الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية6%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148009 / تحميل: 9581
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمامة الإلهية

١

٢

الإمامة الإلهية

بحوث

سماحة الأستاذ الشيخ محمّد السند

بقلم

صادق الشيخ محمّد رضا الساعدي

الجزء الثاني

٣

٤

المقدّمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه الجاعل في الأرض خليفة إماماً افترض طاعته على جميع الملائكة والجنّ والإنس، وقد علّمه من لدنه علماً جامعاً بالأسماء كلّها فاحتاجته الملائكة لعلمه، ولم يقبل - تعالى - طاعة وعبادة أحدٍ من خلْقه إلاّ بالطاعة لخليفته، ثمّ الصلاة والسلام على المبعوث للعالمين رحمة، إمام الخلق، التارك فينا الثقلين، الجاعل باب علمه وحكمته وصيّه المرتضى، والمستخلف على الأمّة اثني عشر، وعلى آله المطهّرين الذين يمسّون الكتاب المكنون، وهو آيات بيّنات في صدورهم، الذين قرن اللَّه بطاعته وطاعة رسوله طاعَتهم فريضة، وجعل مودّتهم قرين الرسالة وسبيلاً متخذاً إليه.

وبعد، فهذا هو الجزء الثاني والثالث من كتاب: الإمامة الإلهية. وقد اشتملا على مباحث متعدّدة من خمسة فصول، وقد كان من بواعث الخوض فيها ما يلاحظ في جملة من المقولات من النظرة إلى علم النبي - صلّى الله عليه وآله - وأهل بيته عليه‌السلام كملكة علمية بفقه الدين والشريعة، وأنّ الأحكام الصادرة عنهم أشبه بالفتاوى النابعة عن إعمال جهد الفهم المكتسب والتتبّع في الكتب والأدلّة، أو أنّ ما يحكمون به هو وليد الاستظهار من وراء حجاب الألفاظ ودلالاتها، وقد صرّح أهل سنّة جماعة الخلافة باجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - والعياذ باللَّه تعالى - وأنّه هل يصيب أو يخطأ، ولوازم وتوالي هذا القول من الماحقات للدين.

وقد عُبرّ في بعض الأقوال عن بيان أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام للسنّة النبوّية أنّهم رواة لها ونَقَلة، وهو تخيّل أنّ إخبارهم عن النبي - صلّى الله عليه وآله - على حذو الرواة من سائر الناس، وأنّهم يخبرون عنها بما يمتلكون من رصيد مسموعات حسّية وكتب مخطوطة.

٥

وقد جاءت سلسلة البحث بدءً بالمنهجية والنظام المتّبع في معرفتهم (صلوات اللَّه عليهم)، ثمّ تلا ذلك البحث في فقه مصادر تلك المعرفة، بالتعرض للقواعد الأمّ في معرفة مقاماتهم، ولم يكن ذلك على سبيل الاستقصاء؛ كيف؟ ومن حدّهم فقد وصفهم، ومن وصفهم بكمالهم فقد أحاط بهم فهو أعلم منهم؛ لأنّ من حدّ شيئاً فهو أكبر منه.

ثمّ البحث عن جملةٍ من أبواب تلك المعرفة وأُسُسِها.

وقد تضمّن في مطاوي تلك السلسلة محاور قد احتدم فيها الجدل العلمي: كالاستقامة في طريق المعرفة بعيداً عن إفراط الغلوّ وتفريط التقصير إنّ الإيمان - فضلاً عن الأعمال - لا يصحّ - فضلاً عن القبول - إلاّ بالتوجّه والتوسّل والانقياد لهم، فضلاً عن معرفتهم.

قراءاتٌ جديدةٌ ثلاث في حديث الغدير:

أن ولايتهم عليهم‌السلام من أصول الدين الواحد الذي بعث به جميع الأنبياء عليهم‌السلام .

ولايتهم في التشريع: إنّ الإمام هو حقيقة القرآن المكنون وهو الثقل الأكبر - أنّ ليلة القدر نافذة غيبية وقناة ارتباط سماوية لا زالت قائمة مستمرة في عقيدة الإسلام عند المسلمين -.

إنّ للقرآن منازل ومواطن غيبية، هي منال لهم عليهم‌السلام الإمامة القائمة الراهنة للمهدي (عج) في ظل الغيبة - نماذج الارتباط الغيبي لأمثال الإمامة في القرآن -.

وقد قام بتقرير وضبط هذه المباحث ذو البصيرة المعرفية والنظر النافذ الشيخ صادق الساعدي، أدام اللَّه سعيه في نشر العقائد الحقّة لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام .

قم عش آل محمّد عليهم‌السلام

بجوار كريمة أهل البيت عليهم‌السلام

محمد سند

الحادي من ذي القعدة ١٤٢٦هـ. ق.

٦

مقدّمة المؤلّف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصّلاة والسلام على صفوة الخلق محمّد وآله الهداة المهديين، الذين اجتباهم اللَّه وجعلهم صراطه المستقيم، وارتضاهم لغيبه واختارهم لسرّه، وجعلهم خلفاء في أرضه وحججاً على بريته.

الإمامة، هي ضرورة من الضرورات الفطرية؛ ولهذا تجدها في الوجدان لدى عامّة المسلمين، وتحت ذريعة الضرورة تسارع جَمْعٌ من الناس لنصب الخليفة ومنعوا مخالفته أو الخروج عليه؛ بزعم أنّهم خلفاء وألُوا أمر الذين أمر اللَّه بطاعتهم كما أمر بطاعته وطاعة رسوله.

وبهذا الزعم انقادوا لهم واتبعوا الملوك الذين تربّعوا على العروش باسم الخلافة الإسلامية، كملوك بني أُميّة وبني العبّاس وغيرهم، الذين عاثوا بالإسلام فساداً وبالمسلمين قتلاً وتشريداً، إلى أن أوصلوا الإسلام والمسلمين إلى ما نراه الآن.

والإمامة: هي منصب الولاية في الدين والحاكمية على المسلمين. وهل الإمام هو من استطاع الوصول إلى هذه الزعامة والمنصب بأيّة طريقة كانت؟ حتى لو كان عن طريق سفك دماء المسلمين وانتهاك حرماتهم، بل وحتى لو كان انتهاك لحرمة رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله؟

وهل ضرورة الإمامة مبرِّر لذلك؟ وهل يعقل أن يلتزم بهذا القول في الإمامة غالبية الأُمّة الإسلامية؟ وفي الحقيقة أنه يترتّب على الإمامة نتائج خطيرة على مستوى العقائد وبقية أبواب الدين والأحكام الفقهية، ولا أُبالغ لك في القول، كما سيتضح ذلك من خلال المباحث الموجودة في صفحات الكتاب الذي بين يديك.

٧

والمنهج في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام لأصل الإمامة يختلف اختلافاً جوهرياً عمّا رسمته المدارس الأخرى لهذه الحقيقة، وكذلك لصفات الإمام.

فالإمامة: هي عهد إلهي وجعل ربّاني وتنصيب منه سبحانه وتعالى. وهذا صريح الآيات والروايات، قال تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) ، وقال تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (٢) .

والإمام له صفات ومقامات خاصّة أوّلها: أن يكون معصوماً، وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣) وقوله تعالى: ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) .

والإمامة مستمرّة وباقية لا تنقطع ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (٤) .

وقد جاءت هذه البحوث القيّمة، التي أفاضها علينا سماحة الأستاذ الشيخ محمّد سند (دامت بركاته)، لتُجلى البصائر عن تلك المقامات للنبي وأهل بيته - عليهم‌السلام -، وبيان وتأثير تلك المقامات في مسيرة الخلق إلى الحقّ والناس في هذه المسيرة، على درجات ارتفاع وانخفاض بما لديهم من معرفة تلك المقامات.

صادق الساعدي

____________________

١) سورة البقرة: ١٢٤.

٢) سورة الأنبياء: ٧٣.

٣) سورة الأحزاب: ٣٣.

٤) سورة الزخرف: ٢٨.

٨

الفصل الرابع:

الغلوّ والتقصير

٩

١٠

الفرقتان أو

الثلاث المذمومة

ورد في الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة ذمّ الغلوّ والتقصير، وكذلك العداوة والضغينة لأصفياء اللَّه وحُجَجِه، قال تعالى:

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) (١) .

وقال تعالى:

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ ) (٢) .

وقال تعالى - على لسان المقصّرة في معرفة أصفياء اللَّه -:

( قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ) (٣) .

وقال تعالى على لسانهم:

( مَا هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) (٤) .

وأيضا:

( مَا هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ) (٥) .

وأيضا:

( فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ) (٦) .

وأيضا:

( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً ) (٧) .

فيبرز القرآن الكريم أهم العوامل الموجبة لجحود الصراط الإلهي، وهو قصور معرفة الأُمم بشخصيات الحُجج الإلهية، واقتصارهم في المعرفة على الحيثية

____________________

١) سورة المائدة: ٧٧.

٢) سورة النساء: ١٧١.

٣) سورة يس: ١٥.

٤) سورة المؤمنون: ٢٤.

٥) سورة المؤمنون: ٣٣ - ٣٤.

٦) سورة التغابن: ٦.

٧) سورة الإسراء: ٩٤.

١١

البشرية. وقد أجاب - تعالى - عن هذا القصور بقوله:

( وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) (١) ، أي: أنّ أصفياء اللَّه وإن كانت حقائقهم ملكية، إلاّ إنّ صورتهم ولباسهم في الخِلقة هي الصورة البشرية.

وقال تعالى - في ذمّ الفرقة الثالثة المنطوية على عداوة أصفياء اللَّه -:

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ) (٢) ، والضغينة المنهي عنها في القرآن الكريم هي في مقابل المودّة المأمور بها في كتابه العزيز: ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) .

وقال تعالى:

( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) (٤) .

وقال تعالى على لسانهم:

( أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) (٥) ، و ( وَقَالُوا لوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٦) .

أمّا الروايات: فقد روي في زيارته - عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف -: (الحمد للَّه الذي هدانا لهذا وعرّفنا أولياءه وأعداءه، ووفّقنا لزيارة أئمّتنا ولم يجعلنا من المعاندين الناصبين، ولا من الغلاة المفوّضين، ولا من المرتابين المقصّرين) (٧) .

وفي الزيارة الجامعة: (فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم لاحِق، والمقصّر في حقّكم

____________________

١) سورة الأنعام: ٨ -٩.

٢) سورة محمّد: ٢٩.

٣) سورة الشورى: ٢٣.

٤) سورة النساء: ٣٥ - ٥٥.

٥) سورة ص: ٨ - ٩.

٦) سورة الزخرف: ٣١.

٧) مصباح الزائر، لابن طاووس: ص ٤٤٤. ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام .

١٢

زاهق) (١) ، وكذلك ما ورد في الصلوات الشعبانية:

(اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، الفلك الجارية في اللُجَج الغامرة، يأمَن من ركبها، ويغرق من تركها، المتقدّم لهم مارق، والمتأخّر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحِق) (٢) .

وروى الكُليني أيضاً في مصحّح محمّد بن سنان، قال: (كنت عند أبي جعفر الثاني عليه‌السلام فأجريت اختلاف الشيعة، فقال:

يا محمّد، إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يزل متفرّداً بوحدانيته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوّض (٣) أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤن، ويحرّمون ما يشاءون ولن يشاءوا إلاّ أن يشاء اللَّه تبارك وتعالى. ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي من تقدّمها مَرَق ومن تخلّف عنها مَحَق ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد) (٤) .

قال المجلسي (٥) - في شرح الحديث -: والديانةُ الاعتقادُ المتعلّق بأُصول الدين. من تقدّمها، أي: تجاوزها بالغلوّ. مَرَق، أي: خرج من الإسلام. ومن تخلّف عنها، أي: قصّر ولم يعتقدها. مَحَق، أي: أبطل دينه أو بطل. ومن لزمها واعتقد بها لحق، أي: بالأئمّة أو أدرك الحقّ. خذها إليك، أي: احفظ هذه الديانة لنفسك.

وروى المجلسي هذه الرواية عن محمّد بن سنان بطريق آخر مثل ما تقدّم، إلاّ أنّ فيها:

(وفوّض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرّف والإرشاد والأمر والنهي في

____________________

١) الفقيه، ج٢، ص ٣٦٨، والتهذيب، ج ٦، ص ٩٧، ط / النجف الأشرف.

٢) الصحيفة السجّادية.

٣) ليس المراد من التفويض هنا التفويض العزلي الباطل، بمعنى عزل قدرة الباري عن الأشياء - والعياذ باللَّه - بل المراد إقدارهم، وهو تعالى أقدر منهم فيما أقدرهم عليه، نظير إيكال قبض الأرواح إلى عزرائيل، وتنزيل الوحي والعلم إلى جبرائيل، ونفخ الصور والإحياء إلى إسرافيل.

٤) أُصول الكافي، ج١، ص ٤٤١.

٥) البحار، ج ٢٥، ص ٣٤٢.

١٣

الخلق؛ لأنّهم الولاة، فلهم الأمر والولاية والهداية، فهم أبوابه ونوّابه وحجّابه، يحلّلون ما يشاء، ويحرّمون ما شاء، ولا يفعلون إلاّ ما شاء، عبادٌ مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. فهذه الديانة التي من تقدّمها غرق في بحر الإفراط، ومن نقّصهم عن هذه المراتب التي رتّبهم اللَّه فيها زهق في برّ التفريط، ولم يوفِ آل محمّد حقّهم فيما يجب على المؤمن من معرفتهم. ثمّ قال: خذها يا محمّد؛ فإنّها من مخزون العلم ومكنونه) (١) .

وروى المجلسي في البحار - في باب معرفتهم بالنورانية - رواية طويلة في فضائل أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام ومقاماتهم ورتبهم، قال عليه‌السلام :

(يا سلمان، ويا جندب، قالا: لبيك يا أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليك. قال عليه‌السلام : من آمن بما قلت، وصدّق بما بيّنت وفسّرت وشرحت وأوضحت ونوّرت وبرهنت فهو مؤمن ممتحن، امتحن اللَّه قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام، وهو عارف مُستَبْصِر قد انتهى وبلغ وكمل، ومن شكّ وعَنَدَ وجَحَدَ ووقف وتحيّر وارتاب فهو مقصّر وناصب) (٢) .

وفي صدر الرواية قال (صلوات اللَّه عليه) مخاطباً إيّاهما: (مرحباً بكما من وليّين متعاهدين، لستما بمقصّرين، إلى أن قال عليه‌السلام : إنّه لا يستكْمِل أحدٌ الإيمان حتّى يعرفني كُنه معرفتي بالنورانية، فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن اللَّه قلبه بالإيمان، وشرح صدره للإسلام، وصار عارفاً مُسْتَبْصِراً، ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاكّ ومرتاب) (٣) .

وروى الشيخ الطوسي في الغيبة بطريقين (٤) ، عن أبي نعيم محمّد بن أحمد الأنصاري، قال: (وجّه قوم من المقصرة والمفوِّضة كامل بن إبراهيم المدني إلى أبي

____________________

١) البحار، ج ٢٥، ص ٣٣٩، ح ٢١.

٢) البحار، ج ٢٦، ص ٦، ح ١.

٣) البحار، ج ٢٦، ص ١.

٤) الغيبة: ١٥٩ و ١٦٠.

١٤

محمّد عليه‌السلام ، قال كامل: فقلت في نفسي أسأله: لا يدخل الجنّة إلاّ من عرف معرفتي وقال بمقالتي؟. ثمّ سرد الرواية وفيها لُقياه بالإمام العسكري وتشرّفه بِلُقيا الحجّة (عج) معه. ثمّ قال (عج): وجئت تسأله عن مقالة المفوّضة؟ كذّبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة اللَّه، فإذا شاءَ شِئْنا، واللَّه يقول: ( وَمَا تَشَاؤُونَ إلاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ) (١) .. الحديث).

وفي زيارة عاشوراء المعروفة، قال عليه‌السلام تعليماً للزائر: (ولعن اللَّه أمةً دَفَعَتْكُم عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم اللَّه فيها) (٢) .

وروى الصفّار بسنده عن الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: (يا أبا حمزة لا تضعوا عليّاً دون ما وضَعَه اللَّه، ولا ترفعوه فوق ما رفعه اللَّه، كفى لعليّ أن يقاتل أهل الكرّة، وأن يزوّج أهل الجنّة)، وكذا رواه الصدوق في الأمالي (٣) .

وروى الشيخ في الأمالي، عن الأصبغ بن نباتة، قال: (دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : وزادني أواراً وغليلاً اختصام أصحابك ببابك. قال: وفيمَ خصومتهم؟ قال: في شأنك والبليّة من قِبَلَك، فمن مفرطٍ غالٍ ومقتصدٍ قالٍ ومتردّدٍ مرتاب لا يدري أيقدم أو يحجم. قال: فحسبك يا أخا همدان، ألا أنّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي.. الحديث) (٤) .

وروى السيّد شرف الدين في تأويل الآيات، بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال: (قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام .. وإنّه ليس عبدٌ من عبيد اللَّه يُقصّر في حبّنا لخير جعله اللَّه

____________________

١) سورة الإنسان: ٣٠.

٢) مصباح المتهجّد، للشيخ الطوسي: بسنده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن أبيه، عن الإمام الباقر عليه‌السلام .

٣) بصائر الدرجات، ص ٢٢٣، الأمالي للصدوق، ص٢٨٤، ط / قم مؤسّسة البعثة.

٤) أمالي الشيخ الطوسي: ٦٢٦، ط / قم. مؤسّسة البعثة / المجلس ٣٠.

١٥

عنده) (١) .

وروى ابن شهرآشوب في المناقب، عن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ، أنّه خطب الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه وتشهّد، ثمّ قال: (أيّها الناس، إنّ اللَّه اختارنا لنفسه، وارتضانا لدينه، واصطفانا على خَلْقه، وأنزل علينا كتابه ووحيه، وايْمُ اللَّه، لا ينقصنا أحدٌ من حقّنا شي‏ء إلاّ انتقصه اللَّه في عاجل دنياه وآجل آخرته) (٢) . وهو يشير عليه‌السلام إلى انتقاصهم من مقاماتهم التي ذكرها عليه‌السلام .

وروى الكُليني في الموثّق عن عبد الخالق الصيقل، قال: (سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) (٣) فقال: لقد سألتني عن شي‏ء ما سألني أحد إلاّ من شاء اللَّه. قال: من أَمَّ هذا البيت وهو يعلم أنّه البيت الذي أمر اللَّه عزّ وجلّ به وعَرِفَنا أهل البيت حقّ معرفتنا كان آمناً في الدنيا والآخرة) (٤) . ومفهوم قوله عليه‌السلام : إنّ المقصّر في معرفتهم لا يكون آمناً في الآخرة.

روى الكليني في الكافي عن ضريس الكناسي، قال: (سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول - وعنده أُناس من أصحابه -: عجبت من قومٍ يتولّونا ويجعلونا أئمّة ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله، ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضَعْف قلوبهم، فيُنقِصونا حقّنا ويعيبون ذلك على من أعطاه اللَّه برهانَ حقٍّ معرفتنا والتسليم لأمرنا! أترون أنّ اللَّه تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثمّ يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض...؟) (٥) .

____________________

١) تأويل الآيات الظاهرة، السيد شرف الدين الحسيني الاسترابادي: ص ٤٣٩، سورة الأحزاب.

٢) نور الثقلين، الحويزي، ج ٤، ص ٤٧٤.

٣) سورة آل عمران: ٩٧.

٤) الكافي ج ٤، ص ٥٤٥. وفي تفسير العيّاشي في ذيل الآية.

٥) الكافي، ج ١، كتاب الحجّة - باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام يعلمون علم ما كان وما يكون.. الحديث ٤، والبصائر، ص ١٢٤، و ١٢٧ الطبعة الثانية.

١٦

جدلية الغلوّ والتقصير

في قول بعض أعلام الطائفة

وسيأتي جملة عديدة من أقوال علماء الطائفة في أبواب الفصول اللاحقة حول التفويض، إلاّ أنّا سنشير إلى نبذة وجملة نافعة، منها، ما قاله الشيخ المفيد في شرح اعتقادات الصدوق عند قوله (اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة):

وإنّ علامة المفوّضة والغلاة وأصنافهم، نسبتهم المشايخ والعلماء إلى القول بالتقصير... قال: والغلاة من المتظاهرين بالإسلام، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين وذرّيته إلى الإلوهية والنبوّة. إلى أن قال: وأمّا نصّه (رحمه الله) - أي: الصدوق - بالغلوّ على من نسب مشايخ القمّيين وعلمائهم إلى التقصير، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلوّ الناس؛ إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصّراً، وإنّما يجب الحكم بالغلوّ على من نسب المحقّين إلى التقصير، سواء كانوا من أهل قمّ أم من غيرها من البلاد وسائر الناس.

وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمّد بن الحسن بن الوليد لم نجد لها دافعاً في التقصير، وهي ما حكي عنه أنّه قال: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام ، فإن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر، مع أنّه من علماء القمّيين ومشيختهم. وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين، وينزلون الأئمّة عليهم‌السلام عن مراتبهم، ويزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيراً من

١٧

الأحكام الدينية حتّى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول إنّهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، ويدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء، وهذا هو التقصير الذي لا شُبهة فيه، ويكفي في علامة الغلوّ نفي القائل به عن الأئمّة عليهم‌السلام سمات الحدوث، وحكمه لهم بالإلهية والقدم... ولا يحتاج مع ذلك إلى الحكم عليهم وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر (رحمه الله) سمة للغلوّ على كلّ حال (١) .

وعلّق المجلسي على قولَي الصدوق والمفيد بقوله: ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلوّ؛ لقصورهم عن معرفة الأئمّة عليهم‌السلام ، وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم، فَقَدَحوا في كثير من الرواة الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتّى قال بعضهم: من الغلوّ نفي السهو عنهم، أو القول بأنّهم يعلمون بما كان وما يكون، وغير ذلك، مع أنّه قد ورد في أخبار كثيرة (لا تقولوا فينا ربّاً، وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا) (٢) .

وورد: (إنّ أمرنا صعب مستصعب؛ لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللَّه قلبه للإيمان).

وورد: (لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله)، وغير ذلك ممّا مرّ وسيأتي.

فلابدّ للمؤمن المتديّن، أن لا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم، ومعجزاتهم، ومعالي أمورهم، إلاّ إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة، كما في باب التسليم وغيره (٣) .

وفي صحيحة زُرارة، قال: (دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام فسألني: ما عندك من أحاديث الشيعة؟ قلت: إنّ عندي منها شيئاً كثيراً، قد هممت أن أوقد لها ناراً ثمّ أحرقها. قال: ولِمَ؟

____________________

١) تصحيح الاعتقاد: ص٦٣ - ٦٦.

٢) سيأتي في الفصول اللاحقة تخريج مصادر هذه القاعدة الاعتقادية - المرويّة عنهم - وبيان مفادها.

٣) البحار، ج٢٥، ص ٣٤٧.

١٨

هات ما أنكرت منها. فخطر على بالي الأُمور. فقال لي: ما كان علم الملائكة حيث قالت: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ.. ) (١) .

وقال المجلسي في شرح معنى الحديث:

لعلّ زرارة كان ينكر أحاديث من فضائلهم لا يحتملها عقله، فنبّهه عليه‌السلام بقصّة الملائكة وإنكارهم فضل آدم عليهم وعدم بلوغهم إلى معرفة فضله، على أنّ نفي هذه الأُمور من قلّة المعرفة، ولا ينبغي أن يكذب المرء بما لم يُحِط به عِلمُه، بل لا بدّ أن يكون في مقام التسليم، فمع قصور الملائكة - مع علوّ شأنهم - عن معرفة آدم لا يبعد عجزك عن معرفة الأئمّة عليهم‌السلام (٢) .

وقال الوحيد البهبهاني، في فوائده (٣) :

اعلم، أنّ الظاهر أنّ كثيراً من القدماء - سيما القمّيين منهم والغضائري -، كانوا يعتقدون للأئمّة عليهم‌السلام منزله خاصّة من الرفعة والجلالة، ومرتبة معيّنة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها، وكانوا يعدّون التعدّي ارتفاعاً وغلوّاً على حسب معتقدهم، حتّى أنّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلوّاً، بل ربما جعلوا مطلق التفويض إليهم، أو التفويض الذي اختُلف فيه - كما سنذكر -، أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص، وإظهار كثير قدرةٍ لهم، وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض، ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به، سيما بجِهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلسين، وبالجملة، الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأُصولية أيضاً، فربما

____________________

١) بصائر الدرجات: ص ٦٥.

٢) البحار ج ٢٥، ص٢٨٢

٣) الفائدة الثانية، ج١، ص ١٢٩ - ١٢٨، من منهج المقال.

١٩

كان شي‏ء عند بعضهم فاسداً أو كفراً أو غلوّاً أو تفويضاً أو جبراً أو تشبيهاً، أو غير ذلك، وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده، أو لا هذا ولا ذاك.

وقال صاحب تنقيح المقال (١) ما ملخّصه:

وإنّ أكثر ما يُعدّ اليوم من ضروريات المذهب في أوصاف الأئمّة عليهم‌السلام كان القول به معدوداً في العهد السابق من الغلوّ؛ وذلك أنّ الأئمّة عليهم‌السلام حذّروا شيعتهم من القول في حقّهم بجملة من مراتبهم؛ إبعاداً لهم عمّا هو غلوّ حقيقة، فهم منعوا الشيعة من القول بجملة من شؤونهم؛ حفظاً لشؤون اللَّه جلّت عظمته، حيث كان أهمّ من حفظ شؤونهم؛ لأنّه الأصلُ وشؤونهم فرعُ شأنه، نشأت من قربهم لديه ومنزلتهم عنده، وهذا هو الجامع بين الأخبار الثمينة من الشؤون لهم والنافية لها.

____________________

(١) تنقيح المقال، الفائدة الخامسة والعشرون من المقدّمة.

٢٠

لا غلوّ ولا تقصير

بل معرفة بحقّهم

والملاحظ ممّا تقدّم، من التوصية القرآنية عن الوقوع في كلّ من جانبي زيغ الغلوّ وزيغ التقصير، وكذلك لسان الروايات المتضمّن لاصطلاح الغلوّ والغلاة، والتقصير والمقصّرة، هو تخطئة كلا المنهجين والأمر بمنهج آخر يُعتمد فيه نفي الغلوّ الذي هو إفراط، ونفي التقصير الذي هو تفريط، وأنّ هذا النهج الوسط من الدقّة بمكانَةٍ يَصْعُب المحافظة على تجنّب الوقوع في الطرفين.

ومن ثمّ يُلاحظ، رسوخ هذا الاصطلاح في ذهنية علماء الطائفة الأقدمين والمتقدّمين والمتأخّرين، وتشدّدهم على توخّي نهج المعرفة والعارف بالأئمّة عليهم‌السلام ، وهو النهج الوَسَط، ومحاذرة الوقوع في طرفي الغلوّ والتقصير، فلا غلوّ ولا تقصير، بل معرفةِ عارفٍ بحقّهم عليهم‌السلام . وهذا ميزان أطّره لنا الكتاب والسنّة المطهّرة، نظير: لا تعطيل ولا تشبيه بل توصيف بما وصف به نفسه وهو التوحيد، ونظير: لا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين.

كما يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الغلوّ ذو درجات - وكذلك التقصير - شدةً وضعفاً، وأنّ محذور التقصير - لا سيّما في بعض مراتبه - ليس هو بأدون من محذور الغلوّ. وأنّ النجاة في سلوك نهج التعرّف وكسب المعرفة بكيفية مقاماتهم ومراتبهم، والتسليم الإجمالي أثناء ذلك السلوك.

هذا وقد وقف أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام قبالة ظاهرة التقصير في معرفة الأئمّة عليهم‌السلام ،

٢١

نظير وقوفهم أمام ظاهرة الغلاة، حتّى فشا وانتشر عند أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام أنّ التقصير والغلوّ والتفويض من الزيغ عن جادة سواء الحقّ، وهذا المعيار تلقّاه شيعتهم بتعليم منهم عليهم‌السلام ، وقد ورد مكرّراً تأكيدهم على زيارة قبورهم بحال كون الزائر عارفاً بحقّ الإمام حقّ معرفته، أو عارفاً بحقّه، وأنّ أدنى حقّ معرفة الإمام كونه منصوباً منتجباً من قبله تعالى لهداية الخلق.

ومحذور التقصير كونه يؤدّي بصاحبه إلى الإنكار والجحود، وبالتالي إلى نقص الإيمان أو المروق منه، ومن ثمّ قد ورد مستفيضاً (1) ، أو متواتراً الحثّ على التسليم، وأنّها من صفات الإيمان الكبرى، بل في بعضها أنّها من أعظم صفات الإيمان ولوازمه، وإليه تشير الآية الكريمة: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) (2) ، كما قد أُطلق عليه في الروايات الإخبات، كما في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ) (3) .

ومن هذا الباب أيضاً ما ورد من حرمة الردّ للأحاديث المرويّة وإن كانت ضعيفة السند، وهذا الحكم وإن لم يكن بمعنى حجّية واعتبار الروايات الضعيفة، إلاّ أنّه يعني - فيما يعنيه - وجوب التسليم الإجمالي لِما صدر عنهم عليهم‌السلام ، فضلاً عمّا يتولّد من الأخبار الضعيفة نتيجة تراكم حساب الاحتمالات من تولّد المستفيض والمتواتر أو الموثوق بصدوره.

وهذا الحكم قد اتّفق عليه علماء الإمامية الأصوليون منهم والأخباريون، فاللازم في الخبر الضعيف ردّ عِلْمه إليهم، والتسليم إجمالاً بالواقع وحقائق الدين

____________________

(44) أُصول الكافي، ج1، ص 390، باب التسليم وفضل التسليم.

(45) سورة النساء: 65.

(46) سورة هود: 23.

٢٢

وإن لم نعلمها تفصيلاً، ولا يسوغ الردّ والإنكار ولا المبادرة بالنفي والإنكار.

وهذا المفاد ممّا قرّره الحكماء بقولهم: كلّ ما قَرع سمعك ممّا لم يزدك واضح البرهان فذره في بقعة الإمكان، ويشيرون بذلك إلى هذا المنهج المنطقي الفطري؛ من أنّ الإثبات كما يحتاج إلى دليل كذلك النفي والإنكار يحتاج إلى دليل.

ولك أن تقول: إنّ الفحص والتنقيب عن الأدلّة في الشبهات الحكمية من الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان لازماً وكان إجراء الأُصول - النافية للتكليف قبل الفحص التامّ البالغ في أبواب الأدلّة - غير سائغٍ، فكيف يسوغ في المعارف العقائدية حول شؤونهم ومقاماتهم ومراتبهم المبادرة إلى النفي والإنكار من دون فحص تامّ ومن دون تضلّع وممارسة علمية ممتدّة؟ لا سيّما وأنّ أبواب الأدلّة في المعارف هي أضعاف مضاعفة على عدد وكمّ أبواب أدلّة الفروع، وكذلك الحال في آيات القرآن في المعرفة هي أضعاف آيات الأحكام الفرعية التي عددها خمسمائة ونيف، وهو أقل من عُشر آيات القرآن!

ويكفي للمتتبّع أن يُلاحظ المجاميع الروائية ككتب الصدوق، فإنّ أغلب أسمائها هي في أبواب وفصول المعارف، وكذلك بقيّة المحدّثين وأصحاب الجوامع الروائية من متأخّري الأعصار كصاحب البحار، حيث قد وضع لروايات الفروع عشر مجلّدات (الطبعة الحديثة)، بينما الغالب في بقية المجلّدات بحوث المعارف، فإذا كانت أدلّة المعارف بهذه السعة والترامي - فضلاً عن أهمّية وخطورة أحكام المعارف التي هي مدلول تلك الأدلّة -، فكيف يتهاون في الفحص والتنقيب والممارسة العلمية الطويلة؟ وكيف يتسنّى الفحص في كلّ تلك الأبواب في وقت قصير؟ فضلاً عن البحث في الدلالة، ومعالجة العامّ والخاصّ، والحاكم والمفسّر، وتأليف القرائن العديدة، والتمعّن في الدلالات الإلتزامية، وتبويب الأدلّة في طوائف،

٢٣

كيف يتمّ ذلك في برهة قصيرة؟ فلا يسوغ المبادرة بالإجابة بنفي ثبوت الأمر الفلاني أو الكذائي، أو زعم أنّه لم يقم دليل عليه، ونحو ذلك من التعابير، التي تطلق مع عدم استنفاذ الفحص وعدم المِراس والاضطلاع والخبرة المعرفية في تلك الأبواب، ومع عدم الإحاطة بأقوال علماء الإمامية، من المتكلّمين، والمحدّثين، والمفسّرين، على اختلاف مبانيهم ومشاربهم، والإحاطة بشتّى الوجوه المذكورة، وربط المسائل بعضها ببعض، فالحريّ والعزيمة - في مثل ذلك - هو التوقّف قبل استتمام الفحص، كما هو ديدن فتاوى وأجوبة الشيخ المفيد في المسائل العقائدية في الموارد التي لم يكمل تمحيصها ولم يستنفذ الوسع في الفحص والتنقيب عنها، بمثل قوله: لم أقف على الروايات في ذلك، أو المسألة بعد محتاجة إلى التأمّل، ونحو ذلك من التعابير.

وهذا منهج السالك المتعلّم من علومهم عليهم‌السلام على سبيل النجاة، وأمّا المبادرة بالنفي والإنكار فهو طابع منهج التقصير والمقصّرة.

٢٤

إلفات إلى

قاعدة في الغلو

قال تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ ) الآية (1) ، وقال تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ) (2) .

ذُكر في تفسير هاتين الآيتين أنّ الغلوّ هو التجاوز عن الحدّ والزيادة والإفراط، وغير الحقّ الباطل، وادّعاء أنّه ما أنزل اللَّه. في المعجم الوسيط: (غلا السعر وغيره، غلواً وغلاءً، زاد وارتفع وجاوز الحدّ فهو غالي وغلي... و[ غلا ] فلان في الأمر والدين، تشدّد فيه وجاوز الحدّ وأفرط) (3) .

وظاهر الآيتين يشير إلى ضابطةٍ وقيد مقوّمٍ لمعنى الغُلوّ، وهو أنّ الغلوّ تجاوز الحدّ في الشي‏ء والإفراط فيه، بغير الحدّ الذي له في الدين، وبالتالي وضْعه في غير محلّه الذي وضعه له الدين، أي: التجاوز برتبته الرتيبة التي جعلها الدين لذلك الشي‏ء، ومن ثَمّ وضعه في غير حقّ موضعه الذي حُدّد في الدين، وإلى ذلك تشير الآية الثانية.

كما يلزم من الغلوّ القول على اللَّه بغير الحقّ؛ لأنّ التديّن والديانة بالإفراط في

____________________

1) النساء: 171.

2) المائدة: 77.

3) المعجم الوسيط، ج2، ص 660.

٢٥

الشي‏ء ينطوي على تشريعه و نسبة ذلك إلى دين اللَّه تعالى، وبالتالي الافتراء على اللَّه عزّ وجلّ، وإلى هذا المعنى تشير الآية الثانية.

ويتحصّل من ذلك: أنّ للغلوّ معنىً عامّ وهو التجاوز بالشي‏ء والإفراط في رتبته زيادةً على الرتبة التي حدّدها الشارع لذلك الشي‏ء. ولهذا المعنى العامّ موارد ومصاديق لا تحصى؛ إذ لا يقتصر الغلوّ على التأليه - وهو ما ارتكبته النصارى في النبيّ عيسى عليه‌السلام -، بل يعمّ الإفراط والتجاوز في كلّ شي‏ء زاد عن حدّه المرسوم في دين اللَّه، فلو أُعتُقِد في الإمام أنّه نبيّ لكان ذلك من الغلوّ، وكذا لو أُعتُقِد في النبيّ غير المرسَل أنّه رسول لكان من الغلوّ أيضاً، وهكذا لو اعتُقد في صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعصمة لكان من الغلوّ أيضاً، وكذا لو أُعتُقِد في علماء الأُمّة وفقهائها، أو في بعض العارفين السالكين، أو في بعض الحكماء والفلاسفة، بالعصمة لكان من الغلوّ أيضاً، وكذا لو أُعتُقِد في بعض أركان فروع الدين أنّه برتبة تفوق بعض أصول الدين الاعتقادية كان من الغلوّ أيضاً...

وبالجملة، فوضع أيّ شي‏ء في رتبةٍ زائدةٍ عن الرتبة التي حدّدها الدين لذلك الشي‏ء فهو من الغلوّ، ولا يقتصر ذلك على التأليه، كما لا يقتصر شكل الغلوّ ونموذجه على التصريح بالإفراط في رتبة الشي‏ء، بل قد يتّخذ أشكالاً وأنماطاً متعددة ترجع في جوهرها إلى الإفراط في الحدّ والرتبة، وذلك مثل ترتيب أحكام وآثار على ذلك الشي‏ء تتجاوز برتبتها عن رتبة الشي‏ء، مثل أن نجعل قول الصحابي في قِبال قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن الغريب زعم أهل سنّة الخلافة غلوّ الشيعة في أئّمتهم مع أنّهم لا يقولون فيهم إلاّ ما أجاز لهم القرآن في ذلك والنصوص النبوية بفقه غور تلك المعاني، ولم يتعدّوا في مقامات الأئّمة عليهم‌السلام إلاّ ما هو دون مقام سيّد الأنبياء عليهم‌السلام : (مسلِّمين للَّه، مطيعين لأمر رسوله).

٢٦

بينما ترى أنّ أهل سنّة الخلافة يقرّون ويصحّحون للصحابي - كالخليفة الثاني - مواقف يعترض فيها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الوحي ينزل بتصويب الثاني وتخطأة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حكايات اختلقوها في أسباب النزول، مشحونة بالتناقض والتهافت.

أو يروون بأنّ الثاني كانت غِيْرَته على الدين - والعياذ باللَّه - أكثر من النبيّ، وأنّه أشدّ نكيراً للباطل منه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومع أنّهم ينفون وينكرون دعوى العصمة في الصحابي - حسب زعمهم - ومع ذلك تراهم يفرطون ويغلون فيه إلى ما فوق عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن جانب قد وقعوا في الغلوّ في شأن بعض الصحابة، ومن جانب آخر وقعوا في التقصير في شأن مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعصمته، التي قال تعالى: ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) . وإنّ اجتهاد الصحابي على حدّ حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بزعم أنّه اجتهاد منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك جعل قول الحكيم، والفيلسوف، والعالِم، في قِبال قول المعصوم!.

هذا وقد ورد عن الأئمّة الأطهار أقوال تحثّ شيعتهم على تنزيههم عن الربوبيّة: (نزّلونا عن الربوبية) و (قولوا فينا إنّا عبيد مخلوقون) و(لا تزعموا أنّا أنبياء وقولوا فينا ما شئتم)، أي: في بيان الحدّ الذي هو دون الخالقية، أي حدّ المخلوق المكرّم عند اللَّه، (ولن تبلغوا كنه معرفتنا)، أي رتبة الإكرام والحظوة والزُلفى التي لهم عند اللَّه (2) ، وفي هذه القاعدة توصية بعدم الغلوّ فيهم، كما أنّ ذيلها متضمّن للتوصية بعدم التقصير بمعرفتهم.

____________________

1) سورة النجم: 2 - 4.

2) سيأتي بحثه مستقلاً في أبواب الفصول الآتية في معرفتهم.

٢٧

ملازمة بين الغلوّ والتقصير:

وبعد ما تبيّن أنّ للغلوّ أصنافاً وأقساماً عديدة، يجدر الإلفات إلى أنّ بعض أقسام الغلوّ هي ملازمةٌ إلى أنماطٍ من التقصير، بل التدقيق يُرشد إلى تلازم كلّ أنواع الغلوّ لنمطٍ من أنماط التقصير، فمثلاً التأليه للبشر المخلوق - من نبيّ أو إمام - هو في الواقع تقصير في معرفة الباري؛ للزومه الشرك، ونحوه، وكذلك البناء على العصمة في الصحابي رافقه الخدشة في عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبكلمةٍ جامعةٍ: إنّ الغلوّ كما هو وضع الشي‏ء زيادةً على رتبته، فهو يستلزم سلب الشي‏ء الآخر رتبتَه، وإعطائها للطرف الأوّل الذي حصل فيه الغلوّ، وهذا من ميزات باب الغلوّ والتقصير، أنّهما متلازمان من جهتين، وإن كانا متقابلين في الجهة الواحدة، فلا يظنّ أنّ الخلاص من الغلوّ هو بالتقصير، بل التقصير هو وقوع في الغلوّ من نمط آخر من حيث لا يشعر المقصّر.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : (إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله. فقيل: كيف ذلك يابن رسول اللَّه؟ قال: لأنّ الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحجّ، فلا يقدر على ترك عادته وعلى الرجوع إلى طاعة اللَّه عزّ وجلّ أبداً، وإنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع) (1) .

أسباب التقصير:

إنّ أسباب التقصير عديدة - كما هو الحال في أسباب الغلوّ - فبعضها ناجمٌ عن قصور عِلمي، وكلّ مورد بحسب العلم الذي يتكفّله، أو إلى عوامل نفسانية ذاتية، وبعضها عن تقصير.

____________________

1) أمالي الطوسي، ص 645، المجلس 33، ح 12.

٢٨

وقد تقدّم أنّ القصور حالة بشرية ملازمة لغير المعصوم مهما بلغ سعيه العلمي والعملي، إلاّ أنّ المحذور هو في إنكار ما وراء الحدّ الذي بلغه الشخص، بخلاف ما إذا كان مسلِّماً بما لا يحيط بمعرفته التفصيلية (1) .

نعم، هناك من الدواعي العمدية للتقصير قد ارتكبتها طوائف من هذه الأُمّة لمنازعة الحقّ أهله، ومدافعة الأئمّة المعصومين المطهّرين، تارةً في المقامات التكوينية، وهي الخلافة الإلهية في جانبها الملكوتي. وأُخرى في الحاكمية والإمامة السياسية، وهي الخلافة الإلهية في جانبها المُلكي لتدبير النظام الاجتماعي.

وممّن وقع في ورطة النموذج الأوّل: جملة غفيرة من الصوفية والعُرفاء، حيث قالوا: بأنّ القطب في كلّ زمن من الكُمّلين، وهو لا يقتصر على أشخاص بأعيانهم محدودين، بل هو مقام نوعي، وهو الغوث والإمامة النوعية.

وممّن وقع في النموذج الثاني: فقهاء أهل سنّة الجماعة، حيث بنوا على عدم لزوم العصمة في الحاكم، وأنّ دور العِلم الكسبي يكفي في إدارة الأُمور العامّة. ومن ثمّ ترى أصحاب النموذجين ينالون من مقامات أئمّة أهل البيت وقيعةً؛ بداعي فسح المجال لتسنّم مراتبهم.

ويشير إلى هذه الظاهرة في دواعي التقصير، وإلى النموذج الأوّل ما قاله علي بن الحسين عليه‌السلام ، قال: (انتحلت طوائف من هذه الأُمّة بعد مفارقتها أئمّة الدين والشجرة النبوية إخلاص الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخائل الرهبانية، وتعالَوا في العلوم، ووصفوا الإيمان بأحسن صفاتهم، وتحلّوا بأحسن السنّة، حتّى إذا طال عليهم

____________________

1) كما ورد عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : (لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا)، الكافي، ج2، ص 388، ح19.

٢٩

الأمد وبعدت عليهم الشقَّة، وامتحنوا بمحن الصادقين، رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى وعلم النجاة، يتفسّخون تحت أعباء الديانة تفسّخ حاشية الإبل تحت أوراق البزل.

ولا تحرز السبق الرزايا وإن جرت

ولا يبلغ الغايات إلاّ سبوقها

وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن فتأوّلوا بآرائهم، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا (1) ، يقتحمون في أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات، بغير قبس نورٍ من الكتاب، ولا أثرة علم من مظانِّ العلم، بتحذير مثبطين، زعموا أنّهم على الرشد من غيِّهم. وإلى من يفزع خَلَف هذه الأُمّة؟ وقد درست أعلام الملّة، ودانت الأُمّة بالفرقة والاختلاف يكفّر بعضهم بعضاً، واللَّه تعالى يقول: ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) (2) .

فمَن الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكمة إلاّ أهل الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى؟ الذين احتجّ اللَّه بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجّة. هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجر المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الآفات، وافترض مودّتهم في الكتاب؟

هم العروة الوثقى وهم معدن التقى

وخير حبال العالمين وثيقها) (3) .

بيّن عليه‌السلام أنّ هنالك نموذج من هذه الأُمّة ممّن ينازع الحقّ أهله - وهم أئمّة العترة - في بعد كمالاتهم الملكوتية، فهو ينسب نفسه إلى إخلاص الديانة، أي إلى درجة المخلِصين - بالكسر والفتح -، وتزيّوا بالرسوم الظاهرية من الرهبانية والزهد

____________________

1) في نسخة: (بما استحسنوا من أهوائهم).

2) سورة آل عمران: 105.

3) كشف الغمّة، ج2، ص 98 - 100.

٣٠

والانقطاع عن الدنيا، ونسبوا لأنفسهم مراتب من العلوم وأجهدوا أنفسهم في تحصيلها، وتبجّحوا في وصف الإسلام تعريضاً بالمديح لأنفسهم أنّهم يتحلّون بتمام درجات الإسلام، إلاّ أنّهم لم يتمكّنوا - لطبيعة شأنهم - في الاستقامة على هذا المنوال؛ لاحتياجه إلى إعداد رباني للذات الإنسانية، وهو الاصطفاء والانتخاب، وهم لم يُصطَفوا لذلك فلم يقدروا على مواصلة الطريق وتبيّن حال تقمّصهم لهذا المقام، وهو مقام الإمامة الملكوتية التي تنطوي على مقام العلم اللدنّي بمنبع غيبي، وعلى كمال روحي يكون فيه الشخص مخلَصاً - بالفتح - وعلى اتّصاف النفس بتمام الكمالات الروحية.

وهذا الغلوّ الذي ادّعاه هؤلاء لأنفسهم استلزم التقصير في من له حقّ تلك الرتبة، وهم الأئمّة من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما مرّ بنا: كلّ غلوّ يستتبع تقصير من جهة أُخرى، وإنّ كلّ تقصير يستتبع غلوّ من جهة أُخرى، وقد وقع في شراك هذا النموذج من الغلوّ والتقصير أكثر الصوفية وكثير من العُرفاء، حيث قالو: بأنّ القطب والغوث في كلّ زمان شخص، ويتبدّل من زمان إلى آخر، ولا ينحصر في عدد محدود، وإنّ الولاية الإلهية لنوع الواصلين، وبالتالي فالعصمة الذاتية تتعدّى وتتحقّق لكلّ سالك للقرب الإلهي، فباب الوصول الكامل مفتوح للكلّ.

وقال تعالى: ( قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً ولاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) (1) .

وفي هذه الواقعة التي سردها لنا القرآن الكريم تنبيه على منهجية وضابطة في طبيعة الإنسان - بل وكلّ موجود مدرك -، وهي أنّ الأُمور التي يصعب عليه معرفتها

____________________

1) سورة الكهف: 67 - 70.

٣١

بالتفصيل، وتَبْهُم لديه وتَجْمُل حقيقتها عن أفق إدراكه، تحصل لديه النِفرَة والجموح عن الإذعان بها، فيبادر إلى الإذعان بنفيها، وكأنّه توصّل إلى أنّ نفيها هو الحقّ، مع أنّ فرض الحال أنّ الأمر مبهم ومجمل عليه، وأنّ إبائه ونفرته منه هو لأجل ذلك، لكن يحصل لديه الخلط بين ذلك وبين أن يحسبه أنّه من قبيل ما يعلم ببطلانه وبعدمه في الواقع. وهذا الخلط في كيفية الاستنتاج يُربك على الإنسان طريقة الاستنتاج الصحيحة؛ فإنّ المطلوب منطقياً ومنهجياً في الحالة الأُولى هو التوقّف عن النفي أو الإثبات، وعن الإنكار أو القبول تفصيلاً، والقيام بعملية الفحص العلمي، لا المبادرة باستنتاج النفي ومن ثمّ الإنكار والجحود.

وهذا المنهج جاري في كلّ مسألة صعبة ومعقّدة في أيّ علم من العلوم، كعلم الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها من العلوم التجريبية، أو العلوم الإنسانية، أو علوم المعارف الإلهية، كما قد يحصل خلط لدى الإنسان بين حالة الفحص والبحث والتنقيب، وحالة التشكيك؛ فإنّ حالة التشكيك في ظاهر صورتها أنّها عملية تساءل وتنقيب، إلاّ أنّ في طياتها استنتاج عجول للنفي ومبادرة سريعة للإنكار غير مبنية على أُسس الفحص العلمي، والتمييز بين الحالتين غامضٌ يَدقّ على أفهام عامّة البشر.

ويذكر القرآن الكريم لنا مثالاً آخر في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ

٣٢

تَكْتُمُونَ ) (1) . ففي المثال يضرب تعالى عبرة لنا بالملائكة مع قدسيتهم ومكانتهم، إلاّ أنّه لاحتجابهم عن علم الغيب الإلهي بدر منهم استنكار ما جهلوه، ومسارعة إلى التنديد به مع كونه الحقّ.

ويشير إلى النموذج الثاني الإمام أبو عبد اللَّه عليه‌السلام في قوله: (إنّما مَثل علي عليه‌السلام ، ومَثَلُنا من بعده مِن هذه الأُمّة كمَثَل موسى عليه‌السلام والعالم، حين لَقِيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسى: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (2) ، ثمّ قال: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (3) ، وقد كان عند العالِم علم لم يُكتب لموسى في الألواح، وكان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في نبوته، وجميع العلم قد كُتب له في الألواح. كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلموه وحفظوه.

وليس كلّ علم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علموه، ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي‏ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه، ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه.

ولذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي‏ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلى اللَّه وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لَعلِمهُ

____________________

1) سورة البقرة: 30 - 33.

2) سورة الأعراف: 144.

3) سورة الأعراف: 145.

٣٣

الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد عليهم‌السلام ، والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا، لا واللَّه ما حسد موسى عليه‌السلام العالِم، وموسى نبيّ اللَّه يُوحي اللَّه إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم ولم يحسد كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما عَلِمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يرغبوا إلينا في عِلمنا كما رَغب موسى عليه‌السلام إلى العالِم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالِمَ ذلك عَلِم العالِمُ أنّ موسى عليه‌السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمَه ولا يصبر معه، فعند ذلك قال العالِم: ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) (1) ، فقال موسى عليه‌السلام له وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) (2) .

وقد كان العالم يعلم أنّ موسى عليه‌السلام لا يصبر على علمه، فكذلك - واللَّه يا إسحاق بن عمّار - حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لا يحتملون - واللَّه - علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسى عليه‌السلام على علم العالِم حين صحبه ورأى ما رأى من علمه، وكان ذلك عند موسى عليه‌السلام مكروهاً، وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخَذ وهو عند اللَّه الحقّ) (3) .

وفي هذه الرواية العديد من الوجوه على ضرورة موقعية الإمام في القيمومة على الشريعة، وسيأتي بيانها مفصّلاً، إلاّ أنّنا نقتصر في المقام على نبذة مجملة منها، وهي أنّ النبيّ موسى عليه‌السلام مع كونه نبيّاً مرسلاً من أولي العزم يتنزل عليه الوحي، أي إنّه محيط بالأحكام الشرعية وتشريعات اللَّه على ما هي عليه في الواقع، أي بالأحكام الواقعية، إلاّ أنّ ذلك لم يغنه عن العلم اللدنّي الذي أعطاه اللَّه

____________________

1) سورة الكهف: 68.

2) سورة الكهف: 69.

3) تفسير البرهان، ص 652 - 651.

٣٤

للخضر وهو الشريعة في نظامها الكوني والإرادات الإلهية التكوينية. وهذا العلم اللدنّي غير النبوّة، وهو حقيقة الإمامة، والذي كان مجتمعاً بشكله الأكمل والأتمّ في خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تُغني الإحاطة بالأحكام الواقعية لكلّ تفاصيل ظاهر الشريعة عن شريعة الإرادات الإلهية الكونية وتأويلها، فضلاً عن إحاطة الفقهاء القاصرة عن الإلمام بكلّ الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة.

بل الفقهاء - كما ذكر المحقّق النائيني في بحث الإجزاء - لا يحيطون بجميع الأحكام الظاهرية، التي دورها إحراز الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة؛ فإنّ جملة من الأحكام التي يستنبطها هي أحكام تخيّلية، وهي التي ينكشف له كون استنباطها على غير الموازين من الأدلّة.

وبعبارة أُخرى: إنّ الفارق بين علم النبيّ موسى وعلم الفقهاء، إنّ علم النبيّ موسى ليس منبعه نقلي، بل هو منبع وَحْياني، بينما منبع علم الفقهاء ليس إلاّ ظنون معتبرة، فضلاً عمّا لو كانت ظنون تخيّلية يتوهّم أنّها معتبرة، ومع كلّ ذلك فلم يُغنِ علم النبيّ موسى - وهو صاحب الشريعة - عن علم التأويل الذي زوّده اللَّه تعالى للخضر لَدُنِيّاً، فكيف يفرض استغناء الفقهاء في أحكام الشريعة عن دوام الرجوع إلى المعصوم؟

٣٥

قاعدة آلية

لنفي الغلوّ والتقصير

وهي ما روي عنهم مستفيضاً من قاعدة: (نزّلونا عن الربوبية) ، (وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا).

فأمّا الروايات الواردة في ذلك فهي:

الأُولى: ما رواه الصدوق في الخصال من حديث الأربعمائة المعروف، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم) (1) .

الثانية: ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات، عن إسماعيل بن عبد العزيز، قال: (قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام في حديث: يا إسماعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا) (2) .

____________________

1) الخصال: ص 614، ط / قم، والبحار، ج10، ص 92.

وطريق الرواية الصدوق، عن أبيه، عن سعد، عن اليقطيني، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، وليس فيه من يتوقّف فيه سوى القاسم بن يحيى وجدّه الحسن بن راشد، وهما وإن لم يوثّقا إلاّ أنّ كلاًّ منهما صاحب كتاب ذكره في المشْيَخَة، وطريق الصدوق والشيخ صحيح إلى القاسم بن يحيى، ويروى كتابه أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، وإبراهيم بن هاشم، وكذلك اليقطيني، وقد حكم الصدوق بصحّة ما رواه في زيارة الحسين عليه‌السلام عن الحسن بن راشد، وفي طريقه إليه القاسم بن يحيى، وقال: إنّ هذه الزيارة أصحّ الزيارات عنده رواية. الفقيه، حديث 1614 و1615.

2) بصائر الدرجات: ص 64 - 65.

٣٦

الثالثة: ما رواه الصفّار بسنده، عن كامل التمّار، قال: (كنت عند أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ذات يوم فقال لي: يا كامل، اجعل لنا ربّاً نؤوب إليه، وقولوا فينا ما شئتم. قال: قلت: نجعل لكم ربّاً تؤوبون إليه، ونقول فيكم ما شئنا؟ قال: فاستوى جالساً، ثمّ قال: وعسى أن نقول ما خرج إليكم من علمنا إلاّ ألف غير معطوفة (1) . والمراد من الألف غير المعطوفة كناية عن نهاية القلّة).

الرابعة: روى في كشف الغمّة من كتاب الدلائل للحميري عن مالك الجهني، قال: (كنّا بالمدينة حين أُجلبت الشيعة وصاروا فرقاً، فتنحينا عن المدينة ناحية، ثمّ خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة، إلى أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشي‏ء، إذا نحن بأبي عبد اللَّه عليه‌السلام واقف على حمار، فلم ندرِ من أين جاء، فقال:

يا مالك، ويا خالد، متى أحدثتما الكلام في الربوبية؟ فقلنا: ما خطر ببالنا إلاّ الساعة. فقال: اعلما، أنّ لنا ربّاً يكلأنا بالليل والنهار نعبُده، يا مالك، ويا خالد، قولوا فينا ما شئتم، واجعلونا مخلوقين. فكرّرها علينا مراراً وهو واقف على حماره) (2) .

الخامسة: وروي في البحار في باب معرفتهم بالنورانية (أي: إنّ مبدأ خلقهم هو خلق أنوارهم)، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (يا سلمان ويا جندب. قالا: لبيك صلوات اللَّه عليك. قال عليه‌السلام : أنا أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ممّن مضى وممّن بقي، وأيّدتُ بروح العظمة، وإنّما أنا عبدٌ من عبيد اللَّه، لا تسمّونا أرباباً وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كُنه ما جعله اللَّه لنا، ولا معشار العشر) (3) .

السادسة: ما رواه الراوندي في خرائجه عن خالد بن نجيع، قال: (دخلت على أبي عبد اللَّه عليه‌السلام وعنده خلق، فجلست ناحية وقلت في نفسي: ما أغفلهم، عند من

____________________

1) بصائر الدرجات، ص 149. والبحار ج 25، ص 283، ح 30.

2) كشف الغمّة عن معرفة الأئمة، ج2، ص 197.

3) البحار، ج26، ص 6.

٣٧

يتكلّمون! فناداني: إنّا واللَّه عبادٌ مخلوقون، لي ربّ أعبده؛ إن لم أعبده عذّبني بالنار. قلت: لا أقول فيك إلاّ قولك في نفسك.

قال: اجعلونا عبيداً مربوبين وقولوا فينا ما شئتم إلاّ النبوّة) (1) . ورواه في بصائر الدرجات بطريقين.

السابعة: ما رواه في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال: (قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولا تغلوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى؛ فإنّي بريّ من الغالين) (2) .

ورواه في الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : (قال الرضا عليه‌السلام : من تجاوز بأمير المؤمنين عليه‌السلام حدّ العبودية فهو من المغضوب عليهم والضالين).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى؛ فإنّي بريّ من الغالين).

إلى أن قال، بعد شرح غلوّ النصارى: فكذلك هؤلاء، وجدوا أمير المؤمنين عبداً أكرمه اللَّه ليبيّن فضله، ويقيم حجّته، فصغر عندهم خالقهم أن يكون جعل عليّاً له عبداً، وأكبروا عليّاً عن أن يكون اللَّه عزّ وجلّ له ربّاً، فسمّوه بغير اسمه، فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشيعته، وقالوا لهم: يا هؤلاء! إنّ عليّاً ووُلده عبادٌ مكرمون مخلوقون مدبَّرون، لا يقدرون إلاّ على ما أقدرهم عليه اللَّهُ ربُّ العالمين، ولا يملكون إلاّ ما ملَّكهم) (3) .

الثامنة: ما في غُرر الحكم، (قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا

____________________

1) بصائر الدرجات، ج 65، ص 241. واثبات الهداة، للحرّ العاملي، ج 7، ص 477، حديث 68، و ج 5، ص 417، حديث 154.

2) البحار ج 4، ص 303، ح 31.

3) البحار، ج 25، ص 278 - 274، والاحتجاج، ج 2، 233.

٣٨

مربوبون واعتقدوا في فضلنا ما شئتم) (1) .

التاسعة: ما رواه الكُليني، عن عبد العزيز بن مسلم، قال: (كنّا مع الرضا عليه‌السلام ... ثمّ ساق حديثاً طويلاً عنه في الإمامة، وفيه:

إنّ الإمامة أجلّ قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، مِن أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم... الإمام كالشمس الطالعة المجلَّلة بنورها للعالم، وهي في الأُفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار... فمن الذي يعرف معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات، ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيّرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحَصُرت الخطباء، وجهلت الألباء، وكلّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء، عن وصف شأن مِن شأنه، أو فضيلة مِن فضائله، وأقرّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكلّه، أو ينعت بكنه، أو يفهم شي‏ء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا، كيف وأنّى؟ وهو بُعد النّجْم عن يد المتناولين، ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟) (2) .

وروى في المنتخب من بصائر الدرجات، لسعد بن عبد اللَّه الأشعري، عن ابن عيسى بإسناده إلى المفضّل، قال: قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام : (ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين، ولم تعلموه ولم تفهموه، فلا تجحدوه، وردّوه إلينا. وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين، فاجحدوه ولا تردّوه إلينا) (3) .

فبيّن عليه‌السلام أنّ الضابطة في صحّة إسناد النعوت والأوصاف لهم عليهم‌السلام ، والمدار في تحقيق مقاماتهم، ليس على عدم غرابة النعت، ولا على تعقُّلِنا لتلك النعوت وإمكان فهمنا لها تفصيلاً، ولا على أُنسَنا لتلك الأوصاف والنعوت، بل ولا على

____________________

1) غرر الحكم: ص 159.

2) أصول الكافي، ج1، ص 198 - 201.

3) البحار، ج 25، ص 364. ومستدرك سفينة البحار، ج1، ص 199.

٣٩

صحّة السند وعدمه، وإنّما المدار على إمكان كون تلك الصفة صفة المخلوقين، أي عالم الإمكان ما سوى اللَّه، وإن لم يكتنه العقل المحدود للبشر كنه حقيقة تلك الصفة بنحو التفصيل، لكنّه يدرك إجمالاً أنّ الصفةَ صفةُ ممكنٍ حادثٍ، لا صفةً مختصّةً بالذات الأزليّة الغنيّة.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592