الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة6%

الفقه على المذاهب الخمسة مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 650

الفقه على المذاهب الخمسة
  • البداية
  • السابق
  • 650 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248463 / تحميل: 32999
الحجم الحجم الحجم
الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

أموال المفقود

المفقود: هو الذي غاب وانقطعت أخباره، ولم يُعلَم موته ولا حياته. وقد تكلمنا في كتاب (الزواج والطلاق) عن حكم زوجته، وطلاقها بعد أربعة أعوام، ونتكلم هنا عن تقسيم أمواله، وعن حقه في الإرث إذا مات قريب له حال غيبته. وبديهة أنّ تطليق الزوجة بعد أربع سنوات لا يستدعي تقسيم التركة بعدها، ولا عدم تقسيمها، بل تُطلّق الزوجة ولا تُقسّم التركة، إذ لا ملازمة بين الطلاق والموت.

وقد اتفقوا على أنّه يجب التربص في تقسيم أمواله، حتى تمضي مدة لا يعيش في مثلها(١) ، ويرجع ذلك إلى نظر القاضي واجتهاده، وتختلف هذه المدة باختلاف الزمان والمكان، ومتى حكم القاضي بموته ورثه الأولى بميراثه عند الحكم، لا مَن مات من أقاربه قبل ذلك.

____________________

(١) نقل صاحب المسالك والجواهر أنّه قد اشتُهر بين فقهاء الإمامية أنّ أمواله لا تُقسّم إلاّ بعد التحقق من موته بالتواتر وبالبينة أو بالخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم، أو بانقضاء مدة لا يعيشها أمثاله في الغالب.

٥٦١

وإذا مات قريب لهذا المفقود حال الغيبة المنقطعة وجب أن يُعزل نصيبه مستقلاً، ويكون كسائر أمواله، حتى يتبين الأمر أو يحكم القاضي بموته بعد مدة الانتظار.

٥٦٢

ميراث الحرقى والغرقى والمهدوم عليهم

ذكر فقهاء السنّة والشيعة مسألة ميراث الغرقى والحرقى والمهدوم عليهم وأمثالهم، واختلفوا في توريث بعضهم من بعض إذا اشتبه الحال، لم يُعلَم تقدم موت أحدهما على موت الأخر.

فذهب الأئمة الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي وابن حنبل إلى أنّ بعضهم لا يرث بعضاً، بل تنتقل تركة كل واحد لباقي ورثته الأحياء، ولا يشاركهم فيها ورثة الميت الأخر، سواء أكان سبب الموت والاشتباه الغرق أم الهدم أم القتل أم الحريق أم الطاعون(١) .

أما الشيعة الإمامية فكان لاجتهادهم أثر بليغ في هذه المسألة، فقد شرحها فقهاء العصر الأخير منهم شرحاً وافياً، وفرّعوا عنها صوراً لم تخطر في ذهن أحد من رجال التشريع قديماً وحديثاً، فقبل أن يتكلموا عن ميراث الغرقى والمهدوم عليهم بالخصوص تكلموا عنهم وعن أمثالهم

٥٦٣

بوجه يشمل كل حادثين عُلِم بوجودهما، ولم يُعلَم المتقدم من المتأخر، وكان تأثير أحدهما في حالة السبق والتقدم غير تأثيره في حالة التأخير والتخلف عن الأخر. إنّ المجتهدين من فقهاء الشيعة المتأخرين يرون مسألة ميراث الغرقى وغيرهم مسألة جزئية لكلّية كبرى، وفرداً من أفراد قاعدة عامة لا تختص بمسألة دون مسألة وباب دون باب من أبواب الفقه، بل تشمل كل حادثين حصلا، واشتُبه المتقدم من المتأخر، سواء أكان الحادثان أو أحدهما من نوع العقود، أم من الإرث، أم من الجنايات، أم غير ذلك، فيدخل في القاعدة ما لو حصل عقدا بيع، أحدهما أجراه المالك الأصيل بنفسه مع عمر على شيء خاص من ممتلكاته، والثاني أجراه وكيله في بيع ذلك الشيء مع زيد، ولم يُعلَم أي العقدين متقدم ليحكم بصحته وأيّهما متأخر ليحكم بفساده؟ وهكذا كل حادثين يرتبط تأثير أحدهما بتقدم الأخر عليه مع فرض أنّه ليس في البين دلائل تدلّ على وقوع الحادثين في لحظة واحدة، أو سبق أحدهما على الأخر. فليست مسألة الغرقى وغيرهم مسألة مستقلة بذاتها، وإنّها هي من جزئيات قاعدة عامة، لذلك نرى المجتهدين من فقهاء الشيعة الإمامية صرفوا الكلام قبل كل شيء إلى القاعدة نفسها، وبيان حكمها، وبعد هذا تكلموا عن ميراث الغرقى وغيرهم، وأنّ حكمهم هل هو حكم القاعدة العامة، أو أنّ هناك ما يوجب استثناء حكم الغرقى عن القاعدة؟ ولا ريب أن تحرير البحث على هذا النحو أجدى نفعاً، وأكثر فائدة.

وحيث إنّ معرفة هذه القاعدة تتوقف على معرفة أصلين آخرين يتصلان اتصالاً وثيقاً بها، لذلك نختصر الكلام عنهما بمقدار ما تدعو الضرورة لمعرفة القاعدة المقصودة بالذات، على أنّهما لا يقلاّن عنها نفعاً. والأصلان هما: أصل عدم وقوع الحادث الذي شُك في وقوعه، وأصل تأخر الحادث الذي عُلِم وقوعه.

٥٦٤

أصل عدم وقوع الحادث:

لنا قريب في المهجر، كنا نراسله ويراسلنا، ثمّ قطع عنّا الرسائل، وقطعناها نحن عنه، وبعد أمد طويل يخطر لنا أن نرسل إليه كتاباً، فنكتب له على عنوانه الأوّل، مع أنّه لم يخالجنا الشك بأنّه مات أو انتقل من مكانه. فما هو السر الذي دعانا إلى عدم الاهتمام بما طرأ على ذهننا من الشك واحتمال الموت، وتغيّر العنوان؟ وأيضاً نعتقد بأمانة إنسان وصدقه، فنجعله محل ثقتنا، ونأتمنه على أثمن الأشياء، ثمّ يصدر منه عمل فنظنّ أنّه تغيّر وتبدّل، ومع ذلك نمضي معه كما كنا أوّلاً، وهكذا في جميع المراسلات والمعاملات والمواصلات.

والسر في ذلك أنّ الإنسان مسوق بفطرته على الأخذ بالحال السابقة إلى أن يثبت العكس، فإذا علم بحياة زيد، ثمّ حصل الشك بحدوث موته، فالأصل الذي تقره الفطرة هو البقاء على نية الحياة إلى أن يثبت الموت بأحد طرق الإثبات، وهذا معنى أصل عدم وقوع الحادث الذي لم يثبت وقوعه، وإليه يهدف قول الإمام الصادق:(مَن كان علي يقين ثمّ شك فلا ينقض اليقين بالشك، إنّ اليقين لا ينقصه إلاّ اليقين، لا تدخل الشك على اليقين، ولا تخلط أحدهما بالأخر، ولا تعتد بالشك مع اليقين في حال من الأحوال) .

فإذا علمنا أنّ فلاناً مدِين بمال، ثمّ ادعى الوفاء، فالأصل بقاء الدين إلى أن يثبت الوفاء، أي كما علمنا بالدين يجب أن نعلم بالوفاء؛ لأنّ العلم لا يزيله إلاّ العلم، والشك الطارئ بعد العلم لا أثر له، فمن ادّعى شيئاً يضاد الحال السابقة فهو مدّعٍ، عليه أن يقيم البينة على مدّعاه، ومَن كان قوله وفق الحال السابقة فهو منكر لا تتجه عليه سوى اليمين.

فتحصل من هذا البيان أنّ معنى أصل عدم الحادث في حقيقته هو الأخذ بالحال السابقة إلى أن يثبت العكس.

٥٦٥

أصل تأخر الحادث الواحد:

لو علم القاضي أنّ خليلاً كان حياً في يوم الأربعاء، وأنّه في يوم الجمعة كان في عداد الأموات، ولم يعلم هل حدث موته في يوم الخميس أو في يوم الجمعة، وليس لديه أيّة دلالة تعيّن زمن الموت بالخصوص، فبماذا يحكم؟ أيحكم بأنّ خليلاً مات يوم الجمعة أو يوم الخميس؟

إنّ في فرضنا هذا ثلاثة أزمنة: زمن العلم بالحياة وهو يوم الأربعاء، وزمن العلم بالموت وهو يوم الجمعة، والزمن المتخلل بينهما وهو يوم الخميس، الذي لم يعلم بالحياة فيه ولا بالموت. والأصل يوجب إلحاق هذا الزمن المتخلل بالزمان الذي قبله لا بالذي بعده، أي نلحق زمن الجهل بالحياة بالحالة السابقة، وهي العلم بالحياة، فنبقى على علمنا بالحياة إلى زمن العلم بالموت، وتكون النتيجة أنّ الموت تأخر زمن حدوثه إلى يوم الجمعة. وهكذا كل شيء عُلِم بحدوثه، وحصل الشك في تقدمه وتأخره إذا كان الحادث واحداً غير متعدد.

العلم بوقوع حادثين مع الجهل بالمتقدم منهما:

بعد أن مهدّنا بذكر الأصلين - عدم وقوع الحادث وتأخر وقوع الحادث الواحد - نشرع ببيان حكم القاعدة العامة المقصودة بالذات من هذا البحث، وهي العلم بوقوع حادثين يرتبط تأثير أحدهما بتقدمه على الأخر مع الجهل بالمتقدم منهما، كوقوع عقدين أجرى أحدهما الأصيل، والأخر أجراه الوكيل، وكحصول الولادة والهبة، كما قلنا فيما تقدّم، وكموت متوارثين لا يُعرف أيّهما توفي قبل صاحبه.

ويختلف حكم هذه القاعدة باختلاف علم القاضي بزمن وقوع كل

٥٦٦

واحد من الحادثين، أو عدم علمه بزمان حدوثهما، أو علمه بزمن حدوث أحدهما خاصة، فالحالات ثلاث:

١ - أن يعلم القاضي من أقوال المتداعيين أو من الوقائع تاريخ كل واحد من الحادثين، فيحكم والحال هذه بموجب علمه.

٢ - أن يجهل القاضي تقدّم أحد الحادثين على الأخر، ولكن يحصل له العلم بتاريخ حدوث أحدهما دون الأخر، كما لو علم بأنّ بيع الفرس حصل في اليوم الثاني من شهر حزيران، ولا يدري هل وقع العيب في اليوم الأوّل منه كي يجوز الرجوع أو اليوم الثالث كي لا يجوز؟ والعمل في هذه الحال هو الحكم بتقدم معلوم التاريخ، وتأخر المجهول؛ لأنّ أصل تأخر الحادث الذي تقدّم ذكره لا يجري في معلوم التاريخ، فإنّ العلم يمنع من الأخذ بالأصل. أمّا الحادث الذي جهلنا زمن حدوثه فيجري فيه أصل تأخر الحادث؛ لأنّ هذا الأصل يعتمد عليه في مقام الجهل.

والخلاصة: إنّه إذا وقع حادثان أحدهما معلوم التاريخ والأخر مجهول التاريخ يحكم بقول مطلق بتقدم المعلوم وتأخر المجهول، سواء أكان الحادثان من نوع واحد كموت شخصين، أو وقوع عقدين، أو كان الحادثان متغايرين.

٣ - أن لا يعلم القاضي زمن حدوثهما، ولا زمن حدوث أحدهما خاصة - أي يكونا مجهولين التاريخ -، وحينئذ لا أصل يعيّن تقديم أحدهما وتأخير الأخر؛ لأنّ أصل تأخير أحدهما عن الثاني ليس بأولى من أصل تأخير الثاني عن صاحبه - بعد أن كان كل منهما مجهول التاريخ -، فأصل تأخر الحادث إنّما يؤخذ به إذا كان الحادث واحداً أو كان متعدداً، ولكن أحدهما معلوم التاريخ لا يجري فيه الأصل، والأخر مجهول يجري فيه الأصل، أمّا إذا كانا مجهولين ولا ميزة لأحدهما على الأخر فيسقط

٥٦٧

الاعتماد على الأصل بكل منهما لمكان المعارضة(١) .

الغرقى والمهدوم عليهم:

قد يكون بين اثنين قرابة قريبة، ولكن ليس لأحدهما أهلية الإرث من قريبه كأخوين لهما أولاد، وهذه الحال خارجة عمّا نحن فيه وينتقل ميراث كل واحد لأولاده، سواء أمات هو وأخوه في لحظة واحدة أو تقدّم الموت أو تأخر، ويتفق هذا مع ما جاء في كتب الفقه لجميع المذاهب الإسلامية، وما نُقل عن القانون الفرنسي.

وقد تكون أهلية الإرث ثابتة لأحد الطرفين دون الطرف الثاني كأخوين لأحدهما خاصة أولاد، وليس للآخر أولاد، وهذه الحال خارجة أيضاً عن الموضوع؛ لأنّ أبا الأولاد ينتقل ميراثه لأولاده، والذي ليس له أولاد تختص تركته بسائر أقاربه الوارثين غير أخيه الذي مات معه غرقاً أو حرقاً أو غير ذلك؛ لأنّ الشرط في الإرث أن تعلم حياة الوارث عند موت الموروث، والمفروض عدم العلم بحياة أبي الأولاد عند موت مَن لا ولد له(٢) .

وقد تكون الموارثة ثابتة لكلا الطرفين، كإبن وأب وكأخوين ليس لهما أب وأم، وليس لهما أو لأحدهما أولاد كزوجين وارث كل منهما غير وارث الآخر، وهذه الحال تدخل في صميم الموضوع، ويشترط

____________________

(١) تجد هذا التفصيل في كتب أصول الفقه للشيعة الإمامية (باب تنبيهات الاستصحاب)، ومن تلك الكتب الكتاب المعروف بالرسائل للشيخ الأنصاري، وكتاب تقريرات النائيني للسيد الخوئي، وكتاب حاشية الرسائل للشيخ الأشتياني.

(٢) كتاب مفتاح الكرامة، وكتاب المسالك، وكتاب اللمعة.

٥٦٨

الشيعة الإمامية لتوريث بعضهم من بعض أمرين:

١ - أن يكون موت كل منهما مستنداً إلى سبب واحد، وذلك السبب يجب أن يكون الهدم أو الغرق خاصة، بأن يكونا في بناية فتنهار عليهما أو سفينة فتغرق بهما، ولو هلك أحدهما بسبب الغرق والآخر بسبب الحريق أو الانهيار، أو هلكا معاً بسبب الطاعون أو في المعركة فلا توارث، والمنقول عن القانون الفرنسي أنّه يُشترط للتوارث اتحاد سبب الموت، ولكنّه لا يُحصر السبب بالغرق والهدم فحسب - كما تقول الشيعة - بل يتحقق التوارث أيضاً إذا كان الهلاك بالحريق.

٢ - أن يكون زمن كل واحد من الهالكين مجهولاً، فلو عُرِف زمن موت أحدهما وجُهِل زمن موت الآخر يرث المجهول دون المعلوم.

وإليك المثال: انهارت بناية على رجل وزوجته أو غرقت بهما سفينة، وحين الإسعاف عُثِر على الزوج وهو يلفظ النفس الأخير وكانت الساعة قد بلغت الخامسة، وبعد ساعتين عثر رجال الإسعاف على الزوجة وهي جثة هامدة، ولم يعلموا هم ولا نحن هل فارقت الحياة قبل الزوج أو بعده أو معه؟ فزمن موت الزوج معلوم وزمن موت الزوجة مجهول، وأصل تأخر الحادث الذي أشرنا إليه يستدعي أن ترث الزوجة التي جُهِل تاريخ وفاتها من الزوج الذي عُلِم تاريخ وفاته، ولا يرث هو منها شيئاً. وإذا انعكس الأمر فعُلِم زمن موت الزوجة، وجُهِل زمن موت الزوج ورث الزوج دون الزوجة. وبتعبير ثانٍ: إنّه إذا عُلِم تاريخ إحدى الوفاتين فمجهول التاريخ يرث من المعلوم، ومعلوم التاريخ لا يرث من المجهول.

وحيث إنّ الإرث يختص بالمجهول فحسب، وغير ثابت للطرفين فلا يُفرّق في هذه الحال بين أسباب الموت، فالحكم واحد سواء أكان سبب الموت الغرق أو الحريق أو الانهيار، أو الوباء العام أو القتل في المعركة.

أمّا إذا جُهِل التاريخان كما لو عُثِر على جثة الزوج والزوجة وهما

٥٦٩

هامدتان ولم يُعلَم زمن موت أحدهما تتحقق الموارثة بين الطرفين - أي يرث كل واحد من صاحبه -. وهذا التفصيل بين حال العلم بتاريخ أحد الهالكين من جهة والجهل بالتاريخين من جهة ثانية لم يُنقل عن قانون أجنبي، ولم أجده في كتب فقهاء السنّة المتقدمين والمتأخرين، ولا في كلمات الشيعة السالفين، وإنّما ذكره مجتهدو الشيعة المتأخرون في كتب أصول الفقه.

والخلاصة: إنّ الشيعة الإمامية يحصرون التوارث فيما إذا كان سبب الموت الغرق أو الهدم خاصة، ولم يُعلَم زمن موت واحد من الهالكين، وعلى هذا إذا ماتا حتف الأنف أو بسبب الحريق أو القتل في المعركة أو الطاعون وما إلى ذلك فلا توارث، بل ينتقل مال كل واحد إلى ورثته الأحياء، ولا يرث أحد الهالكين من صاحبه شيئاً، وإذا عُلِم تاريخ موت أحدهما دون الآخر يرث المجهول من المعلوم، ولا يرث المعلوم من المجهول.

كيفية التوارث:

كيفية التوارث أن يُفرَض أنّ الزوج مات قبل الزوجة، ويخرج من تركته نصيبها، وتقتسم ورثتها أموالها التي كانت لها في قيد الحياة ونصيبها المتصل إليها بالإرث من زوجها، ثمُ يُفرَض أنّ الزوج مات بعد الزوجة، ويخرج من تركتها نصيب الزوج، ويقتسم ورثته أمواله التي كانت له وهو حي ونصيبه المتصل إليه بالإرث من زوجته، ولا يرث أحدهما من الأموال التي ورثها منه صاحبه، فإذا كانت الزوجة تملك مئة ليرة والزوج يملك ألفاً فترث الزوجة من الألف فحسب، والزوج من المئة فقط؛ لأنّه لو ورث أحدهما من الأموال التي ورثها صاحبه منه لأدّى ذلك إلى أنّ الإنسان بعد موته يرث من مال نفسه! ومن المحال أن يرث

٥٧٠

الإنسان شيئاً ورثه هو لغيره.

والخلاصة: إذا مات اثنان بسبب الغرق أو الهدم، وكان بينهما توارث واشتُبه المتقدم من المتأخر، ولم يُعلَم تاريخ وفاة أحدهما يرث بعضهم من بعض من تلاد المال دون طارفه(١) عند الإمامية فقط.

____________________

(١) تلاد المال: هو ما كان للميت حال حياته. وطارفه: هو ما ورثه من ميت معه.

٥٧١

نماذج للتوضيح

إذا استقرأت ما قدّمنا رأيت أنّ المذاهب الأربعة تحرم من الميراث الأنثى ومَن يتقرب بها في كثير من الحالات، فأولاد البنت والعمات والعم لأُم والجد لها، والأخوال والخالات ليسوا بشيء إذا وجِد واحد من العصبات الذين يتقربون إلى الميت بواسطة الأب. وبنت الأخ لأبوين أو لأب لا ترث مع أخيها من أُمها وأبيها، وكذلك بنت العم لا ترث مع أخيها من أُمها وأبيها. ولولا نص القرآن الكريم على ميراث البنت والأخت والأخوات لأب، والإخوة والأخوات لأُم بالذات لكان شأنهن شأن غيرهن من الإناث ومن يتقرب بهنّ.

وهذه عادة جاهلية، حيث كان الميراث عند أهلها قائماً على أساس التعصب والانتصار للرجل، ولذا حصروا الإرث بالولد الأكبر الذي يحمل السلاح ويقاتل، فإن لم يكن من الأولاد مَن يحمل السلاح أعطوا الإرث لعصبة الأب. وقد لاحظتُ وأنا أُراجع أحكام الإرث عند السنّة، أنّ الأنثى إنّما ترث إذا كان لها فرض منصوص عليه في كتاب الله، أو اقتضى القياس أن تكون مساوية لصاحبة الفرض، كإلحاق بنت الابن بالبنت للصُلب، وحرمان الإناث فيما عدا ذلك. أمّا الإمامية

٥٧٢

فقد ساووا في استحقاق الميراث بين الذكور والإناث، ويتضح ذلك من الأمثلة التالية:

ترك بنتاً وأخاً لأبوين أو لأب

قال الأربعة: المال كله للعم، ولا شيء للجد.

وقال الإمامية: المال كله للجد، ولا شيء للعم.

٥٧٣

ترك ابن أخ لأبوين أو لأب، وخمسة أبناء أخ آخر لأبوين أو لأب

قال الأربعة: يُقسّم المال على عدد رؤوسهم لا على عدد آبائهم، وتكون الفريضة من ستة لكل واحد سهم.

وقال الإمامية: يُقسّم المال على عدد آبائهم، لا على عدد رؤوسهم، ويأخذ كل نصيب مَن يتقرب به، فلابن الأخ الواحد خمسة من عشرة، وللخمسة الآخرين خمسة أسهم، لكل واحد سهم من عشرة.

ترك ابن أخ وبنت أخ لأبوين أو لأب

قال الأربعة: يرث الذكر دون الأنثى مع أنّها أخته لأُمه وأبيه.

وقال الإمامية: يرثان معاً للذكر مثل الأُنثيين.

نكتفي بهذا القدر من الأمثلة، وهي كافية وافية لتقديم صورة كاملة عن أنّ الميراث عند الإمامية يختلف اختلافاً جوهرياً عنه عند مذاهب السنّة.

٥٧٤

٥٧٥

الوَقْف

٥٧٦

٥٧٧

تعريفه:

الوقف يجمع على وقوف وأوقاف، والفعل منه وقف، أمّا أوقف فشاذ، كما في تذكرة العلاّمة الحلّي. ومعناه لغة: الحبس والمنع، تقول: وقفتُ عن السير، أي امتنعت عنه.

وفي الشرع: نوع من العطية يقضي بتحبيس الأصل، وإطلاق المنفعة. ومعنى تحبيس الأصل: المنع عن الإرث، والتصرف في العين الموقوفة بالبيع أو الهبة أو الرهن أو الإجارة أو الإعارة، وما إلى ذاك. أمّا تسبيل المنفعة: فهو صرفها على الجهة التي عينها الواقف من دون عوض.

ويرى بعض الفقهاء أنّ الوقف غير مشروع في الشريعة الإسلامية، وأنّه منافٍ لمبادئها إلاّ فيما كان مسجداً، وهو قول متروك عند المذاهب.

التأبيد والاستمرار:

اتفقوا ما عدا المالكية على أنّ الوقف لا يتحقق إلاّ إذا أراد به الواقف التأبيد والاستمرار، ولذا يُعبّر عنه بالصدقة الجارية، فلو حدده بأمد معيّن، كا لو قال: هذا وقف إلى عشر سنوات، أو قال: على أن استرجعه متى شئتُ، أو عند حاجتي، أو حاجة أولادي، أو ما

٥٧٨

إلى ذاك - لو كان هكذا - لا يكون وقفاً بمعناه الصحيح.

وذهب كثير من فقهاء الإمامية إلى أنّه يبطل وقفاً ويصحّ حبساً(١) إذا قصد صاحب العين الحبس، أمّا إذا قصد الوقف بطل وقفاً وحبساً. ومعنى صحته حبساً: إنّ الجهة التي خصصها صاحب العين للاستثمار تنتفع بالعين طوال المدة المضروبة، وبعدها ترجع إلى المالك، كما كانت الحال من قبل.

ومهما يكن، فإنّ هذا لا يتنافى مع اعتبار التأبيد والاستمرار في الوقف، وقد التبس الأمر على الشيخ أبي زهرة، وصعب عليه التمييز بين الوقف والحبس عند الإمامية، لذا نسب إليهم القول بأنّ الوقف يجوز عندهم أن يكون مؤبداً وأن يكون مؤقتاً. وهذا خطأ، بل الوقف عندهم لا يكون إلاّ مؤبداً.

وقال المالكية: لا يُشترط في صحة الوقف التأبيد، بل يصحّ ويلزم مدة تعيينه سنة مثلاً، ويكون بعدها ملكاً لصاحبه.

وكذا إذا اشترط أن يبيع الواقف العين الموقوفة هو أو الموقوف عليه، صح ويتبع الشرط. (الجزء السابع شرح الزرقاني باب الوقف)(٢) .

وإذا وقف على جهة تنقرض ولا تدوم - كما لو قال: هذا وقف على أولادي الموجودين، أو على غيرهم من الذين ينقرضون في الغالب - فهل يصحّ الوقف، أو يبطل؟ وعلى افتراض الصحة فلمن يكون الوقف بعد الجهة المنقرضة؟

____________________

(١) الفرق بين الوقف والحبس: إنّ بالوقف يزول الملك عن الواقف كلية، ولذا يمتنع إرث العين وغيره من التصرفات، أمّا الحبس فالعين باقية على ملك الحابس، وتُورث وتباع الخ. وقد خفي هذا الفرق على شيخ أبي زهرة، ونسب إلى الإمامية ما لا يريدون، كما سترى.

(٢) إنّ لمسألة التأبيد في الوقف صلة تامة بمسألة من يملك العين الموقوفة التي سنتكلم عنها في هذا الفصل بالذات، فلاحظ.

٥٧٩

قال الحنفية: يصحّ الوقف، ويُصرف بعد انقراض الجهة إلى الفقراء.

وقال الحنابلة: يصحّ، ولكن يُصرف إلى أقرب الناس للواقف، وهو أحد قولي الشافعية.

وقال المالكية: يصحّ، ويرجع لأقرب الفقراء إلى الواقف، فإن كلهم أغنياء إلى عصبتهم. (المغني، والزرقاني، والمهذب).

وقال الإمامية: يصحّ وقفاً، ويرجع إلى ورثة الواقف. (الجواهر).

القبض:

القبض: هو أن يتخلى المالك عن العين، ويُسلّط عليها الجهة الموقوف إليها، وهو عند الإمامية شرط في لزوم العقد، لا في صحته، فإذا وقف ولم يحصل القبض فللواقف أن يرجع.

فلو وقف على جهة عامة كالمسجد أو المقبرة أو على الفقراء لا يلزم الوقف إلاّ باستلام المتولي، أو الحاكم الشرعي، أو بالدفن في القطعة، أو الصلاة في المسجد، أو بتصرف الفقير بإذن الواقف، وإذا لم يحصل القبض بشيء من ذلك يجوز للواقف الرجوع عن الوقفية. وإذا وقف على جهة خاصة كأولاده، فإن كانوا كباراً لا يتم الوقف إلاّ باستلامهم بإذنه، وإن كانوا صغاراً لم يحتج إلى قبض جديد؛ لأنّ يده يدهم، لمكان ولايته. وإذا مات الواقف قبل القبض بطل الوقف، وأصبح ميراثاً، ومثاله أن يقف دكاناً في سبيل الخير، ثمّ يموت وهي في تصرفه، فتعود - والحال هذه - إلى الورثة.

وقال المالكية: لا يكفي القبض وحده، بل لا بدّ معه من الحيازة سنة كاملة، كأن يقبض الموقوف إليه أو المتولي العين، وتبقى سنة في تصرفه، وبعد تمامها يلزم الوقف، ولا يمكن إبطاله بحال.

وقال الشافعية، وابن حنبل في بعض أقواله: لا يحتاج الوقف لتمامه

٥٨٠

إلى القبض، بل يزول ملك الواقف بمجرد القول. (أبو زهرة كتاب الوقف).

مَن يملك العين الموقوفة؟

ليس من شك أنّ العين قبل الوقف كانت على ملك الواقف، إذ لا وقف إلاّ في ملك، وبعد تمام الوقف هل تبقى العين على ملكه كما كانت من قبل، غاية الأمر أنّها تكون مسلوبة المنفعة بالقياس إليه، أو أنّها تنتقل إلى الموقوف إليهم، أو تصبح بلا مالك أصلاً، وهو المعبّر عنه بفك الملك؟

للفقهاء في ذلك أقوال: فقد ذهب المالكية إلى أنّ العين الموقوفة باقية على ملك الواقف، ولكنّه ممنوع من التصرف فيها.

وقال الحنفية: ليس للعين الموقوفة مالكاً بالمرة، وهو أصحّ الأقوال عند الشافعية(١) . (فتح القدير ج٥ باب الوقف، وأبو زهرة كتاب الوقف).

وقال الحنابلة: تنتقل العين إلى ملك الموقوف إليهم. أمّا الإمامية فقد نسب إليهم الشيخ أبو زهرة - في صفحة ٤٩ طبعة ١٩٥٩ - القول ببقاء العين على ملك الواقف، ثمّ قال في صفحة ١٠٦: إنّ هذا القول هو الراجح عند الإمامية.

ولم يذكر أبو زهرة مصدراً لهذه النسبة، ولا أدري من أين استخرجها؟

____________________

(١) وردّ أبو زهرة هذا القول في ص٥٠ بأنّه لا معنى لملكية الله هنا؛ لأنّه عالى يملك كل شيء. ويلاحظ بأنّه ليس المراد من ملك الله للوقف أنّه يصير بمنزلة المباحات الأصلية، بل يكون ملكه له على نحو ملكه خمس الغنيمة الي جاءت في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) .

٥٨١

وقد جاء في كتاب الجواهر - وهو أهم كتاب وأوثق مصدر لفقه الإمامية - ما نصه بالحرف الواحد: (الوقف إذا تم زال ملك الواقف عند الأكثر، بل عن المشهور، بل في محكي الغنية والسرائر الإجماع عليه).

وبعد أن اتفق الإمامية كلهم أو جلهم على زوال الملك عن الواقف، اختلفوا في أنّ العين هل يرتفع عنها وصف الملكية كلّية، بحيث لا تكون على ملك الواقف ولا الموقوف إليهم، وهو المعبّر عنه في لسانهم بفك الملك، أو أنّها تنتقل من الواقف إلى الموقوف إليهم؟

ذهب جماعة منهم إلى التفصيل بين الوقف العام - كالمساجد والمدارس والمصاح وما إليها - وبين الوقف الخاص، كالوقف على الذرية، فما كان من النوع الأوّل فهو فك ملك، وما كان من النوع الثاني ينتقل من ملك الواقف إلى ملك الموقوف إليه.

وتظهر فائدة الخلاف في ملكية العين الموقوفة - تظهر - في جواز البيع وعدمه، وفيما لو وقف العين إلى أمد، أو انقرضت الجهة الموقوف إليها، فبناء على قول المالكية من بقاء العين على ملك الواقف يجوز البيع، وتعود العين إلى الواقف بعد انتهاء الأمد، أو انقراض الجهة. وبناء على انتفاء الملكية بالمرة عن العين لا يجوز البيع؛ لأنّه لا بيع إلاّ في ملك، ويبطل الوقف المحدود. وبناء على انتقالها إلى ملك الموقوف إليه لا تعود إلى الواقف. وتُعرَف النتيجة بجلاءٍ من المسائل التي سنعرضها، ولذا ينبغي أن نكون على معرفة من هذا الخلاف؛ لأنّه يلقي ضوءاً على كثير من مسائل الوقف.

أركان الوقف:

أركان الوقف أربعة: الصيغة، والواقف، والعين الموقوفة، والموقوف عليه.

٥٨٢

الصيغة:

اتفق الكل على أنّ الوقف يتحقق بلفظ (وقفتُ)؛ لأنّه يدلّ على الوقف صراحة وبدون قرينة، لغة وشرعاً وعرفاً، واختلفوا في تحققه بلفظ (حبستُ، وسبلتُ، وأبّدتُ) وما إلى ذاك، وأطالوا الكلام بدون طائل.

والحقّ أنّه يقع ويتم بكل لفظ يدلّ عليه، حتى باللغة الأجنبية؛ لأنّ الألفاظ - هنا - وسيلة للتعبير، وليست غاية في نفسها(١) .

المعاطاة:

هل يتم الوقف بالفعل، كما لو بنى مسجداً وأذّن للصلاة فيه، أو أذِن بالدفن في قطعة أرضٍ بنية وقفها مقبرة، دون أن يقول: وقفتُ وحبستُ، وما أشبه، أو لا بدّ من النطق، ولا يكفي مجرد الفعل؟

قال الحنفية والمالكية والحنابلة: يكفي مجرد الفعل، وتصير العين وقفاً به. (المغني لابن قدامة ج٥ باب الوقف، وشرح الزرقاني على مختصر أبي ضياء ج٧ باب الوقف).

وعلى هذا القول جماعة من كبار الإمامية، منهم السيد اليزدي في

____________________

(١) أمّا القائلون: إنّ الوقف لا يقع إلاّ بلفظ معيّن، فيتلخص دليلهم بأنّ الأصل بقاء الملك لمالكه، أي أنّ العين قبل التلفظ كانت على ملك المالك، وبعده نشك في انتقالها عنه، فنستصحب بقاء الملك. ويلاحظ بأنّ هذا يتم لو شككنا في أنّ المالك هل أراد الوقف أم لا؟ أو علمنا بأنّه أراد قطعاً، ولكن شككنا في أنّه هل أنشأه وأوجد سببه؟ أمّا إذا قطعنا بأنّه أراد الوقف، وأيضاً قطعنا بأنّه أتى بما يدلّ عليه فلا يبقى مجال للتشكيك والحال هذه، وإن حصل التشكيك فهو وهم لا أثر له، اللهم إلاّ إذا رجع الشك إلى سببية الصيغة وتأثيرها من الوجهة الشرعية.

٥٨٣

ملحقات العروة، والسيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة، والسيد الحكيم في منهاج الصالحين، وحُكِي عن الشهيد الأوّل وابن إدريس.

وقال الشافعية: لا يتم الوقف إلاّ بالصيغة اللفظية. (المغني ج٥).

القبول:

هل يحتاج الوقف إلى قبول، أو يُكتفى بمجرد الإيجاب؟ وبكلمة ثانية:

هل يتحقق إنشاء الوقف بإرادة واحدة، أو لا بدّ من إرادتين متوافقتين؟

وقد فصّل الفقهاء بين الوقف على جهة عامة - كالفقراء والمسجد والمقبرة - حيث لا يقصد الواقف شخصاً معيناً، وبين الوقف على معيّن، كأولاده وما أشبه.

واتفق الأربعة على أنّ غير المعيّن لا يحتاج إلى قبول، أمّا المعيّن فقال المالكية وأكثر الحنابلة: هو كغيره لا يفتقر إلى القبول.

أمّا الشافعية فالأرجح عندهم اشتراط القبول. (كفاية الأخيار للحصني الشافعي ج١ باب الوقف، وكتاب الوقف لأبي زهرة ص٦٥ طبعة ١٩٥٩).

واختلف فقهاء الإمامية فيما بينهم على ثلاثة أقوال: اشتراط القبول مطلقاً في المعيّن وغير المعيّن، وعدم اعتباره كذلك، والتفصيل بين غير المعيّن - أي الجهة العامة - فلا يحتاج إلى قبول، وبين المعيّن - أي الجهة الخاصة - فيحتاج إليه، تماماً كالقول الراجح للشافعية، وهذا هو الحق(١) .

____________________

(١) ذهب إلى هذا التفصيل جماعة من كبار الإمامية كصاحب الشرائع، والشهيدين، والعلاّمة الحلّي وغيرهم، وعليه يكون الوقف عقداً يحتاج إلى إيجاب وقبول في المعيّن، ولا مانع شرعاً ولا عقلاً في أن يكون الوقف عقداً بلحاظ، وإيقاعاً بلحاظ، وإن منعه صاحب الجواهر.

٥٨٤

التنجيز:

قال المالكية: يجوز أن يكون الوقف معلقاً على شرط، فإذا قال المالك: إذا جاء الوقت الفلاني فداري وقفٌ، صحّ وتم الوقف. (الزرقاني على مختصر أبي ضياء ج٧ باب الوقف).

وقال الحنفية والشافعية: لا يصحّ التعليق، بل يجب أن يكون الوقف مطلقاً، فإذا كان معلقاً كالمثال المذكور يبقى الدار على ملك صاحبه. (الإقناع للشربيني ج٢ باب الوقف، وفتح القدير ج٥ كتاب الوقف).

ولا أدري كيف أجاز هذان المذهبان التعليق في الطلاق ومنعاه في غيره، مع العلم بأنّ الاحتياط والتشديد في الفروج ألزم منه في غيرها.

وقال الحنابلة: يصحّ التعليق على الموت فقط، كما لو قال: هذا وقف بعد موتي، ولا يصحّ فيما عدا ذلك. (غاية المنتهى ج٢ باب الوقف).

وذهب أكثر الإمامية إلى وجوب التنجيز، وعدم جواز التعليق. (التذكرة للحلّي ج٢، والجواهر ج٤، وملحقات العروة باب الوقف)(١) ، وعليه إذا قال: إذا متُّ فهذا وقف، لم يصر وقفاً بعد الموت. أمّا إذا قال: إذا متُّ فاجعلوا هذا وقفاً، يكون وصية بالوقف وعلى الوصي أن ينفذ، ويُنشئ الوقف.

____________________

(١) لا دليل من القرآن ولا من السنّة ولا من العقل على عدم جواز التعليق في العقود والإيقاعات، ومَن أبطل التعليق استند إلى الإجماع، وبديهة أنّ الإجماع إنّما يكون حجة إذا لم نعرف له مستنداً، وإذا عُرف سببه سقط عن الاعتبار، ونُظر إلى نفس السبب والمستند الذي استند إليه المجتمعون، وقد استندوا - هنا - إلى التوهم بأنّ الإنشاء معناه: إنّه موجود بالفعل، ومعنى التعليق على الشرط: إنّ الإنشاء غير موجود، وتكون النتيجة: إنّ الإنشاء متحقق وغير متحقق. ويُردّ هذا أنّ الإنشاء متحقق بالفعل وغير معلق على شيء، وإنّما آثاره هي التي ستحصل في المستقبل على تقدير حصول الشرط، تماماً كالوصية المعلقة على الموت، والنذر المعلق على وجود الشرط.

٥٨٥

الواقف:

اتفقوا على أنّ كمال العقل شرط لإنشاء الوقف، فلا يصحّ وقف المجنون؛ لنفي التكليف عنه، وعدم الأخذ بمقاصده وأقواله وأفعاله.

وأيضاً اتفقوا على أنّ البلوغ شرط، فلا يجوز وقف الصبي مميزاً كان أو غير مميز، ولا يحق لوليه أن يقف عنه، ولا للقاضي أن يتولى ذلك أو يأذن به، وقال بعض فقهاء الإمامية: يصحّ وقف الصبي البالغ عشراً. ولكنّ أكثرهم على المنع.

ولا يصحّ وقف السفيه؛ لأنّه من التصرفات المالية، وهو ممنوع منها(١) ، وقال الحنفية: يصحّ أن يوصي السفيه من ماله بالثلث، على شريطة أن تكون الوصية في وجه البر والإحسان، سواء أكانت بالوقف أو بغيره. (الفقه على المذاهب الأربعة ج٢ باب مبحث الحجر على السفيه).

نية القربة:

ليس من شك أنّ قصد الوقف شرط في تحققه، فإذا تلفّظ به السكران، أو المغمى عليه، أو النائم، أو العابث، يكون لغواً لأصالة بقاء الملك على ما كان.

واختلفوا في نية القربة: هل هي شرط كالعقل والبلوغ، بحيث لو قصد الواقف أمراً دنيوياً لا يتم الوقف، أو أنّه يتم بدونها؟

قال الحنفية: إنّ القربة شرط في الحال أو المآل، أي أنّ الموقوف

____________________

(١) اختلفوا في أنّ الحجر على السفيه: هل يبتدئ من وقت حدوث السفه وإن لم يحكم القاضي بالتحجير، أو من وقف الحكم عليه بذلك؟ وسنعرض له مفصلاً في باب الحجر إن شاء الله.

٥٨٦

يجب أن يُصرف على وجوه البر إمّا حالَ الوقف وإمّا بعده، كما لو وقف على الأغنياء الموجودين، ومن بعدهم على أولادهم الفقراء. (فتح القدير)(١) .

وقال مالك والشافعي: لا يُشترط في الوقف نية القربة. (أبو زهرة كتاب الوقف ص٩٢ وما بعدها).

وقال الحنابلة: يُشترط أن يكون الوقف على بر وقربة، كالمساكين والمساجد والقناطر والأقارب وكتب العلم؛ لأنّه شرع لتحصيل الثواب، فإن لم يكن لم يحصل المقصود الذي شرع من أجله. (منار السبيل لابن ضويان ص٦ طبعة أولى).

وقال صاحب الجواهر وصاحب العروة في ملحقاتها - من الإمامية -: إنّ القربة ليست شرطاً لصحة الوقف ولا لقبضه، بل للأجر والثواب عليه وإذن يتم الوقف بدونها.

مرض الموت:

مرض الموت هو الذي يتصل به، ويكون من شأنه أن يُميت صاحبه حسب المظنون.

واتفق الكل على أنّ هذا المريض إذا وقف شيئاً من أملاكه صحّ، وخرج من الثلث إن اتسع، وإن زاد توقف الزائد على إجازة الورثة.

وبكلمة، إنّه يُشترط في الواقف جميع ما يُشترط في البائع من العقل والبلوغ والرشد والملك، وعدم الحجز عليه لإفلاس أو سفه.

____________________

(١) نطلق لفظ (فتح القدير) على الكتاب المعروف بهذا الاسم، مع العلم بأنّه مجموعة من أربعة كتب أحدها فتح القدير.

٥٨٧

الموقوف:

اتفقوا على أنّ الموقف يُشترط فيه ما يُشترط في الشيء المباع من كونه عيناً معينة مملوكة للواقف، فلا يصحّ وقف الدَّين ولا المجهول - كعقار من ملكي، أو جزء منه - ولا وقف ما لا يملكه المسلم كالخنزير. واتفقوا أيضاً على أنّه لا بدّ من إمكان الانتفاع بالموقوف مع بقاء عينه، أمّا ما لا يصحّ الانتفاع به إلاّ باتلافه - كالمأكول والمشروب - فلا يصحّ وقفه، ومن هذا النوع المنفعة، فمن استأجر داراً أو أرضاً لأمدٍ معيّن فلا يصحّ منه وقف منفعتها، إذ لا يصدق عليها مفهوم الوقف من أنّه تحبيس الأصل وتسبيل العين.

وأيضاً اتفقوا على صحة وقف الأعيان الثابتة كالأرض والدار والبستان.

وأيضاً اتفقوا ما عدا الحنفية على صحة وقف الأعيان المنقولة، كالحيوان والماعون، حيث يمكن الانتفاع بهما مع بقاء العين.

وقال أبو حنيفة لا يصحّ بيع المنقول، أمّا صاحباه أبو يوسف ومحمد: فذهب الأوّل إلى صحة وقف المنقول تبعاً، كما لو وقف ضيعة بمواشيها وآلاتها، وذهب الثاني إلى صحته في خصوص السلاح والكراع، أي الخيل. (فتح القدير ج٥، وشرح الزرقاني ج٧).

وأيضاً اتفقوا على أنّه يصحّ وقف حصة شائعة، كالنصف أو الربع أو الثلث إلاّ في المسجد(١) والمقبرة، لأنّهما لا يقبلان الشركة. (تذكرة العلاّمة، وميزان الشعراني، والوقف لمحمد سلام مدكور).

وجاء في ملحقات العروة في فقه الإمامية: لا يصحّ وقف العين المرهونة، ولا ما لا يمكن تسليمه - كالطير في الهواء والسمك في

____________________

(١) قال السيد كاظم في الملحقات: إذا كان له حصة في دار جاز له أن يقفها مسجداً، ويستأذن المصلّون من الشريك الآخر. ولست أفهم لهذا محصّلاً.

٥٨٨

الماء - وإن كان ملكاً له، ولا وقف الحيوان الضال، ولا العين المغصوبة التي لا يستطيع الواقف ولا الموقوف إليه تخليصها.

أمّا إذا أوقف على غاصبها بالذات فيصحّ؛ لأنّ القبض متحقق بالفعل.

الموقوف عليه:

الموقوف عليه هو الذي يستحق فعلاً ريع الوقف، والانتفاع بالعين الموقوفة، ويُشترط فيه ما يلي:

١ - أن يكون موجوداً حين الوقف، فإذا كان معدوماً - كما لو وقف على مَن سيولد - فلا يصحّ عند الإمامية والشافعية والحنابلة، ويصحّ عند المالكية. فقد جاء في كتاب شرح الزرقاني على أبي ضياء ج٧: (يصحّ الوقف على مَن سيولد، ويقف اللازم إلى أن يولد، فإن آيس من حملها أو مات الحمل بطل الوقف).

ويصحّ الوقف على المعدوم تبعاً للموجود فعلاً - عند الجميع - كمن وقف على أولاده الموجودين، ومَن سيوجد من أولادهم. أمّا الوقف على الحمل الموجود حين الوقف فقد ذهب الشافعية والإمامية والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ، إذ ليس للحمل أهلية التملك إلاّ بعد انفصاله حياً، أمّا عزل الميراث له وجواز الوصية فلوجود دليل خاص، هذا إلى أنّ عزل مقدار من الإرث إمّا هو لدفع محذور تفويت الحق، أو إعادة القسمة من جديد، وفي ذلك ما فيه من العسر والحرج.

٢ - أن يكون أهلاً للتملك، فلا يجوز الوقف على حيوان ولا الوصية له، كما يفعل الغربيون، حيث يوصون بشطر من أموالهم للكلاب، بخاصة (السيدات). أمّا الوقف على المساجد والمدارس والمصحّات وما إليها، فهو في الحقيقة وقف على مَن ينتفع بها من الآدميين.

٥٨٩

٣ - أن لا يكون معصية الله تعالى، كالوقف على الدعارة، وأندية القمار، ومجالس الخمر، وقطّاع الطريق. أمّا الوقف على غير المسلمين، كالذمي فيجوز بالاتفاق؛ لقوله تعالى:( لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) (٨ الممتحنة).

وقال الفقيه الإمامي السيد كاظم في ملحقات العروة باب الوقف: بل يجوز الوقف والبر والإحسان للحربي أيضاً، ترغيباً في الخير.

وقال الشهيد الثاني في اللمعة الدمشقية ج١ باب الوقف ما نصه بالحرف: (يجوز الوقف على أهل الذمة؛ لأنّه ليس بمعصية، وإنّهم عباد الله ومن جملة بني آدم المكرمين ثمّ قال: لا يجوز الوقف على الخوارج ولا الغلاة(١) ؛ لأنّ أولئك كفّروا أمير المؤمنين علياً، وهؤلاء ألّهوه، والخير هو النمط الأوسط، كما قال الإمام: (هلك فيَّ اثنان: مبغض قالٍ، ومحبٌّ غال).

٤ - أن يكون معيّناً غير مجهول، فإذا وقف على رجل أو امرأة بدون تعيين بطل.

وقال المالكية: يصحّ الوقف وإن لم يعيّن الواقف له مصرفاً، فإذا قال: وقفٌ داري هذه، وسكت صحّ، وأُنفق في سبيل البر. (شرح الزرقاني على أبي ضياء).

٥ - قال الإمامية والشافعية والمالكية: لا يصحّ للواقف أن يقف على نفسه، أو يدخلها مع الموقوف عليهم، إذ لا يُعقل أن يملِّك

____________________

(١) لا شيء أصدق في التعبير عن عقيدة أهل المذهب من كتبهم الدينية، بخاصة كتب الفقه والتشريع، والشهيد الثاني من أعظم المراجع عند الشيعة الإمامية، وهذا قوله صريح بأنّ غير المسلمين من أهل الأديان أفضل من الغلاة، وإنّهم عباد الله المكرمون فكيف يُنسب إلى الإمامية الغلو والمغالاة؟

٥٩٠

الإنسان نفسه بنفسه. أجل، إذا وقف على الفقراء، ثمّ افتقر يكون كأحدهم، وكذلك إذا وقف على طلبة العلم وأصبح طالباً.

وقال الحنابلة والحنفية: يصحّ. (المغني، وأبو زهرة، وميزان الشعراني، وملحقات العروة).

الوقف على الصلاة:

ومن عدم جواز الوقف على النفس يتبين بطلان الأوقاف الكثيرة الموجودة في قرى جبل، والتي وقفها أربابها على الصلاة عنهم بعد موتهم، حتى ولو قلنا بجواز النيابة عن الميت في الصلاة المستحبة فضلاً عن الواجبة؛ لأنّها في الحقيقة وقف على النفس.

الاشتباه:

قال صاحب الملحقات: إذا اشتُبه الموقوف عليه بين شخصين أو جهتين فالمرجع القرعة، أو الصلح القهري، ومعنى الصلح القهري: أن يُقسّم الناتج بين الاثنين اللذين هما طرفا الاشتباه.

وإذا جُهِلت جهة الوقف، ولم نعلم هل هي المسجد أو الفقراء أو غيرهما، صُرف الوقف في سبيل البر والخير.

وإذا ترددت العين الموقوفة بين شيئين، كما لو علمنا بوجود الوقف، ولم نعلم أنّه الدار أو الدكان، رجعنا إلى القرعة أو الصلح القهري، أي أخذنا للوقف نصف الدكان ونصف الدار.

٥٩١

شروط الواقف وألفاظه

إرادة الواقف:

إذا كان الوقف عطية وتبرعاً وصدقة يكون الواقف - والحال هذه - معطياً ومتبرعاً ومتصدقاً. وبديهة أنّ للإنسان - العاقل البالغ الراشد الصحيح غير المحجَر عليه في التصرفات المالية - له أن يتبرع من أمواله ما يشاء إلى مَن يشاء بالنحو الذي يراه. وفي الحديث (الناس مسلّطون على أموالهم). وقال الإمام: (للوقوف بحسب ما يقفها أهلها)؛ ولأجل هذا قال الفقهاء: شروط الواقف كنص الشارع، وألفاظه كألفاظه في وجوب اتباعها والعمل بها ومثله الناذر، والحالف، والموصي، والمقر.

وعلى هذا، فإن عُلِم قصد الواقف، وأنّه أراد هذا المعنى دون سواه أُخذ به، حتى ولو خالف فهم العرف، كما لو علمنا أنّه أراد من لفظة: أخي صديقه فلاناً، فنُعطي الوقف للصديق، لا للأخ؛ لأنّ العرف إنّما يكون حجة متبعة باعتباره وسيلة تكشف عن القصد، فإذا عرفنا القصد يسقط العرف عن الاعتبار. أمّا إذا جهلنا القصد كان العرف هو المتبع، وإذا لم يكن للعرف اصطلاح، ولم يُفهم من ألفاظ الواقف

٥٩٢

شيء رجعنا إلى اللغة، تماماً كما هو الشأن في ألفاظ الكتاب والسنّة.

الشرط السائغ:

قلنا: إنّ للواقف الجامع للشروط أن يشترط ما يشاء، ونستثني الآن الحالات التالية:

١ - يلزم الشرط وينفذ إذا اقترن بإنشاء الوقف وحصل معه، أمّا إذا ذكر الشرط بعد تمام الإنشاء فيكون لغواً، إذ لا سلطان للواقف على العين بعد خروجها عن ملكه.

٢ - أن لا يذكر شرطاً ينافي مقتضى العقد وطبيعته، كما لو شرط أن تبقى العين على ملكه، فيورثها ويبيعها ويهبها ويؤجرها ويعيرها إن شاء. ومعنى هذا في حقيقته أنّ الوقف ليس بوقف، وأنّ ما ليس بوقف هو وقف. وإذا جعل هذا الشرط الإنشاء لغواً يكون الوقف بلا إنشاء، والمفروض أنّه لا يتم بدونه. وبكلمة، إنّ حال هذا الواقف أشبه بحال البائع الذي يقول: بعتُكَ هذا على أن لا ينتقل المبيع إليك، ولا ينتقل الثمن إليَّ. ومن أجل هذا أجمع الفقهاء على أنّ كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل ومبطِل.

ولكنّ السنهوري القانوني الشهير قال في مجموعة القوانين المختارة من الفقه الإسلامي: إنّ الحنفية قالوا: يُستثنى من ذلك المسجد، فإنّ هذا الشرط الفاسد لا يفسد وقفيته، أمّا بالنسبة إلى غير المسجد يكون فاسداً ومفسِداً. (الوقف لمدكور).

٣ - أن لا يخالف الشرط حكماً من أحكام الشريعة الإسلامية، كأن يشترط فعل الحرام، أو ترك الواجب. وفي الحديث: (مَن اشترط شرطاً سوى كتاب الله عزّ وجلّ فلا يجوز ذلك له ولا عليه). وقال الإمام: (المسلمون عند شروطهم، إلاّ شرطاً حَرَّم حلالاً أو أحلّ

٥٩٣

حراماً).

وما عدا ذلك من الشروط التي تقترن بالعقد، ولا ينافي طبيعته ولا حكماً من أحكام الكتاب والسنّة، فإنّها جائزة يجب الوفاء بها بالاتفاق، كما لو اشترط أن يبنوا من غلّة الوقف داراً للفقراء، أو يبتدؤوا بأهل العلم، وما إلى ذاك. وبكلمة: إنّ الواقف كأيّ إنسان يجب أن تتمشى جميع تصرفاته مع الأسس العقلية والشرعية، سواء أكانت هذه التصرفات من نوع الوقف أو الأكل والسفر أو غيره، فمتى وافقت الشرع والعقل وجب احترامها وإلاّ أُهملت.

العقد وهذا الشرط:

ليس من شك أنّ الشرط الباطل لا يجب الوفاء به، مهما كان نوعه. وأيضاً ليس من شك أنّ ما كان منه منافياً لمقتضى العقد وطبيعته يسري بطلانه إلى العقد بالذات، فيكون باطلاً بنفسه مبطِلاً لغيره بالاتفاق، من غير فرق بين الوقف وغير الوقف.

واختلفوا في الشرط المنافي لأحكام الكتاب والسنّة فقط، لا لطبيعة العقد، كمن وقف داره على زيد بشرط أن يرتكب فيها المحرمات، أو يترك الواجبات، إختلفوا: هل بطلان هذا الشرط يوجب بطلان العقد أيضاً، بحيث لا يجب الوفاء بالعقد كما لا يجب الوفاء بالشرط، أو يختصر الفساد والبطلان على الشرط فقط؟

نقل الشيخ أبو زهرة عن الحنفية في كتاب الوقف ١٦٢: (إنّ الشروط المخالفة للمقررات الشرعية تبطل هي فقط، أمّا الوقف فصحيح، ولا يفسد بفسادها؛ لأنّ الوقف تبرّع، والتبرعات لا تبطلها الشروط الفاسدة).

أمّا الإمامية فقد اختلفوا فيما بينهم، فمِن قائل: إنّ فساد الشرط لا

٥٩٤

يوجب فساد العقد، وقائل: بأنّه يوجبه، وتوقّف ثالث. (الجواهر، ومكاسب الأنصاري).

والذي نراه نحن أنّ فساد الشرط المنافي لأحكام الكتاب والسنّة لا يسري إلى العقد بحال، ذلك أنّ للعقد أركاناً وشروطاً، كالإيجاب والقبول، وكون العاقد عاقلاً بالغاً، والمعقود عليه ملكاً للعاقد، وقابلاً للنقل والانتقال، فمتى تم ذلك صحّ العقد بلا ريب، أمّا ذكر الشروط الفاسدة التي لا تمسّ أركان العقد وشروطه من قريب أو بعيد، بل ذُكرت معه فقط، فإنّ فسادها لا يستتبع فساد العقد، ولو افتُرض أنّ فساد العقد أحدث خللاً في العقد - كالجهالة الموجبة للغرر في عقد البيع - يكون العقد - والحال هذه - فاسداً، ولكن للجهالة، لا لفساد الشرط.

وإلى هذا ذهب صاحب الجواهر، وهو مَن هو في ذوقه وتحقيقه، وممّا يدلّ على صفاء هذه الفطرة قوله: (أمّا دعوى أنّ الشرط الفاسد إذا أُخذ بنحو القيدية فيفسد العقد، وإذا أُخذ بنحو الداعي فلا يفسده، أمّا هذه الدعوى فسفسطة لا محصّل تحتها).

أجل، إنّها سفسطة وكلام فارغ؛ لأنّ العرف لا يدرك ولا يميّز بين الحالين، وبديهية أنّ الخطابات الشرعية مُنزَّلة على الأفهام العرفية، لا على الدقة العقلية.

قدّمنا أنّ الفقهاء قسّموا الشروط إلى صحيحة وفاسدة، وقالوا: يجب الوفاء بالأُولى دون الثانية، وأنّهم قسّموا الفاسدة إلى ما ينافي طبيعة العقد، وإلى ما لا ينافيه، وإنّما ينافي أحكام الشريعة، وأنّهم اتفقوا على أنّ النوع الأوّل فاسد ومفسِد، واختلفوا في النوع الثاني، فمِن قائلٍ بأنّه فاسد غير مفسِد، وقائلٍ بفساده وإفساده.

ثمّ اختلفوا في كثير من الموارد والأمثلة: هل هي من نوع الشرط الفاسد؟ وعلى افتراض أنّها منه، فهل هي مفسِدة أيضاً، أو فاسدة غير مفسِدة؟ وفيما يلي نذكر طرفاً من هذه الأمثلة:

٥٩٥

الخيار:

قال الشافعية والإمامية والحنابلة: إذا اشترط الواقف لنفسه أن يكون له الخيار أمداً معلوماً في إمضاء الوقف، أو العدول عنه بطل الشرط والوقف معاً؛ لأنّه شرط ينافي طبيعة العقد.

وقال الحنفية: بل كلاهما صحيح. (فتح القدير، والمغني، والتذكرة).

الإدخال والإخراج:

قال الحنابلة والشافعية في القول الأرجح: إنّ اشترط الواقف أن يُخرج مَن يشاء من أهل الوقف، ويُدخل مَن يشاء من غيرهم لم يصحّ، ويبطل الوقف؛ لأنّه منافٍ لمقتضى العقد فأفسده. (المغني، والتذكرة).

وقال الحنفية والمالكية: بل يصحّ. (شرح الزرقاني، وأبو زهرة).

وفصّل الإمامية: بين الإدخال والإخراج، وقالوا: إن اشترط إخراج مَن يريد من أرباب الوقف بطل الوقف، وإن اشترط إدخال من سيولد مع الموقوف عليهم جاز، سواء أكان الوقف على أولاده أو أولاد غيره. (التذكرة).

الأكل ووفاء الدين:

قال الإمامية والشافعية: لو وقف على غيره، واشترط وفاء ديونه وإخراج مؤنته من الوقف يبطل الوقف والشرط. (الجواهر، والمهذِّب).

فائدة:

وحيث ذكرنا شرط الخيار، وبعض الأمثلة للوقوف المقيدة بشرط

٥٩٦

يحسن أن نشير بهذه المناسبة إلى ما دار وتداول على ألسنة فقهاء الإمامية من قولهم: خيار الشرط، وشرط الخيار، وقولهم: مطلق العقد، والعقد المطلق، وأن نفرق بين الشرطين والإطلاقين.

أمّا شرط الخيار: فهو أنّ العاقد عند إنشاء العقد قد ذكر الخيار بلفظه، واشترطه لنفسه، كما لو قال: بعتُكَ هذا ولي الخيار في فسخ البيع والرجوع عنه مدة كذا. أمّا خيار الشرط، وبالأصلح خيار تخلّف الشرط أمراً آخر، كما لو قال البائع للمشتري: بعتُكَ هذا على أن تكون عالماً، ثمّ تبين أنّ المشتري جاهل، وهذا التخلف يُحدث للبائع الخيار في فسخ البيع والرجوع عنه، إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه، ومعلوم أنّ الفرق كبير جداً بين الموردين.

أمّا الفرق بين العقد المطلق ومطلق العقد فيتبين بعد أن نعرف أنّ العقد على أنواع: منه العقد المجرد عن كل قيد، وهو العقد المطلق، ومنه العقد المقيد بقيد إيجابي أو بقيد سلبي، ومنه العقد من حيث هو هو، أي غير ملحوظ به الإطلاق، ولا قيد الإيجاب أو السلب، وهو مطلق العقد الشامل للعقد المطلق، وللعقد المقيد. وعليه يكون كل من المطلق والمقيد قسيم للآخر، وفي عرض أخيه وحياله، وهما معاً قسمان لمطلق العقد، تماماً كالرجل والمرأة بالقياس إلى مفهوم الإنسان(١) .

____________________

(١) ومن التعابير المختصرة ما هو معروف بين طلاب النجف من قولهم: بشرط شيء، وبشرط لا، ولا بشرط، ويريدون من (بشرط شيء): المقيد بالإيجاب كقولك: أعطيك بشرط أن تفعل كذا، ومن (بشرط لا): المقيد بالسلب، كقولك: أعطيك بشرط أن لا تفعل، و (لا بشرط) كقولك: أعطيك، دون تقيد بسلب أو بإيجاب. وبديهة أنّ (اللا بشرط) يشمل الأمرين معاً، ويصدق على البشرط شيء، والبشرط لا.

٥٩٧

البنين والبنات:

إذا وقف على البنين لا تدخل البنات، وإذا وقف على البنات لا يدخل البنون، وإذا وقف على أولاده دخلا معاً، واقتسما بالسوية. وإذا قال: للذكر مثل حظ الأُنثيين، أو له مثل الأنثى، أو للأنثى مثل حظ الذكرين، أو قال: مَن تزوجتُ من النساء فلا حظ لها أبداً، صحّ في ذلك كله مراعاة لشرط الواقف. ولم أجد فيما لدي من كتب الفقه للمذاهب الخمسة قولاً يتنافى مع شيء من هذا سوى ما نقله أبو زهرة في كتاب الوقف عن المالكية ص٢٤٥: (إنّ الإجماع في مذهب مالك قائم على تأثيم مَن وقف على بنيه دون بناته، أو جعل استحقاق الوقف مقيداً بعدم الزواج، وإنّ بعضهم جعل ذلك التأثيم علة للبطلان).

ونعتقد أنّ القول بالبطلان، أو بإدخال البنات في لفظ البنين قولٌ متروك لا وزن له عند المالكية، فإنّ لدي من كتبهم أكثر من خمسة، ومنها المطوّل والمختصر، وما وجدت فيها إشارة إلى هذا القول رغم البحث والتنقيب، بل على العكس، فقد جاء فيها: (إنّ ألفاظ الواقف تُحمَل على العرف، وهي كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع). أجل، فقد نقل عن عمر بن العزيز أنّه حاول أن يدخل البنات في أوقاف البنين، وابن عبد العزيز ليس مالكياً. هذا، إلى أنّ محاولته إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على عطفه وإنسانيته.

أولاد الأولاد:

وكما اختلف الفقهاء في بعض الشروط أنّها باطلة أو صحيحة، وأنّ الباطل منها هل يُبطِل؟ فقد اختلفوا أيضاً في دلالة بعض الألفاظ، من تلك إذا قال: هذا وقفٌ على أولادي، وسكت: هل

٥٩٨

يشمل لفظ أولادي أولاد الأولاد؟ وفي حال الشمول: هل يعمّ أولاد البنين والبنات معاً، أو أولاد البنين فقط؟

فالمشهور من قول الإمامية أنّ لفظ أولادي لا يشمل أولاد الأولاد، ولكنّ السيد الأصفهاني قال في وسيلة النجاة: إنّ لفظ الأولاد يعمّ أولاد الأولاد ذكوراً وإناثاً. وهذا هو الحق؛ لأنّه المفهوم العرفي الذي عليه المعوّل.

وروى صاحب المغني عن ابن حنبل أنّ لفظ ولد يصدق على الذكر والأنثى للصُلب، وعلى أولاد الابن دون أولاد البنت.

وقال الشافعية: إنّ لفظ الولد يصدق على الذكر والأنثى من الصُلب، ولا يصدق على أولاد الأولاد إطلاقاً، أمّا لفظ ولد الولد عندهم فيعمّ الذكور والإناث، وبه قال الحنفية. (فتح القدير، والمهذّب).

وقال المالكية: تدخل الإناث في لفظ الأولاد، ولا تدخل في لفظ أولاد الأولاد. (الزرقاني).

وقول المالكية هذا يناقض نفسه؛ لأنّ مادة اللفظ واحدة، وهي: ل. و. د، فكيف دلّت على الذكور والإناث معاً بدون الإضافة، ومعها دلّت على الذكور فقط؟

٥٩٩

الولاية على الوقف

الولاية على الوقف: هي سلطة محددة برعايته وإصلاحه واستغلاله، وإنفاق غلّته في وجهها. وتنقسم الولاية إلى نوعين: عامة، وخاصة. والعامة: هي التي تكون لولي الأمر. والخاصة: ما كان لمن يولّيه الواقف عند إنشاء الوقف، أو يولّيه الحاكم الشرعي.

واتفقوا على أنّ الولي يجب أن يكون عاقلاً بالغاً راشداً أميناً، بل اشترط الشافعية وكثير من الإمامية العدالة. والحق الاكتفاء بالأمانة والوثاقة، مع القدرة على إدارة الوقف إدارة كاملة.

واتفقوا على أنّ المتولي أمين لا يضمن إلاّ بالتعدي أو التقصير.

وأيضاً اتفقوا إلاّ مالكاً على أنّ للواقف أن يجعل التولية حين الوقف لنفسه مستقلاً، أو يشترط معه غيره مدة حياته، أو لأمد معيّن، وله أن يجعل أمرها بيد غيره.

وعن كتاب فتح الباري إنّ مالكاً قال: لا يجوز للواقف أن يجعل الولاية لنفسه؛ لئلا يصير كأنّه وقف على نفسه، أو يطول العهد فيُنسى الوقف، أو يفلس الواقف فيتصرف فيه، أو يموت فيتصرف فيه ورثته، وإذا حصل الأمنُ من ذلك كله فلا بأس بأن يجعل الولاية في يده.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650