الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133757
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133757 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (1) ، فخلع تعالى عليه خلعة ربانية عظيمة، وهي وصفين من الأسماء الحُسنى: الرؤوف والرحيم (2) ، وقال تعالى في وصفه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ) (3) .

فكرّر تعالى في وصفه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه: الرحمة الإلهية والأمان للمؤمنين. وقال: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (4) ، فاشترط تعالى لحصول محبّته لعباده اتّباع نبيّه.

حقيقةُ التوسّل والتوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تقديمُه أمام التوجّه والطلب من اللَّه تعالى، وهو معنى الوفادة به على اللَّه:

فيُعلم من ذلك أنّ الأُمّة في وفودها على باريها بعباداتها، وأعمالها، لابدّ عليها من أن تأتي إلى باب اللَّه الأعظم الذي منه يُؤتى، وهو سيّد أنبياءه. ومع كلّ ذلك لابدّ لكي يعود الربّ تعالى بالرحمة على هذه الأُمّة، ولكي يقبل وفادتها إليه، أن تَفِدَ بنبيّها، وتقدّمه بين يدي اللَّه.

وبعبارة أُخرى: إنّ التوجّه بالشي‏ء لغةً عبارة عن جعله وجهاً وأماما وإماماً، فالتوجّه بالنبيّ عبارة عن جعله الوجه المتقدّم للوفود على الساحة الربوبية، وكذلك معنى التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لغةً فإنّ معنى الوسيلة هو بالتوجّه إليها أوّلاً، ليمهّد ويوطّد ويهيّئ له الوصول إلى الشي‏ء الآخر، وليس معنى التوسّل بالوسيلة الإعراض عن التوجّه إليها بالتوجّه مباشرة إلى الغاية والمنتهى؛ فإنّ هذا ترك للأخذ بالوسيلة.

____________________

1) سورة التوبة: 128.

2) اللهمّ أعنا على طاعته، وصِلة أهلِ بيته، وموالاتهِ وآلهِ، والبراءة من التمرد ومن المتمردين عليه.

3) سورة التوبة: 61.

4) سورة آل عمران: 31.

١٦١

ولابدّ في كلّ ذلك من أن يشفع لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لدى الباري تعالى، ويطلب منه ويسأله في قضاء حوائجهم، وشفاعته وبابيته ووساطته لا تقتصر على محو ذنوب الأُمّة، بل وكذلك تشمل في نيل الدرجات والمقامات، بل لا يقتصر ذلك على هذه الأُمّة، بل تعم جميع الأُمم من الأوّلين والآخرين.

وساطة النبيّ وشفاعته في نيل جميع الأنبياء والمرسلين للنبوّة والمقامات:

بل تعم جميع الأنبياء والمرسلين، كيف لا؟ ولم يعطِ الباري تعالى نبوّة لنبيّ من الأنبياء إلاّ بعد تسليمهم لولاية النبيّ وطاعته والخضوع له، وأخذ في ذلك عليهم العهد المغلظ الشديد، ولم يكتفِ بذلك، بل أشهدهم على ذلك، وأشهد عليهم ذاته الأزلية، وهذا مفاد قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) (1) .

فالميثاق الذي أخذه اللَّه على النبيّين هو على ولِما أتاهم من نبوّة وحكمة، وفي مقابل ذلك شرط عليهم وأخذ العهد على أن يؤمنوا ويتدينوا بنبوّة سيد الرسل، وبأن يلتزموا بمناصرته وطاعته وموالاته. ثمّ أخذ تعالى بعد ذلك الميثاق، أخذ الإقرار والالتزام والتعهّد منهم بتلك المشارطة والمعاوضة. ثمّ في ‏المرتبة الثالثة شدّد عليهم عهده، وغلّظ، وبيّن عظمته. ثمّ في المرتبة الرابعة أشهد عليهم.

فلم يستحصل الأنبياء على النبوّة، والكتاب والحكمة، فضلاً عن بقية المقامات الغيبية، إلاّ بالموالاة والطاعة والخضوع لسيد الأنبياء، والتوجّه به إلى اللَّه، فشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله يضطرّ إليها جميع الأنبياء والمرسلين، فضلاً عن جميع الأُمم، فنيل

____________________

1) سورة آل عمران: 81.

١٦٢

كلّ مقام للأصفياء المصطفين لا يتمّ لهم إلّا بالتوجّه إلى باب الله الأعظم، وهو سيد الأنبياء.

ويشير إلى توسّل الأُمم السابقة بسيد الأنبياء ما في قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (1) ، والآية نازلة في اليهود، حيث كانوا يؤمنون بمجيء خاتم الأنبياء من قبل، وكانوا في حروبهم مع الكفّار يستفتحون بالنبيّ ويتوسّلون به إلى الله؛ لكي ينزل النصر عليهم، فلمّا جاءهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يعرفونه وكانوا يتوسّلون به كفروا به، فمفاد الآية أنّ مقتضى‌ الإيمان بخاتم الأنبياء هو الاستفتاح به.

والاستفتاح هو طلب الفتح لكلّ باب من أبواب البركة والنصر والخير والسعادة والنعيم والنصر، وكلّ فوز عظيم وغنم جزيل، فالاستفتاح ينطوي على معنى طلب الفتح والمفتاح، وقد تقدّم قوله تعالى‌: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (2) ، حيث بينت هذه الآية أنّ الإيمان بآيات اللَّه والتصديق والإقبال والتوجّه إليها وتعظيمها هو المفتاح الذي تُفتح به أبواب السموات، أي أنّه الباب الذي يفتح منه كلّ باب، فهو باب الأبواب وباب اللَّه الأعظم، وقد أقرّ الباري تعالى استفتاح أهل الكتاب بالنبيّ، وأنّ ذلك من تشريع اللَّه لهم في الديانة التي بعث بها أنبيائهم في جميع الشرائع السماوية السابقة، أي أنّ التوسّل والتوجّه بسيد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من الدين الواحد المتّفق الذي بُعث به جميع الأنبياء على‌ اختلاف شرائعهم.

____________________

(1) سورة البقرة 2: 89.

(2) سورة الأعراف 7: 40.

١٦٣

كيف لا يكون سيد الأنبياء استفتاح لكلّ شي‌ء بعد اسم اللَّه مع أنّ كلّ شي‌ء يستفتح بـ (بسم اللَّه الرحمن الرحيم)، إلّاأنّ فتح هذا الاستفتاح لابدّ أن يقرن باسم الحبيب المصطفى‌، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله استفتاح لكلّ خير ولنيل كلّ مقام وفضل وكمال وإسعاد، كيف لا يكون ذلك وقد تقدّم قوله تعالى‌: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ .. ) (1) ، إن جميع الأنبياء استأهلوا النبوّة بشرف الإقرار بولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وولاية عليّ عليه‌السلام كما سيأتي.

وقد روى الفريقان: أنّ آدم لما اقترف الخطيئة ما كان اللَّه ليغفر له لولا توسّله وتوجّهه إليه تعالى‌ بسيد الأنبياء وأهل بيته (2) ، وهي الكلمات التي تلقّاها في قوله تعالى‌: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) (3) ، بل ورد أنّ هذه الكلمات هي الكلمات التي امتحن بها إبراهيم فأُعطي مقام الإمامة، كما في قوله تعالى‌: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ .. ) (4) ، ويُشاهد أنّ التعبير ورد (بكلمات) لا بكلمه، أي بصيغة الجمع.

وقد تقدّم أنّ الكلمة أُطلقت على‌ النبيّ عيسى‌، وتصديق مريم بالكلمات أُطلقت على‌ أولياء اللَّه الحجج في مقابل التصديق بكتبه، وأنّ (الكلمة) متطابقة مع (الآية)، وقد أطلقت (الآية) على‌ النبيّ عيسى‌. فظاهر التعبير بالجمع في الكلمات التي تلقّاها آدم، والتي قد رويت في طرق أهل سنّة الجماعة أنّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله -

____________________

(1) سورة آل عمران 3: 81.

(2) أمّا روايات أهل البيت فمستفيضة في ذلك، لاحظ: تفسير البرهان، ونور الثقلين، وغيرهما في ذيل قوله تعالى: ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) . أمّا مصادر العامّة فلاحظ: مستدرك الحاكم على الصحيحين ج 2 ص 615 التضمّن: لولا محمّد ما خلقت آدم ولا الجنّة ولا النار. ولا كبس العرش على الماء.

(3) سورة البقرة 2: 37.

١٦٤

والجمع يقتضي أنّه سيد الأنبياء، وكذا أهل بيته الذين قُرنوا معه في آية التطهير وأُشركوا معه في إرادة الربّ بتطهيرهم، كما قُرنوا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في احتجاج اللَّه بهم على‌ أهل الكتاب، أي أنّهم حجّة للَّه‌على‌ أهل الكتاب والأُمم إلى‌ يوم القيامة، كما شهد لهم القرآن بأنّهم يعلمون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ الذي لا يمسّه إلّا المطهّرون كما ورد في سورة الواقعة- فهم أصحاب وصف التطهير في هذه الأمة بتخصيص القرآن.

كما يعطي امتحان إبراهيم بتلك الكلمات أنّ أُولئك الحجج الذين امتُحن بهم النبيّ إبراهيم هم ممّن نال مقام الإمامة بالتوجه بهم إلى‌ اللَّه والتصديق والإقرار والتسليم بولايتهم.

وقد مرّت دلالة آية الميثاق على‌ النبيّين أنّهم لم ينالوا مقام النبوّة إلّابالتصديق والتسليم لولاية سيد الأنبياء، كما قد تقدّم في المقالات السابقة من هذا الفصل أنّ جملة من الآيات القرآنية في السور المتعدّدة دلّت على‌ أخذ ولاية عليّ عليه‌السلام في أُصول الدين الواحد، وهو الإسلام الذي بُعث به جميع الأنبياء من آدم إلى‌ النبيّ عيسى‌، وإن اختلفت شرائعهم.

ومنها: قوله تعالى‌: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1)

وهذه الآية وإن خصّها جمع من مفسّري الفريقين في الشأن العام السياسي، ولكنّ الصحيح كما بسطنا الكلام فيه في ما تقدّم- أنّها في مطلق شؤون الدين؛ إذ طاعة اللَّه لا تُحدّ بحدود، بل هي بسعة الدين كلّه، فكذلك طاعة الرسول وأُولي الأمر، لا سيما أنّ الأمر المراد منه هو الأمر المتنزّل في ليلة القدر، كما في سورة القدر والدخان والنحل وغافر، وغيرها من السور.

____________________

(1) سورة النساء 4: 59.

١٦٥

معنى شرطية الولاية في صحّة العبادات:

فالأمر في (أولي الأمر) عالم الأمر من الملكوت، وكما في سورة الشورى: ( رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) (1) ، فأصحاب وأولياء الأمر هم أصحاب روح القدس الأمري، هؤلاء طاعتهم بتبع طاعة الرسول، وطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبع طاعة اللَّه تعالى، وهي في كلّ دائرة الدين، ومنها أبواب العبادات، فكما يتعلّق الأمر الإلهي بالعبادات كالصلاة وغيرها، فكذلك الأمر النبوّي والأمر الولوي قد تعلّق برسم حدود العبادات وأجزاءها وشرائطها، ولذلك فقد اشتملت العبادات على فرائض إلهية، وسنن نبوية، وسنن ولوية. والقرب العبادي للَّه تعالى في العبادة - وإن لم يذكر في علم أُصول الفقه - لا يتمّ إلاّ بطاعة الأصناف الثلاثة من الأوامر في العبادات، فالطاعات الثلاث هي التي تحقّق القرب العبادي للَّه تعالى، وهذا بيان آخر لكون التوجّه بهم يحقّق القرب إلى الباري تعالى وبدونه لا يتحقق.

وبعبارة أُخرى ، أنّه قد حُرّر في مبحث التعبّدي والتوصّلي في علم أُصول الفقه: قوام العبادية في العبادات بنية القربى، وأنّ نية القربى هي قصد للمسبّب لا تحصل إلاّ بنية وقصد السبب، وهو قصد امتثال الأمر الإلهي المتعلّق بالصلاة والصوم والحجّ وغيرها من العبادات، حيث إنّ قصد المكلّف كونه ماثلاً أمام الإرادة الإلهية وخاضعاً وطائعاً للأمر الإلهي، يوجب الزلفى والاقتراب من الساحة الإلهية.

وما ذكره علماء الأُصول وإن كان متيناً، إلاّ أنّهم لم يستوفوا تمام أطراف البحث، فإنّ العبادات كما قد تعلّق بها الأمر الإلهي كـ: ( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) و ( َآتُواْ الزَّكَاة َ ) و ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) و ( قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله ) وغيرها من الأوامر الإلهية

____________________

1) سورة الشورى: 52.

١٦٦

المتعلّقة بالعبادات، فكذلك قد تعلّق الأمر النبويّ بتلك العبادات؛ فإنّ جملة عديدة من أجزاء العبادات إنّما هي سنن نبويّة بأمر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظير السبع ركعات التي أمر بها صلى‌الله‌عليه‌وآله في الفرائض، كما روى ذلك الفريقان، ومن الواضح حينئذٍ، أنّ صحّة الصلاة اليومية مثلاً متوقّفة على امتثال أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً.

فقصد امتثال الأمر يعمّ كلّ من أمر اللَّه تعالى وأمر رسوله في العبادات، والامتثال والطاعة هي شاملة لكلّ من امتثال وطاعة أمر اللَّه وأمر رسوله.

وكذلك الحال لأُولي الأمر المتنزّل في ليلة القدر، فإنّ جملة غفيرة من الشرائط والموانع، وتفاصيل الأجزاء، إنّما هي بأوامر أئمّة أهل البيت ‏ عليه‌السلام ومنهاجهم وهديهم، فالعبادة والصلاة والصوم والزكاة، وغيرها، لابدّ أن يؤتى بها على صورة منهاجهم وهديهم وطريقتهم، وذلك بامتثال أوامرهم المتعلّقة بالعبادات.

فيتّضح بذلك أنّ قصد الأمر المحقّق لنية القربى في العبادات - الذي ذكره علماء الفقه والأُصول - لابدّ أن يعمّ الأوامر الثلاثة، وأنّ الامتثال والطاعة في عبادية العبادة هي لكلّ من أمر اللَّه، وأمر رسوله، وأمر أولياءِ أمره.

وبذلك تتحقّق العبادة الخالصة للَّه تعالى وحده من دون استكبار النفس، وهو الذي أخفق فيه إبليس اللعين حينما ترك التوجّه بآدم في العبادة. ويتّضح عموم آية الطاعة للعبادات ولدائرة الدين، وأنّ هذا المعنى قراءة جديدة لمعنى أخذ ولايتهم عليهم‌السلام في صحّة العبادات.

ثمّ إنّه قد اتّفقت كلمات فقهاء الإمامية على رجحان دعاء التوجّه قبل تكبيرة الإحرام في الصلاة، بل جملة كلمات المتقدّمين والمتأخّرين على رجحانه بعد تكبيرة الإحرام قبل قراءة الحمد، وهي فتوى بالنصّ المأثور (وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملّة إبراهيم ودين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنهاج عليّ، حنيفاً مسلماً

١٦٧

وما أنا من المشركين) (1) .

وفي النصّ الآخر بعد ومنهاج عليّ (والائتمام بآل محمّد حنيفاً مسلم) (2) .

وفي بعض النصوص (وهدي عليّ أمير المؤمنين - عليه‌السلام -) (3) .

وفي مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي: (اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة بلّغ محمّداً - صلّى الله عليه وآله - الدرجة والوسيلة والفضل والفضيلة، باللَّه استفتح وباللَّه أستنجح، وبمحمّد رسول اللَّه - صلّى الله عليه وآله - أتوجّه، اللهم صلّي على محمّد وآل محمّد، واجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين) (4) .

وقد اتّفقت - أيضاً - كلمة جمهور مذاهب المسلمين على رجحان التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بلفظ: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته) وذلك قبل التسليم المُخرِج من الصلاة، أي: إنّ التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتي به المصلّي ولمّا يخرج بعدُ من الصلاة.

ومؤدّى هذا التسليم من المصلّي - وهو في صلاته - أنّه زيارة من المصلّي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من كلّ الأُمّة، من كلّ مؤمنٍ ومسلمٍ في اليوم خمس مرّات، بل في كلّ صلاة يأتي بها، كما أنّ هذه الزيارة والتسليم للنبيّ ينطوي على مخاطبة النبيّ بـ (كاف) الخطاب، كما ينطوي على نداء النبيّ ومخاطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (ياء) النداء القريب: (أيّها).

وهذا كلّه من التسليم والزيارة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخاطبته بالنداء القريب والمصلّي في صلاته ونجواه لربّه وخطابه مع بارئه، ففي محضر الوفادة الربانية والضيافة الإلهية يتوجّه المصلّي بالالتفات لنبيّه؛ إذ هو باب اللَّه الأعظم، فكما بدأ صلاته

____________________

1) من لا يحضره الفقيه، ج1، ص204، باب وصف الصلاة وأدب المصلّي.

2) وسائل الشيعة، ج6، ص25، الحديث 3، ولاحظ أيضاً: مستدرك الوسائل.

3) المصدر السابق.

4) مصباح المتهجّد، ص73، فصل في ذكر الأذان.

١٦٨

بالإقرار بالرسالة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الإقرار بالتوحيد في الأذان والإقامة وتوجّه به في بدو الصلاة، عاود التوجّه إليه، وبه، إلى اللَّه. فهذه الصلاة التي هي عمود الدين ومعراج المؤمن إلى ربّه ونجواه مع خالقه، يزدلف إلى ربّه بالولاية لنبيّه والتعظيم له وتوقيره.

( الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) ، وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (2) .

فترى ما أوجب تعالى من التعظيم والمهابة لنبيّه؛ أن افترض عدّة من السنن والآداب والخضوع في محضر النبيّ، جعل جزاء الإخلال بها - ولو كرفع الصوت - حبط جميع الأعمال، وأنّ تعظيم النبيّ وإجلاله هو من تقوى القلوب، وأنّ الذين يستخفّون بمقام النبيّ ليس لهم شعور ولا عقل، أي: من زمرة البهائم.

وكلّ هذا التعظيم الإلهي، بمراسم ورسوم في سنن الآداب الإلهية لنبيّه لم يَرِد في حقّ نبيّ من الأنبياء، فهذا المحلّ من القدس من الباري هداية منه تعالى إلى الباب الذي منه يُؤتى، وجعل تعالى الصدّ عن هذا الباب الأعظم وعن الالتجاء إليه

____________________

1) سورة الأعراف: 157.

2) سورة الحجرات: 1 - 4.

١٦٩

من صفات المنافقين، حيث قال: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) (1) .

كما قرن تعالى رضاه برضا رسوله، فقال: ( يَحْلِفُونَ بِالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ) (2) ، فجعل باب رضاه رضا رسوله، كما قرن حبّه بحبّ رسوله، فقال: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (3) ، فجعل محبّة الرسول باب لمحبّته، فلم يقتصر تعالى على حبّ العبد له، ولا على مجرّد حبّ الأعمال الصالحة، بل اشترط أن يُقرن بحبّ الرسول، كما اشترط في الهجرة إلى اللَّه الهجرةَ إلى الرسول، فقال تعالى: ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ) (4) ، فجعل باب الهجرة إليه تعالى الهجرة إلى الرسول، والهجرة سفرٌ وقصدٌ وتوجّه.

والتوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شرط زائد على شرطية الإيمان به، كما مرّ في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا... ) (5) ، هو الإقرار بولاية النبيّ والإخبات والخضوع لها، إذ الولاية مجموع كلّ من التصديق والطاعة، حيث تضمن الميثاق على النبيّين، ( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) (6) ، وقد عُبّر عن الاستفتاح به صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً بقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (7) أي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يستمطر به كلّ رحمة لكلّ

____________________

1) سورة المنافقين: 5.

2) سورة التوبة: 62.

3) سورة التوبة: 24.

4) سورة النساء: 100.

5) سورة الأعراف: 40.

6) سورة آل عمران: 81.

7) سورة الأنبياء: 107.

١٧٠

عالم من العوالم والنشآت، فهو باب اللَّه الأعظم الذي تجري منه الرحمة الإلهية، وقد قَرَن اللَّه تعالى ولايته بولايته، فقيّد جلَّ آيات الأمر بطاعة اللَّه بطاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجعل التمرّد على ولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عين التمرّد على ولاية اللَّه وطاعته.

كما قرن طاعته وطاعة رسوله بطاعة أُولي الأمر، حيث قال تعالى: ( أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) ، فجعل باب النبيّ هو أهل بيته، وباب طاعة النبيّ طاعة أهل بيته، وباب حبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حبّ أهل بيته، وباب الهجرة إلى النبيّ الهجرة إلى أهل بيته، وباب رضا النبيّ رضا أهل بيته، وقد أوضح أصحاب هذا الأمر أنّهم الذين يتنزّل عليهم الأمر في ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة، حيث قال تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) (2) وقال تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (3) ، وقال تعالى: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (4) .

فالأمر هذا هو روح القدس، وأصحابه هم الذين يتنزّل عليهم هذا الروح في ليلة القدر، كما سيأتي تفصيله في الفصل السابع. وأنّهم أصحاب علم الكتاب المطهّرون في هذه الأُمّة بشهادة آية التطهير وهم أهل البيت عليهم‌السلام .

فَقَرن طاعتهم عليهم‌السلام بطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وولايتهم عليهم‌السلام بولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقتضي إرادتهم من لفظ الآيات في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ... ) (5) .

تبيّن ممّا مرّ أنّ التصديق بالآيات والتوجّه والخضوع لها عبارة عن التسليم

____________________

1) سورة النساء: 59.

2) سورة القدر: 4.

3) سورة الدخان: 2 - 6.

4) سورة غافر: 15.

5) سورة الأعراف: 40.

١٧١

لولايتهم؛ لأنّ مقتضى كلّ من كون التسليم لولاية الآيات مفتاح أبواب السماء، مع جعل النبيّ استفتاحاً في شرائع الأنبياء يُستفتح به، وإطلاق الآية على النبيّ عيسى.

هذه الأُمور الثلاثة، وغيرها من الشواهد المتقدمة، نظير ما مرّ من أن الآية التي يصدّق بها هو صاحب المنصب الإلهي الذي يخبِر عن اللَّه تعالى، لا الآية التكوينية - فإنّ التعبير عنها ورد وهم عنها غافلون -، وكذا ما تقدّم من إطلاق الكلمات على النبيّ وأهل بيته، كلّ ذلك يقتضي إرادة سيد الأنبياء من تلك الآيات، وولاية أهل بيته، الذين قرنت ولايتهم بولايته، وأنّ أهل البيت هم الباب لسيد الأنبياء.

وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ عليّاً باب مدينة الرسول: (أنا مدينة العلم وعليّ بابها) (1) ، وقد نزّلت آية المُباهلةُ عليّاً بمنزلة نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذلك في قوله تعالى: ( وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) (2) .

فحقيقة الطاعة للرسول وأُولي الأمر الخضوعُ والتسليمُ والانقيادُ والتعظيم له ولهم سلام اللَّه عليهم، وقد تقدّم أنّ الكلمات التي تلقّاها آدم - من نصوص الفريقين - منها اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فيتبيّن من ذلك: أنّ هناك أسماء أُخرى توجّه بها آدم ليتوب اللَّه بها عليه، كذلك في الكلمات التي امْتُحِن بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة، الامتحان كان بكلمات، لا بكلمة واحدة، وأنّ هناك جناس في لفظ (الكلمات) في قصّة آدم وإبراهيم عليهما‌السلام ، فهناك أسماء مقرونة مع اسم النبيّ، وولايتها مقرونة بولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعسى من تكون تلك الأسماء غير أهل بيته الذين قُرنوا به في جملة المقامات الإلهية، كآية

____________________

1) قد عقد صاحب العبقات مجلّداً كاملاً في إثبات تواتر الحديث في مصادر العامّة، فضلاً عن طرق الخاصّة، لاحظ: خلاصة عبقات الأنوار، ج 1.

2) سورة آل عمران: 61.

١٧٢

الطاعة والولاية، وآية التطهير، وآية الاحتجاج في المُباهلة، وآية شهادة الأعمال في قوله تعالى: ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) (1) ، فهؤلاء الشهداء على جميع الناس هم من نسل إبراهيم، وعلى ملّة أبيهم إبراهيم، وقُرنوا مع النبيّ في الشهادة، إلاّ أنّ النبيّ شاهد عليهم.

وهم الذرّية، كما دعا إبراهيم ربّه أن تكون الإمامة في ذرّيته: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (2 ، فهم المقصودون من قوله تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (3) ، فيُتوجّه بهم إلى رسول اللَّه وإلى اللَّه تعالى، كما يتوجّه بالرسول إلى اللَّه، وقد قال تعالى: ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) ، وقال تعالى: ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (5) ، وقال تعالى: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إلاّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (6) .

فبيّن تعالى أنّ مودّتهم وتولّيهم وولايتهم نفعها عائد إلى الأُمّة نفسها؛ وذلك لأنّ مودّة وولاية أهل البيت السبيل والوسيلة إلى اللَّه تعالى، فهذه الآيات بمنزلة مفاد آية الوسيلة مع تعيين لهوية الوسيلة، ومن ثمّ ورد في الزيارة الجامعة: (ومن وحّده قَبِل عنكم، ومن قصده توجّه بكم) (7) وهذه الفقرة إشارة إلى القواعد الثلاثة.

____________________

1) سورة الحج: 78.

2) سورة البقرة: 124.

3) سورة التوبة: 105.

4) سورة الشورى: 23.

5) سورة سبأ: 47.

6) سورة الفرقان: 57.

7) من لا يحضره الفقيه للصدوق، ج2، ص 615.

١٧٣

١٧٤

بقاء جميع الكتب السماوية بهم عليهم‌السلام

لكونهم دعاته تعالى إلى كتبه

إنّ إحدى مقاماتهم عليهم‌السلام في الديانة الإلهية هو كونهم دعاة اللَّه إلى جميع كتبه وصحفه السماوية المُنزّلة، وهم حفظة تلك الودائع؛ إذ قد تبيّن من المقالة السابقة (1) :

إنّ الدين عند اللَّه واحد وهو الإسلام ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ ) (2) ، وهو الذي بُعث به جميع الأنبياء والرسل من آدم عليه‌السلام إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ الاختلاف بين بعثات الأنبياء إنّما هو في الشرائع، حيث قال تعالى: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (3) .

والدين عبارة عن مجموعة من العقائد الحقّة، وأركان الفروع وأُصول الواجبات والمحرّمات. وأمّا الشريعة، فهي تفاصيل التشريعات الفرعية. وإذا تبيّنت هذه النقطة - وتبيّن لك من أنّ الصحف والكتب السماوية المنزّلة في جملة وعمدة ما اشتملت عليه هو في العقائد وأركان الفروع، وشطر يسير منها في الشريعة وتفاصيل الفروع - فيتبيّن من ذلك: أنّ الجملة الغالبة ممّا اشتملت عليه تلك الكتب غير منسوخ بل ثابت وماضٍ إلى يوم القيامة؛ لأنّه لا نسخ في الدين ودائرته وهو الإسلام، وإنّما

____________________

1) ولاية عليّ في الشرائع السابقة.

2) سورة آل عمران: 19.

3) سورة المائدة: 48.

١٧٥

النسخ في شرائع الأنبياء السابقين، وبالتالي يلزم الإيمان والتصديق بتلك الكتب والتقيّد بما فيها، ممّا كان من دائرة الدين، لا من دائرة الشريعة المنسوخة، كما قال تعالى: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) (1) ، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (2) .

لكن لا النُّسَخ المحرّفة عند أتباع وأُمم الأنبياء، بل النُّسَخ المصونة عن التحريف، المُودعة كمواريث عند الأوصياء وهم أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام ، كما سيتبيّن من الآيات الآتية، ومن ثمّ يتجلّى بقاء قدسية الكتب والصحف السماوية غير المحرّفة لوحدة الدين عند أصحاب الكتب، وهم الأنبياء والرسل المبعوثون بها.

غاية الأمر أنّ بين الكتب السماوية تمايز من جهة أُخرى، وهو أنّ المعارف العقائدية في كلّ كتاب دائرتها بحسب مقام ودرجة ذلك النبيّ، قال تعالى: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) (3) ، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) (4) ، وقال تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (5) ، فالعقائد والمعارف الواردة في الكتب الإلهية وإن لم يكن فيها تبدّل أو تغيير، ولا هي قابلة للنسخ، إلاّ أنّ كلّ نبيّ وكلّ كتاب يُبعث به يمتاز عن الآخر في سعة ما يُنبئَهُ وضيقه وعمقه وتوسّطه، بحسب مقام ذلك النبيّ ودرجة كتابه الذي تلقّاه عن اللَّه تعالى. فخاتم الأنبياء حيث كان سيدهم كان كتابه أُمّ الكتب الإلهية والجامع لِما فيها

____________________

1) سورة البقرة: 285.

2) سورة النساء: 136.

3) سورة البقرة: 253.

4) سورة الإسراء: 55.

5) سورة المائدة: 48.

١٧٦

والمهيمن عليها، إلاّ أنّ كلّ ذلك لا يَسلب ولا يُفقد الكتب الإلهية - غير المحرّفة - الأُخرى قدسيتها وحقانيتها، ولا درجات مواقعها التي هي فيها، ومن ثمّ نجد إشادة القرآن الكريم ومديحه لها، كما قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (1) .

وقال تعالى: ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) .

وقال تعالى في سياق ما سبق: ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (3) .

وقال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ... ) (4) ، ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (5) ، وقال تعالى: ( إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ

____________________

1) سورة الأعلى: 14 - 19.

2) سورة المائدة: 43 - 43.

3) سورة المائدة: 46 - 48.

4) سورة المائدة: 66.

5) سورة المائدة: 68.

١٧٧

وَالْقُرْآنِ ) (1) ...، وغيرها من الآيات.

ومع هذه الموقعية للكتب والصحف المنزلة السابقة، وتأكيد الباري تعالى على الإيمان بها، فلا يمكن أن تذهب سدى أدراج الرياح، بل لابدَّ أن تكون محفوظة مودَعة عند من أودِع علم القرآن عندهم، حيث إنّ الكتب والصحف المنزلة السابقة كلّها كأجزاء متنزّلة من الكتاب المبين الذي هو أصل حقيقة القرآن، وقد أسند القرآن الكريم علم الكتاب كلّه والكتاب المبين إلى أهل البيت المطهّرين. فها هنا نقطتان لابدّ من بيانهما:

الأُولى: كون الكتب والصحف المنزلة السابقة هي أبعاض وأجزاء متنزّلة من الكتاب المبيّن المكنون، فقد قال تعالى في شأن موسى عليه‌السلام : ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (2) ، وقال تعالى في شأن عيسى عليه‌السلام : ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) (3) ، وقال تعالى في شأن عموم الأنبياء: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ) (4) ، فجعل الكتاب مقابل الفرقان والتوراة والإنجيل، وكذلك في مقابل الحُكْم والنبوّة، مع أنّ عنوان الكتاب قد أُطلق على التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب المنزلة، كما قال تعالى: ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) (5) ، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) (6) .

وقد أطلق على أتباع موسى وعيسى عنوان أهل الكتاب، وعنوان الذين أوتوا

____________________

1) سورة التوبة: 111.

2) سورة البقرة: 53.

3) سورة المائدة: 110.

4) سورة آل عمران: 79.

5) سورة الأنعام: 154.

6) سورة هود: 110.

١٧٨

الكتاب كراراً في مواضع كثيرة في السور القرآنية، والذي أوتوه هو التوراة والإنجيل، فأُطلق اسم الكتاب عليهما، نظير ذلك قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) (1) ، وفي مواضع أُخرى من القرآن قد وصف الفرقان أو التوراة أو الإنجيل بأنّه بعض الكتاب لا كلّه، كما في قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً ِ ) (2) .

وكرّر هذا التعبير في سورة النساء مرّتين (3) ، ووصفت التوراة في قوله تعالى: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (4) ، فلم يكتب فيها كلّ شي‏ء، بل من كلّ شي‏ء، وقال تعالى عن وصي سليمان آصف بن برخيا: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (5) ، فوصف علمه الذي ورثه من سليمان بأنّه علم من بعض الكتاب.

وقال تعالى في شأن الإنجيل وعيسى عليه‌السلام : ( قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (6) ، أنّ فيه بيان بعض ما يختلف فيه بنو إسرائيل، لا بيان كلّ ما يختلفون فيه، مع أنّ القرآن قد وصف بأنّه بيان لكلّ شي‏ء، فقال تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (7) .

فتحصّل: أنّ الكتب والصحف المتنزّلة السابقة، وإن كانت هي من الكتاب، إلاّ أنّها أبعاضٌ وأجزاء له لا تمامه، بخلاف القرآن الكريم؛ حيث يقول الباري: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ، وقال تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ الله وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ

____________________

1) سورة الجاثية: 16.

2) سورة آل عمران: 23.

3) سورة النساء: 44 و 51.

4) سورة الأعراف: 145.

5) سورة النمل: 40.

6) سورة الزخرف: 63.

7) سورة النحل: 89.

١٧٩

الْعَالَمِينَ ) (1) .

والكتاب، والكتاب المبين، والكتاب المكنون، هو وجود عُلويٌّ غيبي، قد وصف بأوصاف عديدة، كما في قوله: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (2) ، فالقرآن النازل هو تنزيل للكتاب المبين، وقال تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (3) ، فالقرآن المتنزّل في الصورة العربية هو إنزال للكتاب المبين، والقرآن له وجود علوي الذي هو أُمّ الكتاب.

قال تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (4) ، فوصف القرآن بوجود علوي في الكتاب المكنون، وأنّ القرآن النازل هو تنزيل لذلك الوجود العلوي، وقال تعالى: ( طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ) (5) ، وقال تعالى: ( الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ) (6) ، وقال تعالى: ( ... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (7) ، وقال تعالى: ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (8) .

النقطة الثانية: بيّن تعالى في القرآن الكريم أنّ أهل البيت عليهم‌السلام يمسُّون الكتاب المكنون كما مرّ في الآية في سورة الواقعة؛ إذ هم أهل آية التطهير المطهّرون دون سائر الأُمّة، وفرقٌ بين المطهّر ذاتاً وخلقةً والمتطهّر بالوضوء

____________________

1) سورة يونس: 37.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

3) سورة الزخرف: 1 - 4.

4) سورة الواقعة: 77 - 80.

5) سورة النمل: 1.

6) سورة الحجر: 1.

7) سورة يونس: 61.

8) سورة الأنعام: 59.

١٨٠