الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141420 / تحميل: 8973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

٢٠٥ ـ رواية الحسن بن كثير :

وقد روى الحسن بن كثير وعبد خير ، قالا : لما وصل عليعليه‌السلام إلى كربلا وقف وبكى ، وقال : بأبي أغيلمة يقتلون ههنا. هذا مناخ ركابهم ، هذا موضع رحالهم ، هذا مصرع الرجل.

ـ رواية أخرى :(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ ص ١٧١)

عن الحسن بن كثير ، عن أبيه ، أن علياعليه‌السلام أتى كربلاء ، فوقف بها ، فقيل له :

يا أمير المؤمنين ، هذه كربلاء. فقال : ذات كرب وبلاء. ثم أومأ بيده إلى المكان ، فقال : ههنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم.

ثم أومأ بيده إلى مكان آخر ، فقال : ههنا مهراق دمائهم. ثم مضى إلى ساباط.

٢٠٦ ـ شهداء كربلاء مثل شهداء بدر (رض):

(أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ، ج ٤ ص ١٤٣)

في منتخب كنز العمال عن الطبراني في الكبير ما لفظه عن شيبان بن محرم ، قال :إني لمع عليعليه‌السلام إذ أتى كربلاء ، فقال : يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم إلا شهداء بدر.

ـ شهداء كربلاء لا يسبقهم سابق :(المنتخب للطريحي ، ص ٨٧)

عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : مر أمير المؤمنينعليه‌السلام بكربلاء ، فبكى حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، وقال : هذا مناخ ركابهم ، هذا ملقى رحالهم ، ههنا تراق دماؤهم. طوبى لك من تربة عليها يراق دم الأحبة. مناخ ركاب ومنازل شهداء ، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من كان بعدهم.

٢٠٧ ـ إخبار عليعليه‌السلام أن الحسينعليه‌السلام يقتل وموضع ذلك ، وما في ذلك من معجزات :(مدينة المعاجز لهاشم البحراني ، ص ١٢٠)

روى الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس ، قال : كنت مع عليعليه‌السلام في خروجه من صفين. فلما نزلنا نينوى ـ وهي بشط الفرات ـ قال بأعلى صوته : يابن عباس أتعرف هذا الموضع؟ قلت : لا أعرفه يا أمير المؤمنين. فقال عليعليه‌السلام : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي لبكائي. قال فبكىعليه‌السلام طويلا حتى اخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معه ، وهو يقول : أوه أوه ، مالي

٢٢١

ولآل أبي سفيان مالي ولآل حزب الشيطان وأولياء الكفر. صبرا صبرا يا أبا عبد الله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم. ثم دعا بماء فتوضأ وضوء الصلاة ، فصلى ما شاء الله أن يصلي.

وذكر نحو كلامه ، إلا أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ، ثم انتبه فقال :يابن عباس. قلت : ها أنذا. فقال : ألا أحدثك عما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي؟ فقلت : نامت عينك ورأيت خيرا يا أمير المؤمنين. قالعليه‌السلام : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلدوا سيوفهم ، وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطة. ثم رأيت كأن النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض ، تضرب بدم عبيط (أي طري) ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي ، قد غرق فيه ، يستغيث فلا يغاث. وكأن الرجال البيض (الذين) نزلوا من السماء ، ينادونه ويقولون : صبرا آل الرسول ، فإنكم تقتلون على يدي شرار الناس ، وهذه الجنة يا أبا عبد الله مشتاقة إليك. ثم يعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشروا فقد أقرّ الله عينك يوم يقوم الناس لرب العالمين. ثم انتبهت هكذا.

والذي نفس علي بيده ، لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أني سأمر بها في خروجي إلى أهل البغي علينا. وهي أرض كرب وبلاء ، يدفن فيها الحسينعليه‌السلام وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمةعليها‌السلام . وإنها لفي السموات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس. ثم قال : يا بن عباس ، اطلب حولها بعر الظباء ، فو الله ما كذبت ولا كذبت ، وهي مصفرة ، لونها لون الزعفران. فطلبتها فوجدتها مجتمعة. فناديته : يا أمير المؤمنين قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي. فقال عليعليه‌السلام : صدق الله ورسوله.

ـ قصة مرور عيسىعليه‌السلام بكربلاء :

ثم قام عليعليه‌السلام يهرول حتى جاء إليها فحملها وشمها ، وقال : هي هي ، أتعلم يابن عباس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمها عيسى بن مريم ، وذلك أنه مرّ بها ومعه الحواريون ، فرأى ههنا ظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسىعليه‌السلام وجلس الحواريون. فبكى وبكى الحواريون ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى. فقالوا : يا روح الله وكلمته ما يبكيك؟ قال : أتعلمون أي أرض هذه ، هذه أرض من يقتل فيها

٢٢٢

فرخ رسول الله أحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرخ الحرة الطاهرة البتول ، شبيهة أمي ، ويلحد فيها أطيب من المسك ، لأنها طينة الفرخ المستشهد ، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء. فهذه الظباء تكلمني وتقول : انها ترعى هذه الأرض شوقا إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض.

ثم ضرب بيده البعيرات فشمها ، وقال : هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها. اللهم فأبقها أبدا حتى يشمها أبوه ، فتكون له عزاء وسلوة. فبقيت إلى يومنا هذا وقد اصفرت لطول زمنها ، وهذه أرض كرب وبلاء.

ثم قال بأعلى صوته : يا رب عيسى بن مريم ، لا تبارك في قتلته والمعين لهم والخاذل له. ثم بكى طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا. ثم أفاق فأخذ البعر فصّره في ردائه وأمرني أن أصرها كذلك.

ثم قال : يابن عباس ، إذا رأيتها تتفجر دماء عبيطا ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبد اللهعليه‌السلام قد قتل بها ودفن.

قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشد من حفظي لما افترض اللهعزوجل علي ، وأنا لا أحلها من طرف كمي. فبينا أنا نائم في البيت فإذا هي تسيل دما عبيطا ، وان كمي قد امتلأ دما عبيطا. فجلست وأنا باك ، وقلت : قتل والله الحسين ، والله ما كذبني قط في حديث ، ولا أخبر بشيء أن يكون إلا كان كذلك ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره. ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين. ثم طلعت الشمس فرأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط. فجلست وأنا باك ، وقلت قتل والله الحسينعليه‌السلام .

وسمعت صوتا من ناحية البيت ، وهو يقول : اصبروا آل الرسول قتل الفرخ النحول ، نزل الروح الأمين ببكاء وعويل. ثم بكى بأعلى صوته وبكيت. فأثبتّ عندي تلك الساعة ، وكان شهر محرم يوم عاشور لعشر مضين منه ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره ، وتاريخه كذلك. فحدثت بهذا الحديث الذين كانوا معه فقالوا :والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ، ولا ندري ما هو. قلت : أترى أنه الخضرعليه‌السلام .

٢٢٣

٢٠٨ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام حين مر بكربلاء وهو سائر إلى صفين :

(وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ١٤٠ ط ٢)

قال نصر بن مزاحم : حدثني مصعب بن سلام عن هرثمة بن سليم ، قال :غزونا مع علي بن أبي طالبعليه‌السلام غزوة صفين. فسار حتى انتهى إلى كربلاء ، فنزل إلى شجرة فصلى إليها ، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ، ثم قال : واها لك أيتها التربة ، ليحشرن منك (وفي رواية : ليقتلن بك) قوم يدخلون الجنة بغير حساب.

فلما رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته ـ وهي جرداء بنت سمير ، وكانت شيعة لعليعليه‌السلام ـ فقال لها زوجها هرثمة : ألا أعجّبك من صديقك أبي الحسن؟ لما نزلنا كربلا رفع إليه من تربتها فشمها ، وقال : «واها لك يا تربة ، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب». وما علمه بالغيب؟! فقالت : دعنا منك أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين لم يقل إلا حقا.

فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن عليعليه‌السلام وأصحابه ، قال هرثمة : كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم ، فلما انتهيت إلى القوم وحسين وأصحابه ، نظرت إلى الشجرة ، فذكرت الحديث وعرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع عليعليه‌السلام ، والبقعة التي رفع إليه من ترابها ، والقول الذي قاله ، فكرهت مسيري. فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسينعليه‌السلام ، فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل.

فقال الحسينعليه‌السلام : فأنت معنا أم علينا؟ فقلت : يابن رسول الله لا معك ولا عليك. تركت أهلي وولدي وعيالي ، أخاف عليهم من ابن زياد.

فقال الحسينعليه‌السلام : فولّ في الأرض هربا حتى لا ترى لنا مقتلا ، فو الذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلا أدخله الله النار. قال هرثمة :فأقبلت في الأرض هاربا حتى خفي علي مقتله.

ملاحظة : هذه الفقرة هي جمع عدة روايات مع بعض ، إحداها وردت في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٣ ص ١٦٩ ط مصر ـ تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم.

٢٠٩ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام بما سيحدث في كربلاء :

(المصدر السابق ، ص ١٤١)

حدّث نصر بن مزاحم عن مصعب بن سلام عن سعيد بن وهب ، قال : بعثني

٢٢٤

مخنف بن سليم إلى عليعليه‌السلام عند توجهه إلى صفين. فأتيته بكربلاء ، فوجدته يشير بيده ويقول : ههنا! فقال له رجل : وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال : ثقل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل ههنا ، فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم!.

فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال (ويل لهم منكم) تقتلونهم ، (وويل لكم منهم) يدخلكم الله بقتلهم إلى النار.

٢١٠ ـ حديث الإمام الحسنعليه‌السلام عن مصرع أخيه الحسينعليه‌السلام :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٣٨ ط نجف)

روى الإمام الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال : دخل الحسين على أخيه الحسنعليهما‌السلام يوما ، فلما نظر إليه بكى. فقال له الحسنعليه‌السلام : ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال :أبكي لما يصنع بك. فقال له الحسنعليه‌السلام : إن الذي يؤتى إليّ سم يدس إلي فأقتل به(١) ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينتحلون بك الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء دما ورمادا ، ويبكي عليك كل شيء ، حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار.

٢١١ ـ إخبار الحسينعليه‌السلام بمقتله :

عن معاوية بن قرة قال : قال الحسينعليه‌السلام : والله ليعتدن عليّ كما اعتدت بنو اسرائيل في السبت.

قال : وأنبأنا علي بن محمد ، عن جعفر بن سليمان الضبعي ، (قال) قال الحسينعليه‌السلام : والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة.

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف ، ص ١٤.

٢٢٥

أخبار أخرى

٢١٢ ـ ورود سلمان (رض) كربلاء :

(وسيلة الدارين في أنصار الحسين للسيد إبراهيم الزنجاني ، ص ٧١)

في الخبر عن المسيب بن نجبة الفزاري ، قال : خرجت أستقبل سلمان الفارسي حين أقبل من المدينة إلى المدائن. فلما وصل إلى كربلاء تغير حاله وبكى ، وقال :هذه مصارع إخواني. هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم. يقتل بها خير الأولين وابن خير الآخرين.

٢١٣ ـ إخبار أبي ذر الغفاري بمقتل الحسينعليه‌السلام ونتائج ذلك :

(الإرشاد للشيخ المفيد ، ص ٢٣٦)

في (كامل الزيارة) عن عروة بن الزبير ، قال : سمعت أبا ذر ، وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة ، فقال له الناس : يا أبا ذر أبشر ، فهذا قليل في الله. فقال ما أيسر هذا ، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن عليعليه‌السلام قتلا (أو قال : ذبح ذبحا)؟. والله لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة (يعني علي بن أبي طالب) أعظم قتيلا منه. وإن الله سيسل سيفه على هذه الأمة لا يغمده أبدا. ويبعث ناقما من ذريته فينتقم من الناس. وإنكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار ، وسكان الجبال في الغياض والآكام ، وأهل السماء من قتله ، لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم. وما من سماء يمر بها روح الحسينعليه‌السلام إلا فزع له سبعون ألف ملك ، يقومون قياما ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة. وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله. وما من يوم إلا وتعرض روحه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيلتقيان.

٢١٤ ـ ملازمة رجل من بني أسد أرض كربلاء :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ، ص ٢١٢)

قال العريان بن الهيثم : كان أبي يتبدى فينزل قريبا من الموضع الذي كانت فيه معركة الحسينعليه‌السلام . فكنا لا نبدو إلا وجدنا رجلا من بني أسد هناك. فقال له أبي : أراك ملازما هذا المكان!. قال : بلغني أن حسيناعليه‌السلام يقتل ههنا ، فأنا أخرج إلى هذا المكان ، لعلي أصادفه فأقتل معه.

قال ابن الهيثم : فلما قتل الحسينعليه‌السلام قال أبي : انطلقوا بنا ننظر ، هل الأسدي فيمن قتل مع الحسينعليه‌السلام . فأتينا المعركة وطوّقنا ، فإذا الأسدي مقتول.

٢٢٦

(أقول) لعل هذا الشهيد هو أنس بن الحرثرحمه‌الله . وهذا درس يعلمنا أن المؤمن النبيه يسعى نحو الحق حتى يدركه ، فينال أعلى درجات السعادة والكرامة ، كما فعل أنس بن الحرث الأسدي.

٤ ـ أخبار بمن يقتل الحسينعليه‌السلام

٢١٥ ـ الحسينعليه‌السلام يخبر بأن عمر بن سعد سيقتله :

(كشف الغمة ٢ / ٩ وإرشاد المفيد ص ٢٨٢ والبحار ٤٤ / ٢٦٣)

روى سالم بن أبي حفصة ، (قال) قال عمر بن سعد للحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، إن قبلنا أناسا سفهاء يزعمون أني أقتلك. فقال له الحسينعليه‌السلام : إنهم ليسوا سفهاء ، ولكنهم حلماء. أما إنه يقر عيني أن لا تأكل من برّ العراق بعدي إلا قليلا.

٢١٦ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام بأن عمر بن سعد يقتل ابنه الحسينعليه‌السلام :

عن الأصبغ بن نباتة ، قال : بينا أمير المؤمنينعليه‌السلام يخطب الناس ، وهو يقول :سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء مضى ولا شيء يكون إلا أنبأتكم به. فقام إليه سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة. فقال : أما والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنك ستسألني عنها. وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ابني الحسينعليه‌السلام . وكان عمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه.

(أقول) : فلما كان من أمر الحسينعليه‌السلام ما كان ، تولى عمر بن سعد قتل الحسينعليه‌السلام ، وكان الأمر كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وفي رواية (الإرشاد) للمفيد ص ٢٠ قال له عليعليه‌السلام :

وآية ذلك مصداق ما خبّرتك به. ولو لا أن الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكن آية ذلك ما أنبأتك به من لعنتك وسخلك الملعون.

قال ابن سيرين : وقد ظهرت كرامات علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذا ، فإنه لقي قاتل الحسينعليه‌السلام وهو شاب ، فقال : ويحك ، كيف بك إذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار؟

وسيرد هذا الخبر عند الحديث عن عمر بن سعد ، الذي تولى قيادة الجيش لقتال

٢٢٧

الحسينعليه‌السلام ، وقد نصحه الحسينعليه‌السلام كثيرا ، ولكن حب الدنيا أعمى قلبه.

تنبيه حول السائل :ذكر فخر الدين الطريحي في (المنتخب) ص ١٦٦ : أن الذي سأل الإمامعليه‌السلام : كم شعرة في رأسي ، هو يزيد والد خولي بن يزيد الأصبحي.ولعل بعض الروايات تشير إلى أنه سنان بن أنس ، والله أعلم.

يقول العلامة المجلسي في البحار ، ج ٤٤ ص ٢٥٧ : لا يخفى ما في الحديث من تسمية الرجل السائل المتعنت بأنه سعد بن أبي وقاص ، حيث أن سعد بن أبي وقاص اعتزل عن الجماعة وامتنع عن بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاشترى أرضا واشتغل بها ، فلم يكن ليجيء إلى الكوفة ويجلس إلى خطبة الإمام عليعليه‌السلام .ومن جهة أخرى إن عمر بن سعد قد ولد في السنة التي مات فيها عمر بن الخطاب وهي سنة ٢٣ ه‍ فكان عمره حين خطب الإمامعليه‌السلام هذه الخطبة بالكوفة غلاما بالغا أشرف على العشرين ، لا أنه سخل في بيته.

ولما كان أصل القصة مسلمة مشهورة ، عدل الشيخ المفيد في (الإرشاد) عن تسمية الرجل ، وتبعه الطبرسي في (إعلام الورى) ص ١٨٦. ولعل الصحيح ما ذكره ابن أبي الحديد ، حيث ذكر الخطبة في شرحه على النهج ، ج ١ ص ٢٥٣ عن كتاب (الغارات) لابن هلال الثقفي عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد الباقرعليه‌السلام وقال في آخره : والرجل هو سنان بن أنس النخعي.

٢١٧ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزيد هو قاتل الحسينعليه‌السلام :

أخرج الطبراني عن معاذ بن جبل ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يزيد ، لا بارك الله في يزيد. نعي إليّ الحسينعليه‌السلام وأتيت بتربته ، وأخبرت بقاتله. والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه ، إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا (أي جماعات متفرقين).

وأخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ : يزيد ، لا بارك الله في يزيد ، الطّعان اللعّان ، أما إنه نعي إلي حبيبي وسخلي حسين ، أتيت بتربته ورأيت قاتله. أما إنه لا يقتل بين ظهراني قوم فلا ينصرونه ، إلا عمّهم الله بعقاب.

وأخرج أبو يعلى عن أبي عبيدة (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية ، يقال له : يزيد.

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والروياني والحافظ أبوبكر محمد بن اسحق ابن

٢٢٨

خزيمة السلمي النيسابوري والبيهقي وابن عساكر والضياء ، عن أبي ذر ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية. وزاد الروياني : يقال له يزيد.

٢١٨ ـ رواية أخرى :

(معجم الطبراني ص ١٣٠ ومقتل الخوارزمي ص ١٦٠ وكنز العمال ١٣ / ١١٣ وأمالي الشجري ص ١٦٩)

في معجم الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن معاذ بن جبل أخبره قال :خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متغير اللون ، فقال : أنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوتيت فواتح الكلام وخواتمه ، فأطيعوني ما دمت بين أظهركم ، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب اللهعزوجل ، أحلوا حلاله وحرموا حرامه ، (فإذا) أتتكم الموتة أتتكم بالروح والراحة.كتاب الله من الله سبق ، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، كلما ذهب رسل جاء رسل ، تناسخت النبوة فصارت ملكا. رحم الله من أخذها بحقها ، وخرج منها كما دخلها.

أمسك يا معاذ واحص!. قال : فلما بلغت خمسة ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يزيد ، لا بارك الله في يزيد. ثم ذرفت عيناه. ثم قال : نعي إلي حسين ، وأوتيت بتربته ، وأخبرت بقاتله. والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه ، إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا.

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : واها لفراخ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف.

أمسك يا معاذ. فلما بلغت عشرة ، قال : الوليد(١) اسم فرعون ، هادم شرائع الاسلام ، يبوء بدمه رجل من أهل بيته ، يسل الله سيفه فلا غماد له ، ويختلف الناس فكانوا هكذا ، وشبك بين أصابعه.

ثم قال : وبعد العشرين والمائة موت سريع وقتل ذريع ، فيه هلاكهم ، ويلي عليهم رجل من ولد العباس.

__________________

(١) لعل المقصود به الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وهو الذي مزّق القرآن وقال :

تهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل : يا ربّ مزّقني الوليد

٢٢٩
٢٣٠

الفصل السادس

المآتم الحسينيّة

١ ـ إقامة ذكرى الحسينعليه‌السلام والحزن عليه

ـ إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام

٢ ـ فضل البكاء والحزن على الحسينعليه‌السلام

٣ ـ إقامة ذكرى الحسينعليه‌السلام ومراسم الحزن يوم عاشوراء

ـ اتخاذ بني أمية يوم عاشوراء يوم عيد وفرح

ـ أحاديث موضوعة في فضل يوم عاشوراء وأنه عيد

ـ هل يجوز صيام يوم عاشوراء؟

٤ ـ فلسفة المآتم الحسينية

٢٣١
٢٣٢

الفصل السادس

المآتم الحسينيّة

* مقدمة الفصل :

لا يخفى أن مصيبة الحسينعليه‌السلام الكبيرة قد أقضّت مضجع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحوذت عليه كل اهتمامه. فلا عجب إذا رأيناه يقيم المأتم على الحسينعليه‌السلام منذ مولده ، وفي عدة مناسبات من حياته. وعلى ذلك سار الأئمة الأطهار ودعوا كل من شايع الحسينعليه‌السلام إلى إقامة الحزن والعزاء عليه في كل مكان وزمان ، ولا سيما يوم العاشر من المحرم ، حتّى صار شعارهم :

«كل أرض كربلا ، وكل يوم عاشورا»

في حين كان بعض المسلمين عمدا أو جهلا يقيمون الفرح في ذلك اليوم ، جريا على السنّة التي اختطها لهم بنو أمية من غابر الزمان.

وسوف نتكلم في هذا الفصل حول إقامة المآتم الحسينية ، ثم فضل الحزن والبكاء على الحسينعليه‌السلام ، ثم إقامة مراسم العزاء والحزن والحداد يوم العاشر من المحرم كل عام. ونتعرض إلى بعض خصوصيات يوم عاشوراء ، والمحاولات المغرضة لتغيير مفهومه وصرفه عن حقيقته. ثم ننهي الفصل بفلسفة المآتم الحسينية ، وتتضمن أهداف ذكرى الحسينعليه‌السلام والفوائد التي تحققها المجالس الحسينية ، وأن هدفها ليس فقط الحزن والبكاء ، وإنما العظة واليقظة والاعتبار ، وتبديل السلوك وتعديل المسار ، والخروج من مستنقع الخطايا والأوزار ، إلى رياض الأخيار وجنان الأبرار.

١ ـ مآتم الحسينعليه‌السلام

مرت في الفصل السابق روايات مستفيضة حول إخبار جبرئيل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنبأ استشهاد الحسينعليه‌السلام ، ثم إخبار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهله وأصحابه بذلك. وكان في

٢٣٣

تلك الأحوال يضع الحسين الطفل في حضنه ، ويبكي بكاء شديدا ، ويقبّله من فمه ونحره ، ويشمّه ويضمه إلى صدره ، فكانت تلك المشاهد أول المآتم المقامة على الحسينعليه‌السلام في حياته وقبل مماته. وعلى هذا الهدي المحمدي سار شيعة الحسينعليه‌السلام من بعده ، يقيمون المآتم والعزاء عليه ، بعد موته واستشهاده ، اقتداء بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشاركة له في محنته ومصيبته.

٢١٩ ـ مأتم الحسينعليه‌السلام في دار فاطمةعليها‌السلام :

(قادتنا : كيف نعرفهم؟ ، ج ٦ ص ١٢٠)

روى الخوارزمي عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : زارنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعملنا له حريرة ، وأهدت لنا أم أيمن قعبا من لبن وزبدا وصفحة من تمر. فأكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكلنا معه. ثم وضّأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقام فاستقبل القبلة ، فدعا الله ما شاء. ثم أكبّ على الأرض بدموع غزيرة مثل المطر. فهبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نسأله!.

فوثب الحسينعليه‌السلام فقال : يا أبتي رأيتك تصنع ما لم أرك تصنع مثله!.فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني إني سررت بكم اليوم سرورا لم أسرّ بكم مثله. وإن حبيبي جبرئيل أتاني فأخبرني أنكم قتلى ، وأن مصارعكم شتى ، فدعوت الله لكم ، وأحزنني ذلك.

فقال الحسينعليه‌السلام : يا رسول الله ، فمن يزورنا على تشتّتنا ، ويتعاهد قبورنا؟.قال : طائفة من أمتي ، يريدون برّي وصلتي. فإذا كان يوم القيامة شهدتها بالموقف ، وأخذت بأعضادها ، فأنجيتها والله من أهواله وشدائده.

٢٢٠ ـ في دار أم سلمة :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ، ص ١٧٦)

وروى ابن عساكر بإسناده عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه (قال) قالت أم سلمة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نائما في بيتي ، فجاء الحسينعليه‌السلام . قالت : فقصد الباب ، فسبقته على الباب مخافة أن يدخل فيوقظه. قالت : ثم غفلت في شيء ، فدبّ فدخل ، فقعد على بطنه.

قالت : فسمعت نحيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فجئت فقلت : يا رسول الله ، والله ما علمت به. فقال : إنما جاءني جبرئيلعليه‌السلام وهو على بطني قاعد ، فقال لي :

٢٣٤

أتحبّه؟. فقلت : نعم. قال : إن أمتك ستقتله. ألا أريك التربة التي يقتل بها؟.(قال) فقلت : بلى. قال : فضرب بجناحه فأتى بهذه التربة. قالت : فإذا في يده تربة حمراء ، وهو يبكي ويقول : يا ليت شعري من يقتلك بعدي؟!.

وفي رواية أخرى للخوارزمي : (قادتنا ـ ج ٦ ص ١٢٦)

قال : ثم أخذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك القبضة التي أتاه بها الملك ، فجعل يشمّها ويبكي ، ويقول في بكائه : الله م لا تبارك في قاتل ولدي ، وأصله نار جهنم.

ثم دفع تلك القبضة إلى أم سلمة ، وأخبرها بقتل الحسينعليه‌السلام بشاطئ الفرات ، وقال : يا أم سلمة خذي هذه التربة إليك ، فإنها إذا تغيرت وتحولت دما عبيطا ، فعند ذلك يقتل ولدي الحسينعليه‌السلام .

إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام

٢٢١ ـ إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٩٣)

يقول الفاضل الدربندي : اعلم أن من تأمل في الأخبار المروية من طرق العامة في فضل الحسن والحسينعليه‌السلام ومناقبهما ، علم أن البكاء على الحسينعليه‌السلام وإقامة تعزيته في كل سنة ، بل في كل شهر ، بل في كل أسبوع ، بل في كل ليلة ، من أفضل العبادات وأشرف الطاعات والقربات. فلعنة الله على كل متعصب من المخالفين ، الذين يأخذون يوم عاشوراء عيدا ، ويسمّون الاجتماع للعزاء والبكاء على سيد الشهداء بدعة ، وذلك كابن حجر العسقلاني ومن مثله.

٢٢٢ ـ ثواب إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

(المنتخب للطريحي ، ص ٢٨ ط ٢)

روي أنه لما أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسينعليه‌السلام وما يجري عليه من المحن ، بكت فاطمةعليه‌السلام بكاء شديدا ، وقالت : يا أبتي متى يكون ذلك؟. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في زمان خال مني ومنك ومن عليعليه‌السلام . فاشتد بكاؤها ، وقالت : يا أبة فمن يبكي عليه؟. ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال

٢٣٥

أهل بيتي ، ويجددون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة. فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء ، وأنا أشفع للرجال. وكل من بكى على مصاب الحسينعليه‌السلام أخذنا بيده وأدخلناه الجنة.

يا فاطمة ، كل عين باكية يوم القيامة ، إلا عين بكت على مصاب الحسينعليه‌السلام ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة.

٢ ـ فضل البكاء والحزن على الحسينعليه‌السلام

٢٢٣ ـ البكاء على أمناء الرحمن :

(المنتخب للطريحي ، ص ١٦ ط ٢)

يقول فخر الدين الطريحي : فيا إخواني ، كيف لا نبكي على أمناء الرحمن ، وسادات أهل الزمان؟. وكيف لا نجدد النوح والأحزان ، في كل آن ومكان؟. على الشهيد العطشان ، النائي عن الأهل والأوطان ، المدفون بلا غسل ولا أكفان؟.فعلى الأطائب من أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم تذرف الدموع من العيون.

٢٢٤ ـ فضيلة البكاء من خشية الله :

(أخبار الدول للقرماني ص ١١١)

قال الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : ما اغرورقت عين بمائها من خشية الله ، إلا وحرّم اللهعزوجل وجه صاحبها على النار. فإن سالت على الخدين دموعه ، لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة. وما من شيء إلا له جزاء إلا الدمعة ، فإن الله تعالى يكفّر بها بحور الخطايا. ولو أن باكيا بكى في أمة ، لحرّم الله تلك الأمّة على النار.

(أقول) : ومن هذا القبيل بكاء المؤمن على الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٢٥ ـ البكاء من خوف الله وخشيته :

(أسرار الشهادة ، ص ٤٨)

يقول الفاضل الدربندي : ومنها أن البيت المبني من الطين إذا انهدم أمكن إصلاحه بقرب من الماء ، فكذلك الإنسان المخلوق أصله من الطين ، إذا فسد أمره بارتكاب المعصية ، أمكنه تداركه بإرسال العبرات على الحسرات. كما قال أمير

٢٣٦

المؤمنين ، وسيد الموحدين ، وتاج رؤوس البكّائينعليه‌السلام : أمحوا المثبّتات من العثرات بالمرسلات من العبرات.

٢٢٦ ـ البكاء على الحسينعليه‌السلام هو من خشية الله :

(المصدر السابق ، ص ٤٩)

ويقول الفاضل الدربندي : واعلم أن البكاء على مصاب أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سيما على مصاب سيد الشهداء روحي له الفداء ، ليس أمرا مغايرا للبكاء من خوف الله تعالى. حتّى يتمشّى سؤال : أهل البكاء من خوف الله تعالى أفضل ، أم البكاء على سيد الشهداءعليه‌السلام ؟. بل إن البكاء عليه هو البكاء في محبة الله ، والبكاء المنبعث عن التقرب إلى الله.

٢٢٧ ـ البكاء من خوف الله قسمان :

(المصدر السابق)

ثم يقول الفاضل الدربندي : فإن شئت أن توضّح المطلب في غاية الإيضاح فقل :إن البكاء من خوف الله تعالى ينحلّ إلى نوعين وينقسم إلى قسمين :

الأول : أن يكون منشأ البكاء معاصي الإنسان ، وتذكّره لحالة الاحتضار وأهوال البرزخ والمحشر والعقوبات التي يستحقها. فهذا البكاء وإن كان يطلق عليه أيضا أنه بكاء من خوف الله وقسم منه ، إلا أنه في الحقيقة يرجع إلى بكائه على نفسه وعلى ذنبه.

الثاني : أن يكون ذلك البكاء في مقام محبة الله تعالى ، وملاحظة عظمة صفاته وكبريائه وجبروته ، وفي مقام التفكر في التقصير في عبادته. وهذا في مقام ذوق حلاوة مناجاته ومحبته التي انبعثت عنها المحبة والموالاة لأوليائه وحججه ، فلا يلاحظ في هذا القسم أصلا رجاء الثواب ولا الخوف من العقاب. فلا شك أن هذا القسم من البكاء هو أفضل من القسم الأول. ومما لا شك فيه أن البكاء على مصاب آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا القسم ، إذ قد عرفت أن المحبة والموالاة لهم مما يرجع إلى محبة الله وموالاته. ويتضح هذا المطلب عند الفطن المتدبر ، إذا لا حظ عوم الأئمة الطاهرين ، وسباحة حجج الله المعصومين ، في بحار البلايا وقواميس المصائب ، لأجل محبة الله تعالى.

شرح : القواميس : جمع قاموس ، وهو البحر العظيم.

٢٣٧

٢٢٨ ـ ثواب البكاء عامة على الحسين ومصيبة سائر الأئمةعليه‌السلام :

(الخصال الأربعمائة ٢ / ٦٣٥ والبحار ٤٤ / ٢٨٧)

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منا وإلينا.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل عين باكية إلا عين بكت على مصاب الحسينعليه‌السلام ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة».

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام للريان بن شبيب : إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان ، فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا. فلو أن رجلا تولّى حجرا حشره الله معه يوم القيامة.

وقال الإمام عليعليه‌السلام : كل عين يوم القيامة باكية ، وكل عين يوم القيامة ساهرة ، إلا عين من اختصه الله بكرامته ، وبكى على ما ينتهك من الحسين وآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . (راجع مقتل العوالم ص ٥٢٥).

٢٢٩ ـ من قطرت عينه قطرة على الحسينعليه‌السلام :

(مجالس المفيد ، ص ٣٤٠ وأمالي الطوسي ١ / ١١٦ والبحار ٤٤ / ٢٧٩)

عن الإمام الحسينعليه‌السلام قال : ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة ، أو دمعت عيناه فينا دمعة ، إلا بوّأه الله تعالى بها في الجنة (غرفا يسكنها) حقبا. (وفي رواية) : أحقابا أحقابا.

شرح : الحقبة من الدهر : مدة لا وقت لها ، جمعها : حقب. وهي كناية عن الدوام.

٢٣٠ ـ فضيلة البكاء على الحسينعليه‌السلام :

(مقتل العوالم ، ج ١٧ ص ٥٢٦)

في (تفسير علي بن إبراهيم) عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام قال : كان علي ابن الحسينعليه‌السلام يقول : أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن عليعليه‌السلام دمعة ، حتّى تسيل على خده ، بوّأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا. وأيما مؤمن دمعت عيناه (دمعا) حتّى يسيل دمعه على خده ، لأذى مسّنا من عدونا في الدنيا ، بوّأه الله مبوّأ صدق في الجنة. وأيما مؤمن مسّه أذى فينا ، فدمعت عيناه حتّى يسيل

٢٣٨

دمعه على خديه ، من مضاضة ما أوذي فينا ، صرف الله عن وجهه الأذى ، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار.

٢٣١ ـ البكاء على الحسينعليه‌السلام يحطّ الذنوب :

(بحار الأنوار للمجلسي ، ج ٤٤ ص ٢٨٢)

عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال لفضيل : تجلسون وتتحدثون؟. قال : نعم جعلت فداك. قال : إن تلك المجالس أحبّها ، فأحيوا أمرنا يا فضيل ، فرحم الله من أحيا أمرنا.

يا فضيل ، من ذكرنا أو ذكرنا عنده ، فخرج من عينه مثل جناح الذباب ، غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت أكثر من زبد البحر.

٢٣٢ ـ حديث : نفس المهموم لظلمنا تسبيح :

(مجالس المفيد ، ص ٣٣٨ وأمالي الطوسي ١ / ١١٥ والبحار ٤٤ / ٢٧٨)

عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : نفس المهموم لظلمنا تسبيح ، وهمهّ لنا عبادة ، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله.

ثم قالعليه‌السلام : يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب.

٢٣٣ ـ حديث : من دمعت عينه فينا دمعة :

(مجالس المفيد ، ص ١٧٤ وأمالي الطوسي ١ / ٩٧ والبحار ٤٤ / ٢٧٩)

عن محمّد بن أبي عمارة الكوفي ، قال : سمعت جعفر بن محمّدعليه‌السلام يقول :من دمعت عينه فينا دمعة ، لدم سفك لنا ، أو حقّ لنا أنقصناه ، أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا ، بوّأه الله تعالى بها في الجنة حقبا.

٢٣٤ ـ حديث : من ذكرنا عنده :

(كامل الزيارات ، ص ١٠٤ والبحار ٤٤ / ٢٨٥)

عن فضيل بن فضالة ، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ، حرّم الله وجهه على النار.

وروي عن الصادقعليه‌السلام قال : لكل سرّ ثواب ، إلا الدمعة فينا.

٢٣٩

٢٣٥ ـ حديث الإمام الصادقعليه‌السلام لمسمع كردين :

(كامل الزيارات ، ص ١٠١ والبحار ٤٤ / ٢٨٩)

سأل الإمام الصادقعليه‌السلام مسمع كردين ، وهو من أهل العراق : هل يبكي على الحسينعليه‌السلام ؟ فقال : بلى

قال : ثم استعبر واستعبرت معه. فقالعليه‌السلام : الحمد لله الّذي فضّلنا على خلقه بالرحمة ، وخصّنا أهل البيت بالرحمة.

يا مسمع ، إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين رحمة لنا. وما بكى لنا من الملائكة أكثر. وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا. وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا ، إلارحمه‌الله قبل أن تخرج الدمعة من عينيه. فإذا سالت دموعه على خده غفر الله ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر. فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم ، لأطفأت حرّها حتّى لا يوجد لها حرّ. وإن الموجع لنا قلبه ليفرح يوم يرانا عند موته ، فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض. وإن الكوثر ليفرح بمحبّنا إذا ورد عليه ، حتّى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه.

٢٣٦ ـ حديث : من تذكر مصابنا وبكى :

(أمالي الصدوق ، ص ٦٨ وبحار الأنوار ٤٤ / ٢٧٨)

قال الإمام الرضاعليه‌السلام : من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منا ، كان معنا في درجاتنا يوم القيامة. ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى ، لم تبك عينه يوم تبكي العيون. ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

٢٣٧ ـ الحسينعليه‌السلام قتيل العبرة :

(أمالي الطوسي ، ص ١٢١)

عن الإمام الصادقعليه‌السلام (قال) قال الحسين بن عليعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة ، قتلت مكروبا ، وحقيق على الله أن لا يأتيني مكروب قط ، إلا ردّه الله وأقلبه إلى أهله مسرورا.

وعن الحسينعليه‌السلام قال : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر.

٢٤٠

أمّا الروايات (١) فقد عقد في ملحقات إحقاق الحقّ (٢) باباً بعنوان: أنّ عليّاً يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تنزيله، وأورد في الباب ما يقرب من ستّة أحاديث وأخرج لكلّ حديث عدّة طرق من مصادر العامة.

منها: ما رواه الحافظ أحمد بن حنبل في مسنده (٣) ، قال: (حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، حدّثني وكيع، حدّثني قطر، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال، قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله. قال: فقام أبو بكر وعمر (٤) ، فقال: لا، ولكن خاصِف النعل، وعليّ يخصف نعله).

ومنها: ما رواه النسائي في الخصائص بسنده إلى أبي سعيد الخدري، قال: (كنّا جلوساً ننتظر رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إلينا قد انقطع شِسع نعله، فرمى به إلى عليّ عليه‌السلام فقال: (إنّ منكم رجلاً يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. قال أبو بكر: أنا؟ قال: لا. قال عمر: أنا؟ قال: لا. ولكن خاصف النعل) (٥) .

ومنها: ورواه الحاكم النيسابوري في المستدرك (٦) : (أَلاَ أنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. واستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر... إلخ).

وبسط الكلام في هذا القسم من مقاماتهم عليهم‌السلام ، وإن كان سيأتي لاحقاً في الأبواب القادمة، إلاّ أنّه ينبغي التنويه بذكر نبذة من ذلك، وهو أنّه لابدّ من تبيّن

____________________

١) فتح الباري، ج٨، ص٢٠٩، كتاب التفسير، باب: منه آيات محكمات.

٢) ملحقات إحقاق الحق، ج٦، ص ٢٤ - ٣٨، باب ٣٢.

٣) مسند أحمد بن حنبل، ج٣، ص٣٣، في باب مسند أبي سعيد الخدري، ط / الميمنة بمصر، وطبعة دار صادر - بيروت.

٤) هذا الموقف من الأوّل والثاني قد تكرّر في مواطن عديدة، وهو يشفّ عن وجود نزعة لديهما للوصول إلى الإمارة وتقلّد أُمور المسلمين.

٥) الخصائص، ص٤٠، ط / التقدّم بمصر.

٦) المستدرك، ج٣، ص ١٢٢ - ١٢٣، ط / حيدر آباد.

٢٤١

وبيان لتأويل الكتاب العزيز، كما تقدّم ذلك في مفاد الآيات، وقد عُيّن هذا الدور الخطير بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُوكل إلى عليّ ووُلدِه عليهم‌السلام ، كما صرّحت بذلك الآيات، كآية التطهير، ومسّ المطهّرين للكتاب المكنون.

وكذلك نصّت على ذلك الأحاديث النبويّة، نظير الحديث المتقدّم: (تقاتل على تأويل القرآن كما قاتل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تنزيله) ، وهذا ممّا يقتضي إسناد مقام إلهي إلى عليّ وأهل البيت عليهم‌السلام مؤازراً لمقام النبوّة. وإنّ علم تأويل الكتاب كلّه لدى عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام وراثةً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بوراثة لدّنية لا كسبية.

فتبيّن: أنّ عليّاً ووُلده هم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن، وأنّ الأُمّة إلى يوم القيامة مضطرّة ومحتاجة إليهم ما بقيت الأُمّة محتاجة إلى الكتاب العزيز، وما بقي دين الإسلام خالداً للبشر، لكلّ البيئات والعصور المختلفة.

والجدير بالإشارة أنّه قد قُرن في مفاد الروايات بين دور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين دور أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأنّ الدور الثاني عِدلٌ للأوّل، نظير ما في حديث الثقلين؛ من عدلية أهل البيت عليهم‌السلام للكتاب، إلاّ أنّ هاهنا قد جُعلت القيمومة على تنزيل القرآن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقيمومة على تأويله مهمّةٌ على عاتق أمير المؤمنين، ووُلده المعصومين عليهم‌السلام ، وراثةً من قيمومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على التأويل.

وكما أنّ دور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في التنزيل هو انتداب من الغيب إلى الشهادة، فكذلك الحال في دورهم في التأويل، فالحديث يدلّ على المشاطرة بين التنزيل والتأويل في اكتمال بيان حقيقة القرآن، وبالتالي مشاطرتهما في تأليف مجموع الشريعة ومشاركتهما في مجموع أبواب الدين.

القسم الثالث: صلاحيته صلى‌الله‌عليه‌وآله في سنّ الأحكام والتشريعات المتنزَّلة من أُصول تشريعية قد شرّعها اللَّه عزّ وجلّ، وهذا ما يعبّر عنه في علم القانون بالتشريعات المستمدّة من الأُصول القانونية، والظاهر أنّ كلّ تشريعات الرسول هي من هذا

٢٤٢

القبيل، وقد أُطلق عليها في الشريعة عنوان واسم السنّة (أي: السنّة النبوية) (١) ، في مقابل الفريضة.

وقد أُشير إليه في متواتر الروايات الآتية (٢) نظير صحيحة الفُضيل بن يسار، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إنّ اللَّه عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدَبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٣) ، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة؛ ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٤) ، وأنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطأ في شي‏ء ممّا يسوس به الخلق) (٥) .

ثمّ ذكر عليه‌السلام جملة من سنن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المضافة إلى فرائض اللَّه تعالى، وستأتي تتمّة الحديث في المقالات اللاحقة.

وظاهر الروايات أنّ كلّ تشريعات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله - التي بمعنى إنشاء الحكم الجديد - هي من هذا القبيل، وكذا الحال في تشريعاتهم عليهم‌السلام ، فإنّها في طول الأُصول القانونية القرآنية، والنبويّة.

ولابدَّ من الالتفات إلى أنّ الأُصول التشريعية القانونية ليست على مرتبة واحدة، فبعضها فوقاني جدّاً يُعدّ في الصدارة والمرتبة الأُولى من التشريعات الأديانية، نظير المراتب في المواد الدستورية، وبعضها متوسّطات، وبعضها الآخر

____________________

١) لا سنّة الجماعة والسلف، والخلافة والسلطان.

٢) البحار، ج٢٥، ص ٣٣٢، حديث ٧، عن بصائر الدرجات: ١١٢ صحيحة زرارة، وأيضاً: رواية عبد اللَّه بن سنان الكافي، ج١، ص٢٦٧، حديث ٧. وكذلك البحار، ج ٢٥، ص٣٤٠، حديث ٢٣. وأيضاً: أصول الكافي، ج١، ص ٢٦٧، حديث ٦. وكذلك في الاختصاص، ص٣٠٨ - ٣٠٩ و ١١٠ رواية محمّد بن مسلم.

٣) سورة القلم: ٤.

٤) سورة الحشر: ٧.

٥) الكافي، ج١، ص ٢٦٦، حديث ٤.

٢٤٣

مراتب منشعبة، والتنظير بين منظومة التشريعات في الدين ومنظومة التشريعات الدستورية ليس من كلّ وجه؛ لأنّ مجموعة القوانين الدستورية هي لنظام الدولة الذي هو أحد الأبواب العديدة في التشريع الديني، وإنّما التشبيه هو من جهة عموم بحث مراتب التشريع وكيفية ترامي المراتب، نزولاً وصعوداً.

وبعبارة أُخرى: كما للمجالس النيابية دور تشريع في طول وتبعٍ للأُصول والمواد الدستورية إلاّ أنّ هذه التبعية لا تلغي ما لتلك المجالس من دور وصلاحية تشريع، كما أنّ تلك الولاية والسلطة المفوّضة للتشريع لتلك المجالس النيابية لا يُنفى تبعيتها لأُصول الدستور.

وكذلك الحال في التشريعات الوزارية، فإنّها تبعٌ لتشريعات المجالس النيابية من دون تنافي بين التبعية و تفويض صلاحية التشريع، وهذا المثال لبيان ظاهرة تنزّل التشريعات والاشتقاق القانوني والاستخراج، الذي هو ليس عملية تطبيق محضٍ كالكلّي والفرد، بل استخراج وانشعاب وتنزّل وتولّد، نظير تولّد نظام النقد العادل من أجل إرساء العدالة الاجتماعية، وهذه الظاهرة القانونية بديهية في علم القانون.

وعلى ضوء هذه القاعدة، في أُصول التشريع، يتّضح أنّ الأُصول التشريعية النبويّة حيث إنّها تنزيل وتنزّل للأُصول التشريعية من قِبله تعالى، يتّضح المراد من فوقية الأُصول التشريعية الإلهية على الأُصول التشريعية النبويّة، بمعنى ضرورة نُشوء الأصل التشريعي النبويّ من أصل تشريعي إلهي، لا بمعنى فوقية مجموع الأُصول التشريعية الأُولى على الأصل التشريعي الثاني. فقد يكون الأصل النبويّ هو فوق أصل تشريعي إلهي آخر، وفي الحقيقة أنّ الأصل التشريعي الأوّل الذي استمدّ منه الأصل التشريعي النبويّ هو فوق الأصل التشريعي الآخر، ومن ثمّ يعرض متشابه القرآن على محكم كلّ من القرآن والسنّة النبويّة، كما يعرض متشابه السنّة على محكم كلّ منهما.

٢٤٤

القسم الرابع: صلاحية الخيار لهم في البيان والعمل بين الحكم الواقعي والظاهري، بل يمتدّ هذا الخيار في درجات الحكم الواقعي نفسه، حيث بيّن القرآن الكريم أنّ للحكم الواقعي وللحقّ مراتب، إذ قال تعالى: ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ) (١) ، فقرّر تعالى أنّ كلاّ من الحكمين حقّ مع اختلافهما.

وكذلك ما قصّه القرآن الكريم عن النبيّ موسى والخضر عليهما‌السلام ، وقد استعرضت سورة الكهف ثلاث قضايا وهي بالتأمّل ليس من قبيل الحكم الواقعي والظاهري، بل من قبيل الحكمين الواقعيين، أحدهما واقعي أوّلي، والآخر تأويلي.

وكذا ما يشير إليه القرآن الكريم من مراتب الهداية، كقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ) (٣) ، وقوله تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) (٤) ، وقوله تعالى: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (٥) ، وقوله تعالى: ( نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ) (٦) ، فتقرّر هذه الآيات أنّ الهداية إلى الحقّ ذات مراتب مختلفة، ممّا يقتضي أنّ للحقّ مراتب ومدارج وأبدال على الخيار لهم عليهم‌السلام ، وقد أشاروا إلى ذلك في قوله تعالى: ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٧) ، فتقرّر الآية أنّ العطايا اللدنِية الإلهية يخيّر فيها المعصوم بين البذل لكلّ مرتبة من تلك المراتب وبين

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٨ - ٧٩.

٢) سورة محمّد: ١٧.

٣) سورة مريم: ٧٦.

٤) سورة طه: ٨٢.

٥) سورة الكهف: ١٣.

٦) سورة التحريم: ٨.

٧) سورة ص: ٣٩.

٢٤٥

الإمساك، ويشير إلى ذلك جملة من الروايات سيتمّ استعراضها لاحقاً (١) .

القسم الخامس: صلاحية بيان المعارف والعلوم المختلفة، فقد قال تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٣) ، وقوله تعالى: ( وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (٤) ، وغيرها من الآيات الدالّة على أنّ بيان القرآن هي من مسؤوليات الشرع، ومن الواضح أنّ القرآن مصدر خالد وهداية للبشرية إلى يوم القيامة، وبالتالي فإنّ الحوادث تستجدّ وتتشابه، فيحتاج لهداية القرآن وحكمه الصائب العدل في تلك الحوادث المستجدّة في كلّ ما ينتاب البشرية.

ومن الواضح أنّ استخراج ذلك من القرآن وتبيانه، بعيداً عن الخطأ، والجهالة، والزلل، والظنّ، هو السبب في عدم تفويض اللَّه لتلك المسؤولية إلى المسلمين، وجعلها مسؤولية خاصّة لذاته المقدّسة، أي بتوسّط رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد الرسول لابدَّ من قيام أشخاص بتلك المهمّة يحذون حذوه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة.

وبعبارة أُخرى: إنّ جعل اللَّه تعالى بيان القرآن وظيفة خاصّة به تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل في طياته أنّ الإحاطة بتمام معاني القرآن الكريم وحقائقه - التي بها تحصل هداية الأجيال البشرية جيلاً بعد جيل - لا سبيل لأحد إليها، بل هي خاصّة به تعالى وبمن يطلعه من أصفياء خلقه، ولا مَحال أنّ ذلك يستلزم وجود من يخلف رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الدور التشريعي، وهذه الإحاطة التامّة اللدُنِية بكافّة العلوم كذلك.

فإن الإحاطة بكافّة مسائل علم الرياضيات مثلاً، أو الطبيعيات، كالفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء وغيرها، لا يتسنّى

____________________

١) الاختصاص باب جهات علوم الأئمّة عليهم‌السلام : ٢٨٨ - ٢٨٧.

٢) سورة القيامة ١٩ - ١٦: ٧٥.

٣) سورة النحل ٤٤: ١٦.

٤) سورة الأنعام ١٠٥: ٦.

٢٤٦

ولا يتأتّى لروّاد العلوم، بل كمية المجهولات - التي لم يهتدوا إليها ويقرّون بعجزهم عن معرفتها - هي أكثر بكثير من المسائل المعلومة، وهذا دليل على ضرورة وجود من يحيط بهذا العلم بإحاطة لدنِية تامّة، فضلاً عن القرآن الكريم الجامع لكلّ العلوم.

القسم السادس: ولايتهم في تأديب، وتزكية، وتعليم الخلق، ومطلق السياسات التربوية. وقد يوازي هذا القسم التشريعات في ظلّ الحكم السياسي، سواء على نطاق الأُمور العامّة أو على نطاق الأحوال الشخصية، وسواء كانت في جانب الأُمور التنفيذية أو في الجنائيات والعقوبات، وغيرها من أمور التدبير العام، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (١) ، وقال تعالى: ( لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (٢) .

ولا يخفى أنّ هذه الآيات قد تعرّضت إلى عدّة أقسام من مهام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورتبه ومواقعه البنيَوية الأصلية في الدين، حيث إنّ قوله تعالى: ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ) إشارة إلى القسم الأوّل، وهو النطق والإدلاء بالتنزيل بالقرآن، وقوله تعالى: ( يُزَكِّيهِمْ ) بيان لهذا القسم السادس وللصلاحية المفوّضة للحكم السياسي وتدبير نظام المجتمع، وقوله تعالى: ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ) بيان لصلاحية القسم الثالث، وهو بيان التأويل والبطون، وقوله تعالى: ( الْحِكْمَةَ ) بيان للقسم الثاني، كما يشمل القسم السادس.

وقال تعالى: ( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ

____________________

١) سورة الجمعة: ٢.

٢) سورة آل عمران: ١٦٤.

٢٤٧

وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (١) ، وهي تدلّ على أنّ المصدر والمفزع في الأُمور هو الرسول وأُولي الأمر، وأنّ الواجب على المسلمين إذا انتابهم أمر يمسّ حياتهم في النظام الاجتماعي، هو الرجوع والردّ للبتّ في شأنه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى أولي الأمر؛ وذلك لإحاطة تلك الثلّة باستنباط واستخراج العلم بما هو الحقّ في تدبير ما ألمّ بهم من أمر، لا الظنّ بالحقّ؛ لكون التعبير في‏ الآية ( لَعَلِمَهُ ) لا (ظَنّه)، ولذلك حصر نجاة الأُمّة عن اتّباع الشيطان، بردّ الأُمور إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر، ممّا يدلّ على أنّ الرجوع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى أُولي الأمر عاصمٌ للأُمّة عن اتّباع الشيطان.

فالآية دالّة على أنّ تدبير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر ليس اجتهادياً ولا ظنّياً كما ذهب إليه العامّة، بل هو تدبير عن علم وإحاطة بالأُمور بإقدار من اللَّه عزّ وجلّ، فهذا الاستنباط هو استخراج صُراح الحقّ، وليس إعمال الموازين الظاهرية التي قد تخطأ أو تصيب، كما لا مجال للخطأ في استخدام الموازين الآلية في تدبير الأُمور العامّة من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر.

نعم، قد يوهم إسناد الخطأ إلى الرسول وأُولي الأمر من ناحيتين:

الأُولى: الجسم البشري في الجهاز الحاكم في حكومة الرسول وأُولي الأمر عليهم‌السلام ، هذا الكمّ والحشد البشري غير معصوم، وقد يرتكبون الأخطاء والمعاصي، فينسب بعضهم ذلك إلى الرسول وأُولي الأمر. لكنّ هذا الإسناد ليس في الحقيقة متّصلاً بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يسند ويُنسب إلى أعضاء حكومته.

نظير ما ارتكبه خالد بن الوليد يوم فتح مكّة، حيث غدر ببني الأجلح، فتبرّأ

____________________

١) سورة النساء: ٨٣.

٢٤٨

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من فعله بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد)، فقد كان معيّناً من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على إحدى الفرق العسكرية، ثمّ انتدب رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام ليسترضيهم، ويعطي الديّة عن من قتل منهم.

وكذا ما ارتكبه أُسامة بن زيد من قتل من أظهر الإسلام اشتباهاً منه في أنّ إظهار الشهادتين لا يحقن الدم مع الريبة عندما كان يقود سرية.

الثانية: إنّ الميزان في الموضوعات الخارجية هو الظاهر الشرعي، لا الواقع واستكشافه ومعرفته. وقد خلط العامّة بين الميزان الظاهري في الموضوعات، وعمّموا ذلك لمعرفة الأحكام في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وهو من الخلط بين المقامين، مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام العمل والتطبيق والتنفيذ ليس غالب، أدواته بموازين ظاهرية في الموضوعات، وهذا الذي وظّف اللَّه تعالى نبيّه وولاة الأمر عليهم‌السلام بالعمل به، هو من جملة الموازين الموظّفة شرعاً، فبعضها موازين ظاهرية بضميمة الموازين الواقعية.

وحيث كان بعضها ظاهرياً فالميزان قد يخطئ وقد يصيب، نظير البيّنة، والحلف في القضاء، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجلٍ قطعتُ له من مال أخيه شيئاً فكأنّما قطعت له قطعةً من النار) (١) .

فتحصّل: إنّ تدبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره في الحكم السياسي - بمقتضى مفاد الآية الشريفة - هو العصمة عن الزلل والخطأ، وإنّه إن شوهد ما يوهم ذلك في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ ذلك - عند التدبّر - راجع إلى أعضاء جهازه الحكومي من الولاة والأُمراء وغيرهم، أو إلى كون الميزان الشرعي في الموضوعات الموظّف العمل به في التدبير ظاهرياً،

____________________

١) الوسائل، باب كيفية الحكم، ب ٢، ح ١.

٢٤٩

فقد لا يصيب الواقع في بعض موارده.

ثمّ إنّ هذه الآية دالّة على وجود ثُلّة في هذه الأُمّة هم ولاة الأمر، مقرونة ولايتهم بولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ لهم عصمة في التدبير، والعصمة في التدبير متقوّمة بالعصمة العلمية والعملية، وأنّ هذه الثلّة باقية ما بقيت الأُمّة وما بقي القرآن الكريم؛ لأنّ الآية خطاب إلى كلّ المكلّفين إلى يوم القيامة، وأنّ الواجب عليهم ردّ وإيكال ما يَنُوبَهم ويعتريهم، في أُمورهم السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها، بإيكاله وردّه إلى أُولي الأمر العالمين بحكمه؛ لقدرتهم على استنباط واستخراج الحقّ والرأي الصائب فيه.

ومن البيّن: أنّ هذا الاستنباط الموصِل إلى العلم بحقائق الأُمور المستقاة من الكتاب الكريم، لا بلحاظ ما فيه من تشريع فقط؛ فإنّ ذلك لا يوجب بمفرده العصمة في التطبيق والتدبير، بل لابدّ بالإضافة إلى ذلك معرفة ما في الكتاب من تبيان كلّ شي‏ءٍ فيه، من كلّ غائبة في الأرض أو في السماء أو رطب أو يابس، في رتبة حقائقه العالية من الكتاب المكنون، الذي هو الكتاب المبين، والذي لا يمسّه إلاّ المطهرون، وهو وصف أُولي الأمر المعصومين.

القسم السابع: صلاحيتهم في بيان النسخ؛ وذلك بأن يُودع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الناسخ لديهم إلى حين أوانه فيبرِزُوه ناسخاً. وقد أثبت هذا القسم جملة من أعلام الإمامية، كما سيأتي في الأبواب تفصيل أقوالهم.

وحقيقة هذا البيان للنسخ، لا يخفى أنّه ليس إخبار محض، كما هو الحال في القسم الأوّل الذي مضى بيانه مفصّلاً، وأنّه بمثابة الناطق الرسمي القانوني عن السماء، أي في أصل أداء الأحكام عن اللَّه، حيث قد مرّ أنّه لا يخلو هذا البيان عن ماهية الإنشاء، فكيف بإبراز النسخ الذي هو إنهاء لفعلية تشريع ثابت وتفعيل وتشريع جديد، فهو أوغل في إنشائية التشريع.

٢٥٠

ويندرج في هذا القسم نسخ القرآن بالسنّة القطعية النبويّة، وقد قال بذلك أغلب الخاصّة والعامّة إلاّ من شذَّ، ومن أمثلته (١) تبليغه عليه‌السلام سورة البراءة، حيث إنّ مفاد سورة البراءة قد نسخ بعض الأحكام السياسية مع المشركين المذكورة في السور السابقة، مع أنّ المبلّغ للنسوخ إلى البشرية هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وسيأتي بيانه لاحقا ً.

القسم الثامن: صلاحية تفويض القضاء والحكم فيه، وقد قال تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) (٢) ، وقوله تعالى: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ) (٣) ، وقوله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ) (٤) ، وقوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

وقد استظهر من قوله تعالى: ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ) تخيّره صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحكم بحسب الموازين الشرعية بين الظاهرية والواقعية، بحسب واقع الأمور التي يُريها اللَّه له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما قد استفيد من مجموع هذه الآيات وغيرها، وتخيّره صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحكم بين مراتب الحكم الواقعي. قال الشيخ المفيد (رحمه الله): (للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات، ومتى عرف من المشهود عليه ضدّ ما تضمّنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شَهدَ عليه، وحكم عليه بما أعلمه اللَّه) (٦) .

القسم التاسع: من الصلاحيات المفوّضة ولاية الإمامة السياسية والخلافة،

____________________

١) ومن أمثلته نسخ أفضلية الاستحباب للسور الخواصّ، (أي: الأفضلية) في الصلاة.

٢) سورة النساء: ٦٥.

٣) سورة المائدة: ٤٩.

٤) سورة النساء: ١٠٥.

٥) سورة الأحزاب: ٣٦. ٦) أوائل المقالات: ٦٦.

٢٥١

وإقامة الحكم السياسي والدولة، وإدارة النظام الاجتماعي والسياسي، وقد كتب في هذا المضمار علماء الإمامية أسفاراً جمّة، وأشبعوا البحث درايةً وبياناً وتفصيل) (١) .

القسم العاشر - من الصلاحيات المفوّضة لهم -: كونهم الفيصل والمصدر العلمي الشرعي المهيمن عند الاختلاف في معاني ومؤدّيات الأدلّة والأحكام الشرعية، فضلاً عن المتشابه في المعارف والاعتقادات. سواء كان الاختلاف أو التشابه في ظواهر أدلّة القرآن والسنّة النبويّة هو بنحو التعارض أو الإجمال والإيهام، أو تزاحم المقتضيات، وغيرها من أقسام الاختلاف، فلزوم الرجوع إليهم عليهم‌السلام كما هو في الابتداء - كما مرّ في الأقسام السابقة -، كذلك في المآل عند وقوع الاختلاف في جميع أقسامه، فهم عليهم‌السلام بلحاظ هذا القِسم بمثابة المحكمة الدستورية لكلّ الدين، لا لخصوص نظام الدولة الذي هو شعبة من فروع الدين، فهم الفيصل عند الاختلاف في تفسير الدين والشريعة وقراءة النصوص، ويشير إلى هذا القسم قوله تعالى: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٢) ، و: ( الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ) بمعنى يستخرجون حقيقة الواقع - كما هو معنى الاستنباط لغةً، لا المعنى المتداول عند الفقهاء بمعنى الاستظهار الظنّي - هم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر من قُرباه، أهل آية التطهير، والمباهلة، كما مرّ بيانه.

____________________

١) راجع: الجزء الأوّل من كتاب الإمامة الإلهية.

٢) سورة النساء: ٨٣.

٢٥٢

صلاحية التشريع

مبدأً، وماهيةً، ومنتهى

تقديم:

إنّ البحث في صلاحية التشريع، أو الولاية التشريعية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة من بعده، إنما هو بعد وضوح أنّ الشارع الأوّل والمهيمن هو الباري تعالى، إلاّ أنّه وقع الكلام في ثبوت هذه الصلاحية والمقام له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهم عليهم‌السلام ، في مدار محدود تابع لتشريع اللَّه تعالى، وفي ظلّ التشريعات الإلهية.

كما قد وقع الكلام في حقيقة وساطته صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الباري والناس، أي في حقيقة التبليغ عن اللَّه، وكذلك في حقيقة وساطة الأئمّة عليهم‌السلام عن اللَّه ورسوله، أي في حقيقة تبليغ الأئمّة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي ماهية الطرق والمنابع التي يأخذ منها الرسول والأئمّة صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

فلابدّ من إقامة البحث في ذلك؛ ليتبين لنا حقيقة صلاحية جعل القوانين، وسَنّ الأحكام، وحقيقة التبليغ. وهل هي على وِزان دور سائر الناس في عملية التبليغ والإبلاغ؟ كما هو الحال في الرواة الذين يكونون وسائط في مجرّد نقل محضّ اللفظ من دون أن يكون لهم بالضرورة دراية تامّة محيطة بتمام معاني التشريعات وحقائقه. وهذه النظرية، والنظرة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ولهم عليهم‌السلام ، يترتّب عليها آثار خطيرة:

منها: عدم اشتراط العصمة في الرسول والإمام لأداء مهمّة التبليغ، بل يكفي الصدق بدرجة العدالة في ذلك، حيث إنّ هذه النظرة مسخ لماهية التبليغ النبويّ

٢٥٣

والتبليغ الولوي (١) ، وأنّ درجته لا تتطلّب أكثر من ذلك.

ومنها: تساوي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام مع جملة من الأفراد الآخرين الذين يعرفون جملة من ما أُثر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنهم عليهم‌السلام .

بل قد يكون الأفراد الآخرون في بعض الأحيان - والعياذ باللَّه تعالى - أفقه منهم صلوات اللَّه عليهم؛ إذ على هذه النظرية من حقيقة تبليغهم تجري قاعدة ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه (والعياذ باللَّه)، وهذه النظرة والنظرية هي التي كانت لدى بعض الصحابة (٢) ، ولأجل ذلك كان يُكثر من المشاققة والاعتراض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعارضه في القول والفعل، حتّى نزلت الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

ومنها: إطلاق الرواة عليهم، وقد ارتكبه جملةٌ في الأعصار المتأخّرة، وبالتالي فعلمهم - صلوات اللَّه عليهم - منحصر في التنزيل دون التأويل، وبالمحكم دون المتشابه، فقال بعضهم، حول صلاحية التشريع، وحول ما دلّ من الآيات والروايات على كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام أولى بالمؤمنين من أنفسهم: (وأما ما كان من الأحكام المتعلّقة بالأشخاص بسبب خاصّ من زواج وقرابة ونحوهما، فلا ريب في عدم عموم الولاية له، وأن يكون أولى بالإرث من القريب وأولى بالأزواج من أزواجهم، وآية: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ ) إنّما يدلّ على أولويته فيما لهم - أي الأشخاص - الاختيار، لا فيما لهم من الأحكام تعبّداً وبلا اختيار).

وقال آخر: (أي: فوّض إليهم أن يحلّلوا ما شاءوا ويحرّموا أيضاً ما شاءوا

____________________

١) أي تبليغ الإمام المعصوم.

٢) كالشيخين، وفيهما نزلت الآية من سورة الحجرات، كما أخرج ذلك السيوطي في الدرّ المنثور في ذيل الآية، عن جملة من مصادر الحديث لديهم.

٣) سورة الحجرات: ١.

٢٥٤

وهذا أيضاً ضروري البطلان؛ فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس شارعاً للأحكام، بل مبين وناقل له، وليس شأنه في المقام إلاّ شأن ناقل الفتوى بالنسبة للمقلّدين).

وقال بعضهم: إنّ وصول المعصوم إلى الحكم الشرعي يتمّ في جملة من الأحيان بواسطة مراجعة المعصوم إلى الكتب التي ورثها عن رسول اللَّه، والفحص في أبوابها، وملاحظة المطلق والمقيد والعامّ والخاصّ والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين، تماماً كما يمارس ذلك الفقيه، غاية الأمر الفرق بينهما أنّ المعصوم مسدّد عن الخطاء.

وأمّا قول العامّة باجتهاد الرسول - والعياذ باللَّه - فهو إفك جاء به عصبتهم الأوائل، لتبرير معارضة وعصيان الرسول، وتلقّاه أواخرهم بألسنتهم وحسبوه هيناً وهو عند اللَّه بهتان عظيم.

وقد تفشّت هذه المقولة واتُّبعت هذه الخطوات في بعض الأقلام المنتحلة، فأطلقوا التعبير باجتهاد أئمّة أهل البيت، وأنّ هذا فهمهم، وأنّهم رواة عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ علمهم قائم بالكتب المدوّنة المنفصلة عن أرواحهم، إلى غير ذلك من الأقاويل التي يطلقونها.

وكلّ ذلك ناشئ عن قصور وتقصير في معرفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، وموقعية وساطتهم في الدين الحنيف والشريعة الغرّاء، وعن الجهل بمصادر علومهم، وضروب العلم لديهم وأبوابها، وحقيقة مراحل التشريع والشريعة، وأنّ الإحاطة الواقعية بتفاصيل الأُمور وحقائقها لا يتمّ إلاّ بالعلم الجمعي اللدنّي بأُمّهات أُصول الشريعة، فمن ثمّ استدعى البحث في دورهم ومقامهم في منابع علومهم عليهم‌السلام التي هي مصادر الشريعة.

قال العلاّمة الطباطبائي: (إنّهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقّيهم المعارف الإلهية ومصدريتهم للأُمور الخارقة بنفوسهم العادية -

٢٥٥

ثمّ ذكر خلطهم من إرادة النبيّ إبراهيم عليه‌السلام عملية الإحياء بين جانبها الملكوتي وجانبها الحسّي الظاهري، إلى أن قال: -

لكنّ هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من أمر الفساد، وكلّما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحقّ) (١) .

وقال في موضع آخر: (ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين، أنّهم يظنّون أنّ دعوة إبراهيم عليه‌السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسى عليه‌السلام لميت عند إحيائه: قم بإذن اللَّه. وجريان الريح بأمر سليمان، وغيرها، ممّا يشتمل عليه الكتاب والسنّة، إنّما هو لأثر وضعه اللَّه تعالى في ألفاظهم المؤلّفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدلّ عليه ألفاظهم، نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها، وقد خفي عليهم أنّ ذلك أنّما هو عن اتّصال باطني بقوّة إلهية غير مغلوبة، وقدرة غير متناهية هي المؤثّرة الفاعلة بالحقيقة) (٢) .

____________________

١) الميزان، ج٢، ص٣٧٦.

٢) الميزان، ج٢، ص ٣٧٠.

٢٥٦

منابع علومهم عليهم‌السلام

هي مصادر ومتون الشريعة

أقسام الوحي:

( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى )

قال تعالى: ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (١) .

والبحث في هذه الآيات هو أحد أُمّهات البحوث في معرفة النبوّة، وقد استدلّ بها فريق المثبتين لصلاحيته صلى‌الله‌عليه‌وآله لدور التشريع التابع لتشريع اللَّه، كما استدلّ بها النافون لهذا الدور والمقام.

وقد استدلّ بها كثير من العامّة لحصر عصمة النبوّة في التبليغ دون بقية الأفعال والشؤون، وهذه الدعوى منهم مبنية على التفكيك بين شخصية النبوّة فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشخصية شؤونه الأُخرى، وعلى تعدّد حيثيات شخصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن ثمّ تعدّد حيثيات شؤونه، وبالتالي انقسام أقواله وأفعاله إلى ما يرتبط بالشريعة، وإلى ما لا صلة له بالشريعة، وهذه النظرة إلى شخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أصبحت عندهم من المسلّمات (٢) ، وهي بعيدة تمام البعد عن حقيقة شخصيّة النبيّ؛ فإنّ حقيقة تكوين

____________________

١) سورة النجم: ١ - ٥.

٢) وزيّفت موارد مفتراة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قد أخطأ، كقضية أُسارى بدر، وتأبير النخل، وغيرها = [ تتمة الفهرس في الصفحة التالية ]

٢٥٧

وتركيب شخصيّته ليست بنحوٍ يتصوّر فيه انفكاك فطرته الغريزية وفطرته الإنسانية والعقلانية عن فطرته الوحيانية، وبالتالي هيمنة الفطرة الوحيانية على تمام درجات فِطَرِه الأُخرى، وذوبانها فيها، وتبعيتها وانقيادها لها، وانصباغها وتلوّنها بها، فلا مجال للتفكيك والتفكّك، ولا للانفصال والفصل، بل كلّ حركاته وسكناته، وخوضه وإمساكه، وقوله وفعله، وحِلّه وترحاله، مسيره وخطواته، كلّ ذلك متنٌ وحياني ونموذج أمثل ركّبته يد القدرة الإلهية؛ ليحتذي به النبيّون والمرسلون والأوصياء والمصطفون، فضلاً عن سائر البشرية.

فالتفكيك في شخصيّته بين الشؤون الشرعية وأُمور الحياة الاعتيادية نظرية خاطئة متفشّية في بحوث المعرفة والعلوم الدينية، ولأجل الوقوف على مفاد الآيات الكريمة السابقة لابدّ من تحرّي المراد من كلّ من العناوين الواردة فيها، من: الوحي، والنطق، والهوى، والضلال، والغواية.

أمّا العنوان الأوّل: فالوحي، الذي هو مصدر نطق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عُلّل به قضايا الإخبار الثلاث في الآيات السابقة، حيث قد سبق الإخبار عن حصر مصدر النبيّ ومعتمده علي الوحي - ( إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) - ثلاثة إخبارات، الأوّل: ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ) ، الثاني: ( وَمَا غَوَى ) ، الثالث: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) ، فجاء الإخبار الرابع: ( إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) في مقابل الإخبارات الثلاثة، أي: في مقابل المنفي في الإخبارات الثلاثة، فهو بمنزلة العلّة للنفي فيها، فليس هو تعليل للنفي في الإخبار الثالث فقط، كما شاع في كلمات جملة من المفسّرين وأبحاث العلوم الإسلامية، بل هو تعليل للنفي في كلّها.

وعلى ذلك، فالضمير في الإخبار الرابع ( إِنْ هُوَ إِلاّ... ) لا يعود إلى النطق، بل

____________________

= من حكايات مصطنعة لفّقوها بأقلام أموية مَرْوَانية، تنفث عن أدبيات يهودية نصرانية، في الإزراء بمقام الأنبياء عليهم‌السلام .

٢٥٨

يعود إلى شخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهويته، والإخبار عن هويته وشخصيّته بأنّها وحيٌ يوحى، وهو من قبيل زيدٌ عدلٌ، أي لبيان استغراق زيد في العدالة في أفعاله، وأقواله، ومواقفه، وإحجامه، وإقدامه. فكذلك الحال في الإخبار عن هويته صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه وحيٌ يوحى للدلالة على أنّ شخصيّته صلى‌الله‌عليه‌وآله في تمام أبعادها هي بتركيب وتصوير وهيئة وحيانية.

بل إنّ في الإخبار الرابع عناية فائقة في تأكيد ذلك بأداة الحصر، أي بحصر هويته في الوحي، أي ليس هويته بشي‏ء من الأشياء إلاّ وحيٌ يوحى. وهذا مفاد ما مرّ من أنّ الفطرة والغريزة فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والفطرة الإنسانية والفطرة العقلانية لا استقلال لها مقابل الفطرة الوحيانية التي له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكلّ تلك الفطر قد انقادت وتبعت الفطرة الوحيانية.

بل في الآية تأكيد آخر، وهو أنّه لم يُجعل الخبر عن هويته صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي بمفرده، بل جُعل مؤكّداً بنفس العنوان بصيغة الفعل المضارع المستمر؛ للدلالة على التأكيد، والتأبيد، والاستمرار، والشمولية، لكلّ شؤونه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أُكّد هذا المضمون في الآية بالقَسم الإلهي: ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) ، ولا يخفى أنّ القَسم الإلهي وقع على مجموع الإخبارات الأربعة وما بعدها، وهو ممّا يؤكّد أنّ الضمير في ( إِنْ هُوَ إلاّ ) غير راجع لخصوص النطق، بل هو إلى حقيقة وهوية وشخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله . وممّا يؤكّد هذا المفاد أيضاً الإخبار الخامس في الآيات، وهو: ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) ، فإنّ الضمير في ( علّمه ) راجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، متّحد السياق مع ضمير ( هو ) ، مع أنّ التعليم شامل لكلّ شؤون النبيّ لا لخصوص القرآن.

وإلى هذا التقرير من مفاد الآية يشير الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) : (ولقد قرن اللَّه

____________________

١) نهج البلاغة الخطبة القاصعة.

٢٥٩

به صلّى اللَّه عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يَسلُكُ به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهارهُ).

وفي صحيح الفُضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : (إنّ اللَّه عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) ، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ، وإنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس، لا يزلّ، ولا يخطى‏ء، في شي‏ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب اللَّه) (٢) .

وما في ذيل الرواية قد يشير إليه الإخبار الخامس في الآيات: ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) ، فإذاً، تبين أنّ مرجع الضمير ليس هو النطق والكلام النبويّ، بل هو كلّ سلوكيات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيرته، وهديه، وبسطه، وقبضه، وظهر أنّ الوحي في الآيات الكريمة السابقة ليس هو خصوص الوحي التشريعي، بل يعمّ الوحي التسديدي، والتأييدي، والإلهامي، والتوفيقي، وغيرها.

ولكلّ من هذه الأقسام معنىً وسنخٍ ونمط يختلف عن الآخر، أُوضِحت في محالّها.

وقد أُشير إلى الوحي التسديدي وغيره في مواطن عديدة من القرآن الكريم، نحو قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (٣) .

حيث إنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي التشريعي الذي هو عبارة عن الأمر والنهي الإنشائي؛ لأنّ متعلّق الوحي قد جُعل نفس فعل الخيرات، أي أنّها كانت تصدر عنهم بوحي مقارن بصدور الفعل، كما أشار إلى ذلك العلاّمة الطباطبائي في

____________________

١) سورة القلم: ٤.

٢) الكافي، ج١، ص٢٦٦، كتاب الحجّة.

٣) سورة الأنبياء: ٧٣.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592