليه؟ قال المالكية: إذا دخل تحرم مؤبداً، ولا تحرم مع عدم الدخول.

وقال الحنفية والشافعية: يفرق بينهما، فإذا انقضت العدة فلا مانع مِن تزويجه بها ثانية. (بداية المجتهد).

وفي الجزء السابع مِن كتاب المغني للحنابلة باب العدد: (إذا تزوج معتدة، وهما عالمان بالعدة وتحريم النكاح، ووطأها فهما زانيان، عليهما حد الزنا). وفي الجزء السادس مِن الكتاب المذكور باب الزواج: (إذا زنت المرأة لَم يحلّ نكاحها لمن يعلم ذلك ألاّ بشرطين: انقضاء العدة، والتوبة مِن الزنا وإذا وجِد الشرطان حل نكاحها للزاني وغيره)؛ وعليه فالزواج في العدة لا يوجب التحريم المؤبد عند الحنابلة.

وقال الإمامية: لا يجوز العقد على المعتدة الرجعية والبائنة، وإذا عقد عليها مع العلم بالعدة والحرمة بطل النكاح، وحرمت مؤبداً، سواء أدخل أم لّم يدخل، ومع الجهل بالعدة والتحريم لا تحرم مؤبداً إلاّ إذا دخل، وإذا لَم يدخل يبطل العقد فقط، وله استئناف العقد بَعد العدة التي كانت فيها. (المسالك ج٢ باب الطلاق).

العاشر: الإحرام

قال الإمامية والشافعية والمالكية والحنابلة: المحرِم للحج أو للعمرة لا يتزوج ولا يزوّج، رجلاً كان أو امرأة، وكيلاً أو ولياً، وإن حصل الزواج كان باطلاً؛ لحديث: (لا يَنكح المحرِم، ولا يُنكح، ولا يخطب).

وقال الحنفية: الإحرام لا يمنع مِن الزواج.

وقال الإمامية: إذا حصل العقد حال الإحرام: فإن كان مع الجهل

٣١٩

بالتحريم حرمت المرأة مؤقتاً، فإذا أحلاّ، أو أحلّ الرجل إن لَم تكن المرأة محرِمة جاز له العقد عليها، وإن كان مع العلم بالتحريم فُرّق بينهما وحرمت مؤبداً.

وقالت سائر المذاهب: تحرم مؤقتاً لا مؤبداً. (تذكرة العلاّمة الحلّي للإمامية ج١ باب الحج، وبداية المجتهد باب الزواج).

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650