الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133664
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133664 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فيجعلون لأنفسهم حقّ التصرّف في تحديد العلاقة بينهم وبين ربّهم، ويجعلون لأنفسهم السلطان المقدَّم على سلطانه تعالى، ومن ثمّ يجعلون أنفسهم أرباباً بدل أن يكونوا عبيداً له تعالى.

فمن ذلك يتبيّن: أنّ الوثنية وشرك عَبَدة الأصنام ينطوي على الاستكبار والكفر الذي هو سنّه إبليس اللعين، لا من جهة ضرورة أصل الواسطة والوسيلة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) (1) . وقال تعالى: ( أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ) (2) .

فالآيتان يشير مفادهما إلى أنّ المحذور، وهو عدم إلاذن - وهو السلطان - من اللَّه في تعيين مصداق الواسطة والوسيلة، لا كون المحذور في وجود الوسيلة.

وكذا قوله تعالى على لسان إبراهيم الحنيف في محاجّته لعَبَدة الأصنام: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (3) .

وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (4) .

وقوله تعالى في مشركي قريش في معركة أُحد: ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) (5) .

وقوله تعالى على لسان يوسف النبيّ عليه‌السلام : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (6) .

قابلت

____________________

1) سورة الحج: 71.

2) سورة الروم: 35.

3) سورة الأنعام: 81.

4) سورة الأعراف: 33.

5) سورة آل عمران: 151.

6) سورة يوسف: 39 - 40.

١٢١

بين توحيد الحكم وتوحيد العبادة من جهة، وبين عَبَدة الأرباب من دون اللَّه من جهةٍ أُخرى؛ لكونها بدون سلطان وأمر منه تعالى، ممّا يقتضي أنّ مدار الشرك في العبادة في قبال التوحيد في العبادة يدوران مدار وجود الأمر الإلهي وعدمه.

فتؤكّد هذه الآيات، على أنّ شرك الوثنيين وعَبَدة الأصنام ليس بسبب وجود الواسطة بين البشر والباري، ولا بسبب وجود الوسيلة، بل إنّما شرك الوثنيين هو بسبب استقلالهم باتّخاذ الواسطة من عند أنفسهم، وتقديم اختيارهم وإرادتهم على اختيار اللَّه وإرادته. ففي الآيات تقرير لضرورة الوسيلة والواسطة، فأمّا الوثنيون فأشركوا إرادتهم ومشيئتهم مع إرادة اللَّه ومشيئته، ونازعوه في سلطانه.

ومن ثمّ تكرّر التعبير في هذه السور والآيات لعنوان عدم السلطان لهم بذلك من اللَّه، فجعلوا لأنفسهم سلطاناً يشاركون فيه سلطان اللَّه في تعيين الواسطة والباب إليه تعالى، كما فعل إبليس عندما اقترح على اللَّه نفي الواسطة المنصوبة من قبله تعالى، مقابل أن يعبده كما هو يريد لا كما يريد اللَّه، وكان هذا حال مشركي العرب وعَبَدة الأصنام الذين عبدوا اللَّه من حيث يريدون لا من حيث أراد اللَّه.

فالعقيدة الشركية ليست في الانقياد لواسطة الباري، وإنّما في إشراك إرادة العبد في العبادة مع إرادة المعبود، ومن ثَمّ كان سجود الملائكة لخليفة اللَّه آدم توحيد، وإباء إبليس عن الانقياد للواسطة شرك وكفر؛ لأنّ سجود الملائكة لآدم كان بأمرٍ من اللَّه وسلطانٍ منه، كما قال الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير سجود الملائكة له: (إنّ من سجد بأمر اللَّه فقد سجد للَّه، فكان سجوده للَّه إذ كان عن أمر اللَّه) (1) .

فالشرك يدور مدار إشراك العبد سلطان نفسه في العبادة وكيفيتها مع سلطان الباري، لا في وجود الواسطة من حيث هي واسطة، والوسيلة من حيث هي وسيلة.

____________________

1) البحار، ج 11، ص 138.

١٢٢

كيف! وهي ضرورة، كما أنّ مدار التوحيد هو في التسليم لأمر اللَّه وسلطانه، ولو عبر واسطة ووسيلة، لا في نفي الواسطة والحجاب والباب في البين.

ولك أن تقول: إنّ ما قرّره علماء الكلام والمعرفة من العلوم الأُخرى في تعريف الشرك: بأنّه الخضوع لغير اللَّه بما أنّ الخاضع عبدٌ والمخضوع له ربّ. هو الآخر يرجع إلى تحديد سلطان اللَّه والقول بسلطان الغير وتقديمه على سلطان اللَّه.

وبعبارة أُخرى: إنّ الشرك باعتباره من أقسام الكفر يقابل التوحيد في مقامات عديدة، فكما أنّ التوحيد يُقرّر في مقام الذات الإلهية كذلك الشرك - في مقام الذات - يكون عبارة عن القول بتعدّد الذات الإلهية الواجبية.

فكما أنّ التوحيد في الصفات، هو عبارة عن وحدة الصفات الكمالية مع الذات الأزلية، وأنّ تلك الصفات الكمالية الواجبية لا يتّصف بها أحد غير الباري، فكذلك الشرك في الصفات يُقرّر بتعدّد وتغاير ذوات الصفات عن الذات الإلهية، أو باتّصاف غيره تعالى بتلك الصفات. وكما يُقرّر التوحيد - أيضاً - في الأفعال بأن تُسند الأفعال إلى الباري تعالى وأنّ لا مؤثّر في الوجود إلاّ هو، من دون استلزام ذلك الجبر في أفعال المخلوقين، فكذلك الشرك في الأفعال يُقرّر بأسناد الأفعال لغيره بنحو الاستقلال.

كذلك التوحيد في العبادة هو الخضوع له تعالى بما أنّه واجب الوجود، وأنّ له حقّ الطاعة وسلطان الولاية. والشرك في العبادة يُقرّر بالخضوع لغير اللَّه؛ باعتبار أنّ الغير مستقلّ الذات أو الفعل أو مستقلّ الولاية والسلطان ومستقلّ في حقّ الطاعة، فالشرك في العبادة لا ينحصر في النمط الأوّل - أي الشرك في الذات - كما قد يوهمه التعريف الدارج.

بل إنّ مشركي العرب في الجزيرة وعَبَدة الأصنام من غيرهم لا يعتقدون في

١٢٣

الأصنام والأوثان الاستقلال في وجود ذواتها، ولا أزليتها، ولا الأرواح الكلّية المزعوم تعلّقها في الأصنام. وإنّما شركهم - كما تقدّم - لقولهم بحقّ الطاعة لتلك الأصنام والأرواح من دون إذنٍ ولا أمرٍ من اللَّه.

ويشير إلى ذلك قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (1) ، فاتّضح أنّ الشرك في العَبَدة لا يتحقّق بمجرّد الخضوع لغير اللَّه تعالى، بل فيما كان بغير أمر اللَّه وسلطانه، كما أنّ التوحيد في العبادة لا يتحقّق بمجرّد صورة الخضوع للَّه تعالى، بل إنّما يتحقّق فيما كان بأمر اللَّه وسلطانه.

فالشرك في العبادة يدور مدار معنى العبودية من الخضوع والطوعانية لولاية وسلطان المعبود، فإذا جُعل الخضوع لمبدأ سلطانٍ غير اللَّه فيقع الشرك في العبادة، فتعريف العبادة التي هي عبودية التأليه وربوبية المعبود، كما أشار إلى ذلك الشيخ الكبير كاشف الغطاء في رسالته منهج الرشاد لمن أراد السداد: (إنّها الامتثال والانقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة لا بواسطة أمر غيره) (2) أي يستوجب الطاعة بذاته.

ولك أن تقول بأنّها الطاعة والامتثال والخضوع والانقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة لا بأمر غيره، أي المستوجب للولاية بذاته لا بتولية غيره، فالعبادة هي الطوعانية من العابد للمعبود بما له من ولاية ذاتية.

وهذا هو المعنى المصطلح لعبادة التأليه في قبال عَبَدة الخدمة، وعبادة الطاعة بأمر الغير.

____________________

1) سورة الزمر: 3.

2) منهج الرشاد لمن أراد السداد، في المقصد الثاني في تحقيق معنى العبادة: ص54.

١٢٤

صورية الطاعات بدون الولاية

الإيمان شرط في قبول الأعمال

إنّ قبول الأعمال والجزاء عليها هي من السنن الإلهية التي تتبع شروطاً تكوينية خاصّة، والشرط المهم في ذلك هو الإيمان؛ لأنّ العمل إذا لم ينل النور والصفاء عن طريق الإيمان والنية السليمة فهو سراب بقيعة، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (1) ، فالآية تقرّر أنّ الأعمال مهما بلغت من العظمة - التي يراها الناس - إذا لم تقترن بالإيمان باللَّه فهي جميعاً عبث، وهباء، وخيال كالسراب.

وقال تعالى في آية أخرى: ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْ‏ءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) (2) ، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (3) ، تشير إلى أنّ المجازات على الأعمال في الآخرة مشروط بالبقاء على الإيمان، وقال تعالى: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (4) .

____________________

1) سورة النور: 39.

2) سورة إبراهيم: 18.

3) سورة الزمر: 65.

4) سورة المائدة: 5.

١٢٥

فهذه الآيات الكريمة تبين لنا الموقف من قبول الأعمال أو رفضها من الباري عزّ وجلّ. ونستطيع أن نعبّر: أنّه يشترط في قبول الأعمال الحُسن الفاعلي؛ لأنّ كلّ عمل له بعدان أو حيثيتان في جهات الحسن والقبح، فتارةً يُلحظ العمل بما هو موجود في الخارج فيحكم عليه بالحسن أو القبح، وتارةً يُلحظ العمل من حيث صدوره من الفاعل وبما ينطوي عليه من دوافع لذلك العمل.

كما جاء في الحديث النبويّ: (إنّما الأعمال بالنيّات)، فوزن وقوام الأعمال والعمل هو بالنيات والنية، والثواب والعقاب على الأعمال يلحظ فيه جانب الحسن الفاعلي، قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (1) ، فلم يقل عزّ وجلّ: (أكثركم عملاً) حتّى يكون المدار على الحسن الفعلي، بل قال ( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) ؛ وإلاّ لو كان الحسن الفعلي هو المدار لعُوقب المجبور والمضطرّ على صدور المحرّم منه أو ترك الواجب.

ولهذا يُلاحظ أنّ بعض الأعمال قد أعطى اللَّه سبحانه وتعالى الثواب عليها لبعض الناس، ولم يعط لآخرين قاموا بأعمال هي في الظاهر أكثر، كما في تصدّق الخاتم من أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الفقير حال الركوع فنزلت بحقّه الآية المباركة: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (2) ، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ... ) (3) ، فإنّ القيمة ليست للخاتم التي بسببها نزلت الآية، بل من جهة قيمة خلوص العمل، وهكذا قضية تصدّق الزهراء عليها‌السلام بأقراص الشعير.

وهكذا الأعمال تقاس بهذا المنظار، فالزكاة مع الرياء، أو الجهاد وفتح البلدان

____________________

1) سورة الملك: 2.

2) سورة المائدة: 55.

3) سورة الإنسان: 9.

١٢٦

بغير خلوص هو سراب يصبّ في نزوات الهوى، وجمع الثروات، والتوسّع في اللذائذ والشهوات.

فالإيمان باللَّه واليوم الآخر شرط أساسي في قبول الأعمال؛ لأنّ الحسن الفاعلي - كما قلنا - لا يمكن أن يتحقّق بدون عقيدة الإيمان؛ لأنّ العمل بدون الإيمان باللَّه سبحانه وتعالى لا يكون إليه، وإنّما يكون للأنا وللذات ونزعاتها السفلية، وهو فارغ عن الغاية التي يريدها اللَّه من الأعمال؛ فإنّ روح الأعمال هو الإخلاص، ( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1) .

أمّا العمل بدون الخلوص فهو في حقيقته تمرّد وتكبّر على الباري، كما هي أعمال إبليس التي أوصلته إلى الهلاك والكفر وحبط الأعمال.

فقصّة إبليس الواردة في القرآن الكريم نموذج على ما آلت إليه أعماله التي هي في ظاهرها منتهى العبودية، فإنّه - لعنه اللَّه - كان قد سجد، سجدة واحدة، ستّة آلاف سنة، وكان يقرّ للَّه بالوحدانية، وأنّه مخلوق من مخلوقاته، وكان يقرّ بيوم المعاد وبنبوّة آدم بنصّ القرآن الكريم: ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) ، و ( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (3) ، فهذا اعتراف وإقرار منه باللَّه تعالى وأنّه مخلوق من مخلوقاته، وأمّا إقراره بيوم المعاد والآخرة: ( قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (4) ، ولكن لم ينفعه كلّ ذلك العمل وذلك الإقرار، صار لعيناً مرجوماً كافراً، ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (5) .

وعليه، فالإيمان شرط في قبول الأعمال، وهذه حقيقة مسلّمة عند جميع المسلمين، إنّما الكلام يقع حول أجزاء الإيمان، فهل تقتصر على التوحيد والنبوّة

____________________

1) سورة البينة 5.

2) سورة الأعراف 12.

3) سورة ص 79.

4) سورة الأعراف 14.

5) سورة البقرة 34.

١٢٧

والمعاد؟ أم تشمل معرفة الإمام، والولاية له، وممّا يقرّر ذلك؟ وأنّ ولاية أهل البيت شرط في قبول الأعمال؟

نذكر في مقام الاستدلال على ذلك عدّة وجوه: قرآنية، وحديثية، وعقلية:

ولاية أهل البيت عليهم‌السلام شرط لقبول الأعمال

الدليل الأوّل: الآيات القرآنية:

الآية الأُولى: قوله تعالى: ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) ، ذكر علماء المسلمين من الخاصّة والعامّة، من رواة ومؤرّخين ومفسّرين متواتراً: أنّ كلمة القربى هي خاصّة بأُناس قد عيّنهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعندما يستعرض الباحث للسيرة النبويّة الشريفة يرى أنّ النبيّ لم يكن يدع فرصة أو مناسبة صغيرة كانت أو كبيرة إلاّ ويؤكّد لهم من خلالها على تحديد قُرُباه، في حديث الكساء، والأحاديث الأُخرى: (عليّ منّي وأنا من عليّ)، (فاطمة بضعة منّي. .. )، (حسين منّي وأنا من حسين)، وهكذا توجد أحاديث كثيرة بهذا المضمون.

ولابدّ أن يكون هناك خطب كبير يترتّب على هؤلاء القُربى، مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالرسالة التي بعث بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله . والآية المباركة هي من ملاحم الآيات القرآنية التي تبيّن حقيقة الرسالة الخاتمة الكاملة التي جاء بها، والتي تشمل جميع الأعمال من اعتقادات: بالتوحيد، والنبوّة، والمعاد. وعبادات: من صلاة، وصيام، وحجّ وزكاة... إلخ.

وبعبارة أُخرى: من فروع وأُصول، فإنّها جميعاً وقعت طرف معاوضة وتعادل في قبال محبّة أهل البيت، ومقتضى التعادل والمعادلة بين العوض والمعوّض هو

____________________

1) سورة الشورى: 23.

١٢٨

كون العوض بدرجة قيمة المعوّض، ولا ريب أنّ عمدة وثقل الرسالة هي في أُصول الدين وأركانه، لا مجرّد الفروع، فإذا كان في المعوّض والتي هي الرسالة جملة أُصول الدين، فلا بدّ أن يكون العوض هو أيضاً من أُصول الدين؛ بمقتضى الموازنة والمعادلة.

وجعل العوض في قبال جملة أُصول الدين في المعوّض دالّ على كون مودّة القربى وولايتهم هو مفتاح لمعرفة بقية أُصول الدين. وهذا يدلّ ويقضي بالترابط بين مجموع هذه الأُصول وأنّ الباب والمفتاح لبقية حقائق أُصول الدين يمرّ بولايتهم.

فمن أراد مدينة الإيمان فلابدّ عليه أن يأتيها من بابها، فمغزى إفراد الولاية، والمودّة للقربى، في كفّة وطرف المعاوضة، في قبال جملة بقية أُصول الدين في طرف آخر، هو إشارة لهذا المعنى وبيان لهذا الترابط العضوي في محاور أُصول الدين، وأنّ الوصول إلى حقائق الإيمان - لا مجرّد ظاهر الإسلام - هو بولاية القربى ومودّتهم؛ لأنّها الهداية إلى بقية الأُصول، والعاصمة عن الضلال، كما هو مؤدّى حديث الثقلين؛ حيث اشترط في العصمة من الضلال لزوم التمسّك بالكتاب والعترة.

وهذا ممّا يفيد أنّ صحّة التوحيد وصحّة الإيمان بالنبوّة والمعاد لا بدّ في تحققهما من ولاية ومودّة ذي القربى، فضلاً عن الثواب والجزاء عليها، فإذا كان هكذا الحال في أُصول الدين ففي فروعه أوضح؛ حيث إنّها في الرتبة الثانية من أجزاء الرسالة.

فتبين من مفاد هذه الآية الشريفة: أنّ مودّة القربى شرط في تحقّق أُصول الدين، فضلاً عن الثواب عليها. ناهيك عن أعمال الفروع والثواب عليها. وبالتالي، فولاية القربى شرط في صحّة الأعمال فضلاً عن قبولها، وأنّ المراد

١٢٩

بتلك الأعمال ما يشمل الاعتقاد لا صرف أفعال الجوارح، وهذه قراءة عميقة لقاعدة شرطية الولاية في صحّة الأعمال.

الآية الثانية: وهي قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِينًا ) (1) النازلة بعد قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (2) .

ومن الواضح من الآيتين أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أُمر من قِبله تعالى بإبلاغ أمر بالغ الخطورة والأهميّة، بحيث لولا إبلاغه لما كانت هناك أيّة جدوى في إبلاغ التوحيد والنبوّة والمعاد وأركان الدين، فضلاً عن تفاصيل الفروع؛ إذ عمدة اسم الرسالة قد طُبّق على الأُصول والأركان.

وكان ذلك الأمر المأمور بإبلاغه شديد الوقع على نفوس المسلمين؛ إلى درجة كان الرسول يتخوّف تمرّدهم عن الطاعة والتسليم. وكلّ هذا المفاد يجده المتمعّن اللبيب في أجواء ألفاظ الآيتين، وقد ذكر المفسّرون ورواة الحديث نزولهما في إبلاغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لإمامة وولاية عليّ عليه‌السلام من بعده في غدير خم (3) .

ومفاد الآيتين يتناغم بشدة مع مفاد آية المودّة؛ حيث يشير إلى التقابل بين جملة الرسالة والديانة في طرف، وما أُبلغ في ذلك اليوم في طرف آخر، كما مرّ ذلك في مفاد آية التبليغ، حيث علّق رضاه تعالى بمجمل الرسالة والدين على ذلك الأمر، أي علّق رضاه بالتوحيد والنبوّة والمعاد وأركان الدين على ذلك الأمر، فقبولها موقوف عليه، بل في الآية دلالة على توقّف صحّتها عليه حيث علّق إكمال الدين عليه.

____________________

1) سورة المائدة: 3.

2) المائدة: 67.

3) لاحظ: كتاب الغدير، للأميني، ج1،ص214 - 247.

١٣٠

والإكمال يغاير الإتمام الذي في النعمة، حيث إنّ كمال الشي‏ء يغاير تمامه؛ إذ كمال الشي‏ء هو بصورته التي هي قوام هويته، وأمّا تمام الشي‏ء فهي نعوته الطارئة بعد تحقّق هويته، فمفاد هذه الآية يدلّ على ما تقدّم استنتاجه واستظهاره في آية المودّة من أنّ أُصول الدين وأركانه فضلاً عن الفروع مشروطة بالولاية، كما أنّ المشروط في الأعمال بالولاية هو صحّتها فضلاً عن قبولها.

الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (1) ، وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لقصّة آدم وإبليس على المطلوب إجمالاً، حيث إنّ إبليس كان مقرّاً بالتوحيد والمعاد حينما قال: ( رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (2) ، وكذا كان مقرّاً بنبوّة لآدم عليه‌السلام حينما قال: ( أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (3) .

ولكنّه لم يكن يأتمّ بآدم ويتولاه ويتابعه ويطيعه، حيث إنّ السجود عنوان لكلّ ذلك فالإباء عن السجود عبارة عن ذلك، ومع كلّ إقراره بالثلاثة من الأُصول، ولكنّه استحقّ الطرد والرجم والذمّ من اللَّه تعالى. وظاهر هذه الأحكام هو عدم صحّة صور ما أقرّ به من توحيد ومعاد ونبوّة، إذ حُكم على صورة إيمانه بالكفر، مضافاً إلى العقوبة؛ فليس التولّي لوليّ اللَّه والائتمام به مجرّد شرط لقبول بقية

____________________

1) سورة ص: 71 - 78.

2) سورة ص: 79.

3) سورة الإسراء: 62.

١٣١

الاعتقادات، بل هو شرط صحة لها. فالأُصول الاعتقادية عبارة عن نسيج مترابط كلّ منها دخيل في صحّة الآخر.

ويظهر من مفاد هذه الآيات ما ظهر من مفاد الآيات السابقة؛ من كون ولاية خليفة اللَّه وحجّته شرط في صحّة الأعمال - لا في مجرّد قبولها فقط -، وشرطٌ في صحّة الاعتقادات، لامجرّد أعمال الجوارح.

وهناك طوائف أُخرى من الآيات الواردة في ولايتهم عليهم‌السلام دالّة على ذلك، لكن نكتفي بهذا القدر من الإشارة في المقام.

الدليل الثاني: الأحاديث النبويّة والقدسيّة المستفيضة الواردة عند الفريقين:

(لو أن عبداً عمّره اللَّه ما بين الركن والمقام، يصوم النهار ويقوم الليل حتّى يسقط حاجباه على عينيه، ثمّ ذُبح مظلوماً كما يُذبح الكبش، ثمّ لقي اللَّه بغير ولايتهم عليهم‌السلام ، لكان حقيقاً على اللَّه عزّ وجلّ أن يكبّه على منخريه في نار جهنّم) (1) .

وفي الحديث القدسي: (ثمّ لقيني جاحداً لولاية عليّ لأكببته في سقر) (2) .

بل في بعضه: (إنّ للَّه في وقت كلّ صلاة يصلّيها هذا الخلق لعنة، قال: قلت: جُعلت فداك ولم؟ قال: بجحودهم حقّنا وتكذيبهم إيّانا) (3) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب الزنديق مدّعي التناقض في القرآن، قال: (..

____________________

1) ورواه جملة من العامة ومنهم الحاكم في المستدرك ج 3، ص 148، ط / حيدرآباد، وقال: إنّه صحيح على شرط مسلم. ومنهم العلامة الطبراني في ذخائرالعقبى، ص 18، ط / مكتبة القدس بمصر. ومنهم السيوطي في إحياء الميت ص 111، ط / مصطفى الحلبي مصر. ونقله في الخصائص الكبرى، ج 2، ص 265. ومنهم: الهيثمي في مجمع الزوائد، ج9، ص 171، ط/ مكتبة القدسي بالقاهرة. ومنهم: القندوزي في ينابيع المودة، ص 192، وغيرهم، فلاحظ: إحقاق الحق، ج 9، ص 492 - ص 294، وكذلك: ج 15، ص 599 و ج 19، ص 284.

2) المحاسن للبرقي، ج1، ص90، روضة الواعظين للنيسابورى، ص 126.

3) الوسائل، ج 1، ص 95، البحار، ج 69، ص 132.

١٣٢

وأمّا قوله: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ) (1) . وقوله: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (2) ، فإنّ ذلك كلّه لا يغني إلاّ مع الاهتداء، وليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقاً بالنجاة ممّا هلك به الغواة، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتوحيد، وإقرارها باللَّه، ونجا سائر المقرّين بالوحدانية، من إبليس فمَن دونه في الكفر، وقد بيّن اللَّه ذلك بقوله: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) (3) ، وبقوله: ( الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) (4) .

وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها، ومن ذلك: إنّ الإيمان قد يكون على وجهين: إيمان بالقلب، وإيمان باللسان كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا قهرهم السيف، وشملهم الخوف، فإنّهم آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.

فالإيمان بالقلب هو التسليم للربّ، ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل، فإنّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام لم يُرد بها غير زخرف الدنيا والتمكين من النظرة، فلذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النجاة وطريق الحقّ) (5) .

وفي بعض الروايات عن الإمام الصادق عليه‌السلام : (فلو كان لك بدل أعمالك هذه عبادة الدهر من أوّله إلى آخره، وبدل صدقاتك والصدقة بكلّ أموال الدنيا، بل بمل‏ء الأرض ذهباً، لما زادك ذلك [ بدون ولاية أهل البيت عليهم‌السلام ] من رحمة اللَّه إلاّ بُعداً، ومن سخط اللَّه إلاّ

____________________

1) سورة الأنبياء: 94.

2) سورة طه: 82.

3) سورة الأنعام: 82.

4) سورة المائدة: 41.

5) الاحتجاج للطبرسي، ج1، ص 368، البحار، ج27، ص 174.

١٣٣

قرباً) (1) .

ونُقل عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (رجلٌ حضر الجهاد في سبيل اللَّه فقُتل مقبلاً غير مدبر، والحور العين يطلعن إليه، والخزّان يتطلّعون ورود روحه عليهم، وأملاك الأرض يتطلّعون نزول حور العين إليه، والملائكة وخزّان الجنان، فلا يأتونه! فتقول ملائكة الأرض - حوالي ذلك المقتول -: ما بال الحور العين لا ينزلنّ إليه؟ وما بال خزّان الجنان لا يردون عليه؟ فيُنادَون من فوق السماء السابعة: يا أيّتها الملائكة، انظروا إلى آفاق السماء ودوينها. فينظرون، فإذا توحيد هذا العبد، وإيمانه برسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصلاته، وزكاته، وصدقته، وأعمال برّه، كلّها محبوسات دوين السماء، قد طبّقت آفاق السماء كلّها كالقافلة العظيمة قد ملأت ما بين أقصى المشارق والمغارب ومهاب الشمال والجنوب، تنادي أملاك تلك الأثقال الحاملون لها الواردون به: ما بالنا لا تفتح لنا أبواب السماء لندخل إليها بأعمال هذا الشهيد؟ ... ).

وفي تتمّة الرواية أنّه يُأمر بتلك الأعمال فتوضع في سواء الجحيم؛ لأنّ ليس لذلك الرجل موالاة عليّ والطيبين من آله، ومعاداة أعدائه، ويُقلّب اللَّه تلك الأثقال من الأعمال أوزاراً وبلايا على فاعلها؛ لمّا فارقها عن مطاياها من موالاة أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ ولموالاته لأعدائه (2) .

قراءة ثالثة للقاعدة:

العبادة من دون الولاية عصيان وعدوان، والأعمال بدون الولاية آثام.

ومضمون هذه الروايات يتضمّن ما تقدّم، من أنّ الولاية شرط في الصحّة فضلاً عن القبول، وشرط في أُصول العقائد فضلاً عن الفروع. ويزيد ويمتاز بمعنى

____________________

1) البحار، ج27، ص 187.

2) البحار، ج 27، ص 187 - 190.

١٣٤

ثالث، وهو أنّ تلك الأعمال التي صورتها إيمان وطاعة، هي في حقيقتها كفر ومعصية.

وهذا المعنى يثقُل على السامع تصوّره، فضلاً عن تصديقه في الوهلة الأُولى، وتمجّه النفوس وتنفر منه الأذهان وتتلّكأ عنده الألسن، لكنّ الحقيقة إذا اتضحت معالمها لا مفرّ من الأخذ بها واتّباعها، وإذا حصحص الصبح انقشعت غياهب الظلمة، وليكن تقرير مفاد هذه الروايات هو تقرير الدليل العقلي كما ترشد إليه الروايات بل والقرآن أيضاً، فالأحرى في المقام تقريره.

الدليل العقلي، ويقرّر بأنحاء:

الأوّل: قد مرّ أنّ حقيقة، وروح، ومخّ وقوام العبادة، هو بالطوعانية والضَراعة والخضوع والتذلّل للباري، والتسليم والسِلم والانقياد له، وهو جوهر العبادة والعبودية، وقلب ومركز وقطب معناها، فمع خلوّها عنه لا تعدوا أن تكون قشور خاوية اللب، وبدن جائف ميتة بلا روح، فهو قوام القربة والتقرّب، فالعبادة والعبودية هي الطاعة والطوعانية، والطاعة هو الانقياد لإرادة اللَّه والخضوع لها. وأمّا تحكيم إرادة النفس على إرادة الربّ فهو تجرّي واستكبار على العظيم - عزّ وجلّ - وعصيان له.

وإرادة اللَّه لا يهتدي إليها البشر من أنفسهم، ومن ثمّ احتاجوا إلى بعثة الرسل، وبمجملات الشريعة ومتشابهاتها لا يحيط البشر بتفاصيل إرادة الربّ من قبل أنفسهم، ومن ثمّ اضطرّوا إلى الحجّة والإمام الراسخ في العلم الذي تكون إرادته ومشيئته هي مظهر مشيئة وإرادة اللَّه.

فمِن ثمّ امتنع الاطّلاع على إرادات الربّ من دون حجّته وخليفته في أرضه، ومِن ثمّ اضطرّ البشر إلى ولاية خليفة اللَّه والمطهَّر من عترة نبيّه؛ لكي يطلعوا على مواطن إرادات اللَّه ورضاه، وإلاّ امتنع عليهم عبادة اللَّه، وكانوا فيما يمارسونه من طقوس وصور عبادية هي معاصي وتجرّي على اللَّه؛ بتحكيمهم إراداتهم وميولهم وأهوائهم على إرادة

١٣٥

اللَّه، وكانوا يطيعونه من حيث تريد أنفسهم، ولا يطيعونه من حيث يريد، ولأجل ذلك احتاجوا - في تحقّق عبادتهم للَّه تعالى - إلى دلالة وهداية الإمام والحجّة المنصوب من قبله.

ومن ذلك يتبيّن أنّ السجود الطويل من قبل إبليس حيث لم يكن منطوياً على الخضوع للَّه؛ لعدم خضوع إبليس لمن أمره اللَّه تعالى بالخضوع له، وهو خضوعه لآدم وتوليّه له. فلم يكن إبليس في صورة طاعته مقيمٌ على الطاعة ولا خاضع لإرادة الربّ، بل كان في سجوده مقيم على الجموح والطغيان والتعدّي على الربّ، وتحكيم إرادته على إرادة اللَّه، وكان سجوده الصوري حقيقته معصية وطغيان، واستكبار وعدوان، على ساحة القدس الإلهي.

وبذلك يتبين أنّ صورة العبادات من دون طاعة اللَّه بولاية وليّه هي عدوان وعصيان، وترك للمواطن الحقيقية لعبادة اللَّه، وانتهاج لمناهج عبادية تتطاول فيها إرادة العبد على إرادة المعبود. وبهذا البيان العقلي يتبين المعنى الثالث للقاعدة وهي شرطية الولاية في العبادات والأعمال، وأنّ بدونها تكون تلك الأفعال هتوك واجتراءات على المولى العزيز، يُؤزر فاعلها ويأثم بها بدل أن يُثاب، لا أن يُحرم من مجرّد الثواب.

هذا تقرير لهذا الوجه في الأعمال، وأمّا تقريره على صعيد الإيمان والاعتقادات، فبيانه:

أنّ الإيمان عمل كلّه وطاعة كلّه، فليس الطاعة والعمل مخصوصين بأعمال الجوارح، بل يعمّان أعمال الجوانح، كما يعمّان أعمال القلوب من الإيمان بالأصول الاعتقادية، ولذلك ورد: أنّ أوّل الفرائض التي افترضها اللَّه على العباد هو التوحيد والمعرفة، بمعنى الإيمان والإذعان والإخبات والتسليم، وكذلك الإقرار القلبي ببعثة الرسل، والمعاد، والكتب، وكذلك بأوصياء الرسل، وهم الأئمّة المستخلفين بعدهم. كما مرّ في مفاد آية المودّة الدالّة على أنّ

١٣٦

تولّي العترة المطهّرة هو من أصول الديانة، وكذلك هو مفاد آيتي المائدة النازلتين في بيعة الغدير، وغيرها من طوائف الآيات والأحاديث النبويّة الدالّة على ذلك.

فإذا تقرّر أنّ الإيمان بأُصول الدين فريضةٌ، وطاعةٌ، وعملٌ - بل هو من أكبر الفرائض وأعظم الطاعات والأعمال -، يتبين أنّ الإيمان أيضاً لابدّ فيه من الإخبات والخضوع والانقياد والتسليم، ونحو ذلك. بخلاف ما إذا امتزج بجموح واستكبار وعناد، وجرأة على ساحة الباري، فإنّه لن يعود طاعة وعملاً عبادياً، بل سيكون معصية وطغياناً وفرعنة وصَنَمية للنفس، وعبادة للطاغوت، لا عبادةً للَّه.

فالإباء، والاستكبار عن الإخبات والتسليم والإيمان بوليّ اللَّه وخليفته، يدلّ على انقلاب حقيقة الإيمان إلى طغيان وكفر، أي يدلّ على صورية الإيمان بالتوحيد والمعاد؛ إذ مقتضى الإقرار بالتوحيد هو الإقرار بكلّ الصفات الكمالية للباري، وأنّه الغنيّ المطلق، وأنّ المخلوقات هي عين الفقر المحض والافتقار إليه تعالى، وأنّ له الملك وهو مالك جميع الأشياء، فله ملك ذوات المخلوقات ووجوداتها وأفعالها، وله مالكية الخضوع والطاعة.

فالتمرّد عليه في أُمّهات الطاعات استكبار وإنكار لهذه المالكية، فيرجع إلى الخلل في الإيمان بالتوحيد، وبالتالي يتّضح أنّ عصيان اللَّه في التولّي لوليه هو كفر بمالكية اللَّه واستحقاقه للطاعة، نظير الخلل الواقع في الإيمان بالمعاد أو بالرسالة، فإنّه يؤول إلى الخلل في التوحيد أيضاً، فيكون هناك غاية وراء اللَّه، فتكون - والعياذ باللَّه - ذاته محدودة.

وكذلك الحال في إنكار الرسالة، فإنّه يرجع إلى إنكار كون صلاحية الحكم والتشريع للباري، وبالتالي يؤول إلى عدم الإقرار بعلم الباري النافذ ولا بحكمته، ولا بإحاطته بخفيات وعواقب الأُمور. فالإقرار والإيمان بالتوحيد بمنزلة الإقرار المبهم المجمل الذي لا يتمّ تفصيله

١٣٧

وكماله إلاّ بالإقرار بالتوحيد في مقامات أُخرى، فالإيمان بالمعاد هو مقام آخر من مقامات التوحيد - وهو التوحيد في الغاية - كما أنّ أصل التوحيد هو توحيد في مقام المبدأ والأوّلية، ولا يكمل التوحيد بالاعتقاد بأنّه أوّل من دون الاعتقاد بأنّه آخر، كذلك الحال في الاعتقاد بالرسالة، وببعثة الرسل والكتب المنزّلة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام التشريع ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ ) .

ونفس الشي‏ء يقال في الولاية والإمامة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية، فهذه مقامات وأركان للتوحيد لا يتمّ صرح الاعتقاد بالتوحيد إلاّ بها. وفي تفسير القمّي عنه عليه‌السلام حينما سئل عن التوحيد قال: (هو لا إله إلاّ اللَّه، محمّد رسول، عليّ وليّ اللَّه، إلى ها هنا التوحيد) (1) .

وفي البصائر والتوحيد: عن الصادق عليه‌السلام في بيان فطرة التوحيد، قال عليه‌السلام : (فَطَرَهم على التوحيد، ومحمّد رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله، وعليّ أمير المؤمنين - عليه‌السلام -) (2) .

وبذلك يتبيّن أنّ الاعتقاد ببعض الأُصول والتخلّف عن البعض الآخر، هو كالاعتقاد ببعض الصفات الإلهية وإنكار البعض الآخر، ويؤدّي إلى القول بمحدودية الذات، وتركيبها وتجزّئها، ومن ثَمّ ورد قوله تعالى: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (3) .

الثاني: قد تقدّم في الأدلّة القرآنية والروائية السابقة أنّ الأعمال تُحبط، وهي حابطة بدون الإيمان، وهذا غير مختصّ بالفروع بل شامل للأُصول أيضاً، والحبط الأخروي للعمل والاعتقاد وإن لم يكن في الاصطلاح الفقهي ملازماً لعدم صحّة العمل والاعتقاد، كذلك في المصطلح الكلامي الدارج، وأنّه فساد بلحاظ الثواب

____________________

1) تفسير الصافي، ج4، ص 132.

2) المصدر السابق.

3) سورة يوسف: 106.

١٣٨

الأخروي والقبول، لا بلحاظ ماهية العمل. إلاّ أنّ الحبط وفق نظرية تجسّم الأعمال هو كون الجزاء هو عين العمل وحقيقته الباقية، ويكون موجِب الحبط كاشفاً عن دخالة ذلك الشي‏ء في الوجود البقائي للعمل والاعتقاد.

وبعبارة أُخرى عندما لا يكون للعمل أجر وثواب فذلك يعني أنّه ليس للعمل حقيقة باقية في الأبد الأخروي، فليس هناك إلاّ صورة العمل لا حقيقته، ويستلزم ذلك كون الموجِب للحبط دخيلاً في حقيقة العمل وبقائه، وكذلك دخيلاً في حقيقة الاعتقاد وبقائه.

ويتبيّن صورية الاعتقاد والأعمال بدون الإيمان، وليس المقصود من صورية الاعتقاد مجرّد الإقرار اللساني، بل إنّ عقد القلب هو على الصورة لا على الحقيقة، فما رواه الفريقان من حبط الأعمال والاعتقادات من دون حبّ علي عليه‌السلام وولايته - كما مرّت الإشارة إلى المصادر - وكذلك ما رواه الفريقان: أنّه قسيم الجنّة والنار، وأنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق. دالّ على حبط الاعتقاد، فضلاً عن العمل بدون ولايته.

فقد روى الصدوق في الأمالي بإسناده، عن ابن عبّاس، قال: (قال رسول اللَّه - صلّى الله عليه وآله -: المخالف على عليّ بن أبي طالب بعدي كافر، والمشرك به مشرك، والمحبّ له مؤمن، والمبغض له منافق، والمقتفي لأثره لاحِق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق. عليٌّ نور اللَّه في بلاده، وحجّته على عباده، وعلي سيف اللَّه على أعدائه، ووارث علم أنبيائه، عليّ كلمة اللَّه العليا، وكلمة أعدائه السفلى، عليّ سيّد الأوصياء ووصيّ سيّد الأنبياء، عليّ أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين وإمام المسلمين، لا يقبل اللَّه الإيمان إلاّ بولايته وطاعته) (1) .

____________________

1) الأمالي، ص 61.

١٣٩

١٤٠