الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133750
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133750 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أُعطي لبقية النبيين والمرسلين فإنّه لم يوصف بذلك.

ونظير الدلالة على هذا الامتياز ما تقدّم في سورة الواقعة أنّهم في هذه الأُمّة، وهم أهل البيت عليهم‌السلام بنصّ آية التطهير، وهم الذين يمسّون القرآن المحفوظ في كِنْ (1) الكتاب المحفوظ، والمتنزّل من ذلك المقام الغيبي وهو المصحف الشريف الذي بين الدفّتين.

السادسة: إنّ في تقييد وصفهم (السابقون للخيرات) بإذن اللَّه، يتوافق ويَتَشاهَد مع قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (2) ، الدالّة على أنّ فعلهم وسبقهم للخيرات هو بإذنٍ من اللَّه، والمراد بالإذن الإيحاء، الذي هو أعمّ من الوحي الاصطلاحي، كالوحي التسديدي والإلهامي، أي: هو العلم اللدنّي لا الوحي النبوي.

____________________

1) أي: حفظ.

2) سورة الأنبياء: 73.

١٠١

١٠٢

قراءات جديدة

في آيات وحديث الغدير

القراءة الأُولى

(النبيّ وأهل بيته أولياء لدين اللَّه)

إنّ مفهوم الولاية قد انطبع في الأعصار الأخيرة بحدود ضيّقة، تقتصر على صلاحية الحكم السياسي بمصطلحاته الثلاثة: القضائي، والتنفيذي، والتشريعي. وكذلك الحال في مفهوم حقّ الطاعة، بينما مفهوم الولاية في أصل الوضع اللغوي والاستعمال القرآني والروائي أعمّ من ذلك، أي هو في معنى يساوي الدين والديانة، كما يقتضيه التدبّر في الشواهد الآتية.

وعلى ضوء ذلك، فالولاية تمتدّ بامتداد سعة دائرة الدين وأبوابه، وبعبارة أُخرى: الولاية تَسَنّم وتقلّد صلاحية كلّ شي‏ء بحسبه، ومن ثمّ يقال: ولاية التنفيذ، وولاية القضاء، وولاية التشريع، وولاية الإفتاء، وولاية إبلاغ الرسالة، كما سيأتي في الاستعمال القرآني. وكذلك يقال: الولاية التكوينية، وهو القدرة على التصرّفات بإذن اللَّه تعالى.

وفي لسان العرب: ولي في أسماء اللَّه تعالى؛ الولي هو الناصر، وقيل: المتولّي لأُمور العالم والخلائق والقائم بها، ومن أسمائه عزّ وجلّ: الوالي، وهو مالك الأشياء جميعها المتصرّف فيها.

١٠٣

قال ابن الأثير: وكأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم يطلق عليها اسم الوالي... وعن ابن السكّيت: الوِلاية - بالكسر - السلطان. وقال سيبويه: الوَلاية - بالفتح - المصدر، والوِلاية - بالكسر - الاسم، مثل: الإمارة والنقابة؛ لأنّه اسم لما تولّيته وقمْت به.

وروى ابن سلام عن يونس، قال: المولى له مواضع في كلام العرب، منها: المولى في الدين وهو الوليّ، وذلك قوله تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) (1) ، أي: لا وليّ لهم. ومنه قول سيّدنا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من كنت مولاه فعليّ مولاه) أي: من كنت وليّه. وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (من تولاّني فليتولّ عليّ)، معناه من نصرني فلينصره (2) .

وقال الفرّاء في قوله تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ) (3) ، أي تولّيتم أُمور الناس - والخطاب لقريش - قال الزجّاج والفرّاء: إن تُوُلِّيتُم أي وَلِيَكُم بنو هاشم (4) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (اللهمّ والِ من والاه) أي: أحبب من أحبّه وانصر من نصره.

ثمّ قال: وقد تكرّر ذكر المولى في الحديث، وهو اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو الربّ، والمالك، والسيّد، والمنعِم، والمعتق، والناصِر، والمحبّ، والتابع، والجارّ

____________________

1) سورة محمّد: 11.

2) قد ذكرنا في كتاب الإمامة الإلهية، ج 1، الفصل الثالث، في مفاد الوليّ والولاية في حديث الغدير أنّ المعنى سواء كان القيام بالأُمور، أو النصر، أو الحبّ، أو الحلف، أو أي معنى آخر، لِما قد ذكروه. فإنّ أيّ من تلك المعاني بقول مطلق مقتضاه الإمامة والرئاسة وولاية الأمر، فراجع.

3) سورة محمّد: 22.

4) لكن خطاب ( أَن تُفْسِدُوا ) هو لقريش. أي إن وليكم بنو هاشم فعسى أن تفسد قريش في الأرض، عناداً لولايتهم، كحرب الجمل وصفين والنهروان.

١٠٤

وابن العم، والحليف، والعقيد، والصِهر، والعبد، والمُعْتَق، والمنعَم عليه، قال: وأكثرها قد جاءت في الحديث، فأضاف كلّ واحد لما يقتضيه الحديث الوارد فيه، وكلّ من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليّه.

قالوا: وقد تختلف مصادر هذه الأسماء، فالوَلاية - بالفتح - في النسب، والنصرة، والعتق. والوِلاية - بالكسر - في الإمارة. والولاء في المُعتق الموالاة مِن والى القوم. قال ابن الأثير: وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من كنت مولاه فعليّ مولاه) يحمل على أكثر الأسماء المذكورة. وقال الشافعي: يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) (1) . قال: وقول عمر لعليّ: أصبحت مولَى كلّ مؤمن، أي وليّ كلّ مؤمن (2) .

وقال النيسابوري في وجوه القرآن: إنّ الولي على ثمانية أوجه. وذكر أنّ أحدها بمعني الآلهة، كقوله تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ ) (3) ، وقوله تعالى: ( أَمِ اتَّخَذَوُا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ) (4) (5) .

هذا وإنّما أطلنا في نقل كلام اللغويين روماً في إثبات أنّ معنى الولاية معنىً عام إذا أُضيف إلى الدين شمل كلّ من الإمارة، وبقية الصلاحيات والمناصب في الدين.

وبعبارة أُخرى: إنّ للولاية معنىً جامع، وأصل فارد، يستعمل في الموارد العديدة، وهو الذي تنبّه إليه ابن الأثير فيما تقدّم من قوله: (إنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل)، أي: إنّ المعنى الجامع مفاده التمكين والقدرة على التصرّف.

فإذا تقرّر ذلك يتبيّن من خلال ما مضى وسيأتي من شواهد عديدة، أنّ الولاية

____________________

1) سورة محمّد: 11.

2) لسان العرب، ج 15، ص41.

3) سورة العنكبوت: 41.

4) سورة الشورى: 9.

5) انتهى كلام النيسابوري في وجوه القرآن، ص 583، ويحكي هذا المعنى عن كتاب التصاريف والوجوه. وكذا، في الإمامية الإلهية، ج1، الفصل الثالث.

١٠٥

المجعولة في الأدلّة لعليّ عليه‌السلام والأئمّة عليهم‌السلام هي ولاية كلّ الدين، بما في ذلك من الإمارة والحكومة والقيام بالأُمور السياسية في النظام الاجتماعي، وكذا الولاية في التشريع والقيمومة على الدين ووساطتهم في التدين بالدين، وغير ذلك من الشؤون.

وهذه الآية ملْحَمَة قرآنية في قريش، بأنّها ستتولّى الأُمور وتكون سيرتها ما ذكرته الآية.

وفي القراءة الثانية: إن تولّت بنو هاشم الأُمور ستعاديهم قريش فتضمّنت الملحمة القرآنية نبوءة مستقبلية قد جاء بتصديقها ما وقع في الصدر الأوّل للأُمّة الإسلامية.

فالولاية من معاني الولاية في جميع أبواب الدين، ومن تلك الأبواب الإبلاغ عن اللَّه تعالى ممّا أبلغه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اللَّه لهم خاصّة، سواء في نشأة حياته الدنيا أو حياته الأُخرى، ولا زال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يبلّغ الإمام القائم بالأمر(عج) عن اللَّه تعالى، وهذه هي السفارة الإلهية وإن لم تكن من سنخ النبوّة، أي السبب المتّصل بين الأرض والسماء، قال الشيخ الصدوق في الاعتقادات: وقد فوّض اللَّه تعالى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر دينه، فقال عزّ وجلّ: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وقد فَوّض ذلك إلى الأئمّة عليهم‌السلام (2) .

فالولاية الواردة لهم عليهم‌السلام في الآيات والأحاديث - كحديث الغدير - هي ولاية كلّ الدين عدا النبوّة، فكلّ ما كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو ثابت لهم، وكذا وساطتهم عن اللَّه، غاية الأمر بتوسّط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وليست ولايتهم مقصورة على الولاية السياسية والرئاسة وقيادة النظام الاجتماعي، وإن كانت هذه الولاية إحدى شعب ولايتهم في الدين، وبعبارة

____________________

1) سورة الحشر: 7.

2) الاعتقادات: ص101.

١٠٦

أُخرى، إنّ الإمامة كما تقرّر في معناها ليست مقتصرة على الرئاسة العامّة وحفظ الدين في جانب الحاكمية والتدبير، بل حدودها ومعناها أوسع من ذلك؛ بنحوٍ يتناول الهداية التشريعية الإرائية في طول النبوّة، والهداية الإيصالية للنفوس إلى الكمالات الحقيقية بتدبير ملكوتي.

وكلّ من الهدايتين هي من موقع تكويني لنفس وروح الإمام المعصوم، نظير ما ذَكَره المتكلّمون في تعريف النبوّة والنبيّ؛ من أنّها كون النفس البشرية بحيث تسمع كلام اللَّه، أي أنّه مقام تكويني للروح النبويّة. فكذلك الحال في الإمامة فإنّها مقام تكويني كمالي وإن اختلفت سِنخاً عن النبوّة.

ويتقرّر من ذلك أنّ الولاية بمعناها الوسيع الشامل تتطابق (1) مع ماهية الإمامة. ويجدر هاهنا الإشارة إلى جملة من الشواهد على سعة معنى الولاية بالإضافة إلى الدين وأبوابه ومقاماته:

أوّلاً: قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ) (2) ، مفاد الآية يقرّر أنّ الدعوة إلى اللَّه وهي الهداية الإرائية هي صلاحية وولاية يعطيها اللَّه عزّ وجلّ، وهذا مؤدّى قوله ( بِإِذْنِهِ ) ؛ إذ إعطاء الإذن إنّما هو في حقل الولاية والملكية والقدرة والسلطنة. فيظهر من الآية أنّ إحدى محطّات الولاية وشعبها هي الدعوة إلى اللَّه والهداية التشريعية، ونظير هذا المفاد قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ الله لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ ) (3) .

حيث أوضحت الآية التقابل بين الفريّة من جانب والفتيا بالإذن من جانب

____________________

1) ومِن ثمّ كانت الشهادة لعليّ عليه‌السلام بالإمامة هي عين الشهادة لعليّ بالولاية، فـ (أشهدُ أنّ عليّاً وليّ اللَّه) هي عين مفاد أشهد أنّ علياً إماماً للدين والدنيا.

2) سورة الأحزاب: 45 - 46.

3) سورة يونس: 59.

١٠٧

آخر، مع أنّ المتبادر في بدو النظر أنّ المقابل للافتراء هو الصدق، والمقابل للفتيا بالإذن هو الفتيا بغير إذن، فجَعْل المقابلة في الآية بين الافتراء والفتيا بالإذن يقتضي كون التحليل والتحريم وبيان الأحكام الإلهية متوقّفاً على الإذن ممّن له الولاية، وأنّها أُمور مولوية، وأنّ جهة التشريع من شعب ولايته تعالى.

وثانياً: إنّ الجعل التشريعي قِوامُه بالمَوْلَوية ومولوية المولى؛ لأنّ الحكم التكليفي قِوامُه بالطلب المولوي، والمولوية هي ولاية الباري تعالى، كما أنّ قِوام الحكم الوضعي هو بالحكم التكليفي، فيكون قِوام الأحكام التشريعية بولاية المولى، والتقنين ينقسم إلى سنخين: من الحكم الوضعي، والتكليفي، أي ينقسم التقنين إلى قانون يقرّر المعاني كالملكية والحقوق والعقود، وإلى قانون فيه اقتضاء الفعل والإلزام به، وكلّ من الحكمين أصيل في التشريع إلاّ أنّ مآل الحكم الوضعي في التشريع إلى الحكم التكليفي، ولذلك أفرط بعض علماء الأُصول في نفي تأصيل الحكم الوضعي في التشريع، وقالوا إنّه منتزع وتابع لحدود الحكم التكليفي.

وعلى أيّ تقدير، فإنّ الحكم الوضعي الذي هو تقرير لمعاني الأشياء كمؤدّى اعتباري قانوني، إنّما يشرّع ويقنّن لتنظيم أفعال أفراد المجتمع، أي فمآل الحكم الوضعي وغايته الحكم التكليفي الذي يتعلّق بفعل الفرد مباشرةً، هذا من ناحية.

ومن ناحيةٍ أُخرى، فإنّ قوام الحكم التكليفي هو بمولوية الشارع، والمولوية قِوامها بولاية المولى وحقّ الطاعة له، وبذلك يكون التشريع وصلاحيته وليدة ولاية المشرّع والمقنّن على المتدين بذلك الشرع، والمتّبع لذلك التقنين.

ويعضد ذلك أنّ فقهاء الشريعة وفقهاء القانون الوضعي في استنباطهم وقراءتهم للنصوص الشرعية والقانونية، إنّما يستنبطون الحكم - ولو كان وضعياً - فيما إذا كان الشارع يُعْمِل جهة المولوية في إنشائه للحكم، أي لا يكون بداعي

١٠٨

الإرشاد، أي: لابدّ أن يكون المقنّن من جهة سيادته وسيادة القانون يقرّر ذلك النصّ القانوني لا من باب النصيحة، والإرشاد منه، وهذا ممّا يدلّل على أنّ الحكم الوضعي في تشريعه يستند إلى ولاية الشارع وسيادته، وبالتالي يتّضح لنا أنّ الولاية تتشعّب إلى الولاية التشريعية كما تتشعّب إلى ولاية القضاء، والتنفيذ، والتدبير.

ثالثاً: إنّ مفهوم الدين والديانة هو الخضوع بالطاعة في اتّجاه من له الولاية، ومن ثمّ كانت الديانة هي الطاعة، والمطاع هو الدائن، وكذلك في مفهوم الإسلام الذي هو من التسليم والخضوع.

ومن ذلك يتقرّر المطلوب من أنّ ولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، أي وجوب طاعتهم تتّسع لكلّ حدود ودائرة الدين والديانة في طول وتبع ولاية اللَّه تعالى وطاعته، ومن ثمّ تتبلور القراءة الصحيحة لقوله تعالى: ( أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1) ، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ ) (2) .

بأنّ وجوب طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام وولايتهم ليست مقتصرة على الحاكمية السياسية، بل هي ولاية وقيمومة على هذا الدين، كما هو الحال في وجوب طاعة اللَّه وولايته، حيث إنّها غير مقتصرة على الحاكمية السياسية والقضائية والتشريع السياسي، بل هي ولاية عامّة بحدود سعة الدين والديانة، حتّى في الأبواب العِبادية، بمعنى أنّ رسم العبادة للَّه تعالى هو بتوسّط سنن وأوامر

____________________

1) سورة النساء: 598.

2) سورة المائدة: 55 - 56.

١٠٩

نبوية وسنن وأوامر ولوية، كما هي مشتملة على فرائض وأوامر إلهية، فقصد الأمر المأخوذ في العبادة هو إمتثال الأمر الشامل للأقسام الثلاثة من الأوامر، فبطاعتهم يُعبد اللَّه تعالى.

وإلى ذلك يشير ما رواه الكليني، والمفيد، والطوسي، في الصحيح عن محمّد بن زيد الطبري، قال: (كنت قائماً على رأس الرضا عليّ بن موسى عليه‌السلام بخراسان وعنده جماعة من بني هاشم، منهم إسحاق بن العبّاس بن موسى، فقال له عليه‌السلام : يا إسحاق، بلغني أنّكم تقولون، إنّا نقول: إنّ الناس عبيد لنا. لا، وقرابتي من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قلته قطّ، ولا سمعته من أحد من آبائي، ولا بلغني عن أحدٍ منهم قاله، لكنّا نقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، مَوالٍ لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب) (1) .

وما ورد في الروايات من زيارة الإمام الرضا عليه‌السلام :

(اللّهمّ صلِّ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، عبدك، وأخي رسولك الذي انتجبته بعلمك، وجعلته هادياً لمن شئت من خلقك، والدليل على من بعثته برسالاتك، وديّان الدين بعدلك، وفصْل قضائك بين خلقك، والمهيمن على ذلك كلّه) (2) .

وورد وصف ديّان الدين في الصلاة على الحسنين، وعلى علي بن الحسين، في الزيارة المزبورة التي ورد فيها: (اللهمّ صلِّ على عليّ ابن موسى الرضا المرتضى عبدك ووليّ دينك) (3) ، كما ورد أيضاً في زيارة آل ياسين في الناحية: (السلام عليك يا باب اللَّه وديّان دينه) (4) ، ومنها قوله تعالى تلقيناً لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ

____________________

1) أمالي المفيد، المجلس 253، ورواه أيضاً الكليني في الكافي، ج1، ص 187، والطوسي في أماليه: ص22.

2) منتهى المطلب: ج2، ص 894. الكافي: ج1، ص 527. كامل الزيارات لابن قولويه: ص 97.

3) الجامع العبّاسي: ص 182.

4) الاحتجاج: ص 316.

١١٠

وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) (1) ، فإنّ إنزال الكتاب وإن كان وصفاً لاسم الجلالة، إلاّ أنّ الوصف ذُكر للمناسبة مع عنوان الولي، كما هو مطّرد في الاستعمال والأدب القرآني، وإلاّ لَذَكر وصف آخر غير إنزال الكتاب.

رابعاً: ما يظهر من دلالة العديد من أدلّة ولايتهم عليهم‌السلام أنّها قيمومة على مجمل الدين، في طُول وتبع قيمومة الرسول، وفي طُول قيمومة وتبع اللَّه عزّ وجلّ، فالولاية على الدين هي بالأصالة للَّه عزّ وجلّ، كما قال تعالى: ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) (2) .

وقوله تعالى: ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ) (3) .

وقوله تعالى: ( الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) (4) .

فإن خلوص الدين للَّه من قبل العبد يقتضي أن لا يخضع العبد لغير اللَّه، ولا يدين بولاية وطاعة غير اللَّه تعالى، أي يقتضي أنّ الولاية والطاعة في الدين في كلّ شعبها مبدأها ومنتهاها وأصلها وغايتها وأقسامها واختلاف ضروبها هي للَّه تعالى: ( أَطِيعُواْ الله وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) (5) ، و: ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ) (6) ، وغيرها من الآيات المتظافرة الدالّة على ولاية الرسول في قيمومته على دين اللَّه، التابع لولاية اللَّه في كلّ شعبها وضروبها وأقسامها، فهي ثابتة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تبعاً لولاية اللَّه، سواء في ولاية التشريع، والحكم، والقضاء، والتصرّف، والبيان، والترخيص، والنسخ، والإقرار، وأنّ طاعتهم باب العبادة للَّه تعالى... وغيرها من ضروب أنماط الولاية وحقّ الطاعة في أبواب الدين الكثيرة المتعدّدة، التي يكون ولاية الحكم السياسي بقواه الثلاثة باباً من أبوابه؛ إذ الدين دائرته ومِلاكاته أوسع من النشأتين فضلاً عن أن ينحصر بأحكام النظام السياسي في النشأة الدنيا.

____________________

1) سورة الأعراف: 196.

2) سورة الزمر: 3.

3) سورة الأنفال: 39.

4) سورة الكهف: 44.

5) سورة آل عمران: 32.

6) سورة النساء: 80.

١١١

فتحصّل: أنّ ولايتهم الواردة في الأدلّة المتعدّدة، هي الولاية على كلّ الدين في جميع أبوابه وروافده، وهذا أصل من أُصول الشريعة في المعرفة، تنشعب منه قواعد عديدة من المعارف.

١١٢

توحيد اللَّه في العبادة

بولايتهم وطاعتهم

قال تعالى: ( َلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) (1) ، فأطلق على الطاعة للشيطان أنّها عبادة له، وهذا يقتضي أنّ عبادته تعالى لا تتقوّم حقيقة بمجرّد السجود والركوع وأشكال النُسك، بل لانطوائها واحتوائها وتضمّنها لطاعة اللَّه فحينئذٍ تكون عبادة له تعالى، وهذا الاستعمال للعبادة في الطاعة يقتضيه المعنى اللغوي؛ لأنّ قِوام العبادة بالخضوع.

والخضوع هو الطوعانية والائتمار والانقياد لإرادته تعالى، فذلك هو روح وجوهر العبادة، وأمّا أشكال النُسك والطقوس العبادية فهي قشر ولباس وثوب وبدن العبادة، وأمّا اللُباب والروح فهي الطاعة، وعبودية الانقياد والخضوع والانقهار أمام إرادته تعالى، والتسليم والضِّعة والإخبات لمشيئته تعالى، فإنّما صارت العبادة - النُسك والطقوس - عبادةً بالطاعة.

ونظير ذلك قوله تعالى: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ) (2) ، فأطلق تعالى على طاعة الجنّ وتولّيهم وموالاتهم عبادة لهم وقال

____________________

1) سورة يس: 60 - 61.

2) سورة سبأ: 40 - 41.

١١٣

تعالى: ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) (1) ، أي الذين يعبدون الطاغوت، وقد فسّر بطاعتهم للأحبار والطاغوت كلّ من أطيع في معصية اللَّه، ويعضد هذا التفسير قوله تعالى: ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ) (3) ، وفي صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام في قول اللَّه تعالى: ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ) قال: (واللَّه ما صلّوا لهم ولا صاموا ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم) (4) .

وفي رواية أُخرى، قال عليه‌السلام : (واللَّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون) (5) .

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : (... وأمّا قوله أحبارهم ورهبانهم، فإنّهم أطاعوهم وأخذوا بقولهم واتّبعوا ما أمروهم به ودانوا بما دعوهم إليه، فاتّخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم وتركهم أمر اللَّه وكتبه ورسله، فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتّبعوه وأطاعوهم وعصوا اللَّه، وإنّما ذُكر هذا في كتابنا لكي يُتّعظ به) (6) .

وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: (أتيت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عنقي صليب، فقال لي: يا عدي اطرح هذا الرق (الوثن) من عنقك. قال: فطرحته ثمّ انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ

____________________

1) سورة المائدة: 60.

2) سورة التوبة: 31.

3) سورة آل عمران: 64.

4) المحاسن: ح1، ص 246، وكذلك في تفسير البرهان: ج 2، ص768، في ذيل الآية.

5) المصدر السابق.

6) تفسير القمّي: ص 289، والبرهان: ج2، ص 769.

١١٤

الله ) حتّى فرغ منها، فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرِّمون ما أحلّه اللَّه فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم اللَّه فتستحلونه؟ قال، فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم) (1) .

فإذا تقرّر ذلك يتبيّن أنّ قِوام العبادة بالطاعة، وهي روحها وجوهرها، ولا ريب أنّ الطاعة للَّه لا تُعرف إلاّ بدِلالة منه عزّ وجلّ، إذ لا يصيب العقل البشري مواطن رضا اللَّه وإرادته ومشيئته، ولا يميزها عن مواطن سخطه ونقمته، إلا النزر القليل، ممّا تقضي به الفطرة البشرية من المحاسن وتدركه من القبائح، فمن ثمّ تتبلور ضرورة وجود الدليل على طاعته والهادي إلى إرادته ومشيئته، ومن ثمّ كانت بعثة الأنبياء ونَصبْ الأوصياء من بعدهم ضرورة ملِحّة للوقوف على مواطن طاعة اللَّه.

وبمعرفة طاعة اللَّه يصيب المسلم والمؤمن حقيقة العبادة، وبجهله بطاعة اللَّه يخفق عن إقامة عبادته، فالتوحيد في العبادة هو بالطاعة التي هي الركن الركين، وطاعته تعالى لا طريق لها إلاّ بطاعة نبيّه ورسوله وحججه المنصوبين من قِبله خلفاء في أرضه.

المنهج السلفي وعبادة إبليس:

أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في استعراضه لقصّة إبليس مع آدم في أكثر من سبع سور (2) ، إذ قال تعالى في سورة ص: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ

____________________

1) مجمع البيان: ج5، ص 43.

2) سورة البقرة: 30، سورة الأعراف:11، سورة الحجر:30، سورة الإسراء:61، سورة الكهف:50، سورة طه: 116، سورة ص: 57.

١١٥

وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِين َ ) (1) .

وقال في سورة البقرة: ( إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (2) .

قد بيّنت الآيات الكريمة أنّ الخضوع والانقياد لآدم توحيد للَّه في العبادة، لأنّه خليفة اللَّه، وأنّ ترك الانقياد له شرك وكفر في العبادة وإن أتى بصورة السجود للَّه كما ورد في الأحاديث.

ففي الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين؛ ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه - وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب -: ( إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّ إِبْلِيسَ ) ، اعترضته الحميّة، فافتخر على آدم بخَلْقه، وتعصّب عليه لأصله، فعدو اللَّه إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين... وكان قد عبد اللَّه ستّة آلاف سنة، لا يُدرى أمن سِنِي الدنيا أم من سِني الآخرة، من كِبرٍ ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللَّه بمثل معصيته؟) (3) .

وكالذي رواه الراوندي بإسناده إلى الصدوق بسنده الصحيح: (عن هشام، عن الصادق عليه‌السلام قال: أُمر إبليس بالسجود لآدم، فقال: يا رب، وعزّتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنّك عبادة ما عبدك أحد قطّ مثلها. قال اللَّه جلّ جلاله: إنّي أُحبّ أن أُطاع من حيث أُريد) (4) . ورواه القمّي في تفسيره بسنده، إلاّ أنّ فيها: (لا حاجة لي إلى عبادتك؛ إنّما

____________________

1) سورة ص: 71 - 85.

2) سورة البقرة: 32.

3) نهج البلاغة، خطبة 192، الخطبة القاصعة.

4) البحار: ج 2، ص 262، و: ج 11، ص 145، و: ج 60، ص 250.

١١٦

أريد أن أعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد) (1) .

وكذا في تفسير علي بن إبراهيم كما نقله المجلسي في البحار (2) .

وروى الطبرسي في الاحتجاج في جواب مسائل الزنديق، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، أنّه سُئل: (أيصلح السجود لغير اللَّه؟ قال: لا. قال: فكيف أمر اللَّه الملائكة بالسجود؟ فقال: إن من سجد بأمر اللَّه فقد سجد للَّه فكان سجوده للَّه؛ إذ كان عن أمر اللَّه. ثمّ قال عليه‌السلام : فأمّا إبليس فعبدٌ خَلقه...) (3) .

وروى الشوكاني في فتح القدير، قال: (وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عبّاس، قال: كانت السجدة لآدم والطاعة للَّه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الحسن، قال: سجدوا كرامة من اللَّه أُكرم بها آدم. وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني، قال: إنّ اللَّه جعل آدم كالكعبة) (4) .

وقال تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله ) (5) .

والآية الكريمة من ملاحم الآيات في تبيان حقيقة العبادة والقبلة والصلاة، حيث بيّن تعالى أنّ غاية جعل القبلة السابقة في الصلاة هو اتّباع الرسول وطاعته، وليحْصِل التمحيص بين المطيع وبين مَن ينقلب على عقبيه، ولا يخفى ما لصعوبة هذا الامتحان، حيث تمّ تبديل القبلة من البيت الحرام إلى بيت المقدس، أي إلى قبلة اليهود والنصارى، وشُرّعت بعدما كان البيت الحرام - في بدء الشريعة النبوية وأوائل البعثة في مكّة - هو القبلة، وهو من الخطورة بمكان؛ حيث إنّ القبلة في العبادة والدين من النواميس العظيمة.

____________________

1) تفسير القمّي: ج1، ص 42.

2) البحار: ج 11، ص141، و: ج 63، ص 274.

3) البحار: ج 11، ص 138.

4) فتح القدير: ج1، ص 66، ذيل سورة البقرة: الآية 34.

5) سورة البقرة 143: 2

١١٧

ولا سيما وأنّ قبلة البيت الحرام قد توارثتها قريش من ملّة إبراهيم وإسماعيل الحنيف، وكان البيت الحرام هو محور النسك والمناسك المختلفة العبادية في الصلاة والطواف والذبائح والقرابين، وتبديل القبلة - حينئذٍ - التي هي مَعْلَم رئيسي في الدين يدلّ على مدى موقعيّة الرسول وولايته وطاعته في الديانة، وأنّ الديانة وطريق العبودية للَّه تعالى هو باتّباع وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ قوام القبلة والعبادة باتّباع الرسول وطاعته، فكانت محنة هذا الامتحان عظيمة جدّاً ليتقرّر معنى الديانة والدين.

ومن ثمّ قال تعالى: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) (1) ، وقال تعالى: ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (2) ، وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (3) .

فتبيّن من الآيات: إنّ روح العبادة ولبّ التوجّه في القبلة إلى وجه اللَّه، هو الاتّباع والطاعة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ حقيقة عبادته تعالى كامنة في طريق طاعة واتّباع

____________________

1) سورة البقرة: 177.

2) سورة التوبة: 19، نزلت هذه الآية في محاجّة بين عليّ عليه‌السلام وشخص آخر، فنزلت بتفضيل عليّ عليه‌السلام .

3) سورة الحجرات: 1ـ3، نزلت هذه عند رفع الأوّل والثاني صوتهما فوق صوت النبيّ (صلّى الله عليه وآله

١١٨

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا مخالفته والجرأة عليه.

فتبيّن من ذلك: إنّ جوهر العَبَدة ليس بشكل وهيئة رسوم العَبَدة، بل جوهر العَبَدة الطاعة والطوعانية، والخضوع والانقياد؛ إذ لو كان مدار التوحيد في العَبَدة على نفي الواسطة المنصوبة من قبله تعالى ونفي الوسيلة، لكان إبليس إمام الموحّدين، ولكان قدوة الموحّدين في نفي العقيدة الشركية في العَبَدة؛ لأنّه عَرض على اللَّه أن يعبده عَبَدة من دون واسطة خليفة اللَّه آدم، وهذا العرض - بحسب الصورة الظاهرة - أبلغ في دعاء اللَّه وحده بلا شريك، بينما نرى الباري تعالى قد حكم بأنّ ما فعله إبليس بنفي الواسطة الإلهية كفر، بل وحكم بأنّ رغبة إبليس في عبادته مباشرةً شرك.

وقد فسّر أمير المؤمنين وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ذلك: بأنّ رفض إبليس للواسطة الإلهية، وطلبه للسجود مباشرةً للَّه من دون الانقياد لآدم عليه‌السلام ينطوي في الحقيقة على تكبّر على اللَّه؛ لأنّه لم يسلّم لربّ العزّة في قضائه وأمره.

والكبر: انفساخ عن العبودية وبروز لفرعونية الذات، فرأى في نفسه الاستقلال عن باريه، فردّ عليه أمره، ورأى تقدّم رأيه على حكم اللَّه وحكمته. وكلّ ذلك ينطوي على إنكار مقامات ربوبيته تعالى، وصفاته الكمالية بنحو مستبطن، فاعتدّ إبليس بذاته؛ بأنّ له شأن الارتباط والتلقّي مباشرةً عن الباري، وهذا يؤول إلى الاستخفاف بعلوّ مقامات الربوبية، وإنكار عزّ الشؤون الإلهية.

وسنّة إبليس هذه قد ارتكبتها أغلب الأُمم التي كفرت بأنبيائها وأوصيائها، كما قال تعالى: ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِي‏ءٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ) (1) ، فبيّن أنّ سبب إنكارهم

____________________

1) سورة المدّثّر: 49 - 52.

١١٩

لدعوات الأنبياء استطالتهم ليكون كلّ واحد منهم نبيّاً، فالتكبّر والاستعلاء على الواسطة الإلهية ينطوي على الكفر بالمقامات الإلهية، وبالتالي إلى جحد وإباء للواسطة الإلهية.

وقال تعالى أيضاً: ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً ) (1) ، فدعاوى نفي الوسائط الإلهية والوسيلة إليه تعالى تحت ذريعة الارتباط مباشرةً به، هي هتك للحجب الإلهية، وتجرّي على حرمات الشؤون الإلهية، وهو ناشئ - حقيقةً - عن عدم التسليم بعظمة الصفات الإلهية، وعدم التوحيد في المواطن المختلفة. فالإباء والرفض للتوجّه إلى الواسطة والوسيلة المنصوبة من قبله تعالى، تحت شعار لزوم الطلب مباشرة من اللَّه لا من الواسطة ولا التوبة إلى الواسطة، ينطوي على التكبّر الإبليسي، والاستخفاف بالمقام الربوبيّ.

ومن ثمّ نجد أنّ القرآن الكريم يشير إلى أنّ شِرْك عَبَدة الأوثان ناشئ من اختيار الوثنيين تلك العَبَدة من عند أنفسهم دون إذنٍ من اللَّه تعالى وحُكِم منه، لا من جهة وجود الواسطة والوسيلة بين المخلوق - الذي ليس من المقرّبين إلى الساحة الربوبية - وبين الخالق؛ فإنّ الواسطة والوسيلة ضرورة تكوينية وسنّة إلهية، بل شِرك الوثنيين وعَبَدة الأوثان هو من جهة اقتراحية الواسطة والوسيلة، أي كون تعيينها من قبل أنفسهم. والخلط بين الأمرين غالط به الكثير في باب التوحيد، والوجه الذي إليه يتوجّه الأولياء.

فشرك الوثنيين في الواسطة هو من حيث هم يريدون ويختارون، لا من حيث يريد اللَّه ويختار. ومن حيث هم يشاؤن، لا من حيث يشاء اللَّه.

____________________

1) سورة الإسراء: 94.

١٢٠