الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة0%

الفقه على المذاهب الخمسة مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 650

الفقه على المذاهب الخمسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد جواد مغنية
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 650
المشاهدات: 239760
تحميل: 32078

توضيحات:

الفقه على المذاهب الخمسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 650 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 239760 / تحميل: 32078
الحجم الحجم الحجم
الفقه على المذاهب الخمسة

الفقه على المذاهب الخمسة

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

غيره إذا أذن له. أمّا إذ سكت ولم يتعرض للتفويض إيجاباً ولا سلباً فقد ذهب الحنفية إلى أنّ له ذلك، وقال الإمامية والحنابلة والشافعية والمالكية: ليس له، وإذا فوّض يكون تفويضه لغواً.

أبناء العلماء والأوقاف:

وجد في عصرنا علماء يحرصون على دنياهم حرص علي على دينه، ومن ذلك أنّهم يجعلون ولاية الوقف الذي في يدهم إلى أولادهم، ثمّ أولاد أولادهم، ثمّ إلى يوم يبعثون، ويتسترون بلفظ الأرشد فالأرشد من هذا النسل.

ولا أريد أن أردّ على هذه البدعة أو السنّة بالآيات والروايات، وإنّما أوجّه هذه التساؤلات: هل قصد الشيخ من هذا التفويض مصلحة الوقف والمجتمع، أو المصلحة الشخصية لمن يوجد من الذرية؟ ثمّ هل الباعث على هذا التفكير مكارم الأخلاق والعفة والزهد والتضحية في سبيل الدين، أو الغنم للأولاد وأولاد الأولاد عن طريق الاتجار بالدين، واستغلاله؟ وهل اطّلع جنابه على الغيب، وعلم أنّ الأرشد من نسله أفضل للإسلام والمسلمين من الأرشد من نسل غيره؟

وبالتالي، ألا يتعظ هذا الشيخ بما رآه وشاهده من الشجار بين أولاد العلماء، وبين أهل البلد الذي فيه الوقف، ثمّ النزاع بين الأولاد بعضهم مع بعض على تعيين الأرشد، واتفاقهم بالنهاية على إقسام الوقف، تماماً كما يقتسمون الميراث؟

٦٢١

بيع الوقف

أسئلة:

هل توجد أسباب في الواقع تستدعي جواز بيع الوقف؟ وما هي هذه الأسباب في حال وجودها؟ ثمّ ما هو حكم الثمن لو جاز البيع ووقع؟ هل نستبدل به عيناً تستهدف جهة الوقف الأُولى، وتحلّ العين الجديدة محلّ العين القديمة وتأخذ حكمها؟

المكاسب والجواهر:

وسنعرض أقوال المذاهب بالتفصيل، ومنها يتضح الجواب عن هذه التساؤلات وغيرها. ولم أجد فقيهاً من فقهاء المذاهب الخمسة قد أطال الكلام في هذ المسألة كالفقيهين الإماميين الشيخ الأنصاري في مكاسبه، والشيخ محمد حسن في جواهره - باب التجارة - فقد تناولاها من جميع أطرافها، وفرّعا عليها فروعاً شتّى، مع التبسيط في عرض الأقوال وغربلتها، وتنقية الحقائق الصافية الخالصة. وسنلخّص المهم ممّا جاء في

٦٢٢

هذين السفرين اليتيمين اللذين اعتمدنا عليهما أكثر من أي كتاب في بيان ما ذهب إليه الإمامية.

وبهذه المناسبة أشير - بإيجاز - إلى أنّ الشيخ الأنصاري وصاحب الجواهر لم يوفّرا أبداً على قارئهما الجهد والعناء في كل ما أنتجا وتركا من آثار، بل طلبا منه الكد والصبر والذكاء، والمؤهلات العلمية الثرية، ومحال على مَن فقد هذه المؤهلات أن يتابعهما في شي أو يلحق بغبارهما، بل يدعانه ضالاً في التيه، لا يدري أين شاطئ السلام؟

أمّا مَن أقام بنيانه على أساس من العلم فيعطيانه أثمن الجواهر، وأجدى المكاسب، على شرط الصبر والمتابعة أيضاً. ولا أعرف فقيهاً إمامياً من القدامى والجدد أعطى الفقه الجعفري وأصوله الحيوية والأصالة بقدر ما أعطاه قلمهما الجبار.

ومعذرة من هذا الاستطراد الذي قادتني إليه قسراً تلمذتي على يد هذين العظيمين، أو على آثارهما بالأصح.

هذه المسألة:

لقد تعددت أقوال الفقهاء، وتضاربت في هذه المسألة أكثر من أيّة مسألة غيرها في الفقه أو في باب الوقف، وتعرّض صاحب الجواهر إلى هذا التعدد والتضارب، نقطف من كلامه هذه الملمومة:

وقع الاختلاف بين الفقهاء في بيع الوقف على وجه لم نعثر على نظيره في مسألة من مسائل الوقف إطلاقاً، فهم ما بين مانع من بيع الوقف إطلاقاً، ومجيز له في بعض الموارد، ومتوقف عن الحكم. بل تعددت الأقوال، حتى انفرد كل فقيه بقول، بل خالف الفقيه الواحد نفسه بنفسه في كتاب واحد، فذهب في باب البيع إلى غير ما قاله في باب الوقف، وربّما ناقض قوله في كلام واحد، فقال في صدره ما يخالف

٦٢٣

عجزه. ثمّ أنهى صاحب الجواهر الأقوال إلى ١٢ قولاً، وتعرف هذه الأقوال أو المهم منها من المسائل التالية:

المسجد:

للمسجد حكم عند المذاهب الإسلامية يخالف حكم جميع الأوقاف بشتى أنواعها، ولذا اتفقوا ما عدا الحنابلة على عدم جواز بيعه بحال، ومهما كانت الظروف والأسباب، حتى ولو خرب، أو انتقل أهل القرية والمحلة وانقطع المارة عن طريقه، بحيث يعلم جزماً أنّه لا يمكن أن يصلّي فيه إنسان، مع ذلك كله يجب أن يبقى على ما هو بدون تغيير ولا تبديل؛ وعللوا ذلك بأنّ وقف المسجد يقطع كل صلة بينه وبين الواقف وغير الواقف إلاّ الله سبحانه، ومن هنا عبّروا عنه تارة بفك ملك، وأخرى بتحرير ملك، أي أنّه كان مقيداً فأصبح طلقاً من كل قيد، وإذا لم يكن ملكاً لأحد فكيف يجوز بيعه، مع العلم بأنّه لا بيع إلاّ في ملك؟

ورتّبوا على ذلك أن لو استثمره غاصب - فسكن فيه أو زرعه - يأثم، ولكن لا يضمن ولا يغرم شيئاً؛ لأنّه غير مملوك لأحد.

ويلاحظ بأنّ خروجه عن الملك إنّما يمنع من تملكه بالبيع والشراء، ولا يمنع من تملكه بالحيازة، كسائر المباحات العامة.

وقال الحنابلة: إذا انتقل أهل القرية عن المسجد، وصار في موضع لا يُصلّى فيه، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه، ولا عمارة بعضه إلاّ بيع بعضه جاز، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء إلاّ ببيع يباع. (المغني ج٥ باب الوقف).

ويلتقي قول الحنابلة في وجوه مع ما ذهب إليه الفقيه الإمامي السيد كاظم، حيث قال في ملحقات العروة بعدم الفرق بين المسجد وبين غيره من الأوقاف.

٦٢٤

فالخراب الذي يبرّر بيع غير المسجد يبرّر بيع المسجد أيضاً، أمذا التحرير وفك الملك فلا يمنع البيع في نظره ما دامت العين متصفة بالمالية. والحق ما قلناه من عدم جواز التملك بالبيع، وجوازه بالحيازة.

والذي يعزّز قول هذا الفقيه العظيم من عدم الفرق أنّ مَن أجاز بيع غير المسجد إذا خرب إنّما أجازه لأنّ الخراب ينفي الغرض المقصود من الوقف، أو ينفي عنه الوصف الذي جعله الواقف موضوعاً أو قيداً للوقف، كما لو وقف بستاناً من حيث هو بستان ولم يقف نفس الأرض من حيث هي هي، وهذا بعينه جارٍ بالقياس إلى المسجد؛ لأنّ إقامة الصلاة فيه قيد في وقفه، فإذا انتفى القيد انتفت الوقفية، أو انتفت صفة المسجدية التي اعتُبرت فيه، وحينئذ يجري عليه ما يجري على غيره من جواز التملك بأحد أسبابه ولو بالحيازة.

أموال المساجد:

في الغالب أن يكون للمساجد أوقاف كحانوت، أو دار، أو أشجار، أو قطعة أرض، ينفق ريعها على إصلاح المسجد وفرشه وخادمه. وبديهة أنّ هذا النوع لا يترتب عليه أحكام المسجد من الإحترام، وأفضلية الصلاة فيه، للفرق بين الشيء نفسه وبين أمواله وأملاكه التابعة له.

وأيضاً فرق بينهما من جهة البيع، فكل مَن منع من بيع المسجد الخراب له أن يجيز بيع الأوقاف التابعة له، إذ لا ملازمة شرعية ولا غير شرعية بينهما؛ لأنّ المسجد وقف للعبادة، وهي روحية خالصة، أمّا الدكان فوقف لأجل المنفعة المادية، ولذا كان المسجد من نوع الوقف العام، بل هو أظهر أفراده، أمّا أوقافه فهي من الأوقاف الخاصة به وحده. إذن يجوز بيع أوقاف المسجد، وأوقاف المقبرة والمدرسة بلا ريب، حتى ولو قلنا بعدم جواز بيع المدرسة والمقبرة. ولكن هل يجوز

٦٢٥

بيع الأعيان التابعة للوقف مطلقاً، حتى مع عدم وجود سبب مبرر كالخراب أو ضآلة الناتج، أو لا بدّ فيها من وجود المبرر شأنها في ذلك شأن الوقف على الذرية وما إليه من الأوقاف الخاصة؟

الجواب:

إنّ هذه الأعيان على قسمين:

الأوّل: ما ينشئه المتولي من ريع الوقف، كأن يكون للمسجد بستان فيؤجّره المتولي، ويشتري أو يبني المتولي بناتجه دكاناً لفائدة الوقف، أو يوجد الدكان بتبرعات المحسنين، إذا كان الأمر كذلك يجوز البيع والاستبدال مع المصلحة، سواء أوُجِد سبب من الأسباب التي ذكرها الفقهاء لجواز البيع أم لم يوجد؛ لأنّ هذه الأعيان ليست وقفاً، وإنّما هي ناتج ومال للوقف، فيتصرف فيه المتولي تبعاً للمصلحة، تماماً كما يتصرف بثمر البستان الموقوف لمصلحة المسجد(١) . اللهم إلاّ أن يتولى الحاكم الشرعي إنشاء وقف العقار الذي اشتراه المتولي، وحينذ لا يباع العقار إلاّ مع وجود سبب يبرر البيع. أمّا وقف الناظر فلا أثر له بدون إذن الحاكم؛ لأنّه وليّ من أجل رعاية الوقف واستثماره، لا لإنشاء الأوقاف وإيجادها.

القسم الثاني: الأعيان التي ينشئ وقفها المحسنون لمصلحة المسجد أو المدرسة، كمن أوصى بداره أو دكانه أو أرضه أن تكون وقفاً للمسجد أو المدرسة، أو أنشأ هو الوقف بنفسه، فهذه العين تُعطى حكم الأوقاف الخاصة، يجوز فيها البيع لسبب من أسباب الجواز كالخراب وضآلة العائد الملحَق بالعدم، وبدونه لا يجوز. ولم أجد فيما لدي من كتب المذاهب الأربعة مَن ذهب إلى هذه التفرقة الموضوعية.

____________________

(١) ينبغي الإنتباه للفرق بين العقار الذي نشتريه بناتج الوقف، وبين أن نبيع الوقف الخرب ونشتري بثمنه عقاراً آخر، فإنّ الثاني يأخذ حكم الأوّل في هذه الحال، أمّا العقار الذي نشتريه من ناتج الوقف فلا يأخذ حكم الوقف.

٦٢٦

وقد استوحيتها ممّا ذكره الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب، وهو يتكلم عن حكم حصير المسجد، قال ما نصه: (فرقٌ بين ما يكون مُلكاً طلقاً، كالحصير المشترى من مال المسجد، فهذا يجوز للناظر بيعه مع المصلحة، ولو لم يخرج من حيّز الانتفاع، بل كان جديداً غير مستعمل، وبين ما يكون من الأموال وقفاً على المسجد، كالحصير الذي يشتريه الرجل ويضعه في المسجد، والثوب الذي يُلبِس البيت، فمثل هذا يكون ملكاً للمسلمين لا يجوز لهم تغييره عن وضعه إلاّ في مواضع يسوغ فيها بيع الوقف).

وإذا جاز للناظر أن يبيع الحصير الجديد الذي كان قد اشتراه من مال المسجد جاز له في غيره بلا ريب. ويدلّ على عدم الفرق بين قول الشيخ نفسه بعد أسطر من العبارة السابقة، حيث قال: (إنّ حكم الحمامات والدكاكين التي أُنشئت لتحصيل المنافع بالإيجار ونحوه غير حكم المساجد والمقابر والمشاهد).

ومثل ذلك تماماً قول النائيني في تقريرات الخونساري:

(وإذا هُدِم أو هُجِر المسجد، ولم يعد بحاجة إلى أوقاف ولا غيرها صُرف الوقف الخاص به إلى وجوه البر، والأولى صرفه إلى مسجد آخر)، وكذلك إذا كان الوقف على مدرسة خاصة أو مصحّ خاص وخرب، فإنّه يُصرف إلى الخير والبر، أو إلى النظير والمثيل.

غير المسجد:

أشرنا إلى أقوال المذاهب في المسجد، وأنّ الإمامية والشافعية والحنفية والمالكية ضد الحنابلة فيه، أمّا في غير المسجد من الأوقاف فإنّ للإمامية في مسألة بيعها مسلكاً خاصاً، لذا نشير أوّلاً إلى أقوال المذاهب الأربعة، ثمّ إلى قول الإمامية على حدة.

٦٢٧

وإذا أجاز الحنابلة بيع المسجد مع وجود المسوّغ، فبالأولى أن يجيزوا بيع غيره من الأوقاف واستبداله مع السبب الموجب.

أمّا الشافعية فقد منعوا البيع والاستبدال إطلاقاً، حتى ولو كان الوقف خاصاً، كالوقف على الذرية، ووجِد ألف سبب وسب. وأجازوا للموقوف عليهم أن يستهلكوا بأنفسهم الوقف الخاص إذا وجِد المقتضي، كالشجرة تجف ولم تعد صالحة للثمر، فإنّ للموقوف عليهم أن يتخذوها وقوداً، ولا يجوز لهم بيعها ولا استبدالها.

أمّا المالكية، فقد جاء في شرح الزرقاني على أبي ضياء أنّ الوقف يجوز بيعه في حالات ثلاث:

الأُولى: أن يشترط الواقف البيع عند إنشاء الوقف، فيتبع شرطه.

الثانية: أن يكون الموقوف من نوع المنقول، ولم يعد يصلح للجهة الموقوف عليها، فيباع ويُصرف ثمنه في مثله ونظيره.

الثالثة: يباع العقار لضرورة توسيع المسجد، أو الطريق، أو المقبرة، وفيما عدا ذلك لا يسوغ البيع، حتى ولو خرب العقار وأصبح لا يُستغل في شيء.

أمّا الحنفية فقد نقل عنهم أبو زهرة في كتاب الوقف أنّهم أجازوا الاستبدال في جميع الأوقاف الخاصة منها والعامة - غير المسجد - وأنّهم ذكروا لذلك ثلاث حالات:

الأُولى: أن يشترط الواقف ذلك حين الوقف.

الثانية: أن يصير الوقف بحال لا ينتفع به.

الثالثة: أن يكون الاستبدال أدرّ نفعاً وأكثر غلة، ولا يوجد شرط من الواقف يمنع من البيع.

هذا هو ملخّص رأي المذاهب الأربعة في غير المسجد، وهم كما رأيت لا فرق عندهم بين الأوقاف الخاصة وبين الأوقاف العامّة - غير المسجد - من جهة البيع، على عكس الإمامية الذين فرقوا بينهما.

٦٢٨

العام والخاص:

قسّم الإمامية الوقف إلى نوعين، وجعلوا لكل منهما حكمه وآثاره:

الأوّل: الوقف الخاص، وهو ما كان ملكاً للموقوف عليهم، أي الذين يستحقون استثماره والانتفاع به، ومنه الوقف الذري، والوقف على العلماء أو الفقراء، ووقف العقار لمصلحة المسجد والمقبرة والمدرسة وما إليها. وهذا النوع من الوقف هو الذي وقع الخلاف بينهم في أنّه يجوز بيعه مع الأسباب الموجبة، أو لا يجوز إطلاقاً، حتى ولو وجِد ألف سبب وسبب.

الثاني: الوقف العام، وهو ما أُريد منه انتفاع الناس، كل الناس، لا فئة خاصة ولا صنف معيّن، ومنه المدارس والمصحّات، والمساجد والمشاهد، والمقابر والقناطر والخانات التي كانت منذ زمان، وعيون الماء، والأشجار المسبلة للمارة، وفي حكمها المساجد والمقابر والمشاهد؛ لأنّها لا تخص بمسلم دون مسلم، ولا بفئة من المسلمين دون فئة.

وقد اتفق الإمامية على أنّ هذه الأوقاف العامّة لا يجوز بيعها، ولا استبدالها بحال، حتى لو خربت وأوشكت على الهلاك والضياع؛ لأنّها عندهم أو عند أكثرهم فك ملك، أي إخراج لها عن ملك مالكها الأوّل إلى غير مالك، فأصبحت بعد الوقف تماماً كالمباحات العامة، وبديهة أنّه لا بيع إلاّ في ملك. بخلاف الأوقاف الخاصة، فإنّها تحويل من ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليهم بنحو من الأنحاء. أجل، إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها كلية يجوز تحويل الوقف إلى جهة أخرى قريبة من الأُولى، كالمدرسة ينقطع عنها الطلاب بحيث يتعذر إقامة الدروس فيها، فيباح تحويلها إلى مكتبة عامة، أو نادٍ للمحاضرات.

وقد أشرنا في مسألة المسجد إلى أنّه إذا امتنع التملك بالبيع فإنّه لا يمتنع بالحيازة، وأشرنا أيضاً إلى أنّ السيد صاحب ملحقات العروة يرد

٦٢٩

على الفقهاء بعدم الفرق بين الوقف العام والخاص، وأنّ السبب الذي يبرر بيع الخاص يبرر أيضاً بيع العام، وأنّه لا يعترف بأنّ الوقف في العام من نوع فك الملك وتحريره. وإذا افتُرض أنّه كذلك فلا مانع عنده من البيع؛ لأنّ المبرر للبيع في نظره مجرد اتصاف العين بالمالية.

أمّا نحن فنلاحظ على قول الفقهاء، وعلى قول السيد أيضاً: وردّنا على الفقهاء بأنّ عدم الملك إن مُنع من التملك بالبيع فإنّه لا يُمنع منه بالحيازة، كما أنّ الملك بمفرده لا يبرر البيع، فالعين المرهونة مملوكة بلا ريب، ومع ذلك لا يجوز بيعها إلاّ بإذن المرتهن.

وأمّا ردّنا على السيد فهو: إنّ الاتصاف بالمالية وحدها لا يجدي نفعاً، فإنّ المباحات كالسمك في الماء والطير لها مالية، ومع ذلك لا يجوز بيعها، إذن ينحصر سبيل التملك الحيازة، كما قلنا.

المقبرة:

قدّمنا أنّ المقابر من الأوقاف العامة - كالمسجد - وأنّ الإمامية لا يجيزون بيع الأوقاف العامة بحال، حتى ولو خربت واندرست. ورأيت من المفيد أن أُخصص المقبرة بهذه الفقرة، لأمرين:

الأوّل: لمكان الحاجة إلى بيان الحكم، فإنّ كثيراً من مقابر المسلمين قد هُجِرت واستُعيض عنها.

الثاني: إنّ للمقبرة حالاً تغاير بقية الأوقاف - في الغالب - وتتبين هذه الحال المغايرة ممّا يلي:

لو علمنا أنّ إنساناً وقف أرضه مقبرة، واستُعملت للدفن جرى عليها حكم الوقف العام، وكانت من الأوقاف التي لا يجوز بيعها، حتى ولو اندرست رسومها، وانمحت آثارها، وبليت عظام موتاها.

٦٣٠

وإذا علمنا أنّ هذه القطعة كانت مواتاً، ولم يملكها مالك من قبل، ثمّ اتخذها أهل القرية مقبرة، كما هي الحال - في الغالب - فلن تكون وقفاً من الأساس، لا عامّاً ولا خاصاً، وإنّما تبقى على ما كانت مشاعاً يحوزها مَن سبق، فإذا دُفن ميت في جزء منها لم يجز لغيره نبشه، أو استعماله بما يستدعي الهتك، ولكن لأيّ إنسان أن يحيي أيّ جزء شاء من هذه القطعة بالذات، يحييه بالعمارة أو الزراعة، إذا كان خالياً من القبور، أو كان فيه قبر قديم وقد صارت عظام صاحبه تراباً أو كالتراب، يجوز له ذلك تماماً كما جاز له أن يحيي أرضاً أعرض عنها أو هجرها مَن كان قد أحياها، حتى عادت إلى ما كانت عليه قبل الإحياء.

وإذا جهلنا الحال، ولم نعلم بأنّ هذه القطعة التي استعملت مقبرة هل كانت مملوكة، ثمّ وقفها المالك، حتى تكون الآن وقفاً وتأخذ حكمه، أو إنّها كانت في الأصل مواتاً، ثمّ جعلها أهل القرية مقبرة لموتاهم - إذا كان الأمر كذلك - فلا تأخذ حكم الوقف؛ لأنّ الاصل عدم الوقف، حتى يثبت العكس بالبينة الشرعية؟

وتقول: إنّ الوقف يثبت بالشياع، فلمإذا لا نثبت به وقف المقبرة؟

وجوابنا: إنّه إذا حصل الشياع بأنّ هذه المقبرة هي وقف، كأن يتناقل جيل عن جيل أنّ فلاناً وقفها مقبرة، إذا كان هكذا فإنّا نثبت الوقف قطعاً، أمّا مجرد الشياع بأنّ هذه مقبرة فلا يجدي شيئاً، إذ المفروض إنّا نعلم بالوجدان أنّها مقبرة، وأنّه لم ينازع في ذلك منازع، ولكن مجرد العلم بأنّها مقبرة لا يثبت الوقفية، إذ قد تكون مقبرة ولا تكون وقفاً، بل تكون مشاعاً، ومعلوم أنّ الخاص لا يثبت بوجود العام.

٦٣١

فرع:

إذا حفر إنسان قبراً لنفسه كي يُدفن فيه عندما يوافيه الأجل، جاز لغيره أن يدفن فيه ميتاً آخر، حتى ولو كان في الأرض سعة، والأولى أن يتركه له تجنباً لإيذاء المؤمن.

الأسباب المبررة:

قدّمنا أنّ فقهاء الإمامية اتفقوا على أنّ الأوقاف العامة - كالمساجد والمقابر وما إليها - لا يجوز بيعها، وأنّهم اختلفوا في بيع الأوقاف الخاصة - كالوقف على الذرية، وعلى العلماء أو الفقراء - إذا وجِد السبب المبرر للبيع، وهذي هي الأسباب التي ذكروها لتبرير بيع الوقف الخاص:

١ - أنّ لا تبقى للعين الموقوفة أيّة منفعة للجهة الموقوف عليها، كالجذع البالي يجفّ ولا يثمر، والحصير الحلق لا يصلح إلاّ للنار، والحيوان إذا ذُبح لم يعد صالحاً إلاّ للأكل. وليس من شك أنّ هذا سبب مبرر للبيع.

٢ - قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة: إنّ الآلات والفرش وثياب الضرائح وأشباه هذه، إن أمكن الانتفاع بها مع بقائها على حالها لا يجوز البيع، وإن استغنى عنها المحَل، بحيث يستدعي بقاؤها فيه الضياع والتلف جُعلت في محل آخر مماثل، فإن لم يوجد المماثل أو وجِد وكان في غنى عنها، صُرفت إلى المصالح العامة. أمّا إذا لم يمكن الانتفاع بها إلاّ ببيعها، ولزم من بقائها ضياعها أو تلفها بيعت، وصُرف ثمنها في ذاك المحل إن احتاج إليه، وإلاّ ففي المماثل، ثمّ في الصالح العام.

٦٣٢

٣ - أن يخرب الوقف، كالدار تنهدم، والبستان لم يعد صالحاً للانتفاع به، أو كانت منفعته ضئيلة أشبه بالعدم، فإن أمكنت عمارته ولو بإجاره إلى سنوات فذاك، وإلاّ جاز البيع، على أن يُستبدل بثمنه عين تحلّ محل العين الأُولى، كما يأتي.

٤ - إذا اشترط الواقف أن تباع العين إذا اختلف الموقوف عليهم، أو قلّ ريعها، أو غير ذلك من الشروط التي لا تحلّل حراماً ولا تحرّم حلالاً اتُّبع شرطه.

٥ - إذا وقع اختلاف بين أرباب الوقف يخشى منه على ضياع الأنفس والأموال، بحيث لا ينحسم النزاع إلاّ بالبيع جاز، ووزِّع الثمن على الموقوف عليهم، إذا لم ينحسم النزاع إلاّ بهذه السبيل.

هكذا قالوا، ولا أعرف له مدركاً إلاّ ما ذكروه من دفع الضرر الأشد، ومعلوم بالبديهة أنّه لا يجوز دفع الضرر عن النفس بإدخاله على الغير، وفي البيع ضرر على البطون اللاحقة.

٦ - إذا أمكن أن يباع من الوقف الخرب، ويُصرف الثمن لإصلاح الجزء الآخر جاز.

٧ - إذا هُدِم المسجد فأحجاره وأخشابه وأبوابه وسائر أدواته لا تأخذ حكم المسجد، ولا حكم العقار الموقوف لصالحه من عدم جواز البيع إلاّ بمبرر، بل يكون حكمها حكم أموال المسجد، وناتج أوقافه تماماً كإجار الدكان يتّبع فيها المصلحة التي يراها المتولي.

ثَمن الوقف:

إذا بيع الوقف بسبب مبرر، فمإذا نصنع بالثمن: هل نوزّعه على

٦٣٣

الموقوف عليهم، تماماً كما نوزّع الناتج، أو يجب أن نشتري به عقاراً مماثلاً إن أمكن، ويأخذ الثاني مكان الأوّل؟

قال المحقق الأنصاري وكثيرٌ غيره من ذوي الاجتهاد: (إنّ الثمن حكمه حكم الوقف الأوّل من كونه ملكاً للبطون، فإن كان الثمن عقاراً أخذ مكان الأوّل، وإن كان نقداً اشترينا به ما هو أصلح، ولا يحتاج البدل إلى صيغة الوقف؛ لأنّ نفس البدلية تستدعي بطبيعتها أن يكون الثاني كالأوّل من غير فرق؛ ولذا قال الشهيد في غاية المراد: (إنّه - أي البدل - صار مملوكاً على حد الملك الأوّل، إذ يستحيل أن يُملك على حدة).

ثمّ قال الأنصاري في المكاسب في آخر كلامه عن الصورة الأُولى لصور جواز بيع الوقف: (لو تعذّر أن نشتري بالثمن عقاراً وضِع الثمن عند أمين مترقبين الفرص، وإذا دعت المصلحة للاتجاز به جاز، ولكنّ الربح لا يوزّع على المستحقين، كما هو الشأن في الناتج، بل يكون حكمه حكم أصل الوقف؛ لأنّه جزء من المبيع وليس كالنماء الحقيقي).

هذا ما قاله المحقق الأنصاري، وهو أعلم بمراده رضوان الله عليه. أمّا أنا فلم أدرك الفرق بين ربح التجارة بمال الوقف، وبين ثمرة العين الموقوفة، فكما أنّ الثمرة توزّع على المستحقين كذلك ينبغي أن يوزّع الربح، اللهم إلاّ أن يقال بأنّ ناتج العقار الموقوف ليس من نوع العين الموقوفة، بل يباينها، أمّا أرباح التجارة فهي من نوع المال، ولا يختلف عنه في شيء، ومتى حصل الفرق اختلف الحكم. ومهما يكن، فإنّ الفكر إذا جال وجد الحل لكل مشكلة وإشكال، ولكن من الوجهة النظرية، وبديهة أنّ العبرة بالواقع، والواقع المحسوس: إنّ العرف لا يجد فرقاً بين الحالين، وعليه المعوّل.

وقال الشيخ النائيني في تقريرات الخونساري: إذا ابتيع بثمن العين

٦٣٤

وليس من شك أنّ هذا سد لباب الولاية بالإسمنت المسلح، لا بالحجر والطين فقط، هذا إلى أنّ العدالة وسيلة للحفظ والغبطة، وليست غاية في نفسها، وإن دلّ شرط العدالة على شيء فإنّما يدلّ على أنّها كانت غير نادرة في المجتمع الذي عاش فيه مَن اعتبرها واشترطها.

واتفقوا على أنّ تصرفات الولي التي تكون خيراً ونفعاً للمولَّى عليه تنفذ، وإنّ الضارة منها لا تنفذ. واختلفوا فيما لا نفع فيها ولا ضرر من التصرفات، قال فريق من الإمامية: تنفذ إذا كانت من الأب والجد فقط؛ لأنّ الشرط في تصرفهما عدم المفسدة لا وجود المصلحة، أمّا الحاكم والوصي فمقيد بالمصلحة، بل قال بعضهم: ينفذ تصرّف الأب مع المفسدة والمضرة على الطفل(١) .

وقال غير الإمامية: لا فرق بين الأب والجد والحاكم والوصي من أنّ تصرّف الجميع لا ينفذ إلاّ فيما فيه الغبطة والمصلحة، وعلى هذا كثير من الإمامية.

وعليه يجوز للولي أن يتّجر بمال الصبي والمجنون والسفيه، أو يعطيه لمن يتّجر به، وأن يشتري له عقاراً، أو يبيع من ماله أو يقرضه، كل ذلك وما إليه بشرط المصلحة والنصيحة، وتنحصر المصلحة في القرض بالخوف على المال من الضياع.

ومن المفيد أن ننقل طرفاً من الفروع التي ذكرها الفقيه الإمامي الكبير العلاّمة الحلّي في التذكرة باب الحجر:

____________________

(١) قال النائيني في تقريرات الخونساري ج١ ص٣٢٤ طبعة ١٣٥٧ﻫ: (الحق ثبوت الولاية للأب، ولو مع المفسدة والمضرة للطفل). ولكنّ المقرّر الخونساري نقل عن أستاذه النائيني العدول عن هذا الرأي بعد أن جزم به.

٦٣٥

العفو والصلح:

قال بعض علمائنا: ليس لولي الصبي القصاص المستحق؛ لأنّ الطفل ربما يرغب في العفو، وليس للولي أيضاً أن يعفو؛ لأنّه قد يرغب في الاستيفاء تشفياً. ثمّ اختار العلاّمة بأنّ للولي الاستيفاء والعفو والصلح ببعض مال الطفل مع المصلحة.

الطلاق والشفقة:

ليس للولي أن يطلّق زوجة الصبي لا مجاناً ولا بالعوض.

ولو كان للصبي شريك في عين، وباع شريكه لأجنبي كان للولي الأخذ بالشفعة أو الترك بحسب المصلحة، وهو أصحّ وجهي الشافعية.

إخراج الحقوق:

يجب على الولي أن يخرج من مال المولَّى عليه الحقوق الواجية، كالديون وعوض الجنايات والزكاة، وإن لم تُطلَب من الولي. أمّا نفقة الأقارب الواجبة على الطفل فلا يدفعها الولي للمستحق إلاّ مع المطالبة.

الإنفاق على المولَّى عليه:

يجب على الولي الإنفاق على مَن يلي أمره بالمعروف، ولا يجوز له التقتير عليه ولا الإسراف في النفقة، بل يكون معتدلاً جارياً معه على عادة أمثاله.

والولي أو الوصي أمين لا يضمن إلاّ بثبوت التعدي أو التفريط، فإذا

٦٣٦

بلغ الصبي، وادّعى على الولي التعدي أو التفريط فعليه البينة، وعلى الولي اليمين؛ لأنّه أمين، وما على الأمين إلاّ اليمين.

بيع الولي من نفسه:

قال الشافعية وبعض الإمامية: ليس للولي ولا للوصي أن يبيع مال الطفل والمجنون من نفسه، ولا أن يبيع ماله من الطفل. ثمّ اختار العلاّمة الجواز، وعدم الفرق بينه وبين الأجنبي، مع المصلحة وانتفاء التهمة، كما أنّه يجوز للأمين الذي نصّبه الحاكم أن يبيع على الحاكم مال اليتيم في موضع جواز البيع، وكذا للوصي، وإن كان الحاكم هو الذي جعله أميناً وصياً. أمّا أن يبيع الحاكم ماله من اليتيم فقد منعه أبو حنيفة؛ لأنّ ذلك قضاء من القاضي لنفسه، وقضاؤه لنفسه باطل. وقال العلامة: لا بأس به، أي بقول أبي حنيفة.

ويلاحظ بأنّ به أكثر من بأس؛ لأنّ هذا ليس بقضاء ولا يمتّ إليه بسبب قريب أو بعيد، وإذا جاز للقاضي أن يشتري من مال اليتيم مع المصلحة جاز أن يبيعه أيضاً مع المصلحة، والفرق تَحكّم.

وكيل الولي والوصي:

للولي والوصي أن يستنيبا غيرهما في مباشرة ما لا يقدران على مباشرته، وفيما يقدران عليه أيضاً ولكن لا يصلحان للمباشرة تبعاً للعادة، أمّا إذا صلحا فالأولى المنع.

ويلاحظ بأنّ كلاً من الأصالة والوكالة هنا وسيلة لتحقق المصلحة وأداء ما يجب، فمتى حصلت هذه الغاية نفذ التصرف، سواء أكان من الولي أو الوكيل، وإلاّ فلا ينفذ التصرف حتى ولو كان من الولي نفسه.

٦٣٧

المفلِس

تعريفه:

لغةً: مَن لا مال ولا عمل له يسدّ حاجته. وفي اصطلاح الفقهاء: مَن حجر عليه الحاكم لديون تستغرق جميع أمواله وتزيد عنها، بحيث إذا وزِّعت على أرباب الدين لا تكفي للوفاء.

واتفقوا على أنّ المفلِس لا يُمنع من التصرف في أمواله بالغة ديونه ما بلغت إلاّ بعد أن يحجر الحاكم عليه، فلو تصرّف بجميع أمواله قبل التحجير نفذت تصرفاته، وليس للغرماء ولا لأيٍّ كان منعه من ذلك، على شريطة أن لا يكون التصرف بدافع الفرار من وفاء الديون، ولغاية تضييع الحقوق على أهلها، بخاصة إذا لم يُرجَ تجديد مال له بحسب المعتاد وظاهر الحال. ولا يحجر الحاكم إلاّ بشروط:

١ - أن يكون مديوناً، ويثبت الدين شرعاً.

٢ - أن لا تزيد أمواله على ديونه بالاتفاق. وأيضاً اتفقوا على جواز الحجر إذا قصرت الأموال عن الديون، وزادت هذه على تلك. واختلفوا فيما لو تساوت الديون والأموال، قال الإمامية والحنابلة والشافعية: لا يُحجر عليه. (الجواهر، والتنقيح، والفقه على المذاهب الأربعة).

٦٣٨

وقال الصاحبان محمد وأبو يوسف: بل يُحجر عليه. وعلى قولهما فتوى الحنفية. أمّا أبو حنيفة فقد نفى فكرة الحجر على المفلس من الأساس، حتى ولو زادت ديونه على أملاكه؛ لأنّ في التحجير عليه هدراً لأهليته وآدميته، ولكنّ أبو حنيفة قال: إذا طلب الغرماء حبْس المدين حُبس حتى يبيع هو أمواله، ويقضى منها دينه.

ولهذا الحبس وجه إذا كان للمديون مال ظاهر - كما سنشير - ولكن أبو حنيفة أجاز حبسه وإن لم يظهر له مال، فلقد نُقل عنه في فتح القدير ج٧ ص٢٢٩ باب الحجر بسبب الدين ما نصه بالحرف: (فإن لم يُعرف للمفلس مال، وطلب غرماؤه حبسه، وهو يقول: لا مال لي، حبسه الحاكم في دين التزمه بعقد، كالمهر والكفالة).

وهذا مخالف لنص الآية الكريمة:( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) ، ولِما أجمعت عليه الأُمة بكامل مذاهبها: الشافعية والإمامية والحنابلة والمالكية ومحمد وأبو يوسف. (فتح القدير، وابن عابدين، والفقه على المذاهب الأربعة، والسنهوري في مصادر الحق ج٥).

٣ - أن يكون الدين حالاً لا مؤجلاً، عند الإمامية والشافعية والمالكية والحنابلة، أمّا إذا كان بعضه حالاً وبعضه مؤجلاً نُظر، فإن وفّت الأموال بالديون الحالّة فلا حجر، وإن قصرت يُحجر، وإذا حُجِر بالديون المعجّلة تبقى المؤجّلة إلى حينها. (التذكرة، والفقه على المذهب الأربعة).

٤ - أن يكون التحجير بطلب الدائنين كلهم أو بعضهم.

ومتى توافرت هذه الشروط حجر عليه الحاكم، ومنعه من التصرف في ماله بيعاً وإجاراً ورهناً وإعارة، وما إلى ذاك ممّا يضرّ بالغرماء.

ويبيع الحاكم أموال المدين، ويوزّعها بين أرباب الدين، فإن وفّت بها جميعاً فذاك، وإلاّ كانت القسمة بالمحاصة، لكل بنسبة ما لَه من حق.

٦٣٩

ومتى تمّ التقسيم والتوزيع زال الحجر تلقائياً؛ لأنّ الغرض منه حفظ المال للغرماء، وقد حصل.

المستثنيات:

قال العلاّمة الحلّي في التذكرة باب التفليس: لا يباع من مال المفلس دار سكناه، ولا خادمه، ولا فرس ركوبه، وبهذا قال الإمامية وأبو حنيفة وابن حنبل.

وقال الشافعي ومالك: يباع جميع ذلك.

وأيضاً يُترك له ولمن يعول النفقة في يوم القسمة فقط، وإذا مات قبل القسمة يكفّن ويجهّز من ماله؛ لأنّ التجهيز مقدّم على الدين.

والحق أنّ كل ما تدعو إليه الضرورة العاجلة يُترك له، كالثياب، وقوت يوم أو أكثر بحسب الملابسات، والكتب التي لا يستغني عنها أمثاله، وأدوات الصناعة التي يكتسب منها قوته، وأثاث البيت الضروري كالفرشة واللحاف والمخدة والقدر والصحن والإبريق، كل ذلك وما إليه ممّا لا غنى لأحد عنه في حالته الراهنة.

العين الموجودة وصاحبها:

إذا وجد العين صاحبها وكان قد اشتراها منه المفلس نسيئة، فهو بها أولى دون الغرماء جميعاً حتى ولو لم يكن هناك غيرها، عند الإمامية والمالكية والشافعية والحنابلة.

وقال الحنفية: ليس له ذلك، وله أسوة بغيره من الغرماء. (التذكرة، وفتح القدير).

المال المتجدد:

إذا تجدد للمفلس مال بعد الحجر، فهل يشمله الحجر تماماً كالمال

٦٤٠