الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133679
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133679 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإلهية، مع أنّ التفرقة لا وجه لها، إلاّ قاعدة الاصطفاء والاختيار الإلهي، التي هي مفاد نظرية النصّ الإلهي على أصحاب هذه المقامات الخاصّة، من دون فارقٍ بين النبوّة والرسالة، والإمامة والولاية المطلقة، والحجّية على الخلق، والخلافة الإلهية الكبرى.

وخير شاهدٍ على بطلان زعمهم ما يلاحظه المتتبّع المدقِّق المحقِّق في كتبهم وكلمات روّادهم في تفسير الآيات والمعارف، وباب التأويل للآيات التنزيلية والتكوينية، وباب الآداب والسنن، وغيرها من أبواب المعارف، فيلاحظ كم لهم من رأي ونظر قد تبيّن - في التحقيقات العلمية والحكمية والمشاهدات - بطلانها وقصورها عن الإحاطة بتمام الواقع، وضحالة نابعة من البيئة العلمية والمذهبية التي ترعرع ونشأ فيها ذلك الصوفي والعارف. فبون بين ما يفسّرونه من معارف وتأويلات، وبين ما يشاهده المحقِّق الحكيم السالك في المعارف المأثورة عن بيت النبوّة، وأين الثرى من الثريا؟!

حتّى أنّ بعض الأكابر من الصوفية يعتقد بالهيئة البطليميوسية ويرتّب عليها مزاعم من المكاشفات، أو تراه يبني على الجبر الأشعري والمسلك الأشعري في الحسن والقبح، أو يقول أنّ الولي وإن كان تابعاً في علم التشريع والأحكام للنبيّ، إلاّ أنّ النبيّ قد يكون تابعاً له في المعارف والعلوم الحقيقية، ثمّ اعتمد في ذلك على قصّة أُسارى بدر المُختلَقة، وحديث تأبير النخيل الموضوع.

وقد ردّ عليه السيد حيدر الآملي بقوله: فكيف يخطئ فيها من هو موصوف بأنّه: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) ، وكذلك من هو موصف بـ: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى ) (2) . فالشيخ ابن عربي والشارح

____________________

1) سورة النجم: 3 - 4.

2) سورة الأنفال: 17.

٢٠١

الكاشاني لو كانا عالمين بأُصول أهل البيت عليهم‌السلام لمَا قالا هذا، ولما نسبا الرسول المعصوم من الخطأ إلى الخطأ، ولما نسبا غيره إلى الصواب (1) .

ثمّ قال: فنسبة مثل هذا من الشيخ الحاتمي - والشُرّاح - إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سوء أدب وإهمال من جانبه.

وأمّا الشارح الثالث، وهو داود القيصري - وكان تلميذاً لعبد الرزّاق الكاشاني المذكور -، فهو قد أخذ بطرف النقيض والتعصّب، وقال: ... وأمثال هذه المهملات - من غير تمسّكٍ إلاّ بقول الشيخ - لا يُعتد بها. ثمّ نقل قول ابن عربي في كون علماء الظاهر، من الأئمّة الأربعة، لهم الوراثة في التشريع، وأنّ الوراثة لباطن الشرع مخصوصة لعلماء الباطن العالمين بأسرار الحقيقة.

فردّ عليه السيد حيدر بقوله: وقط ما التفت في ذلك إلى ذكر أهل البيت عليهم‌السلام وعِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين والمهدي عليهم‌السلام ، الذين هم ورثته حقيقةً من غير خلاف كما سبق ذكره من قول اللَّه وقول النبيّ، والحال أنّ الأئمّة الأربعة ليسوا بقائلين لأنفسهم بالعلوم الإرثية بل الاجتهادية الكسبية، كما أشار إليه الشيخ (الحاتمي) أيضاً. وبناءً على هذا، كيف يصدق اسم الإرث على الكسب، وبالعكس؟

هذا بحسب العلوم الظاهرة ونسبتها إلى الأئمّة الأربعة. وأمّا بحسب العلوم الباطنة ونسبتها إلى العارفين، فهم - أي: أهل البيت عليهم‌السلام - أولى، وأقدم، وأليق، وأنسب، كما بيّنا في انتساب جميع العلوم إليهم قبل هذا، وكذلك المشايخ والعارفون فإنّهم - بأسرِهم - منسوبون إليهم صورةً ومعنى. وبالجملة، فكلّ من يكون عِلمه حاصلاً بالكسب من الأُستاذ، والشيخ، بطريق التعليم والتعلّم فليس بإرثٍ أصلاً، وكلّ من

____________________

1) نص النصوص في شرح فصوص الحكم، ص 332، طبعة طهران.

٢٠٢

يكون علمه حاصلاً بالكشف والشهود.

والعجب كلّ العجب، أنّ أمثال هؤلاء يدّعون الكشف والعرفان ويحصل منهم مثل هذا الكلام. أمّا القيصري فقد عرفتَ خَبْطه ومهملاته، وأمّا الشيخ (الحاتمي) فإنّه حيث كان يعرف أنّ عيسى عليه‌السلام ينزل في آخر الزمان ويحضر عند المهدي، ويكون تابعاً له ولجدّه في النبوّة والولاية، فنقول:

كيف حكم أنّه خاتم الولاية المطلقة مع وجود عليّ عليه‌السلام بما ثبت (أي: الذي ثبت) له استحقاق هذه الصورة نقلاً، وعقلاً، وكشفاً، وبقوله أيضاً؟ وحيث كان عارفاً بحال المهدي عليه‌السلام إلى هذه الغاية التي ذكرها، وخصّ به الختمية للولاية المقيّدة المحمّدية، كيف كان ينسبها إلى نفسه، ويجزم بذلك بعقله. والعجب أنّه يثبت هذا المقام لنفسه بحكم النوم! وقد ثبت هذا لغيره بحكم اليقظة، بمساعدة النقل والعقل والكشف، وأين النوم من اليقظة؟! و(أين) القياس من الدلائل العقلية، والشواهد النقلية، التي تطابق الكشف الصحيح؟! (1) .

وقال السيد حيدر في الكتاب المتقدّم - في معرض الردّ على دعوى بعض العُرفاء بأنّه خاتم الولاية المطلقة -: وهذا أمرٌ جليل، وشأنٌ عظيم، لا يستحقّه إلاّ الخاتم للولاية المطلقة الذي هو عليّ بن أبي طالب - صلوات اللَّه عليه - فلينظر العاقل إلى هذا المنصب الرفيع ويحكم بما يرى فيه، والحقّ جلّ ذكره ما اكتفى بهذا حتّى قال: ( أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (2) ؛ لأنّ ( َأُوْلِي الأَمْرِ ) في الدين لا يجوز (إلاّ) أن يكون (من) الأولياء، قائماً بأوامر دين اللَّه وإجراء أحكام نبيّه، شريعةً، وطريقةً، وحقيقةً، ولا يجوز أن يكون (مثل هذا الولي) إلاّ معصوماً في نفسه منصوصاً (عليه) من عند اللَّه؛ لأنّ متابعته ومطاوعته كمطاوعة

____________________

1) نصّ النصوص في شرح فصوص الحكم، ص 238، طبعة طهران.

2) سورة النساء: 59.

٢٠٣

اللَّه تعالى ومطاوعة رسوله، ومطاوعتهما واجبةٌ شرعاً وعقلاً، فتكون مطاوعة أُولي الأمر كذلك، وكلّ من يأمر الحقّ بمطاوعته على سبيل الوجوب، لو لم يكن في نفسه معصوماً ومنصوصاً (عليه) من عند اللَّه سبحانه، يلزم أن يكون هو سبحانه آمراً بمطاوعة من يكون جائز الخطأ، وهذا غير جائز عقلاً؛ لأنّ الأمر بالقبيح قبيح (1) .

وقال: فلم يبقَ إلاّ أن يكون المراد (بأُولي الأمر) الإمام المعصوم الذي لا تصدر عنه صغيرة ولا كبيرة من الصِغَر إلى الكبر؛ لئلاّ يلزم الإخلال بالواجب منه تعالى ومن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . ومع ذلك، فمعَنا تقسيمٌ عقلي وقانون كليّ نرجع إليهما.

ثمّ استدلّ على لزوم كونه معصوماً معلوماً معيناً، أي منصوصاً عليه (2) . وقال: وأعظم الدليل على ذلك علمه (أي: المهدي) بالقرآن على ما هو عليه، وليس للشيخ (ابن عربي) ولا لغيره هذا، حتّى قالوا (إنّه) لا يقرأ القرآن على ما هو عليه إلاّ المهدي إذا ظهر، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كتاب اللَّه وعِترتي) يشهد بذلك، لأنّه جعلهما توأمين، وقال: (لا يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض)، وقال بعبارة أُخرى: (إنّ أولى الناس بكتاب اللَّه: أنا وأهل بيتي من عِترتي). وعند التحقيق: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (3) إشارة إليه (أي: إلى المهدي - عليه‌السلام -) وإلى أجداده المعصومين عليهم‌السلام .

وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من أراد علوم الأوّلين والآخرين فعليه بالقرآن) يشهد بصدق هذا كلّه، وليس الشيخ (ابن العربي) وإن كان عالماً عارفاً في هذا المقام، أعني بأن يكون له الاطّلاع على أسرار القرآن على ما هو عليه في نفس الأمر. وإن قال:

____________________

1) نصّ النصوص في شرح فصوص الحكم: 189، طبعة طهران.

2) المصدر السابق.

3) سورة آل عمران: 7.

٢٠٤

أنا القرآن والسبع المثاني وروح الروح لا روح الأواني (1) .

وقال بعض العلماء في قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (2) الآية، فالظالم ها هنا من العباد هو: الذي ما أعطى حقّ كتاب اللَّه تعالى، وما حكم به. والمقتصد هو: الذي أعطى حقّه، وأقرّ به، وقام بما فيه بقدر وسعه. والسابق بالخيرات هو: الإمام المعصوم المنصوص (عليه)، المخصوص بهذا المقام. فافهم جيداً، واسمع قوله جلّ ذكره: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (3) ، ومن جملة ما أنزل اللَّه قوله تعالى: ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) ، وأنت لا تعطي عوض المودّة إلاّ المبَغَضَة، فكيف حكمت بالقرآن؟! وأقلّ المبغضة أنّك تنسب مرتبتهم وإمامتهم إلى الغير بغير حقّ، لا جَرَم صرت مُستحِقّ أن يُقال فيك: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (5) ، وأن يقال: ( أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ ) (6) ، ويقال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ) (7) ، هذا مضى وتلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت أمراً (8) .

____________________

1) نصّ النصوص في شرح فصوص الحكم، ص 249، طبعة طهران.

2) سورة فاطر: 32.

3) سورة المائدة: 47.

4) سورة الشورى: 23.

5) سورة المائدة: 45.

6) سورة هود: 18.

7) سورة البقرة: 161 - 162.

8) نصّ النصوص في شرح فصوص الحكم، ص 241.

٢٠٥

٢٠٦

القراءة الجديدة الثالثة في حديث الغدير:

ولايتهم السياسية المدنية

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ) (1) .

فبيّن تعالى أنّ الانقياد والطاعة، والتبعية السياسية في النظام الاجتماعي السياسي، لا تجوز ولا تحلّ لغير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر المعصومين عليهم‌السلام . وكلّ مُطاعٍ ومُنقاد له في النظام السياسي دونهم - بحيث لا يؤول إليهم - فهو طاغوت أُمِرَ بالكفر به، وإن كانت الآية غير خاصّة بالنظام السياسي، بل تعمّه وغيره؛ كما مرّ أنّه الصحيح من عموم مفاد الآية.

فالانتماء السياسي إلى أيّ جهة لا تنتسب إليهم عليهم‌السلام ، يُعد ذلك انتماءً إلى الطاغوت. فعلى صعيد الولاء السياسي واتّخاذ الهوية في الانتساب إلى أي نظام سياسي دونهم عليهم‌السلام غير منتسب إليهم، يُعدّ ذلك الانتماء ركون إلى حاكم الجور، وتحاكم إلى الطاغوت، وقد قال تعالى: ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِالله فَقَدِ

____________________

1) سورة النساء: 59 - 60.

٢٠٧

اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ) (1) .

وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (2) ، فإنّ الولوج في الانتماء السياسي إلى غير جماعة الحقّ التابعين لولاء اللَّه تعالى، وولاء رسوله، وولاء المؤمنين وهم أولي الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم أصحاب الأمر المتنزّل ليلة القدر، وهم الذي يرون أعمال العباد ويشهدونها كما في قوله تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (3) . وهذه الآية قد ذُكرت في سياق نفس الآية في سورة البراءة، ومن الظاهر أنّهم ليسوا عموم المؤمنين، بل خصوص أئمّة المؤمنين.

ومن ثمّ قُرّر في النصوص المستفيضة، والمتواترة الواردة في الفقه، وكذا في الفتوى، باباً بعنوان البغي والبغاة، المستمد من التشريع القرآني والسنّة القطعية، وعُنون في الفقه لدى كافّة المذاهب، فهو من الأبواب المتأصّلة في الفروع، وقد اتّفقوا على تعريفه بأنّه: الخروج عن طاعة الإمام العادل. وهذه مرتبة من مراتب ولاية إمام الحقّ.

وقد روى الفريقان بطرق عديدة: (إنّ من مات ولم يبايع إمام زمانه مات ميتةً جاهلية)، وفي بعض الروايات: (مَن مات وليس في عُنقه بيعة إمام مات ميتةً جاهلية). وقد روي بألفاظ أُخرى أيضاً.

ولا ريب أنّ مفاده لا ينطبق إلاّ على إمام الأصل وهو المعصوم علماً وعملاً؛ لأنّه لا يُتصوّر أن يكون شخصاً غير المعصوم له من الطاعة السياسية وغيرها ذات هذا

____________________

1) سورة البقرة: 256.

2) سورة التوبة: 16.

3) سورة التوبة: 105.

٢٠٨

الشأن، بحيث لا يموت المسلم والمؤمن على صفة الإسلام، ويكون موته ميتةً جاهلية، فطاعته هي الحدّ الفاصل بين الإسلام والكفر بلحاظ الأثر الأخروي، فهذا الشأن لا يكون إلاّ لمن اصطفاه اللَّه وطهّره من الأرجاس والذنوب، لا من يكون في معرض اقتراف المعاصي والكبائر، ولا يؤمن من الوقوع في سخط اللَّه وغضبه.

فمفاد الحديث النبويّ يقرّر: أنّ تولّي الإمام سياسياً، وطاعته في الحكم والانتماء إليه في الهوية السياسية، دخيل في الإيمان وصحّته والخروج عن حدّ الكفر القلبي الأُخروي. هذا فضلاً عن معرفة ذلك الإمام والاعتقاد والإيمان بإمامته، فالطاعة والولاء لحاكميته هي بهذا الشأن، فأيّ انتماءٍ وتحرّك وحركة، وهوية سياسية، لا تستند إلى إذن الإمام وأمره يكون خروج عن طاعته وتدبيره، وبغياً على ولايته السياسية. وهذا المفاد للحديث النبويّ يطابق مفاد الآية السابقة من لزوم إطاعة أُولي الأمر وحرمة التحاكم إلى غيرهم من الطواغيت.

وقد وردت الروايات المستفيضة بهذا المضمون، الدالّة على أنّ المسلم والمؤمن يجب عليه أن ينتمي ويعيش في ظلّ النظام السياسي المدبَّر من قبل المعصوم، سواء كان ذلك النظام السياسي بصورة الحكومة المعلنة رسمياً، كما في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعهد وصيّه عليه‌السلام ، وسبطه المجتبى عليه‌السلام ، أم بصورة الحكومة غير الرسمية في ظل النظام الإيماني، وهو نظام الطائفة الإمامية الاثنى عشرية الاجتماعي الذي بُني بيدهم عليه‌السلام .

ويندرج في هذا المقام عدّة أبواب في النظام السياسي، كباب الجهاد، من: حرمة الجهاد مع إمام لا يُؤمّن على الحكم ولا ينفِّذ في الفي‏ء أمر اللَّه عزّ وجلّ. وكبَاب القضاء، من: حرمة التحاكم إلى حكام الجور، وهو كلّ حاكم لم يستمد صلاحية قضائه من المعصوم. وكباب الفتوى أيضاً؛ وذلك لأنّ التقاضي والقضاء وصلاحية بيان القوانين الشرعية هما من شُعب سلطات النظام السياسي، واللازم

٢٠٩

فيه هو الانتظام في المنظومة التابعة والمنقادة للمعصوم وتدبيره، وبالتالي يتحقّق العيش في ظلّ حكومته وحاكميته، ولو بصورة نظام اجتماعي للطائفة والمذهب، وإن لم يكن بصورة نظام الدولة الرسمية.

وحينئذٍ يكون ذلك تمسّكاً وأخذاً بِحُجزَتِهم، وعيشاً في كنفهم، ومكثاً في ظلّهم السياسي، وتأديةً لحقوقهم. ومن ثمّ أشارت الآية السابقة إلى التناقض والتهافت بين دعوى الإيمان بما أنزل اللَّه، وبين العيش والانتماء السياسي في ظلّ الكيانات الجائرة التي لا تستمدّ مشروعيتها من اللَّه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك:

كقوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ) (1) . وقوله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (2) . وقوله تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) (3) ، وهذه الآية في ذيل الآية الأُولى.

فتبين الآيات الكريمة أنّ الإيمان لا يتمّ إلاّ بالولاء السياسي في كلّ شُعَبِه، من: القضاء، والتشريع، والتدبير، إلى من أعطت السماء له الصلاحية، ولا يكفي مجرّد المعرفة والإقرار بالقلب.

وهذا مقامٌ خطير من مقامات ولاية اللَّه وولاية رسوله وأُولي الأمر المطهّرين الذين أُمرنا بطاعتهم.

ويتّضح بذلك؛ أنّه يحتمل في قوله تعالى - في آية الغدير -: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (4) ، أنّ إكمال الدين حصل بالبيعة السياسية لأمير المؤمنين عليه‌السلام في غدير خُمّ؛ وإلاّ ففرض

____________________

1) سورة النساء: 60.

2) سورة المائدة: 50.

3) سورة النساء: 65.

4) سورة المائدة: 3.

٢١٠

الإقرار بإمامته، ومعرفته بالإمامة، وأخذ ذلك في حصول الإيمان القلبي قد حصل في يوم الدار عند نزول هذه الآية: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين َ ) (1) ، المعروف بحديث الدار، في الآيات والسور المكّية (2) فضلاً عن المدنية. فالتدرّج هو في بيان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لشعب الولاية ومراتبها؛ وإلاّ فأصل الولاية قد أُخذ ركناً في الإيمان والدين منذ أوائل البعثة، كما في سورة الشعراء، وجعل آدم خليفة أي إماماً، ومقام الإمامة في السور المكّية.

____________________

1) سورة الشعراء: 214.

2) آخر آية في سورة الرعد، وما في: آية 79، من سورة الواقعة. وسورة النحل، آية 89. ومجموع سور القدر، والنحل، والدخان، وغيرها.

٢١١

٢١٢

تلوّن الفقه بولايتهم عليهم‌السلام

موقعية الإمامة في بقية أركان الدين

قراءة جديدة في حديث: (مَن ماتَ ولم يعرف إمام زمانه ماتَ ميتةً جاهلية).

قد روى الفريقان، بنحوٍ مستفيض أو متواتر، حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن ماتَ ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية) (1) . وألفاظ الحديث في بعض الطرق: (مَن ماتَ وليس في عنقه بيعة لإمام ماتَ ميتة جاهلية) (2) .

والمتبادر من فقه هذا الحديث وجود أئمّة في هذه الأُمّة ولهذا الدين بهم يتقوّم الإيمان، وبمعرفتهم النجاة، وأنّ معرفتهم على حدّ معرفة بقية أُصول الدين؛ في كونها موجبة لحصول حقيقة الدين والديانة، وعدم تلك المعرفة موجب الخروج من حدّ الإيمان وحقيقة الإسلام إلى حدّ الكفر الأُخروي.

وأمّا مفاد الحديث على اللفظ الآخر وهو البيعة، والتي بمعنى الطاعة السياسية، فله معنى يتناول المعنى السابق وزيادة، حيث يبيّن الحديث على اللفظ الثاني (البيعة): أنّ الطاعة السياسية والقانونية للإمام دخيلة في تحقّق الإيمان، ومن ثمّ

____________________

1) مسند الطيالسي: ص259، طبعة حيدر آباد. وصحيح القتيري النيسابوري، ج8، ص107. وينابيع المودّة للقندوزي، ص117. وفي بعض طرق الحديث: (مَن مات بغير إمامٍ مات ميتة جاهلية).

2) مجمع الفائدة للمحقق الأردبيلي، ص 215.

٢١٣

ينفتح مسار آخر لقراءة الحديث بنحو أعمق، ألا وهو البحث في العلاقة بين الإمامة وبقية أركان الدين، ولك أن تعبّر: موقعية الإمامة في الأبواب الفقهية وفصول التشريع. كي نلاحظ ونتتبّع لون الولاء السياسي والقانوني للمعصوم عليه‌السلام . فلو أراد الباحث تصفّح التشريع في الأبواب:

فأوّلاً: في باب الاجتهاد والتقليد، فإنّ منصب الإفتاء والفُتيا للمجتهد والفقيه، منشعبةٌ صلاحيتُه من إذن وتخويل الإمام المعصوم، ويرشد إلى هذه الحقيقة أنّ الفُتيا ليست مجرّد إخبار محض كما هو الحال في نقل الراوي للرواية، بل هي سلطة تشريعية، لا بمعنى الصلاحية في تشريع الأحكام، بل بمعنى أنّ الفهم التخصّصي لاستنباط واستنتاج الأحكام هو قدرة في معرفة الأحكام وبيانها، وبالتالي فهي قدرة في الخطاب القانوني المؤثّر في المجتمع.

ومن ثمّ اعتُبرت السلطة القانونية إحدى سلطات الحكم السياسي الاجتماعي، ذات نفوذ وامتداد في المجتمع. ومن ثمّ كان منصب الفتوى - والذي هو أحد مناصب المرجعية الدينية - هو مسند ولاية نيابية، ينوب فيها الفقيه والمجتهد عن المعصوم، ضمن مجال محدود بالقياس إلى علم المعصوم اللدنّي. ويشير إلى ذلك قوله تعالى:

( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) ؛ حيث جعلت الآية موقعية الفقيه في طول نيابته عن المعصوم في حدود ما يتلقّاه عنه، فلا يُعقل إسناد هذا المنصب لغير المؤمن وغير العادل. وليس هو وِزان الرواية؛ حيث يُقبل فيها خبر الموثّق وإن لم يكن عادلاً.

وبعبارة أُخرى: لا يستنيب الإمامَ المعصوم مَن لا يأتمّ به، ولا يعتمد إمامته في هذا الدور من المنصب الخطير

____________________

1) سورة التوبة: 122.

٢١٤

في ‏الدين.

وكذلك الحال في منصب القضاء، والمناصب الأُخرى التي يقوم بها نيابة عن المعصوم في ضمن مجال محدود، بالقياس إلى صلاحيات المعصوم بسبب العصمة العلمية والعملية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (1) ؛ حيث جعل الأحبار - وهم العلماء - في‏ طول الربانيين، وهم الأوصياء المستحفظون، ينوبون عنهم في بعض حدود الصلاحيات.

فيُعلم من ذلك: أنّ صلاحيات نيابة الفقيه أو المجتهد كلّها منشعبة ومتعلّقة بالمعصوم وإمامته، فهذا الباب مرتبط عضوياً بشؤون الإمام المعصوم، فمن الغفلة بمكان بتر صلة هذا الباب، الذي هو باب الفتوى والقضاء وباب الحكم وباب الحدود ونحوها، عن الصلة بشؤون المعصوم، بدعوى أنّ الفتوى إخبار محض، أو أنّ القضاء ليس بتنصيب نيابي، بل هو عبارة عن قاضي التحكيم، أي بتراضٍ من الخصمين، وأنّ صلاحية نفوذ القضاء ناشئة من التزام وتوافق طرفي النزاع في الخصومة، أو أنّه ناشٍ من قاعدة الحُسبة، التي مؤدّاها استكشاف الجواز وإن لم يكن إذناً ولائياً ونيابة، بل هو جواز تكليفي محض وليس مؤدّىً حقوقياً، وبالتالي يكون التمسّك بقاعدة الحسبة تجاوز على ضرورة امتداد ولاية المعصوم إلى هذه المواقع، والحدّ من أياديه وشؤون تصرّفه وصلاحيات تصرّفه.

وكذلك ما يقال من تفسير صلاحية الحكم للفقيه والمجتهد، الناشئة من

____________________

1) سورة المائدة: 44.

٢١٥

انتخاب الأُمّة بمقتضى قاعدة الشورى بالمعنى المقلوب لها، بمعنى سلطة الأكثرية؛ لأنّ المعنى الأوّل - الصحيح - لها هو بمعنى المداولة الفكرية والاطّلاع والفحص المعلوماتي، واتّباع منهج الفحص العلمي الخبروي، والفرق الاستشارية التخصّصية في كلّ مجال.

وكذلك ما يقال من تفسير صلاحية الفقيه والحاكم من أنّها ناشئة من العقد والتعاقد بين الأُمّة والحاكم المسمّى بالبيعة. وكلّ هذه المباني تصبّ في بتر الصلة مع المعصوم، وتحديد صلاحياته وولايته أو تجميدها، وبالتالي هذه التنظيرات الفقهية تؤول إلى حسر المعصوم عن ولايته الفعلية وتجميدها، وتصوير المبني على تصوّر خاطئ، وهو عدم التصدّي الفعلي من قبل المعصوم للأمور، وبالتالي يؤول الأمر إلى تصوّرات اعتقادية خاطئة خطيرة في معرفة الإمام والإمامة، وإن كان هذا التلازم بين هذا التنظير الفقهي وهذه اللوازم الأُخرى هو تلازم نظري خفي مغفول عنه.

وقال الشيخ المفيد في المقنعة (1) في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (فأمّا إقامة الحدود: فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللَّه تعالى، وهم أئمّة الهدى من آل محمّد عليهم‌السلام ، ومن نصّبوه لذلك من الأمراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان، فمن تمكّن من إقامتها... ويجب على إخوانه من المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم، ما لم يتجاوز حدّاً من حدود الإيمان، أو يكون مطيعاً في معصية اللَّه تعالى به، لم يجز لأحدٍ من المؤمنين معونته فيه، وجاز لهم معونته بما يكون به مطيعاً للَّه تعالى، من إقامة حدٍّ، وإنفاذ حكم، على حسب ما تقتضيه الشريعة، دون ما خالفها من أحكام أهل الضلال... وليس لأحد من فقهاء الحقّ، ولا من نصّبه سلطان الجور منهم للحكم، أن

____________________

1) المقنعة: 810.

٢١٦

يقضي في الناس، بخلاف الحكم الثابت من آل محمّد عليهم‌السلام ، إلاّ أن يضطرّ لذلك؛ للتقية، والخوف على الدين والنفس... ومن لم يصلح للولاية على الناس لجهلٍ بالأحكام، أو عجزٍ عن القيام بما يُسند إليه من أُمور الناس، فلا يحلّ له التعرّض لذلك والتكلّف، فإن تكلّفه فهو عاصٍ غير مأذون له من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولايات، ومهما فعله في تلك الولاية فإنّه مأخوذ به، محاسب عليه ومطالب فيه بما جناه، إلاّ أن يتّفق له عفو من اللَّه تعالى، وصفحٌ عمّا ارتكبه من الخلاف له، وغفران لما أتاه) . انتهى.

ثانياً: في باب العبادات ، فإنّ مشهور علماء الإمامية بنوا على شرطية الإيمان والمعرفة بالأئمّة في صحّة العبادات، وقد ساقوا في ذلك أدلّة قرآنية وروائية (1) ، وهي:

الآيات التي تدلّ على حبط العمل من دون الإيمان، نظير ما وقع في قصّة إبليس اللعين، حيث حبطت عبادته الطويلة الأمد بتركه ولاية وليّ اللَّه وخليفته.

وكذا قوله تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) (2) . وقوله تعالى: ( وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) (3) . وقوله تعالى: ( وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (4) . وقوله تعالى في وصف حال الذين في قلوبهم مرض: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (5) . وقد فسّر الباري المرض في القلوب بالضغينة حينما قال: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ) (6) ، وهي في قِبال مودّة القربى المفترضة، إلاّ أنّ بعض متأخّري هذا العصر احتملوا أنّ غاية مفاد تلك الأدلّة هي نفي القبول والثواب

____________________

1) أبواب مقدّمات العبادات، باب 29، وقد تقدّم بسط الكلام في ذلك.

2) سورة طه: 82.

3) سورة المائدة: 5.

4) سورة هود: 16.

5) سورة محمّد: 9.

6) سورة محمّد: 29.

٢١٧

الأُخروي، لا صحّة العمل بلحاظ سقوط العقوبة، وإن لم يعتمدوا على مجرّد هذا الاحتمال في صحّة نيابة غير المؤمن في ‏العبادة. ولا يخفى أنّ هذا البحث شامل للاعتقاديات أيضاً، من الأيمان بالتوحيد والنبوّة والمعاد، كما أشرنا إليه في مقالة سابقة.

فيتأتّى القولان في ذلك أيضاً، وإن كان في تسمية الاحتمال الثاني قولاً مسامحةٌ، فعلى قول المشهور لا يكون ذلك الاعتقاد بأُصول الدين من دون الولاية لخليفة اللَّه سالماً صحيحاً، بل منطوياً على نِمْطٍ من الشرك والكفر، كالذي حصل لإبليس مع إقراره بالربوبية والمعاد، حيث طلب الإنظار إلى يوم البعث، وكذلك كان مقرّاً بنبوّة آدم وتفضيله عليه إلاّ أنّه حيث كان غير منقاد لولاية خليفة اللَّه، لم يكن إيمانه صحيحاً، ولم ينجه من مصير الخلود في النار.

وأمّا على القول الآخر، فيكون الإقرار متحقّقاً، ولا يُعاقب على التوحيد والنبوّة والمعاد، وإن عوقب على ترك الإقرار والإيمان بالولاية، لكنّه لا يُثاب على ما قد أقرّ به من التوحيد والنبوّة والمعاد من أُصول الدين.

ومحصّل الفرق بين القولين: إنّه على قول المشهور يبطل جميع أعمال التارك للولاية والإيمان، سواء البدنية أو القلبية الاعتقادية، فيعاقب على تركها، لأنّه قد أتى بها بنحو فاسد خاطئ، وبالعكس على القول الآخر، فإنّه لا يعاقب على ما أقرّ به من أُصول الدين، بل غايته أنّه لا يثاب عليها، وغاية ما يعاقب عليه على هذا القول يقتصر على ترك ولاية وليّ اللَّه.

فبين القولين جهات من الفرق واضحة، فعلى القول الثاني تضعف شدّة لون ولاية الإمام في الأعمال، بخلافه على القول الأوّل؛ فإنّ التركيز فيه واضح، وباب العبادات أحد الأقسام الأربعة لمجموع الفقه.

٢١٨

الضريبة المالية:

ثالثاً: الخمس، وهو وإن كان من العبادات، إلاّ أنّ الكلام فيه من حيثية أُخرى، وهي جواز التصرّف فيه بإيصاله إلى المصارف الشرعية. وقد اختلفت التخريجات في ذلك، فمن تخريج أنّه من باب مجهول المالك، ومن ثمّ يحتاط بالتصدّق به عنه(عج) عند صرفها في المصارف الشرعية. فيكون مستند جواز التصرّف حكم مجهول المالك، لا المأذونية المنشعبة من ولاية الإمام عليه‌السلام .

وقيل: بجواز التصرّف والإيصال إلى المصارف الشرعية من باب أنّ الخمس هو لمقام الحاكم والحكومة، وإن كان بعض مصارفه الذرّية من بني هاشم - زادهم اللَّه شرفاً -. وعلى ذلك، فكلّ من يتصدّى للحكم الشرعي يسوغ له التصرّف، وإن كانت صلاحية حكمه قد انبثقت من ولاية الأُمّة على نفسها، وبالتالي فلا يكون التصرّف في الخمس بأذنٍ منه عليه‌السلام ، بل ولا تكون ولايته على الخمس فعلية حينئذٍ.

وقيل: تخريج الجواز المزبور من باب الحسبة؛ إذ الأصل عدم ثبوت ولاية نيابية للمجتهد من قبل المعصوم. إلى غيرها من التخريجات التي تبتني على عدم استفادة الجواز من المأذونية منه (عج) باعتبار ولايته على الخمس.

فهي إمّا تعطّل ذات الولاية التي له (عج)، أو تعطّل آثار الولاية، مع أنّ جعل الخمس بنصّ الآية، وكذلك الفي‏ء، هو لذي القربى المعصومين؛ لمكان التعليل في آية الفي‏ء بإقامة العدالة المالية في المجتمع، قال تعالى: ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ) (1) ، حيث إنّ إرساء العدالة يتوقّف على العلم اللدنّي التامّ، المحيط بنظم المال والنقد والاقتصاد، وغيرها من المنابع والحقول المالية وموارد البيئة

____________________

1) سورة الحشر: 7.

٢١٩

الأُخرى لتداول المال، كما يتوقّف على علوم الإدارة والتدبير الثاقبة، وعلى الأمانة البالغة لدرجة العصمة العملية.

فالولاية للخمس والفي‏ء خاصّة به (عج)، وولايته فعلية غير معطّلة، إلى أن يرث اللَّه الأرض ومَن عليها، وكلّ صلاحية ومأذونية يجب أن تكون من قبل شخصه الشريف، نظير التوقيع الشريف: (أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)، ونحو ذلك مما يستشفّ منه المأذونية.

وقد يُظنّ أنّ قاعدة الحسبة أوفق بالاحتياط، حيث إنّها مبتنية على عدم ثبوت النيابة للمجتهد من قبل المعصوم، وإنّ ما يتصدى له المجتهد من الأُمور العامّة إنّما هو من باب الجواز التكليفي المحض، لا المأذونية النيابية، وفي الحقيقة فإنّ قاعدة الحسبة في أصلها مبنية - كما هي لدى جمهور أهل سنّة الجماعة - على عدم وجود المنصوب للولاية العامّة بالنصّ الإلهي، فيتمسّك لجواز التصرّف بتقرير مقدّمات الحسبة، فمؤدّى الحسبة في الحقيقة مبنية على عدم لزوم تولّد الجواز من قبل إذنه (عج)، وبالتالي عدم انحصار انشعاب المأذونية من ولايته.

السلطة في النظام العالمي:

رابعا ً: الجهاد الابتدائي، فإنّه قد أطبقت الإمامية على اختصاص هذا المقام بالإمام المعصوم عليه‌السلام ، حيث إنّ الجهاد الابتدائي في لغة القانون الوضعي الحديث يوازي ويعادل الوصاية على المجتمعات البشرية، والنظام المدني العالمي الموحّد، لإرساء العدالة العالمية في جميع أرجاء الكرة الأرضية في نظام موحّد عالمي، ويكون بيده القرار الأوّل في مصير البشرية. وهذا مقام حسّاس خطير لا يتأهّل له غير المعصوم، فمن الغريب بعد ذلك التمسّك بذيل قاعدة الحسبة وتقرير مقدّمات لتصوير جواز التصدّي لغير المعصوم لهذا الشأن والمقام الخطير.

٢٢٠