الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة0%

الفقه على المذاهب الخمسة مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 650

الفقه على المذاهب الخمسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 650
المشاهدات: 239717
تحميل: 32078

توضيحات:

الفقه على المذاهب الخمسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 650 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 239717 / تحميل: 32078
الحجم الحجم الحجم
الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أموال المفقود

المفقود: هو الذي غاب وانقطعت أخباره، ولم يُعلَم موته ولا حياته. وقد تكلمنا في كتاب (الزواج والطلاق) عن حكم زوجته، وطلاقها بعد أربعة أعوام، ونتكلم هنا عن تقسيم أمواله، وعن حقه في الإرث إذا مات قريب له حال غيبته. وبديهة أنّ تطليق الزوجة بعد أربع سنوات لا يستدعي تقسيم التركة بعدها، ولا عدم تقسيمها، بل تُطلّق الزوجة ولا تُقسّم التركة، إذ لا ملازمة بين الطلاق والموت.

وقد اتفقوا على أنّه يجب التربص في تقسيم أمواله، حتى تمضي مدة لا يعيش في مثلها(١) ، ويرجع ذلك إلى نظر القاضي واجتهاده، وتختلف هذه المدة باختلاف الزمان والمكان، ومتى حكم القاضي بموته ورثه الأولى بميراثه عند الحكم، لا مَن مات من أقاربه قبل ذلك.

____________________

(١) نقل صاحب المسالك والجواهر أنّه قد اشتُهر بين فقهاء الإمامية أنّ أمواله لا تُقسّم إلاّ بعد التحقق من موته بالتواتر وبالبينة أو بالخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم، أو بانقضاء مدة لا يعيشها أمثاله في الغالب.

٥٦١

وإذا مات قريب لهذا المفقود حال الغيبة المنقطعة وجب أن يُعزل نصيبه مستقلاً، ويكون كسائر أمواله، حتى يتبين الأمر أو يحكم القاضي بموته بعد مدة الانتظار.

٥٦٢

ميراث الحرقى والغرقى والمهدوم عليهم

ذكر فقهاء السنّة والشيعة مسألة ميراث الغرقى والحرقى والمهدوم عليهم وأمثالهم، واختلفوا في توريث بعضهم من بعض إذا اشتبه الحال، لم يُعلَم تقدم موت أحدهما على موت الأخر.

فذهب الأئمة الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي وابن حنبل إلى أنّ بعضهم لا يرث بعضاً، بل تنتقل تركة كل واحد لباقي ورثته الأحياء، ولا يشاركهم فيها ورثة الميت الأخر، سواء أكان سبب الموت والاشتباه الغرق أم الهدم أم القتل أم الحريق أم الطاعون(١) .

أما الشيعة الإمامية فكان لاجتهادهم أثر بليغ في هذه المسألة، فقد شرحها فقهاء العصر الأخير منهم شرحاً وافياً، وفرّعوا عنها صوراً لم تخطر في ذهن أحد من رجال التشريع قديماً وحديثاً، فقبل أن يتكلموا عن ميراث الغرقى والمهدوم عليهم بالخصوص تكلموا عنهم وعن أمثالهم

٥٦٣

بوجه يشمل كل حادثين عُلِم بوجودهما، ولم يُعلَم المتقدم من المتأخر، وكان تأثير أحدهما في حالة السبق والتقدم غير تأثيره في حالة التأخير والتخلف عن الأخر. إنّ المجتهدين من فقهاء الشيعة المتأخرين يرون مسألة ميراث الغرقى وغيرهم مسألة جزئية لكلّية كبرى، وفرداً من أفراد قاعدة عامة لا تختص بمسألة دون مسألة وباب دون باب من أبواب الفقه، بل تشمل كل حادثين حصلا، واشتُبه المتقدم من المتأخر، سواء أكان الحادثان أو أحدهما من نوع العقود، أم من الإرث، أم من الجنايات، أم غير ذلك، فيدخل في القاعدة ما لو حصل عقدا بيع، أحدهما أجراه المالك الأصيل بنفسه مع عمر على شيء خاص من ممتلكاته، والثاني أجراه وكيله في بيع ذلك الشيء مع زيد، ولم يُعلَم أي العقدين متقدم ليحكم بصحته وأيّهما متأخر ليحكم بفساده؟ وهكذا كل حادثين يرتبط تأثير أحدهما بتقدم الأخر عليه مع فرض أنّه ليس في البين دلائل تدلّ على وقوع الحادثين في لحظة واحدة، أو سبق أحدهما على الأخر. فليست مسألة الغرقى وغيرهم مسألة مستقلة بذاتها، وإنّها هي من جزئيات قاعدة عامة، لذلك نرى المجتهدين من فقهاء الشيعة الإمامية صرفوا الكلام قبل كل شيء إلى القاعدة نفسها، وبيان حكمها، وبعد هذا تكلموا عن ميراث الغرقى وغيرهم، وأنّ حكمهم هل هو حكم القاعدة العامة، أو أنّ هناك ما يوجب استثناء حكم الغرقى عن القاعدة؟ ولا ريب أن تحرير البحث على هذا النحو أجدى نفعاً، وأكثر فائدة.

وحيث إنّ معرفة هذه القاعدة تتوقف على معرفة أصلين آخرين يتصلان اتصالاً وثيقاً بها، لذلك نختصر الكلام عنهما بمقدار ما تدعو الضرورة لمعرفة القاعدة المقصودة بالذات، على أنّهما لا يقلاّن عنها نفعاً. والأصلان هما: أصل عدم وقوع الحادث الذي شُك في وقوعه، وأصل تأخر الحادث الذي عُلِم وقوعه.

٥٦٤

أصل عدم وقوع الحادث:

لنا قريب في المهجر، كنا نراسله ويراسلنا، ثمّ قطع عنّا الرسائل، وقطعناها نحن عنه، وبعد أمد طويل يخطر لنا أن نرسل إليه كتاباً، فنكتب له على عنوانه الأوّل، مع أنّه لم يخالجنا الشك بأنّه مات أو انتقل من مكانه. فما هو السر الذي دعانا إلى عدم الاهتمام بما طرأ على ذهننا من الشك واحتمال الموت، وتغيّر العنوان؟ وأيضاً نعتقد بأمانة إنسان وصدقه، فنجعله محل ثقتنا، ونأتمنه على أثمن الأشياء، ثمّ يصدر منه عمل فنظنّ أنّه تغيّر وتبدّل، ومع ذلك نمضي معه كما كنا أوّلاً، وهكذا في جميع المراسلات والمعاملات والمواصلات.

والسر في ذلك أنّ الإنسان مسوق بفطرته على الأخذ بالحال السابقة إلى أن يثبت العكس، فإذا علم بحياة زيد، ثمّ حصل الشك بحدوث موته، فالأصل الذي تقره الفطرة هو البقاء على نية الحياة إلى أن يثبت الموت بأحد طرق الإثبات، وهذا معنى أصل عدم وقوع الحادث الذي لم يثبت وقوعه، وإليه يهدف قول الإمام الصادق:(مَن كان علي يقين ثمّ شك فلا ينقض اليقين بالشك، إنّ اليقين لا ينقصه إلاّ اليقين، لا تدخل الشك على اليقين، ولا تخلط أحدهما بالأخر، ولا تعتد بالشك مع اليقين في حال من الأحوال) .

فإذا علمنا أنّ فلاناً مدِين بمال، ثمّ ادعى الوفاء، فالأصل بقاء الدين إلى أن يثبت الوفاء، أي كما علمنا بالدين يجب أن نعلم بالوفاء؛ لأنّ العلم لا يزيله إلاّ العلم، والشك الطارئ بعد العلم لا أثر له، فمن ادّعى شيئاً يضاد الحال السابقة فهو مدّعٍ، عليه أن يقيم البينة على مدّعاه، ومَن كان قوله وفق الحال السابقة فهو منكر لا تتجه عليه سوى اليمين.

فتحصل من هذا البيان أنّ معنى أصل عدم الحادث في حقيقته هو الأخذ بالحال السابقة إلى أن يثبت العكس.

٥٦٥

أصل تأخر الحادث الواحد:

لو علم القاضي أنّ خليلاً كان حياً في يوم الأربعاء، وأنّه في يوم الجمعة كان في عداد الأموات، ولم يعلم هل حدث موته في يوم الخميس أو في يوم الجمعة، وليس لديه أيّة دلالة تعيّن زمن الموت بالخصوص، فبماذا يحكم؟ أيحكم بأنّ خليلاً مات يوم الجمعة أو يوم الخميس؟

إنّ في فرضنا هذا ثلاثة أزمنة: زمن العلم بالحياة وهو يوم الأربعاء، وزمن العلم بالموت وهو يوم الجمعة، والزمن المتخلل بينهما وهو يوم الخميس، الذي لم يعلم بالحياة فيه ولا بالموت. والأصل يوجب إلحاق هذا الزمن المتخلل بالزمان الذي قبله لا بالذي بعده، أي نلحق زمن الجهل بالحياة بالحالة السابقة، وهي العلم بالحياة، فنبقى على علمنا بالحياة إلى زمن العلم بالموت، وتكون النتيجة أنّ الموت تأخر زمن حدوثه إلى يوم الجمعة. وهكذا كل شيء عُلِم بحدوثه، وحصل الشك في تقدمه وتأخره إذا كان الحادث واحداً غير متعدد.

العلم بوقوع حادثين مع الجهل بالمتقدم منهما:

بعد أن مهدّنا بذكر الأصلين - عدم وقوع الحادث وتأخر وقوع الحادث الواحد - نشرع ببيان حكم القاعدة العامة المقصودة بالذات من هذا البحث، وهي العلم بوقوع حادثين يرتبط تأثير أحدهما بتقدمه على الأخر مع الجهل بالمتقدم منهما، كوقوع عقدين أجرى أحدهما الأصيل، والأخر أجراه الوكيل، وكحصول الولادة والهبة، كما قلنا فيما تقدّم، وكموت متوارثين لا يُعرف أيّهما توفي قبل صاحبه.

ويختلف حكم هذه القاعدة باختلاف علم القاضي بزمن وقوع كل

٥٦٦

واحد من الحادثين، أو عدم علمه بزمان حدوثهما، أو علمه بزمن حدوث أحدهما خاصة، فالحالات ثلاث:

١ - أن يعلم القاضي من أقوال المتداعيين أو من الوقائع تاريخ كل واحد من الحادثين، فيحكم والحال هذه بموجب علمه.

٢ - أن يجهل القاضي تقدّم أحد الحادثين على الأخر، ولكن يحصل له العلم بتاريخ حدوث أحدهما دون الأخر، كما لو علم بأنّ بيع الفرس حصل في اليوم الثاني من شهر حزيران، ولا يدري هل وقع العيب في اليوم الأوّل منه كي يجوز الرجوع أو اليوم الثالث كي لا يجوز؟ والعمل في هذه الحال هو الحكم بتقدم معلوم التاريخ، وتأخر المجهول؛ لأنّ أصل تأخر الحادث الذي تقدّم ذكره لا يجري في معلوم التاريخ، فإنّ العلم يمنع من الأخذ بالأصل. أمّا الحادث الذي جهلنا زمن حدوثه فيجري فيه أصل تأخر الحادث؛ لأنّ هذا الأصل يعتمد عليه في مقام الجهل.

والخلاصة: إنّه إذا وقع حادثان أحدهما معلوم التاريخ والأخر مجهول التاريخ يحكم بقول مطلق بتقدم المعلوم وتأخر المجهول، سواء أكان الحادثان من نوع واحد كموت شخصين، أو وقوع عقدين، أو كان الحادثان متغايرين.

٣ - أن لا يعلم القاضي زمن حدوثهما، ولا زمن حدوث أحدهما خاصة - أي يكونا مجهولين التاريخ -، وحينئذ لا أصل يعيّن تقديم أحدهما وتأخير الأخر؛ لأنّ أصل تأخير أحدهما عن الثاني ليس بأولى من أصل تأخير الثاني عن صاحبه - بعد أن كان كل منهما مجهول التاريخ -، فأصل تأخر الحادث إنّما يؤخذ به إذا كان الحادث واحداً أو كان متعدداً، ولكن أحدهما معلوم التاريخ لا يجري فيه الأصل، والأخر مجهول يجري فيه الأصل، أمّا إذا كانا مجهولين ولا ميزة لأحدهما على الأخر فيسقط

٥٦٧

الاعتماد على الأصل بكل منهما لمكان المعارضة(١) .

الغرقى والمهدوم عليهم:

قد يكون بين اثنين قرابة قريبة، ولكن ليس لأحدهما أهلية الإرث من قريبه كأخوين لهما أولاد، وهذه الحال خارجة عمّا نحن فيه وينتقل ميراث كل واحد لأولاده، سواء أمات هو وأخوه في لحظة واحدة أو تقدّم الموت أو تأخر، ويتفق هذا مع ما جاء في كتب الفقه لجميع المذاهب الإسلامية، وما نُقل عن القانون الفرنسي.

وقد تكون أهلية الإرث ثابتة لأحد الطرفين دون الطرف الثاني كأخوين لأحدهما خاصة أولاد، وليس للآخر أولاد، وهذه الحال خارجة أيضاً عن الموضوع؛ لأنّ أبا الأولاد ينتقل ميراثه لأولاده، والذي ليس له أولاد تختص تركته بسائر أقاربه الوارثين غير أخيه الذي مات معه غرقاً أو حرقاً أو غير ذلك؛ لأنّ الشرط في الإرث أن تعلم حياة الوارث عند موت الموروث، والمفروض عدم العلم بحياة أبي الأولاد عند موت مَن لا ولد له(٢) .

وقد تكون الموارثة ثابتة لكلا الطرفين، كإبن وأب وكأخوين ليس لهما أب وأم، وليس لهما أو لأحدهما أولاد كزوجين وارث كل منهما غير وارث الآخر، وهذه الحال تدخل في صميم الموضوع، ويشترط

____________________

(١) تجد هذا التفصيل في كتب أصول الفقه للشيعة الإمامية (باب تنبيهات الاستصحاب)، ومن تلك الكتب الكتاب المعروف بالرسائل للشيخ الأنصاري، وكتاب تقريرات النائيني للسيد الخوئي، وكتاب حاشية الرسائل للشيخ الأشتياني.

(٢) كتاب مفتاح الكرامة، وكتاب المسالك، وكتاب اللمعة.

٥٦٨

الشيعة الإمامية لتوريث بعضهم من بعض أمرين:

١ - أن يكون موت كل منهما مستنداً إلى سبب واحد، وذلك السبب يجب أن يكون الهدم أو الغرق خاصة، بأن يكونا في بناية فتنهار عليهما أو سفينة فتغرق بهما، ولو هلك أحدهما بسبب الغرق والآخر بسبب الحريق أو الانهيار، أو هلكا معاً بسبب الطاعون أو في المعركة فلا توارث، والمنقول عن القانون الفرنسي أنّه يُشترط للتوارث اتحاد سبب الموت، ولكنّه لا يُحصر السبب بالغرق والهدم فحسب - كما تقول الشيعة - بل يتحقق التوارث أيضاً إذا كان الهلاك بالحريق.

٢ - أن يكون زمن كل واحد من الهالكين مجهولاً، فلو عُرِف زمن موت أحدهما وجُهِل زمن موت الآخر يرث المجهول دون المعلوم.

وإليك المثال: انهارت بناية على رجل وزوجته أو غرقت بهما سفينة، وحين الإسعاف عُثِر على الزوج وهو يلفظ النفس الأخير وكانت الساعة قد بلغت الخامسة، وبعد ساعتين عثر رجال الإسعاف على الزوجة وهي جثة هامدة، ولم يعلموا هم ولا نحن هل فارقت الحياة قبل الزوج أو بعده أو معه؟ فزمن موت الزوج معلوم وزمن موت الزوجة مجهول، وأصل تأخر الحادث الذي أشرنا إليه يستدعي أن ترث الزوجة التي جُهِل تاريخ وفاتها من الزوج الذي عُلِم تاريخ وفاته، ولا يرث هو منها شيئاً. وإذا انعكس الأمر فعُلِم زمن موت الزوجة، وجُهِل زمن موت الزوج ورث الزوج دون الزوجة. وبتعبير ثانٍ: إنّه إذا عُلِم تاريخ إحدى الوفاتين فمجهول التاريخ يرث من المعلوم، ومعلوم التاريخ لا يرث من المجهول.

وحيث إنّ الإرث يختص بالمجهول فحسب، وغير ثابت للطرفين فلا يُفرّق في هذه الحال بين أسباب الموت، فالحكم واحد سواء أكان سبب الموت الغرق أو الحريق أو الانهيار، أو الوباء العام أو القتل في المعركة.

أمّا إذا جُهِل التاريخان كما لو عُثِر على جثة الزوج والزوجة وهما

٥٦٩

هامدتان ولم يُعلَم زمن موت أحدهما تتحقق الموارثة بين الطرفين - أي يرث كل واحد من صاحبه -. وهذا التفصيل بين حال العلم بتاريخ أحد الهالكين من جهة والجهل بالتاريخين من جهة ثانية لم يُنقل عن قانون أجنبي، ولم أجده في كتب فقهاء السنّة المتقدمين والمتأخرين، ولا في كلمات الشيعة السالفين، وإنّما ذكره مجتهدو الشيعة المتأخرون في كتب أصول الفقه.

والخلاصة: إنّ الشيعة الإمامية يحصرون التوارث فيما إذا كان سبب الموت الغرق أو الهدم خاصة، ولم يُعلَم زمن موت واحد من الهالكين، وعلى هذا إذا ماتا حتف الأنف أو بسبب الحريق أو القتل في المعركة أو الطاعون وما إلى ذلك فلا توارث، بل ينتقل مال كل واحد إلى ورثته الأحياء، ولا يرث أحد الهالكين من صاحبه شيئاً، وإذا عُلِم تاريخ موت أحدهما دون الآخر يرث المجهول من المعلوم، ولا يرث المعلوم من المجهول.

كيفية التوارث:

كيفية التوارث أن يُفرَض أنّ الزوج مات قبل الزوجة، ويخرج من تركته نصيبها، وتقتسم ورثتها أموالها التي كانت لها في قيد الحياة ونصيبها المتصل إليها بالإرث من زوجها، ثمُ يُفرَض أنّ الزوج مات بعد الزوجة، ويخرج من تركتها نصيب الزوج، ويقتسم ورثته أمواله التي كانت له وهو حي ونصيبه المتصل إليه بالإرث من زوجته، ولا يرث أحدهما من الأموال التي ورثها منه صاحبه، فإذا كانت الزوجة تملك مئة ليرة والزوج يملك ألفاً فترث الزوجة من الألف فحسب، والزوج من المئة فقط؛ لأنّه لو ورث أحدهما من الأموال التي ورثها صاحبه منه لأدّى ذلك إلى أنّ الإنسان بعد موته يرث من مال نفسه! ومن المحال أن يرث

٥٧٠

الإنسان شيئاً ورثه هو لغيره.

والخلاصة: إذا مات اثنان بسبب الغرق أو الهدم، وكان بينهما توارث واشتُبه المتقدم من المتأخر، ولم يُعلَم تاريخ وفاة أحدهما يرث بعضهم من بعض من تلاد المال دون طارفه(١) عند الإمامية فقط.

____________________

(١) تلاد المال: هو ما كان للميت حال حياته. وطارفه: هو ما ورثه من ميت معه.

٥٧١

نماذج للتوضيح

إذا استقرأت ما قدّمنا رأيت أنّ المذاهب الأربعة تحرم من الميراث الأنثى ومَن يتقرب بها في كثير من الحالات، فأولاد البنت والعمات والعم لأُم والجد لها، والأخوال والخالات ليسوا بشيء إذا وجِد واحد من العصبات الذين يتقربون إلى الميت بواسطة الأب. وبنت الأخ لأبوين أو لأب لا ترث مع أخيها من أُمها وأبيها، وكذلك بنت العم لا ترث مع أخيها من أُمها وأبيها. ولولا نص القرآن الكريم على ميراث البنت والأخت والأخوات لأب، والإخوة والأخوات لأُم بالذات لكان شأنهن شأن غيرهن من الإناث ومن يتقرب بهنّ.

وهذه عادة جاهلية، حيث كان الميراث عند أهلها قائماً على أساس التعصب والانتصار للرجل، ولذا حصروا الإرث بالولد الأكبر الذي يحمل السلاح ويقاتل، فإن لم يكن من الأولاد مَن يحمل السلاح أعطوا الإرث لعصبة الأب. وقد لاحظتُ وأنا أُراجع أحكام الإرث عند السنّة، أنّ الأنثى إنّما ترث إذا كان لها فرض منصوص عليه في كتاب الله، أو اقتضى القياس أن تكون مساوية لصاحبة الفرض، كإلحاق بنت الابن بالبنت للصُلب، وحرمان الإناث فيما عدا ذلك. أمّا الإمامية

٥٧٢

فقد ساووا في استحقاق الميراث بين الذكور والإناث، ويتضح ذلك من الأمثلة التالية:

ترك بنتاً وأخاً لأبوين أو لأب

قال الأربعة: المال كله للعم، ولا شيء للجد.

وقال الإمامية: المال كله للجد، ولا شيء للعم.

٥٧٣

ترك ابن أخ لأبوين أو لأب، وخمسة أبناء أخ آخر لأبوين أو لأب

قال الأربعة: يُقسّم المال على عدد رؤوسهم لا على عدد آبائهم، وتكون الفريضة من ستة لكل واحد سهم.

وقال الإمامية: يُقسّم المال على عدد آبائهم، لا على عدد رؤوسهم، ويأخذ كل نصيب مَن يتقرب به، فلابن الأخ الواحد خمسة من عشرة، وللخمسة الآخرين خمسة أسهم، لكل واحد سهم من عشرة.

ترك ابن أخ وبنت أخ لأبوين أو لأب

قال الأربعة: يرث الذكر دون الأنثى مع أنّها أخته لأُمه وأبيه.

وقال الإمامية: يرثان معاً للذكر مثل الأُنثيين.

نكتفي بهذا القدر من الأمثلة، وهي كافية وافية لتقديم صورة كاملة عن أنّ الميراث عند الإمامية يختلف اختلافاً جوهرياً عنه عند مذاهب السنّة.

٥٧٤

٥٧٥

الوَقْف

٥٧٦

٥٧٧

تعريفه:

الوقف يجمع على وقوف وأوقاف، والفعل منه وقف، أمّا أوقف فشاذ، كما في تذكرة العلاّمة الحلّي. ومعناه لغة: الحبس والمنع، تقول: وقفتُ عن السير، أي امتنعت عنه.

وفي الشرع: نوع من العطية يقضي بتحبيس الأصل، وإطلاق المنفعة. ومعنى تحبيس الأصل: المنع عن الإرث، والتصرف في العين الموقوفة بالبيع أو الهبة أو الرهن أو الإجارة أو الإعارة، وما إلى ذاك. أمّا تسبيل المنفعة: فهو صرفها على الجهة التي عينها الواقف من دون عوض.

ويرى بعض الفقهاء أنّ الوقف غير مشروع في الشريعة الإسلامية، وأنّه منافٍ لمبادئها إلاّ فيما كان مسجداً، وهو قول متروك عند المذاهب.

التأبيد والاستمرار:

اتفقوا ما عدا المالكية على أنّ الوقف لا يتحقق إلاّ إذا أراد به الواقف التأبيد والاستمرار، ولذا يُعبّر عنه بالصدقة الجارية، فلو حدده بأمد معيّن، كا لو قال: هذا وقف إلى عشر سنوات، أو قال: على أن استرجعه متى شئتُ، أو عند حاجتي، أو حاجة أولادي، أو ما

٥٧٨

إلى ذاك - لو كان هكذا - لا يكون وقفاً بمعناه الصحيح.

وذهب كثير من فقهاء الإمامية إلى أنّه يبطل وقفاً ويصحّ حبساً(١) إذا قصد صاحب العين الحبس، أمّا إذا قصد الوقف بطل وقفاً وحبساً. ومعنى صحته حبساً: إنّ الجهة التي خصصها صاحب العين للاستثمار تنتفع بالعين طوال المدة المضروبة، وبعدها ترجع إلى المالك، كما كانت الحال من قبل.

ومهما يكن، فإنّ هذا لا يتنافى مع اعتبار التأبيد والاستمرار في الوقف، وقد التبس الأمر على الشيخ أبي زهرة، وصعب عليه التمييز بين الوقف والحبس عند الإمامية، لذا نسب إليهم القول بأنّ الوقف يجوز عندهم أن يكون مؤبداً وأن يكون مؤقتاً. وهذا خطأ، بل الوقف عندهم لا يكون إلاّ مؤبداً.

وقال المالكية: لا يُشترط في صحة الوقف التأبيد، بل يصحّ ويلزم مدة تعيينه سنة مثلاً، ويكون بعدها ملكاً لصاحبه.

وكذا إذا اشترط أن يبيع الواقف العين الموقوفة هو أو الموقوف عليه، صح ويتبع الشرط. (الجزء السابع شرح الزرقاني باب الوقف)(٢) .

وإذا وقف على جهة تنقرض ولا تدوم - كما لو قال: هذا وقف على أولادي الموجودين، أو على غيرهم من الذين ينقرضون في الغالب - فهل يصحّ الوقف، أو يبطل؟ وعلى افتراض الصحة فلمن يكون الوقف بعد الجهة المنقرضة؟

____________________

(١) الفرق بين الوقف والحبس: إنّ بالوقف يزول الملك عن الواقف كلية، ولذا يمتنع إرث العين وغيره من التصرفات، أمّا الحبس فالعين باقية على ملك الحابس، وتُورث وتباع الخ. وقد خفي هذا الفرق على شيخ أبي زهرة، ونسب إلى الإمامية ما لا يريدون، كما سترى.

(٢) إنّ لمسألة التأبيد في الوقف صلة تامة بمسألة من يملك العين الموقوفة التي سنتكلم عنها في هذا الفصل بالذات، فلاحظ.

٥٧٩

قال الحنفية: يصحّ الوقف، ويُصرف بعد انقراض الجهة إلى الفقراء.

وقال الحنابلة: يصحّ، ولكن يُصرف إلى أقرب الناس للواقف، وهو أحد قولي الشافعية.

وقال المالكية: يصحّ، ويرجع لأقرب الفقراء إلى الواقف، فإن كلهم أغنياء إلى عصبتهم. (المغني، والزرقاني، والمهذب).

وقال الإمامية: يصحّ وقفاً، ويرجع إلى ورثة الواقف. (الجواهر).

القبض:

القبض: هو أن يتخلى المالك عن العين، ويُسلّط عليها الجهة الموقوف إليها، وهو عند الإمامية شرط في لزوم العقد، لا في صحته، فإذا وقف ولم يحصل القبض فللواقف أن يرجع.

فلو وقف على جهة عامة كالمسجد أو المقبرة أو على الفقراء لا يلزم الوقف إلاّ باستلام المتولي، أو الحاكم الشرعي، أو بالدفن في القطعة، أو الصلاة في المسجد، أو بتصرف الفقير بإذن الواقف، وإذا لم يحصل القبض بشيء من ذلك يجوز للواقف الرجوع عن الوقفية. وإذا وقف على جهة خاصة كأولاده، فإن كانوا كباراً لا يتم الوقف إلاّ باستلامهم بإذنه، وإن كانوا صغاراً لم يحتج إلى قبض جديد؛ لأنّ يده يدهم، لمكان ولايته. وإذا مات الواقف قبل القبض بطل الوقف، وأصبح ميراثاً، ومثاله أن يقف دكاناً في سبيل الخير، ثمّ يموت وهي في تصرفه، فتعود - والحال هذه - إلى الورثة.

وقال المالكية: لا يكفي القبض وحده، بل لا بدّ معه من الحيازة سنة كاملة، كأن يقبض الموقوف إليه أو المتولي العين، وتبقى سنة في تصرفه، وبعد تمامها يلزم الوقف، ولا يمكن إبطاله بحال.

وقال الشافعية، وابن حنبل في بعض أقواله: لا يحتاج الوقف لتمامه

٥٨٠