الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141530 / تحميل: 8978
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (١) ، فخلع تعالى عليه خلعة ربانية عظيمة، وهي وصفين من الأسماء الحُسنى: الرؤوف والرحيم (٢) ، وقال تعالى في وصفه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ) (٣) .

فكرّر تعالى في وصفه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه: الرحمة الإلهية والأمان للمؤمنين. وقال: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (٤) ، فاشترط تعالى لحصول محبّته لعباده اتّباع نبيّه.

حقيقةُ التوسّل والتوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تقديمُه أمام التوجّه والطلب من اللَّه تعالى، وهو معنى الوفادة به على اللَّه:

فيُعلم من ذلك أنّ الأُمّة في وفودها على باريها بعباداتها، وأعمالها، لابدّ عليها من أن تأتي إلى باب اللَّه الأعظم الذي منه يُؤتى، وهو سيّد أنبياءه. ومع كلّ ذلك لابدّ لكي يعود الربّ تعالى بالرحمة على هذه الأُمّة، ولكي يقبل وفادتها إليه، أن تَفِدَ بنبيّها، وتقدّمه بين يدي اللَّه.

وبعبارة أُخرى: إنّ التوجّه بالشي‏ء لغةً عبارة عن جعله وجهاً وأماما وإماماً، فالتوجّه بالنبيّ عبارة عن جعله الوجه المتقدّم للوفود على الساحة الربوبية، وكذلك معنى التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لغةً فإنّ معنى الوسيلة هو بالتوجّه إليها أوّلاً، ليمهّد ويوطّد ويهيّئ له الوصول إلى الشي‏ء الآخر، وليس معنى التوسّل بالوسيلة الإعراض عن التوجّه إليها بالتوجّه مباشرة إلى الغاية والمنتهى؛ فإنّ هذا ترك للأخذ بالوسيلة.

____________________

١) سورة التوبة: ١٢٨.

٢) اللهمّ أعنا على طاعته، وصِلة أهلِ بيته، وموالاتهِ وآلهِ، والبراءة من التمرد ومن المتمردين عليه.

٣) سورة التوبة: ٦١.

٤) سورة آل عمران: ٣١.

١٦١

ولابدّ في كلّ ذلك من أن يشفع لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لدى الباري تعالى، ويطلب منه ويسأله في قضاء حوائجهم، وشفاعته وبابيته ووساطته لا تقتصر على محو ذنوب الأُمّة، بل وكذلك تشمل في نيل الدرجات والمقامات، بل لا يقتصر ذلك على هذه الأُمّة، بل تعم جميع الأُمم من الأوّلين والآخرين.

وساطة النبيّ وشفاعته في نيل جميع الأنبياء والمرسلين للنبوّة والمقامات:

بل تعم جميع الأنبياء والمرسلين، كيف لا؟ ولم يعطِ الباري تعالى نبوّة لنبيّ من الأنبياء إلاّ بعد تسليمهم لولاية النبيّ وطاعته والخضوع له، وأخذ في ذلك عليهم العهد المغلظ الشديد، ولم يكتفِ بذلك، بل أشهدهم على ذلك، وأشهد عليهم ذاته الأزلية، وهذا مفاد قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) (١) .

فالميثاق الذي أخذه اللَّه على النبيّين هو على ولِما أتاهم من نبوّة وحكمة، وفي مقابل ذلك شرط عليهم وأخذ العهد على أن يؤمنوا ويتدينوا بنبوّة سيد الرسل، وبأن يلتزموا بمناصرته وطاعته وموالاته. ثمّ أخذ تعالى بعد ذلك الميثاق، أخذ الإقرار والالتزام والتعهّد منهم بتلك المشارطة والمعاوضة. ثمّ في ‏المرتبة الثالثة شدّد عليهم عهده، وغلّظ، وبيّن عظمته. ثمّ في المرتبة الرابعة أشهد عليهم.

فلم يستحصل الأنبياء على النبوّة، والكتاب والحكمة، فضلاً عن بقية المقامات الغيبية، إلاّ بالموالاة والطاعة والخضوع لسيد الأنبياء، والتوجّه به إلى اللَّه، فشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله يضطرّ إليها جميع الأنبياء والمرسلين، فضلاً عن جميع الأُمم، فنيل

____________________

١) سورة آل عمران: ٨١.

١٦٢

كلّ مقام للأصفياء المصطفين لا يتمّ لهم إلّا بالتوجّه إلى باب الله الأعظم، وهو سيد الأنبياء.

ويشير إلى توسّل الأُمم السابقة بسيد الأنبياء ما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (١) ، والآية نازلة في اليهود، حيث كانوا يؤمنون بمجيء خاتم الأنبياء من قبل، وكانوا في حروبهم مع الكفّار يستفتحون بالنبيّ ويتوسّلون به إلى الله؛ لكي ينزل النصر عليهم، فلمّا جاءهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يعرفونه وكانوا يتوسّلون به كفروا به، فمفاد الآية أنّ مقتضى‌ الإيمان بخاتم الأنبياء هو الاستفتاح به.

والاستفتاح هو طلب الفتح لكلّ باب من أبواب البركة والنصر والخير والسعادة والنعيم والنصر، وكلّ فوز عظيم وغنم جزيل، فالاستفتاح ينطوي على معنى طلب الفتح والمفتاح، وقد تقدّم قوله تعالى‌: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (٢) ، حيث بينت هذه الآية أنّ الإيمان بآيات اللَّه والتصديق والإقبال والتوجّه إليها وتعظيمها هو المفتاح الذي تُفتح به أبواب السموات، أي أنّه الباب الذي يفتح منه كلّ باب، فهو باب الأبواب وباب اللَّه الأعظم، وقد أقرّ الباري تعالى استفتاح أهل الكتاب بالنبيّ، وأنّ ذلك من تشريع اللَّه لهم في الديانة التي بعث بها أنبيائهم في جميع الشرائع السماوية السابقة، أي أنّ التوسّل والتوجّه بسيد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من الدين الواحد المتّفق الذي بُعث به جميع الأنبياء على‌ اختلاف شرائعهم.

____________________

(١) سورة البقرة ٢: ٨٩.

(٢) سورة الأعراف ٧: ٤٠.

١٦٣

كيف لا يكون سيد الأنبياء استفتاح لكلّ شي‌ء بعد اسم اللَّه مع أنّ كلّ شي‌ء يستفتح بـ (بسم اللَّه الرحمن الرحيم)، إلّاأنّ فتح هذا الاستفتاح لابدّ أن يقرن باسم الحبيب المصطفى‌، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله استفتاح لكلّ خير ولنيل كلّ مقام وفضل وكمال وإسعاد، كيف لا يكون ذلك وقد تقدّم قوله تعالى‌: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ .. ) (١) ، إن جميع الأنبياء استأهلوا النبوّة بشرف الإقرار بولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وولاية عليّ عليه‌السلام كما سيأتي.

وقد روى الفريقان: أنّ آدم لما اقترف الخطيئة ما كان اللَّه ليغفر له لولا توسّله وتوجّهه إليه تعالى‌ بسيد الأنبياء وأهل بيته (٢) ، وهي الكلمات التي تلقّاها في قوله تعالى‌: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) (٣) ، بل ورد أنّ هذه الكلمات هي الكلمات التي امتحن بها إبراهيم فأُعطي مقام الإمامة، كما في قوله تعالى‌: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ .. ) (٤) ، ويُشاهد أنّ التعبير ورد (بكلمات) لا بكلمه، أي بصيغة الجمع.

وقد تقدّم أنّ الكلمة أُطلقت على‌ النبيّ عيسى‌، وتصديق مريم بالكلمات أُطلقت على‌ أولياء اللَّه الحجج في مقابل التصديق بكتبه، وأنّ (الكلمة) متطابقة مع (الآية)، وقد أطلقت (الآية) على‌ النبيّ عيسى‌. فظاهر التعبير بالجمع في الكلمات التي تلقّاها آدم، والتي قد رويت في طرق أهل سنّة الجماعة أنّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله -

____________________

(١) سورة آل عمران ٣: ٨١.

(٢) أمّا روايات أهل البيت فمستفيضة في ذلك، لاحظ: تفسير البرهان، ونور الثقلين، وغيرهما في ذيل قوله تعالى: ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) . أمّا مصادر العامّة فلاحظ: مستدرك الحاكم على الصحيحين ج ٢ ص ٦١٥ التضمّن: لولا محمّد ما خلقت آدم ولا الجنّة ولا النار. ولا كبس العرش على الماء.

(٣) سورة البقرة ٢: ٣٧.

١٦٤

والجمع يقتضي أنّه سيد الأنبياء، وكذا أهل بيته الذين قُرنوا معه في آية التطهير وأُشركوا معه في إرادة الربّ بتطهيرهم، كما قُرنوا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في احتجاج اللَّه بهم على‌ أهل الكتاب، أي أنّهم حجّة للَّه‌على‌ أهل الكتاب والأُمم إلى‌ يوم القيامة، كما شهد لهم القرآن بأنّهم يعلمون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ الذي لا يمسّه إلّا المطهّرون كما ورد في سورة الواقعة- فهم أصحاب وصف التطهير في هذه الأمة بتخصيص القرآن.

كما يعطي امتحان إبراهيم بتلك الكلمات أنّ أُولئك الحجج الذين امتُحن بهم النبيّ إبراهيم هم ممّن نال مقام الإمامة بالتوجه بهم إلى‌ اللَّه والتصديق والإقرار والتسليم بولايتهم.

وقد مرّت دلالة آية الميثاق على‌ النبيّين أنّهم لم ينالوا مقام النبوّة إلّابالتصديق والتسليم لولاية سيد الأنبياء، كما قد تقدّم في المقالات السابقة من هذا الفصل أنّ جملة من الآيات القرآنية في السور المتعدّدة دلّت على‌ أخذ ولاية عليّ عليه‌السلام في أُصول الدين الواحد، وهو الإسلام الذي بُعث به جميع الأنبياء من آدم إلى‌ النبيّ عيسى‌، وإن اختلفت شرائعهم.

ومنها: قوله تعالى‌: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١)

وهذه الآية وإن خصّها جمع من مفسّري الفريقين في الشأن العام السياسي، ولكنّ الصحيح كما بسطنا الكلام فيه في ما تقدّم- أنّها في مطلق شؤون الدين؛ إذ طاعة اللَّه لا تُحدّ بحدود، بل هي بسعة الدين كلّه، فكذلك طاعة الرسول وأُولي الأمر، لا سيما أنّ الأمر المراد منه هو الأمر المتنزّل في ليلة القدر، كما في سورة القدر والدخان والنحل وغافر، وغيرها من السور.

____________________

(١) سورة النساء ٤: ٥٩.

١٦٥

معنى شرطية الولاية في صحّة العبادات:

فالأمر في (أولي الأمر) عالم الأمر من الملكوت، وكما في سورة الشورى: ( رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) (١) ، فأصحاب وأولياء الأمر هم أصحاب روح القدس الأمري، هؤلاء طاعتهم بتبع طاعة الرسول، وطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبع طاعة اللَّه تعالى، وهي في كلّ دائرة الدين، ومنها أبواب العبادات، فكما يتعلّق الأمر الإلهي بالعبادات كالصلاة وغيرها، فكذلك الأمر النبوّي والأمر الولوي قد تعلّق برسم حدود العبادات وأجزاءها وشرائطها، ولذلك فقد اشتملت العبادات على فرائض إلهية، وسنن نبوية، وسنن ولوية. والقرب العبادي للَّه تعالى في العبادة - وإن لم يذكر في علم أُصول الفقه - لا يتمّ إلاّ بطاعة الأصناف الثلاثة من الأوامر في العبادات، فالطاعات الثلاث هي التي تحقّق القرب العبادي للَّه تعالى، وهذا بيان آخر لكون التوجّه بهم يحقّق القرب إلى الباري تعالى وبدونه لا يتحقق.

وبعبارة أُخرى ، أنّه قد حُرّر في مبحث التعبّدي والتوصّلي في علم أُصول الفقه: قوام العبادية في العبادات بنية القربى، وأنّ نية القربى هي قصد للمسبّب لا تحصل إلاّ بنية وقصد السبب، وهو قصد امتثال الأمر الإلهي المتعلّق بالصلاة والصوم والحجّ وغيرها من العبادات، حيث إنّ قصد المكلّف كونه ماثلاً أمام الإرادة الإلهية وخاضعاً وطائعاً للأمر الإلهي، يوجب الزلفى والاقتراب من الساحة الإلهية.

وما ذكره علماء الأُصول وإن كان متيناً، إلاّ أنّهم لم يستوفوا تمام أطراف البحث، فإنّ العبادات كما قد تعلّق بها الأمر الإلهي كـ: ( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) و ( َآتُواْ الزَّكَاة َ ) و ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) و ( قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله ) وغيرها من الأوامر الإلهية

____________________

١) سورة الشورى: ٥٢.

١٦٦

المتعلّقة بالعبادات، فكذلك قد تعلّق الأمر النبويّ بتلك العبادات؛ فإنّ جملة عديدة من أجزاء العبادات إنّما هي سنن نبويّة بأمر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظير السبع ركعات التي أمر بها صلى‌الله‌عليه‌وآله في الفرائض، كما روى ذلك الفريقان، ومن الواضح حينئذٍ، أنّ صحّة الصلاة اليومية مثلاً متوقّفة على امتثال أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً.

فقصد امتثال الأمر يعمّ كلّ من أمر اللَّه تعالى وأمر رسوله في العبادات، والامتثال والطاعة هي شاملة لكلّ من امتثال وطاعة أمر اللَّه وأمر رسوله.

وكذلك الحال لأُولي الأمر المتنزّل في ليلة القدر، فإنّ جملة غفيرة من الشرائط والموانع، وتفاصيل الأجزاء، إنّما هي بأوامر أئمّة أهل البيت ‏ عليه‌السلام ومنهاجهم وهديهم، فالعبادة والصلاة والصوم والزكاة، وغيرها، لابدّ أن يؤتى بها على صورة منهاجهم وهديهم وطريقتهم، وذلك بامتثال أوامرهم المتعلّقة بالعبادات.

فيتّضح بذلك أنّ قصد الأمر المحقّق لنية القربى في العبادات - الذي ذكره علماء الفقه والأُصول - لابدّ أن يعمّ الأوامر الثلاثة، وأنّ الامتثال والطاعة في عبادية العبادة هي لكلّ من أمر اللَّه، وأمر رسوله، وأمر أولياءِ أمره.

وبذلك تتحقّق العبادة الخالصة للَّه تعالى وحده من دون استكبار النفس، وهو الذي أخفق فيه إبليس اللعين حينما ترك التوجّه بآدم في العبادة. ويتّضح عموم آية الطاعة للعبادات ولدائرة الدين، وأنّ هذا المعنى قراءة جديدة لمعنى أخذ ولايتهم عليهم‌السلام في صحّة العبادات.

ثمّ إنّه قد اتّفقت كلمات فقهاء الإمامية على رجحان دعاء التوجّه قبل تكبيرة الإحرام في الصلاة، بل جملة كلمات المتقدّمين والمتأخّرين على رجحانه بعد تكبيرة الإحرام قبل قراءة الحمد، وهي فتوى بالنصّ المأثور (وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملّة إبراهيم ودين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنهاج عليّ، حنيفاً مسلماً

١٦٧

وما أنا من المشركين) (١) .

وفي النصّ الآخر بعد ومنهاج عليّ (والائتمام بآل محمّد حنيفاً مسلم) (٢) .

وفي بعض النصوص (وهدي عليّ أمير المؤمنين - عليه‌السلام -) (٣) .

وفي مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي: (اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة بلّغ محمّداً - صلّى الله عليه وآله - الدرجة والوسيلة والفضل والفضيلة، باللَّه استفتح وباللَّه أستنجح، وبمحمّد رسول اللَّه - صلّى الله عليه وآله - أتوجّه، اللهم صلّي على محمّد وآل محمّد، واجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين) (٤) .

وقد اتّفقت - أيضاً - كلمة جمهور مذاهب المسلمين على رجحان التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بلفظ: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته) وذلك قبل التسليم المُخرِج من الصلاة، أي: إنّ التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتي به المصلّي ولمّا يخرج بعدُ من الصلاة.

ومؤدّى هذا التسليم من المصلّي - وهو في صلاته - أنّه زيارة من المصلّي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من كلّ الأُمّة، من كلّ مؤمنٍ ومسلمٍ في اليوم خمس مرّات، بل في كلّ صلاة يأتي بها، كما أنّ هذه الزيارة والتسليم للنبيّ ينطوي على مخاطبة النبيّ بـ (كاف) الخطاب، كما ينطوي على نداء النبيّ ومخاطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (ياء) النداء القريب: (أيّها).

وهذا كلّه من التسليم والزيارة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخاطبته بالنداء القريب والمصلّي في صلاته ونجواه لربّه وخطابه مع بارئه، ففي محضر الوفادة الربانية والضيافة الإلهية يتوجّه المصلّي بالالتفات لنبيّه؛ إذ هو باب اللَّه الأعظم، فكما بدأ صلاته

____________________

١) من لا يحضره الفقيه، ج١، ص٢٠٤، باب وصف الصلاة وأدب المصلّي.

٢) وسائل الشيعة، ج٦، ص٢٥، الحديث ٣، ولاحظ أيضاً: مستدرك الوسائل.

٣) المصدر السابق.

٤) مصباح المتهجّد، ص٧٣، فصل في ذكر الأذان.

١٦٨

بالإقرار بالرسالة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الإقرار بالتوحيد في الأذان والإقامة وتوجّه به في بدو الصلاة، عاود التوجّه إليه، وبه، إلى اللَّه. فهذه الصلاة التي هي عمود الدين ومعراج المؤمن إلى ربّه ونجواه مع خالقه، يزدلف إلى ربّه بالولاية لنبيّه والتعظيم له وتوقيره.

( الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) ، وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (٢) .

فترى ما أوجب تعالى من التعظيم والمهابة لنبيّه؛ أن افترض عدّة من السنن والآداب والخضوع في محضر النبيّ، جعل جزاء الإخلال بها - ولو كرفع الصوت - حبط جميع الأعمال، وأنّ تعظيم النبيّ وإجلاله هو من تقوى القلوب، وأنّ الذين يستخفّون بمقام النبيّ ليس لهم شعور ولا عقل، أي: من زمرة البهائم.

وكلّ هذا التعظيم الإلهي، بمراسم ورسوم في سنن الآداب الإلهية لنبيّه لم يَرِد في حقّ نبيّ من الأنبياء، فهذا المحلّ من القدس من الباري هداية منه تعالى إلى الباب الذي منه يُؤتى، وجعل تعالى الصدّ عن هذا الباب الأعظم وعن الالتجاء إليه

____________________

١) سورة الأعراف: ١٥٧.

٢) سورة الحجرات: ١ - ٤.

١٦٩

من صفات المنافقين، حيث قال: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

كما قرن تعالى رضاه برضا رسوله، فقال: ( يَحْلِفُونَ بِالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ) (٢) ، فجعل باب رضاه رضا رسوله، كما قرن حبّه بحبّ رسوله، فقال: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (٣) ، فجعل محبّة الرسول باب لمحبّته، فلم يقتصر تعالى على حبّ العبد له، ولا على مجرّد حبّ الأعمال الصالحة، بل اشترط أن يُقرن بحبّ الرسول، كما اشترط في الهجرة إلى اللَّه الهجرةَ إلى الرسول، فقال تعالى: ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ) (٤) ، فجعل باب الهجرة إليه تعالى الهجرة إلى الرسول، والهجرة سفرٌ وقصدٌ وتوجّه.

والتوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شرط زائد على شرطية الإيمان به، كما مرّ في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا... ) (٥) ، هو الإقرار بولاية النبيّ والإخبات والخضوع لها، إذ الولاية مجموع كلّ من التصديق والطاعة، حيث تضمن الميثاق على النبيّين، ( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) (٦) ، وقد عُبّر عن الاستفتاح به صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً بقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٧) أي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يستمطر به كلّ رحمة لكلّ

____________________

١) سورة المنافقين: ٥.

٢) سورة التوبة: ٦٢.

٣) سورة التوبة: ٢٤.

٤) سورة النساء: ١٠٠.

٥) سورة الأعراف: ٤٠.

٦) سورة آل عمران: ٨١.

٧) سورة الأنبياء: ١٠٧.

١٧٠

عالم من العوالم والنشآت، فهو باب اللَّه الأعظم الذي تجري منه الرحمة الإلهية، وقد قَرَن اللَّه تعالى ولايته بولايته، فقيّد جلَّ آيات الأمر بطاعة اللَّه بطاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجعل التمرّد على ولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عين التمرّد على ولاية اللَّه وطاعته.

كما قرن طاعته وطاعة رسوله بطاعة أُولي الأمر، حيث قال تعالى: ( أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) ، فجعل باب النبيّ هو أهل بيته، وباب طاعة النبيّ طاعة أهل بيته، وباب حبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حبّ أهل بيته، وباب الهجرة إلى النبيّ الهجرة إلى أهل بيته، وباب رضا النبيّ رضا أهل بيته، وقد أوضح أصحاب هذا الأمر أنّهم الذين يتنزّل عليهم الأمر في ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة، حيث قال تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) (٢) وقال تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٣) ، وقال تعالى: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٤) .

فالأمر هذا هو روح القدس، وأصحابه هم الذين يتنزّل عليهم هذا الروح في ليلة القدر، كما سيأتي تفصيله في الفصل السابع. وأنّهم أصحاب علم الكتاب المطهّرون في هذه الأُمّة بشهادة آية التطهير وهم أهل البيت عليهم‌السلام .

فَقَرن طاعتهم عليهم‌السلام بطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وولايتهم عليهم‌السلام بولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقتضي إرادتهم من لفظ الآيات في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ... ) (٥) .

تبيّن ممّا مرّ أنّ التصديق بالآيات والتوجّه والخضوع لها عبارة عن التسليم

____________________

١) سورة النساء: ٥٩.

٢) سورة القدر: ٤.

٣) سورة الدخان: ٢ - ٦.

٤) سورة غافر: ١٥.

٥) سورة الأعراف: ٤٠.

١٧١

لولايتهم؛ لأنّ مقتضى كلّ من كون التسليم لولاية الآيات مفتاح أبواب السماء، مع جعل النبيّ استفتاحاً في شرائع الأنبياء يُستفتح به، وإطلاق الآية على النبيّ عيسى.

هذه الأُمور الثلاثة، وغيرها من الشواهد المتقدمة، نظير ما مرّ من أن الآية التي يصدّق بها هو صاحب المنصب الإلهي الذي يخبِر عن اللَّه تعالى، لا الآية التكوينية - فإنّ التعبير عنها ورد وهم عنها غافلون -، وكذا ما تقدّم من إطلاق الكلمات على النبيّ وأهل بيته، كلّ ذلك يقتضي إرادة سيد الأنبياء من تلك الآيات، وولاية أهل بيته، الذين قرنت ولايتهم بولايته، وأنّ أهل البيت هم الباب لسيد الأنبياء.

وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ عليّاً باب مدينة الرسول: (أنا مدينة العلم وعليّ بابها) (١) ، وقد نزّلت آية المُباهلةُ عليّاً بمنزلة نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذلك في قوله تعالى: ( وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) (٢) .

فحقيقة الطاعة للرسول وأُولي الأمر الخضوعُ والتسليمُ والانقيادُ والتعظيم له ولهم سلام اللَّه عليهم، وقد تقدّم أنّ الكلمات التي تلقّاها آدم - من نصوص الفريقين - منها اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فيتبيّن من ذلك: أنّ هناك أسماء أُخرى توجّه بها آدم ليتوب اللَّه بها عليه، كذلك في الكلمات التي امْتُحِن بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة، الامتحان كان بكلمات، لا بكلمة واحدة، وأنّ هناك جناس في لفظ (الكلمات) في قصّة آدم وإبراهيم عليهما‌السلام ، فهناك أسماء مقرونة مع اسم النبيّ، وولايتها مقرونة بولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعسى من تكون تلك الأسماء غير أهل بيته الذين قُرنوا به في جملة المقامات الإلهية، كآية

____________________

١) قد عقد صاحب العبقات مجلّداً كاملاً في إثبات تواتر الحديث في مصادر العامّة، فضلاً عن طرق الخاصّة، لاحظ: خلاصة عبقات الأنوار، ج ١.

٢) سورة آل عمران: ٦١.

١٧٢

الطاعة والولاية، وآية التطهير، وآية الاحتجاج في المُباهلة، وآية شهادة الأعمال في قوله تعالى: ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) (١) ، فهؤلاء الشهداء على جميع الناس هم من نسل إبراهيم، وعلى ملّة أبيهم إبراهيم، وقُرنوا مع النبيّ في الشهادة، إلاّ أنّ النبيّ شاهد عليهم.

وهم الذرّية، كما دعا إبراهيم ربّه أن تكون الإمامة في ذرّيته: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، فهم المقصودون من قوله تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (٣) ، فيُتوجّه بهم إلى رسول اللَّه وإلى اللَّه تعالى، كما يتوجّه بالرسول إلى اللَّه، وقد قال تعالى: ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٤) ، وقال تعالى: ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (٥) ، وقال تعالى: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إلاّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (٦) .

فبيّن تعالى أنّ مودّتهم وتولّيهم وولايتهم نفعها عائد إلى الأُمّة نفسها؛ وذلك لأنّ مودّة وولاية أهل البيت السبيل والوسيلة إلى اللَّه تعالى، فهذه الآيات بمنزلة مفاد آية الوسيلة مع تعيين لهوية الوسيلة، ومن ثمّ ورد في الزيارة الجامعة: (ومن وحّده قَبِل عنكم، ومن قصده توجّه بكم) (٧) وهذه الفقرة إشارة إلى القواعد الثلاثة.

____________________

١) سورة الحج: ٧٨.

٢) سورة البقرة: ١٢٤.

٣) سورة التوبة: ١٠٥.

٤) سورة الشورى: ٢٣.

٥) سورة سبأ: ٤٧.

٦) سورة الفرقان: ٥٧.

٧) من لا يحضره الفقيه للصدوق، ج٢، ص ٦١٥.

١٧٣

١٧٤

بقاء جميع الكتب السماوية بهم عليهم‌السلام

لكونهم دعاته تعالى إلى كتبه

إنّ إحدى مقاماتهم عليهم‌السلام في الديانة الإلهية هو كونهم دعاة اللَّه إلى جميع كتبه وصحفه السماوية المُنزّلة، وهم حفظة تلك الودائع؛ إذ قد تبيّن من المقالة السابقة (١) :

إنّ الدين عند اللَّه واحد وهو الإسلام ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ ) (٢) ، وهو الذي بُعث به جميع الأنبياء والرسل من آدم عليه‌السلام إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ الاختلاف بين بعثات الأنبياء إنّما هو في الشرائع، حيث قال تعالى: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (٣) .

والدين عبارة عن مجموعة من العقائد الحقّة، وأركان الفروع وأُصول الواجبات والمحرّمات. وأمّا الشريعة، فهي تفاصيل التشريعات الفرعية. وإذا تبيّنت هذه النقطة - وتبيّن لك من أنّ الصحف والكتب السماوية المنزّلة في جملة وعمدة ما اشتملت عليه هو في العقائد وأركان الفروع، وشطر يسير منها في الشريعة وتفاصيل الفروع - فيتبيّن من ذلك: أنّ الجملة الغالبة ممّا اشتملت عليه تلك الكتب غير منسوخ بل ثابت وماضٍ إلى يوم القيامة؛ لأنّه لا نسخ في الدين ودائرته وهو الإسلام، وإنّما

____________________

١) ولاية عليّ في الشرائع السابقة.

٢) سورة آل عمران: ١٩.

٣) سورة المائدة: ٤٨.

١٧٥

النسخ في شرائع الأنبياء السابقين، وبالتالي يلزم الإيمان والتصديق بتلك الكتب والتقيّد بما فيها، ممّا كان من دائرة الدين، لا من دائرة الشريعة المنسوخة، كما قال تعالى: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) (١) ، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (٢) .

لكن لا النُّسَخ المحرّفة عند أتباع وأُمم الأنبياء، بل النُّسَخ المصونة عن التحريف، المُودعة كمواريث عند الأوصياء وهم أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام ، كما سيتبيّن من الآيات الآتية، ومن ثمّ يتجلّى بقاء قدسية الكتب والصحف السماوية غير المحرّفة لوحدة الدين عند أصحاب الكتب، وهم الأنبياء والرسل المبعوثون بها.

غاية الأمر أنّ بين الكتب السماوية تمايز من جهة أُخرى، وهو أنّ المعارف العقائدية في كلّ كتاب دائرتها بحسب مقام ودرجة ذلك النبيّ، قال تعالى: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) (٣) ، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) (٤) ، وقال تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (٥) ، فالعقائد والمعارف الواردة في الكتب الإلهية وإن لم يكن فيها تبدّل أو تغيير، ولا هي قابلة للنسخ، إلاّ أنّ كلّ نبيّ وكلّ كتاب يُبعث به يمتاز عن الآخر في سعة ما يُنبئَهُ وضيقه وعمقه وتوسّطه، بحسب مقام ذلك النبيّ ودرجة كتابه الذي تلقّاه عن اللَّه تعالى. فخاتم الأنبياء حيث كان سيدهم كان كتابه أُمّ الكتب الإلهية والجامع لِما فيها

____________________

١) سورة البقرة: ٢٨٥.

٢) سورة النساء: ١٣٦.

٣) سورة البقرة: ٢٥٣.

٤) سورة الإسراء: ٥٥.

٥) سورة المائدة: ٤٨.

١٧٦

والمهيمن عليها، إلاّ أنّ كلّ ذلك لا يَسلب ولا يُفقد الكتب الإلهية - غير المحرّفة - الأُخرى قدسيتها وحقانيتها، ولا درجات مواقعها التي هي فيها، ومن ثمّ نجد إشادة القرآن الكريم ومديحه لها، كما قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (١) .

وقال تعالى: ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (٢) .

وقال تعالى في سياق ما سبق: ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (٣) .

وقال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ... ) (٤) ، ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (٥) ، وقال تعالى: ( إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ

____________________

١) سورة الأعلى: ١٤ - ١٩.

٢) سورة المائدة: ٤٣ - ٤٣.

٣) سورة المائدة: ٤٦ - ٤٨.

٤) سورة المائدة: ٦٦.

٥) سورة المائدة: ٦٨.

١٧٧

وَالْقُرْآنِ ) (١) ...، وغيرها من الآيات.

ومع هذه الموقعية للكتب والصحف المنزلة السابقة، وتأكيد الباري تعالى على الإيمان بها، فلا يمكن أن تذهب سدى أدراج الرياح، بل لابدَّ أن تكون محفوظة مودَعة عند من أودِع علم القرآن عندهم، حيث إنّ الكتب والصحف المنزلة السابقة كلّها كأجزاء متنزّلة من الكتاب المبين الذي هو أصل حقيقة القرآن، وقد أسند القرآن الكريم علم الكتاب كلّه والكتاب المبين إلى أهل البيت المطهّرين. فها هنا نقطتان لابدّ من بيانهما:

الأُولى: كون الكتب والصحف المنزلة السابقة هي أبعاض وأجزاء متنزّلة من الكتاب المبيّن المكنون، فقد قال تعالى في شأن موسى عليه‌السلام : ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (٢) ، وقال تعالى في شأن عيسى عليه‌السلام : ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) (٣) ، وقال تعالى في شأن عموم الأنبياء: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ) (٤) ، فجعل الكتاب مقابل الفرقان والتوراة والإنجيل، وكذلك في مقابل الحُكْم والنبوّة، مع أنّ عنوان الكتاب قد أُطلق على التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب المنزلة، كما قال تعالى: ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) (٥) ، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) (٦) .

وقد أطلق على أتباع موسى وعيسى عنوان أهل الكتاب، وعنوان الذين أوتوا

____________________

١) سورة التوبة: ١١١.

٢) سورة البقرة: ٥٣.

٣) سورة المائدة: ١١٠.

٤) سورة آل عمران: ٧٩.

٥) سورة الأنعام: ١٥٤.

٦) سورة هود: ١١٠.

١٧٨

الكتاب كراراً في مواضع كثيرة في السور القرآنية، والذي أوتوه هو التوراة والإنجيل، فأُطلق اسم الكتاب عليهما، نظير ذلك قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) (١) ، وفي مواضع أُخرى من القرآن قد وصف الفرقان أو التوراة أو الإنجيل بأنّه بعض الكتاب لا كلّه، كما في قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً ِ ) (٢) .

وكرّر هذا التعبير في سورة النساء مرّتين (٣) ، ووصفت التوراة في قوله تعالى: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٤) ، فلم يكتب فيها كلّ شي‏ء، بل من كلّ شي‏ء، وقال تعالى عن وصي سليمان آصف بن برخيا: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (٥) ، فوصف علمه الذي ورثه من سليمان بأنّه علم من بعض الكتاب.

وقال تعالى في شأن الإنجيل وعيسى عليه‌السلام : ( قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (٦) ، أنّ فيه بيان بعض ما يختلف فيه بنو إسرائيل، لا بيان كلّ ما يختلفون فيه، مع أنّ القرآن قد وصف بأنّه بيان لكلّ شي‏ء، فقال تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (٧) .

فتحصّل: أنّ الكتب والصحف المتنزّلة السابقة، وإن كانت هي من الكتاب، إلاّ أنّها أبعاضٌ وأجزاء له لا تمامه، بخلاف القرآن الكريم؛ حيث يقول الباري: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ، وقال تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ الله وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ

____________________

١) سورة الجاثية: ١٦.

٢) سورة آل عمران: ٢٣.

٣) سورة النساء: ٤٤ و ٥١.

٤) سورة الأعراف: ١٤٥.

٥) سورة النمل: ٤٠.

٦) سورة الزخرف: ٦٣.

٧) سورة النحل: ٨٩.

١٧٩

الْعَالَمِينَ ) (١) .

والكتاب، والكتاب المبين، والكتاب المكنون، هو وجود عُلويٌّ غيبي، قد وصف بأوصاف عديدة، كما في قوله: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (٢) ، فالقرآن النازل هو تنزيل للكتاب المبين، وقال تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٣) ، فالقرآن المتنزّل في الصورة العربية هو إنزال للكتاب المبين، والقرآن له وجود علوي الذي هو أُمّ الكتاب.

قال تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (٤) ، فوصف القرآن بوجود علوي في الكتاب المكنون، وأنّ القرآن النازل هو تنزيل لذلك الوجود العلوي، وقال تعالى: ( طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٥) ، وقال تعالى: ( الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ) (٦) ، وقال تعالى: ( ... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٧) ، وقال تعالى: ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٨) .

النقطة الثانية: بيّن تعالى في القرآن الكريم أنّ أهل البيت عليهم‌السلام يمسُّون الكتاب المكنون كما مرّ في الآية في سورة الواقعة؛ إذ هم أهل آية التطهير المطهّرون دون سائر الأُمّة، وفرقٌ بين المطهّر ذاتاً وخلقةً والمتطهّر بالوضوء

____________________

١) سورة يونس: ٣٧.

٢) سورة الدخان: ١ - ٣.

٣) سورة الزخرف: ١ - ٤.

٤) سورة الواقعة: ٧٧ - ٨٠.

٥) سورة النمل: ١.

٦) سورة الحجر: ١.

٧) سورة يونس: ٦١.

٨) سورة الأنعام: ٥٩.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النقص الحادث في المبيع ، فكذلك عدم المشروط. ولأنّ الإعسار يثبت به فسخ البيع بغير شرطٍ ، ولا يثبت مثل ذلك في الحوالة ، فاختلفا(١) .

ونمنع كون الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط ، وقد سبق. ونمنع الملازمة بين ثبوته بالشرط وبعدمه ، ونحن لا ندّعي مساواة الحوالة للبيع في جميع أحكامه.

تذنيب : لو كان المحال عليه معسراً ولم يعلم المحتال ثمّ تجدّد اليسار وعلم سبق الفقر ، احتُمل ثبوت الخيار ؛ للاستصحاب‌. وعدمُه ؛ لزوال المقتضي.

مسألة ٦٠٢ : إذا حصلت الحوالة مستجمعة الشرائط ، انتقل المال إلى ذمّة المحال عليه ، وبرئ المحيل‌ ، سواء أبرأه المحتال أو لا - وهو قول عامّة الفقهاء(٢) - لأنّ الحوالة مأخوذة من التحويل للحقّ ، وإنّما يتحقّق هذا المعنى لو انتقل المال من ذمّةٍ إلى أُخرى ، وليس هنا إلّا ذمّة المحيل والمحال عليه ، فإذا تحوّل الحقّ من ذمّة أحدهما إلى الآخَر مع اليسار أو علم الإعسار ، لم يعد الحقّ إليه ؛ لعدم المقتضي.

وقال شيخنارحمه‌الله في النهاية : ومَنْ كان له على غيره مالٌ فأحال به على غيره ، وكان الـمُحال عليه مليّاً به في الحال وقَبِل الحوالة وأبرأه منه ، لم يكن له الرجوعُ عليه ، ضمن ذلك المـُحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد قَبِل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة إلاّ بعد ضمان المـُحال عليه ولم يضمن مَنْ أُحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة الـمُحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال أنّ الذي أُحيل به عليه غير ملي بالمال ، بطلت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣ ، المغني ٥ : ٦٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦٢.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

٤٤١

الحوالة ، وكان له الرجوعُ على المديون بحقّه عليه ، ومتى لم يُبرئ الـمُحال له بالمال الـمُحيل في حال ما يُحيله ، كان له أيضاً الرجوعُ عليه في أيّ وقت شاء(١) .

وكان الحسن البصري أيضاً لا يرى الحوالة مبرئةً إلّا أن يُبرئه(٢) .

واحتجّ الشيخرحمه‌الله بما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق أو الباقرعليهما‌السلام : في الرجل يحيل الرجل بمالٍ كان له على رجلٍ [ آخَر ] ، فيقول له الذي احتال : برئت ممّا لي عليك ، قال : « إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يُبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله »(٣) .

وهذه الرواية لا بأس بها ؛ لصحّة السند ، لكنّ المشهور عند الأصحاب والعامّة البراءة بمجرّد الحوالة ، فلابدَّ من حمل الرواية على شي‌ء ، وليس ببعيدٍ من الصواب حملها على ما إذا شرط المحيل البراءة ، فإنّه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه ، أو نقول : إذا لم يُبرئه ، فله أن يرجع على الذي أحاله إذا تبيّن له إعساره وقت الحوالة.

النظر الثاني : في الرضا بالحوالة.

مسألة ٦٠٣ : يشترط في الحوالة رضا المحيل - وهو الذي عليه الحقّ - إجماعاً‌ ، فلو أُكره على أن يحيل فأحال بالإكراه ، لم تصحّ الحوالة ، ولا نعرف فيه خلافاً ؛ لأنّ مَنْ عليه الحقّ مخيَّر في جهات القضاء ، فله أن يقضي من أيّ جهة شاء ، فلا يُعيَّن عليه بعض الجهات قهراً ، فلا يلزمه‌

____________________

(١) النهاية : ٣١٦.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢١١ - ٢١٢ / ٤٩٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٤٤٢

أداؤه من جهة الدَّيْن الذي له على المحال عليه ، إلّا في صورةٍ واحدة لا يُعتبر فيها رضا المحيل ، وهي ما إذا جوّزنا الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه لو قال للمستحقّ : أحلت بالدَّيْن الذي لك على فلان على نفسي ، فقَبِل ، صحّت الحوالة ، فإذَنْ لا يشترط هنا رضا المحيل ، بل رضا المحتال والمحال عليه خاصّةً.

مسألة ٦٠٤ : يشترط رضا المحتال عند علمائنا أجمع‌ - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - لأنّ حقّه ثابت في ذمّة المحيل ، فلا يلزمه نقله إلى ذمّةٍ أُخرى ، إلّا برضاه ، كما أنّه لا يجوز أن يُجبر على أن يأخذ بالدَّيْن عوضاً ، وكما إذا ثبت حقّه في عينٍ ، لا يملك نقله إلى غيرها بغير رضاه. وقال داوُد وأحمد : لا يعتبر رضاه إذا كان المحال عليه مليّاً ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٢) والأمر للوجوب(٣) .

ونحن نمنع الوجوب ، بل المراد به الإرشاد.

مسألة ٦٠٥ : يشترط عندنا رضا المحال عليه‌ ، فلو لم يرض المحال عليه أو لم يُعلم هل رضي أم لا؟ لم تصحّ الحوالة ، وبه قال أبو حنيفة والزهري والمزني(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٢٢٥ ، ضمن ح ٩٦٥٥.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

٤٤٣

وقال أبو العبّاس ابن القاص : نصّ الشافعي في الإملاء على أنّها تفتقر إلى رضا المحال عليه - وإليه ذهب أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة - لأنّه أحد مَنْ تتمّ به الحوالة ، فأشبه المحتال والمحيل. ولأنّ الناس يختلفون في الاقتضاء والاستيفاء سهولةً وصعوبةً. ولأنّ الأصل بقاء الحقّ في ذمّة المحال عليه للمحيل ، فيستصحب إلى أن يظهر المعارض.

وأصحّ القولين عند الشافعي : أنّه لا يعتبر رضا المحال عليه إذا كانت الحوالة على مَنْ عليه دَيْنٌ للمحيل - وبه قال مالك وأحمد - لأنّ المحيل أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة ، فلم يفتقر إلى رضا مَنْ عليه الحقّ ، كما لو كان وكيلاً في قبضه ، بخلاف المحتال ، فإنّه ينتقل حقّه ، وتبرأ ذمّته منه. ولأنّ المحال عليه محلّ الحقّ والتصرّف ، فلا يعتبر رضاه ، كما لو باع عبداً ، لا يعتبر رضاه(١) .

وبنوا الوجهين على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ إن قلنا بالأوّل ، فلا يشترط ؛ لأنّه حقٌّ للمحيل ، فلا يحتاج فيه إلى رضا الغير. وإن قلنا بالثاني ، يشترط ؛ لتعذّر إقراضه من غير رضاه(٢) .

وإن كانت الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم تصحّ عند الشافعي إلّا برضا المحال عليه ؛ لأنّا لو صحّحناه ، لألزمناه قضاء دَيْن الغير قهراً. وإن رضي ، ففي صحّة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور(٣)

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، التلقين ٢ : ٤٤٣ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٩ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٤

وسيأتي(١) .

فقد ظهر من هذا الإجماعُ على اعتبار رضا المحيل إلّا في الصورة التي ذكرناها في أوّل النظر ، وأنّ أصحابنا اشترطوا رضا الثلاثة : المحيل والمحتال والمحال عليه.

النظر الثالث : في الدَّيْن.

مسألة ٦٠٦ : إذا أحال زيد عمراً على بكر بألف ، فلا يخلو إمّا أن تكون ذمّة زيدٍ(٢) مشغولةً بالألف لعمرو ، أو لا‌ ، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون بكر بري‌ء الذمّة منها أو مشغولها ، فالأقسام أربعة :

أ - أن تكون ذمّة زيدٍ وبكرٍ مشغولتين ، ولا خلاف هنا في صحّة الحوالة.

ب - قسيم هذا ، وهو أن تكون ذمّتهما بريئةً ، فإذا أحال زيد - وهو بري‌ء الذمّة - عمراً - ولا دَيْن له عليه - على بكر ، وهو بري الذمّة ، لم يكن ذلك إحالةً صحيحة ؛ لأنّ الحوالة إنّما تكون بدَيْنٍ ، وهنا لم يوجد ، بل يكون ذلك وكالةً في اقتراضٍ ، وإنّما جازت الوكالة هنا بلفظ الحوالة ؛ لاشتراكهما في المعنى ، وهو استحقاق الوكيل أن يفعل ما أمره الموكّل من الاقتراض ، وأن يطالبه من المحال عليه ، كما يستحقّ المحتال مطالبة المحال عليه.

ج - أن يكون المحيلُ بري‌ءَ الذمّة والمحالُ عليه مشغولَها ، ( فيحيل‌

____________________

(١) في ص ٤٤٥ ، القسم « د » من الأقسام المذكورة في المسألة ٦٠٦.

(٢) في « ج » : « ذمّته » بدل « ذمّة زيد ».

٤٤٥

مَنْ لا دَيْن عليه مَنْ لا دَيْن له على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ )(١) بقبضه ، فلا يكون ذلك أيضاً حوالةً ؛ لأنّ الحوالة مأخوذة من تحوّل الحقّ وانتقاله ، ولا حقّ [ هاهنا ](٢) ينتقل ويتحوّل ، بل يكون ذلك في الحقيقة وكالةً في الاستيفاء ؛ لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة مَنْ عليه الدَّيْن ، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه ، وتحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوّله إلى المحيل.

د - أن يكون المحيل مشغولَ الذمّة والمحالُ عليه برئَ الذمّة.

وفي صحّة هذه الحوالة إشكال أقربه : الصحّة - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه(٣) - لأنّ المحال عليه إذا قَبِلها ، صار كأنّه قضى دَيْن غيره بذمّته ؛ لأنّ الحوالة بمنزلة الحقّ المقبوض ، وإذا قبض حقّاً من غيره ، صحّ وسقط عن غيره ، كذا هنا ، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ فإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تصحّ ؛ لأنّه ليس له على المحال عليه شي‌ء نجعله عوضاً عن حقّ المحتال. وإن قلنا : إنّها استيفاء حقٍّ ، صحّت(٤) ، كأنّه أخذ المحتال حقّه وأقرضه من المحال عليه(٥) .

قال الجويني : الصحيح عندي تخريج الخلاف على الخلاف في أنّه‌

____________________

(١) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : « فيحيل مَنْ لا دَيْن له عليه على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ ». وكذا في « ر » بإسقاط « له » من « لا دَيْن له عليه ».

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع : فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٧٣ و ٧٤ ، وبدائع الصنائع ٦ : ١٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « صحّ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٦

هل يصحّ الضمان بشرط براءة الأصيل؟ بل هذه(١) الصورة غير(٢) تلك الصورة ؛ فإنّ الحوالة تقتضي براءة المحيل ، فإذا قَبِل الحوالة ، فقد التزم على أن يُبرئ المحيل(٣) .

وهذا ذهابٌ منه إلى براءة المحيل وجَعْلها أصلاً مفروغاً عنه.

لكن للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يبرأ على قياس الحوالات.

والثاني - وبه قال أكثرهم - : أنّه لا يبرأ ، وقبول الحوالة ممّن لا دَيْن عليه ضمانٌ مجرّد(٤) .

ثمّ فرّعوا فقالوا : إن قلنا : لا تصحّ هذه الحوالة ، فلا شي‌ء على المحال عليه ، فإن تطوّع وأدّاه ، كان كما لو قضى دَيْنَ الغير. وإن قلنا : تصحّ ، فهو كما لو ضمنه ، فيرجع على المحيل إن أدّى بإذنه(٥) .

وكذا إن أدّى بغير إذنه عندنا وعلى أظهر الوجهين عند الشافعيّة(٦) ؛ لجريان الحوالة بإذنه.

وللمحال عليه الرجوع على المحيل هنا قبل الأداء - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٧) - لأنّ المحيل يبرأ ، فينتقل الحقّ إلى ذمّة المحال عليه بمجرّد الحوالة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « هنا » بدل « هذه ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر « عين » بدل « غير ». وفي « ر » : « على غير ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ - ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٧

والثاني : ليس له ذلك بناءً على أنّ المحيل لا يبرأ ، كما أنّ الضامن لا يرجع على المضمون عنه قبل الأداء(١) .

وإذا طالبه المحتال بالأداء ، فله مطالبة المحيل بتخليصه.

وهل له ذلك قبل مطالبة المحتال؟ الأقوى عندي : ذلك.

وللشافعيّة وجهان كالوجهين في مطالبة الضامن(٢) .

ولو أبرأه المحتال ، لم يرجع على المحيل بشي‌ء.

ولو قبضه المحتال ثمّ وهبه منه ، فالأقوى : الرجوع ؛ لأنّه قد غرم عنه ، وإنّما عاد المال إليه بعقدٍ مستأنف.

وللشافعيّة وجهان يُنظر في أحدهما إلى أنّ الغُرْم لم يستقر عليه ، فلم يغرم عنه في الحقيقة شيئاً. وفي الثاني إلى أنّه عاد إليه بتصرّفٍ مبتدأ(٣) .

وهُما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثمّ طلّقها قبل الدخول.

ولو ضمن عنه ضامنٌ ، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال المالَ منه أو من ضامنه.

ولو أحال المحتال على غيره ، نُظر إن أحاله على مَنْ عليه دَينٌ ، رجع على محيله بنفس الحوالة ؛ لحصول الأداء بها. وإن أحال على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم يرجع عليه الذي أحاله عليه.

مسألة ٦٠٧ : الأقوى عندي أنّه لا يشترط في الدَّيْن المحال به اللزومُ‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٨

- وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - كما لو أحال بالثمن في مدّة الخيار بأن يحيل المشتري البائعَ على رجلٍ أو يحيل البائع رجلاً على المشتري. ولأنّه صائرٌ إلى اللزوم ، والخيار عارضٌ فيه ، فيعطى حكم اللازم.

والثاني لهم : المنع ؛ لأنّه ليس بلازم(٢) .

وهو مصادرة على المطلوب.

قال بعض الشافعيّة : هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الحوالة معاوضة أو استيفاء؟ إن قلنا معاوضة ، فهي كالتصرّف في المبيع في زمان الخيار. وإن قلنا : استيفاء ، فتجوز(٣) .

قالوا : فإن قلنا بالمنع ، ففي انقطاع الخيار وجهان :

أحدهما : أنّه لا ينقطع ؛ لحكمنا ببطلانه ، وتنزيلنا إيّاه منزلة العدم.

والثاني : نعم ؛ لأنّ التصرّف في عوض العقد يتضمّن الرضا بإبطال الخيار(٤) .

وإن قلنا بالجواز ، لم يبطل الخيار عند بعضهم(٥) .

وقال آخَرون : يبطل ؛ لأنّ قضيّة الحوالة اللزوم ، ولو بقي الخيار لما صادفت الحوالة مقتضاها ، وكانت هذه الحوالة كالحوالة على النجوم(٦) .

والأقوى : بقاء الخيار.

مسألة ٦٠٨ : إذا وقعت الحوالة بالثمن المتزلزل بالخيار ثمّ انفسخ البيع‌

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، الوسيط ٣ : ٢٢٢ - ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩.

(٤ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٤٩

بفسخ صاحب الخيار ، بطل الثمن ، وبطلت الحوالة المترتّبة عليه ، فلو أحال البائع على المشتري بالثمن رجلاً له عليه دَيْنٌ ثمّ فسخ المشتري بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لأنّها فرع البيع ، والبيع قد بطل.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ البيع لم يبطل من أصله ، وإنّما تجدّد له البطلان ، فلا يؤثّر في الحوالة التي جرت منهما.

ولو أحال المشتري البائعَ على غيره ثمّ فسخ البيع بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لترتّبها على البيع ، والبيع قد بطل.

ويُحتمل قويّاً عدم بطلان الحوالة.

وعلى قول الشافعيّة ببطلان الخيار لو أحال المشتري البائعَ على ثالثٍ ، يبطل خيارهما جميعاً ؛ لتراضيهما. ولو أحال البائع رجلاً على المشتري ، لم يبطل خيار المشتري ، إلاّ أن يقبل ويرضى بالحوالة(١) .

مسألة ٦٠٩ : لو أحال زيد على عمرو بكراً بمالٍ فأدّاه عمرو - بعد قبول الثلاثة الحوالة - إلى بكر‌ ، ثمّ جاء عمرو يطالب زيداً بما أدّاه بحوالته إلى بكر ، فادّعى زيد أنّه إنّما أحال بما لَه عليه ، وأنكر عمرو ذلك وأنّه احتال ولا شي‌ء لزيد عليه ، كان القولُ قولَ عمرو ؛ لأصالة براءة ذمّته.

ويُحتمل أن يقال : إن قلنا بصحّة الحوالة على مَنْ لا مال عليه ، كان القولُ قولَ المحال عليه قطعاً. وإن قلنا : إنّها لا تصحّ ، كان القولُ قولَ المحيل ؛ لاعترافهما بالحوالة ، وادّعاء المحال عليه بطلانها ، والأصل الصحّة.

مسألة ٦١٠ : لو أحال السيّد على مكاتَبه بمال النجوم‌ ، فإن كان بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٥٠

حلوله ، صحّ ؛ لثبوته في ذمّة المكاتَب. وإن كان قبل الحلول ، فكذلك على الأقوى.

ويجي‌ء على قول الشيخرحمه‌الله المنع(١) ؛ لأنّ مال الكتابة غير واجبٍ - عنده(٢) - على المكاتَب ؛ إذ له أن يُعجّز نفسه ، فله أن يمتنع من أدائه.

وللشافعيّة وجهان فيما إذا أحال السيّد غيره على مكاتَبه بالنجوم.

أحدهما : الجواز - كما قلناه - لأنّ النجوم دَيْنٌ ثابت على المكاتَب ، فأشبه سائر الديون.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لأنّ النجوم غير لازمة على المكاتَب ، وله إسقاطها متى شاء ، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال(٣) .

وعلى ما اخترناه - من صحّة الحوالة - لو أعتق السيّد عبده المكاتَب ، بطلت الكتابة ، ولم يسقط عن المكاتَب مال الحوالة ؛ لأنّ المال بقبوله الحوالة صار لازماً له للمحتال ، ولا يضمن السيّد ما يغرمه من مال الحوالة.

ولو كان للسيّد عليه دَيْنُ معاملةٍ غير مال الكتابة ، صحّت الحوالة به قطعاً ؛ لأنّ حكمه حكم الأحرار في المداينات.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه مبنيّ على أنّ المكاتَب لو عجّز نفسه ، هل يسقط ذلك الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، لم تصح الحوالة ، وإلّا صحّت(٤) .

والمعتمد ما قلناه ، وهو قول أكثر الشافعيّة وقول أكثر العامّة(٥) .

ولو أحال المكاتَبُ السيّدَ على إنسانٍ بمال الكتابة ، صحّت الحوالة‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٢١.

(٢) الخلاف ٦ : ٣٩٣ ، المسألة ١٧ ، المبسوط - للطوسي - ٦ : ٧٣ و ٨٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ - ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٥) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

٤٥١

عندنا وعند أكثر الشافعيّة وأكثر المانعين من حوالة السيّد عليه بالنجوم(١) ، وتبرأ ذمّة المكاتَب من مال الكتابة ، ويتحرّر ، ويكون ذلك بمنزلة الأداء ، سواء أدّى المحال عليه أو مات مفلساً ؛ لأنّ ما أحاله عليه مستقرّ ، والكتابة لازمة من جهة السيّد ، فمتى أدّى المحال عليه وجب على السيّد القبول أو الإبراء.

وقال بعض الشافعيّة : لا تصحّ هذه الحوالة أيضاً(٢) .

فللشافعيّة إذَنْ ثلاثة أقوال في الجمع بين الصورتين :

أحدها : جواز إحالة المكاتَب بالنجوم ، وإحالة السيّد على النجوم ، وهو قول ابن سريج.

والثاني : منعهما جميعاً.

والثالث : أظهرها عندهم ، وهو : جواز إحالة المكاتَب بها ، ومنع إحالة السيّد عليها(٣) .

ولو أحال السيّد بأكثر مال الكتابة ثمّ أعتقه ، سقط عن المكاتَب الباقي ، ولم تبطل الحوالة.

مسألة ٦١١ : مال الجُعْل في الجُعالة إن استحقّ بالعمل ، صحّت الحوالة به إجماعاً.

وإن لم يشرع في العمل ، فالأقرب : الجواز ؛ لأنّا نجوّز الحوالة على بري‌ء الذمّة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) الوسيط ٣ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠.

٤٥٢

وقياس الشافعيّة أنّه يجي‌ء في الحوالة به وعليه الخلافُ المذكور في الرهن به وفي ضمانه(١) .

وقال بعض الشافعيّة : تجوز الحوالة به وعليه بعد العمل ، لا قبله(٢) .

ولو أحال مَنْ عليه الزكاة الساعيَ على إنسانٍ بالزكاة ، جاز ، سواء قلنا : إنّ الحوالة استيفاء أو اعتياض ؛ لأنّه دَيْنٌ ثابت في الذمّة ، فجازت الحوالة.

وعندنا يجوز دفع قيمة الزكاة عن عينها ، فجاز الاعتياض فيها.

أمّا الشافعيّة فإنّهم منعوا من دفع القيمة في الزكاة ومن الاعتياض عنها(٣) ، فهنا قالوا : إن قلنا : إنّ الحوالة استيفاء ، صحّت الحوالة هنا. وإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تجز ؛ لامتناع أخذ العوض عن الزكاة(٤) .

ولو أحال الفقير المديون صاحبَ دَيْنه بالزكاة على مَنْ وجبت عليه ، لم تصح ؛ لأنّها لم تتعيّن له إلّا بالدفع إليه.

ولو قَبِل مَنْ وجبت عليه ، صحّ ، ولزمه الدفع إلى المحتال.

مسألة ٦١٢ : تجوز الحوالة بكلّ مالٍ لازمٍ ثابتٍ في الذمّة معلومٍ‌ ؛ لأنّها إمّا اعتياض ، فلا تصحّ على المجهول ، كما لا يصحّ بيعه ، وإمّا استيفاء ، وإنّما يمكن استيفاء المعلوم ، أمّا المجهول فلا. ولاشتماله على الغرر.

فلو قال : أحلتك بكلّ ما لك عَلَيَّ ، فقَبِل ، لم تصح.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٢) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٥٧ ، المجموع ٥ : ٤٢٨ - ٤٢٩ ، و ٦ : ١٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٦٥ ، المغني ٢ : ٦٧١ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢١.

(٤) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٣

ويحتمل الصحّة ، ويكون على المحال عليه للمحتال كلّ ما تقوم به البيّنة ، كما قلناه في الضمان.

ولا يشترط اتّفاق الدَّيْنين في سبب الوجوب ، فلو كان أحدهما ثمناً والآخَر أُجرةً أو قرضاً أو بدلَ متلفٍ أو أرشَ جنايةٍ وما أشبهه ، جازت الحوالة ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٦١٣ : تصحّ الحوالة بكلّ دَيْنٍ ثابتٍ في الذمّة‌ ، سواء كان مثليّاً ، كالذهب والفضّة والحبوب والأدهان ، أو من ذوات القِيَم ، كالثياب والحيوان وغيرهما - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه حقٌّ لازمٌ ثابتٌ في الذمّة ، فأشبه ما لَه مِثْلٌ.

والثاني : المنع ؛ لأنّ الغرض من الحوالة إيصال الحقّ إلى مستحقّه من غير تفاوتٍ ، وهذا الغرض لا يتحقّق فيما لا مِثْل له ؛ لأنّ المثل لا يتحرّز(٢) ، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف(٣) .

والأوّل أصحّ. والوصول إلى الحقّ قد يكون بالمثل ، وقد يكون بالقيمة ، وكما يجوز إبراء المديون منه بالأداء ، كذا المحال عليه.

ولو كان المال ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه ، ففي جواز الحوالة به إشكال أقربه : الجواز ؛ لأنّ الواجب في الذمّة حينئذٍ القيمة ، وتلك العين لا تثبت في الذمّة ، فلا تقع الحوالة بها ولا بمثلها ؛ لعدمه ، بل بالقيمة.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « لا يتحرّر » بالراءين المهملتين.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٤

ولو كان عليه خمس من الإبل أرش الموضحة مثلاً ، وله على آخَر مثلها ، فأحاله بها ، فالأقرب : الصحّة ؛ لأنّها تنحصر بأقلّ ما يقع عليه الاسم في السنّ والقيمة وسائر الصفات ، وهو أحد قولَي الشافعي(١) .

والثاني : لا تجوز ؛ لأنّ صفاتها مجهولة(٢) .

وهو ممنوع.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أحال بإبل الدية وعليها وفرّعنا على جواز الحوالة في المتقوّمات ، فوجهان أو قولان مبنيّان على جواز المصالحة والاعتياض عنها.

والأصحّ عندهم : المنع ؛ للجهل بصفاتها(٣) .

ولو كان الحيوان صداقاً ودخل بها ، جازت الحوالة عند بعض الشافعيّة ؛ لأنّه لا يكون مجهولاً(٤) .

ومَنَعه بعضهم ؛ لأنّه لا تجوز المعاوضة معها(٥) .

النظر الرابع : في تساوي الجنسين.

مسألة ٦١٤ : من مشاهير الفقهاء(٦) وجوب تساوي الدَّيْنين‌ - أعني الدَّيْن الذي للمحتال على المحيل ، والذي للمحيل على المحال عليه - جنساً ووصفاً ، فلو كان له دنانير على شخصٍ فأحال عليه بدراهم ، لم تصحّ ؛ لأنّ الحوالة إن جعلناها استيفاءً ، فلأنّ مستحقّ الدراهم إذا‌

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، ولاحظ : حلية العلماء ٥ : ٣٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٤ و ٥) راجع : التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢.

(٦) بداية المجتهد ٢ : ٣٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦ ، المغني ٥ : ٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٥٥

استوفاها وأقرضها فمحال أن ينتقل حقّه إلى الدنانير.

وإن جعلناها معاوضةً ، فلأنّها وإن كانت معاوضةً فليست هي على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مالٍ أو زيادة قدرٍ أو صفة ، وإنّما هي معاوضة إرفاقٍ ومسامحة للحاجة ، فاشترط فيها التجانس والتساوي في القدر والصفة ؛ لئلّا يتسلّط على المحال عليه ، كما في القرض.

ولأنّا نجبر المحال عليه عند مَنْ لا يشترط رضاه ، ولا يمكن إجباره مع الاختلاف.

ولأنّ الحوالة لا يُطلب بها الفضل ، ولهذا جازت دَيْناً بدَيْن ، ألا ترى أنّه لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو جوّزنا الإحالة مع الاختلاف في الجنس أو الوصف ، لكان بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن.

ومع هذا فقد قال المشترطون للتساوي : إنّه تصحّ الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، والأحرى جواز الإحالة على مَنْ عليه دَيْن مخالف. لكنّ الغرض بقولهم : « إذا تغاير الدَّيْنان جنساً أو وصفاً أو قدراً ، لم تصحّ الحوالة » أنّ الحقّ لا يتحوّل بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس ، لكنّها إذا جرت فهي حوالة على مَنْ لا دَيْن له عليه ، وحكمه ما تقدّم(١) .

مسألة ٦١٥ : لو كان عليه إبل من الدية وله على آخَر مثلها قرضاً ، فأحاله صاحب القرض على المقترض بإبل الدية‌ ، فإن قلنا : يردّ في القرض مثلها ، صحّت الحوالة ؛ لأنّه يمكن استيفاء الحقّ على صفته من المحال عليه. ولأنّ الخيرة في التسليم إلى مَنْ عليه الدَّيْن ، وقد رضي بتسليم ما لَه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٦

في ذمّة المقترض ، وهو مثل الحقّ ، فكانت الحوالة صحيحةً.

وإن قلنا : إنّه يردّ في القرض القيمة ، لم تصحّ الحوالة ؛ لاختلاف الجنس.

وكذا ما يثبت في الذمّة قيمته في القرض - كالجواهر واللآلئ وغيرهما ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه - لا تصحّ الحوالة به.

ولو احتال المقرض بإبل الدية ، لم تصح ؛ لأنّا إن قلنا : تجب القيمة في القرض ، فقد اختلف الجنس. وإن قلنا : يجب المثل ، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته ، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.

مسألة ٦١٦ : يجب تساوي الدَّيْنين في القدر‌ ، فلا يحال بخمسة على عشرة ، ولا بعشرة على خمسة ؛ لما قلنا من أنّ هذا العقد للإرفاق ، ولإيصال كلّ حقٍّ إلى مستحقّه ، ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حطّ شي‌ء.

والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس ، وإلّا فلو كان له عشرة فأحال بخمسة منها ، أو كان له خمسة فأحال بها وبخمسةٍ أُخرى ، فإنّه تصحّ.

وللشافعيّة وجهٌ في الإحالة بالقليل على الكثير : أنّها جائزة ، وكأنّ المحيل تبرّع بالزيادة(١) .

وقال أبو العباس ابن سريج : الحوالة بيع إلّا أنّه غير مبنيّ على المكايسة والمغابنة وطلب الربح والفضل ، بل جُعل رفقاً ، كالقرض ، وإن كان نوعَ معاوضةٍ ، فلا تجوز إلّا مع اتّفاق الجنس جنساً وقدراً وصفةً ، وقد قال الشافعي في كتاب البيوع في باب الطعام قبل أن يستوفى : وإن حلّ عليه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٧

طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إيّاه ، لم تجز من قِبَل أنّ هذا الطعام لـمّا لم يجز بيعه لم تجز الحوالة به ؛ لأنّه بيع ، وهذا نصٌّ منه(١) .

وقيل : ليست بيعاً(٢) - وهو ما اخترناه نحن أوّلاً - لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ندب إليها ، فقال : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٣) . ولأنّها لا تصحّ بلفظ البيع ، ولا تجوز الزيادة فيها ولا النقصان ، ولما جازت في النقود إلّا مع التقابض في المجلس ، إلّا أنّ هذا القائل لا يجوّز الحوالة بالـمُسْلَم فيه ، وهذا تشمير(٤) لقول مَنْ قال : إنّه بيع.

لا يقال : لو كان بيعاً ، لكان على المحيل تسليمه إلى المحال عليه ؛ لأنّه عوض من جهته ، كما إذا باع شيئاً في يد غيره ، فإنّه يطالبهما به المشتري.

لأنّا نقول : أجاب مَنْ قال : « إنّه بيع » : بأنّه لـمّا استحقّ مطالبة المحال عليه به لم يستحقّ مطالبة المحيل ؛ لأنّه لو استحقّ مطالبتهما ، لكان قد حصل له بالحوالة زيادة في حقّ المطالبة ، وقد ثبت أنّ الحوالة مبنيّة على أنّه لا يستحقّ بها إلّا مثل ما كان يستحقّه ، بخلاف البيع ؛ لأنّه تجوز فيه الزيادة.

وفائدة الاختلاف : ثبوت خيار المجلس إن قلنا : إنّها بيع.

والحقّ ما تقدّم ، والاعتذار باطل ؛ لأنّ تخلّف لازم البيع يقضي بانتفائه.

____________________

(١) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦ ، وراجع : الأُم ٣ : ٧٣.

(٢) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦.

(٣) المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ٧٩ / ٢٤٤٥.

(٤) التشمير : التقليص والإرسال. لسان العرب ٤ : ٤٢٨ « شمر ».

٤٥٨

مسألة ٦١٧ : الأقرب : أنّه لا يشترط تساوي المالَيْن في الحلول والتأجيل‌ ، فيجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّ للمحيل أن يُعجّل ما عليه ، فإذا أحال به على الحالّ فقد عجّل.

وكذا يجوز أن يحيل بالحالّ على المؤجَّل.

ثمّ إن رضي المحال عليه بالدفع معجَّلاً ، جاز ، وإلاّ لم يجز ، ووجب على المحتال الصبر ، كما لو احتال مؤجّلاً.

وللشافعيّة قولان :

أصحّهما عندهم : أنّه يشترط التساوي في الحلول والتأجيل ؛ إلحاقاً للوصف بالقدر.

والثاني : أنّه يجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز العكس ؛ لأنّ حقّ المحتال حالٌّ ، وتأجيل الحالّ لا يلزم(١) .

ونحن نمنع عدم اللزوم مطلقاً ، بل إذا تبرّع به ، لم يلزم ، أمّا إذا شرطه في عقدٍ لازم ، فإنّه يلزم ، والحوالة عقد لازم ، والمحيل إنّما أحال بالمؤجَّل ، والمحال عليه إنّما قَبِل على ذلك ، فلم يكن للمحتال الطلبُ معجَّلاً.

فروع :

أ - لو كان الدَّيْنان مؤجَّلين ، فإن تساويا في الأجل ، صحّت الحوالة قطعاً.

وإن اختلفا ، صحّت عندنا أيضاً.

وللشافعيّة وجهان بناءً على الوجهين في الحالّ والمؤجَّل ، فإن منعناه هناك ، منعناه هنا. وإن جوّزناه هناك ، جاز هنا على حدّ ما جاز هناك على معنى أنّه يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٩

العكس ؛ لأنّه تأجيل الحالّ(١) .

ب - لو كان أحدهما صحيحاً والآخَر مكسَّراً‌ ، قالت الشافعيّة : لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأوّل ، وعلى الثاني يحال بالمكسَّر على الصحيح ، ويكون المحيل متبرّعاً بصفة الصحّة ، ولا يحال بالصحيح على المكسَّر ، إلَّا إذا كان المحتال تاركاً لصفة الصحّة ، ويرضى بالمكسَّرة رشوةً ليحيله المحيل.

ج - يُخرّج على هذا الخلاف عندهم حوالة الأردأ على الأجود في كلّ جنسٍ ، وبالعكس‌(٢) .

والأقرب عندي : جواز ذلك كلّه.

د - لو أدّى المحال عليه الأجود إلى المحتال ، وجب القبول‌. وكذا الصحيح عوض المكسَّر.

أمّا تعجيل المؤجَّل فلا يُجبر عليه ، خلافاً للشافعيّة ، فإنّهم أوجبوه(٣) ، حيث يجبر المستحقّ على القبول(٤) .

وهذا يتفرّع على الصحيح في أنّ المديون إذا جاء بأجود ممّا عليه من ذلك النوع ، يُجبر المستحقّ على قبوله ، ولا يكون ذلك معاوضةً؟(٥) .

ه- لو كان الدَّيْنان حالَّيْن فشرط في الحوالة أنّ المحتال يقبض حقّه أو بعضه بعد شهرٍ ، صحّ عندنا‌ - خلافاً لأحمد(٦) - لعموم قولهعليه‌السلام :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ - ١٣٢.

(٣) في النسخ الخطّيّة : « جوّزوه » بدل « أوجبوه ».

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢.

(٦) المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592