الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133746
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133746 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أمّا الروايات (1) فقد عقد في ملحقات إحقاق الحقّ (2) باباً بعنوان: أنّ عليّاً يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تنزيله، وأورد في الباب ما يقرب من ستّة أحاديث وأخرج لكلّ حديث عدّة طرق من مصادر العامة.

منها: ما رواه الحافظ أحمد بن حنبل في مسنده (3) ، قال: (حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، حدّثني وكيع، حدّثني قطر، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال، قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله. قال: فقام أبو بكر وعمر (4) ، فقال: لا، ولكن خاصِف النعل، وعليّ يخصف نعله).

ومنها: ما رواه النسائي في الخصائص بسنده إلى أبي سعيد الخدري، قال: (كنّا جلوساً ننتظر رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إلينا قد انقطع شِسع نعله، فرمى به إلى عليّ عليه‌السلام فقال: (إنّ منكم رجلاً يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. قال أبو بكر: أنا؟ قال: لا. قال عمر: أنا؟ قال: لا. ولكن خاصف النعل) (5) .

ومنها: ورواه الحاكم النيسابوري في المستدرك (6) : (أَلاَ أنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. واستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر... إلخ).

وبسط الكلام في هذا القسم من مقاماتهم عليهم‌السلام ، وإن كان سيأتي لاحقاً في الأبواب القادمة، إلاّ أنّه ينبغي التنويه بذكر نبذة من ذلك، وهو أنّه لابدّ من تبيّن

____________________

1) فتح الباري، ج8، ص209، كتاب التفسير، باب: منه آيات محكمات.

2) ملحقات إحقاق الحق، ج6، ص 24 - 38، باب 32.

3) مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص33، في باب مسند أبي سعيد الخدري، ط / الميمنة بمصر، وطبعة دار صادر - بيروت.

4) هذا الموقف من الأوّل والثاني قد تكرّر في مواطن عديدة، وهو يشفّ عن وجود نزعة لديهما للوصول إلى الإمارة وتقلّد أُمور المسلمين.

5) الخصائص، ص40، ط / التقدّم بمصر.

6) المستدرك، ج3، ص 122 - 123، ط / حيدر آباد.

٢٤١

وبيان لتأويل الكتاب العزيز، كما تقدّم ذلك في مفاد الآيات، وقد عُيّن هذا الدور الخطير بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُوكل إلى عليّ ووُلدِه عليهم‌السلام ، كما صرّحت بذلك الآيات، كآية التطهير، ومسّ المطهّرين للكتاب المكنون.

وكذلك نصّت على ذلك الأحاديث النبويّة، نظير الحديث المتقدّم: (تقاتل على تأويل القرآن كما قاتل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تنزيله) ، وهذا ممّا يقتضي إسناد مقام إلهي إلى عليّ وأهل البيت عليهم‌السلام مؤازراً لمقام النبوّة. وإنّ علم تأويل الكتاب كلّه لدى عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام وراثةً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بوراثة لدّنية لا كسبية.

فتبيّن: أنّ عليّاً ووُلده هم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن، وأنّ الأُمّة إلى يوم القيامة مضطرّة ومحتاجة إليهم ما بقيت الأُمّة محتاجة إلى الكتاب العزيز، وما بقي دين الإسلام خالداً للبشر، لكلّ البيئات والعصور المختلفة.

والجدير بالإشارة أنّه قد قُرن في مفاد الروايات بين دور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين دور أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأنّ الدور الثاني عِدلٌ للأوّل، نظير ما في حديث الثقلين؛ من عدلية أهل البيت عليهم‌السلام للكتاب، إلاّ أنّ هاهنا قد جُعلت القيمومة على تنزيل القرآن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقيمومة على تأويله مهمّةٌ على عاتق أمير المؤمنين، ووُلده المعصومين عليهم‌السلام ، وراثةً من قيمومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على التأويل.

وكما أنّ دور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في التنزيل هو انتداب من الغيب إلى الشهادة، فكذلك الحال في دورهم في التأويل، فالحديث يدلّ على المشاطرة بين التنزيل والتأويل في اكتمال بيان حقيقة القرآن، وبالتالي مشاطرتهما في تأليف مجموع الشريعة ومشاركتهما في مجموع أبواب الدين.

القسم الثالث: صلاحيته صلى‌الله‌عليه‌وآله في سنّ الأحكام والتشريعات المتنزَّلة من أُصول تشريعية قد شرّعها اللَّه عزّ وجلّ، وهذا ما يعبّر عنه في علم القانون بالتشريعات المستمدّة من الأُصول القانونية، والظاهر أنّ كلّ تشريعات الرسول هي من هذا

٢٤٢

القبيل، وقد أُطلق عليها في الشريعة عنوان واسم السنّة (أي: السنّة النبوية) (1) ، في مقابل الفريضة.

وقد أُشير إليه في متواتر الروايات الآتية (2) نظير صحيحة الفُضيل بن يسار، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إنّ اللَّه عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدَبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (3) ، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة؛ ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (4) ، وأنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطأ في شي‏ء ممّا يسوس به الخلق) (5) .

ثمّ ذكر عليه‌السلام جملة من سنن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المضافة إلى فرائض اللَّه تعالى، وستأتي تتمّة الحديث في المقالات اللاحقة.

وظاهر الروايات أنّ كلّ تشريعات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله - التي بمعنى إنشاء الحكم الجديد - هي من هذا القبيل، وكذا الحال في تشريعاتهم عليهم‌السلام ، فإنّها في طول الأُصول القانونية القرآنية، والنبويّة.

ولابدَّ من الالتفات إلى أنّ الأُصول التشريعية القانونية ليست على مرتبة واحدة، فبعضها فوقاني جدّاً يُعدّ في الصدارة والمرتبة الأُولى من التشريعات الأديانية، نظير المراتب في المواد الدستورية، وبعضها متوسّطات، وبعضها الآخر

____________________

1) لا سنّة الجماعة والسلف، والخلافة والسلطان.

2) البحار، ج25، ص 332، حديث 7، عن بصائر الدرجات: 112 صحيحة زرارة، وأيضاً: رواية عبد اللَّه بن سنان الكافي، ج1، ص267، حديث 7. وكذلك البحار، ج 25، ص340، حديث 23. وأيضاً: أصول الكافي، ج1، ص 267، حديث 6. وكذلك في الاختصاص، ص308 - 309 و 110 رواية محمّد بن مسلم.

3) سورة القلم: 4.

4) سورة الحشر: 7.

5) الكافي، ج1، ص 266، حديث 4.

٢٤٣

مراتب منشعبة، والتنظير بين منظومة التشريعات في الدين ومنظومة التشريعات الدستورية ليس من كلّ وجه؛ لأنّ مجموعة القوانين الدستورية هي لنظام الدولة الذي هو أحد الأبواب العديدة في التشريع الديني، وإنّما التشبيه هو من جهة عموم بحث مراتب التشريع وكيفية ترامي المراتب، نزولاً وصعوداً.

وبعبارة أُخرى: كما للمجالس النيابية دور تشريع في طول وتبعٍ للأُصول والمواد الدستورية إلاّ أنّ هذه التبعية لا تلغي ما لتلك المجالس من دور وصلاحية تشريع، كما أنّ تلك الولاية والسلطة المفوّضة للتشريع لتلك المجالس النيابية لا يُنفى تبعيتها لأُصول الدستور.

وكذلك الحال في التشريعات الوزارية، فإنّها تبعٌ لتشريعات المجالس النيابية من دون تنافي بين التبعية و تفويض صلاحية التشريع، وهذا المثال لبيان ظاهرة تنزّل التشريعات والاشتقاق القانوني والاستخراج، الذي هو ليس عملية تطبيق محضٍ كالكلّي والفرد، بل استخراج وانشعاب وتنزّل وتولّد، نظير تولّد نظام النقد العادل من أجل إرساء العدالة الاجتماعية، وهذه الظاهرة القانونية بديهية في علم القانون.

وعلى ضوء هذه القاعدة، في أُصول التشريع، يتّضح أنّ الأُصول التشريعية النبويّة حيث إنّها تنزيل وتنزّل للأُصول التشريعية من قِبله تعالى، يتّضح المراد من فوقية الأُصول التشريعية الإلهية على الأُصول التشريعية النبويّة، بمعنى ضرورة نُشوء الأصل التشريعي النبويّ من أصل تشريعي إلهي، لا بمعنى فوقية مجموع الأُصول التشريعية الأُولى على الأصل التشريعي الثاني. فقد يكون الأصل النبويّ هو فوق أصل تشريعي إلهي آخر، وفي الحقيقة أنّ الأصل التشريعي الأوّل الذي استمدّ منه الأصل التشريعي النبويّ هو فوق الأصل التشريعي الآخر، ومن ثمّ يعرض متشابه القرآن على محكم كلّ من القرآن والسنّة النبويّة، كما يعرض متشابه السنّة على محكم كلّ منهما.

٢٤٤

القسم الرابع: صلاحية الخيار لهم في البيان والعمل بين الحكم الواقعي والظاهري، بل يمتدّ هذا الخيار في درجات الحكم الواقعي نفسه، حيث بيّن القرآن الكريم أنّ للحكم الواقعي وللحقّ مراتب، إذ قال تعالى: ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ) (1) ، فقرّر تعالى أنّ كلاّ من الحكمين حقّ مع اختلافهما.

وكذلك ما قصّه القرآن الكريم عن النبيّ موسى والخضر عليهما‌السلام ، وقد استعرضت سورة الكهف ثلاث قضايا وهي بالتأمّل ليس من قبيل الحكم الواقعي والظاهري، بل من قبيل الحكمين الواقعيين، أحدهما واقعي أوّلي، والآخر تأويلي.

وكذا ما يشير إليه القرآن الكريم من مراتب الهداية، كقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ) (3) ، وقوله تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) (4) ، وقوله تعالى: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (5) ، وقوله تعالى: ( نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ) (6) ، فتقرّر هذه الآيات أنّ الهداية إلى الحقّ ذات مراتب مختلفة، ممّا يقتضي أنّ للحقّ مراتب ومدارج وأبدال على الخيار لهم عليهم‌السلام ، وقد أشاروا إلى ذلك في قوله تعالى: ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (7) ، فتقرّر الآية أنّ العطايا اللدنِية الإلهية يخيّر فيها المعصوم بين البذل لكلّ مرتبة من تلك المراتب وبين

____________________

1) سورة الأنبياء: 78 - 79.

2) سورة محمّد: 17.

3) سورة مريم: 76.

4) سورة طه: 82.

5) سورة الكهف: 13.

6) سورة التحريم: 8.

7) سورة ص: 39.

٢٤٥

الإمساك، ويشير إلى ذلك جملة من الروايات سيتمّ استعراضها لاحقاً (1) .

القسم الخامس: صلاحية بيان المعارف والعلوم المختلفة، فقد قال تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (3) ، وقوله تعالى: ( وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (4) ، وغيرها من الآيات الدالّة على أنّ بيان القرآن هي من مسؤوليات الشرع، ومن الواضح أنّ القرآن مصدر خالد وهداية للبشرية إلى يوم القيامة، وبالتالي فإنّ الحوادث تستجدّ وتتشابه، فيحتاج لهداية القرآن وحكمه الصائب العدل في تلك الحوادث المستجدّة في كلّ ما ينتاب البشرية.

ومن الواضح أنّ استخراج ذلك من القرآن وتبيانه، بعيداً عن الخطأ، والجهالة، والزلل، والظنّ، هو السبب في عدم تفويض اللَّه لتلك المسؤولية إلى المسلمين، وجعلها مسؤولية خاصّة لذاته المقدّسة، أي بتوسّط رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد الرسول لابدَّ من قيام أشخاص بتلك المهمّة يحذون حذوه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة.

وبعبارة أُخرى: إنّ جعل اللَّه تعالى بيان القرآن وظيفة خاصّة به تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل في طياته أنّ الإحاطة بتمام معاني القرآن الكريم وحقائقه - التي بها تحصل هداية الأجيال البشرية جيلاً بعد جيل - لا سبيل لأحد إليها، بل هي خاصّة به تعالى وبمن يطلعه من أصفياء خلقه، ولا مَحال أنّ ذلك يستلزم وجود من يخلف رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الدور التشريعي، وهذه الإحاطة التامّة اللدُنِية بكافّة العلوم كذلك.

فإن الإحاطة بكافّة مسائل علم الرياضيات مثلاً، أو الطبيعيات، كالفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء وغيرها، لا يتسنّى

____________________

1) الاختصاص باب جهات علوم الأئمّة عليهم‌السلام : 288 - 287.

2) سورة القيامة 19 - 16: 75.

3) سورة النحل 44: 16.

4) سورة الأنعام 105: 6.

٢٤٦

ولا يتأتّى لروّاد العلوم، بل كمية المجهولات - التي لم يهتدوا إليها ويقرّون بعجزهم عن معرفتها - هي أكثر بكثير من المسائل المعلومة، وهذا دليل على ضرورة وجود من يحيط بهذا العلم بإحاطة لدنِية تامّة، فضلاً عن القرآن الكريم الجامع لكلّ العلوم.

القسم السادس: ولايتهم في تأديب، وتزكية، وتعليم الخلق، ومطلق السياسات التربوية. وقد يوازي هذا القسم التشريعات في ظلّ الحكم السياسي، سواء على نطاق الأُمور العامّة أو على نطاق الأحوال الشخصية، وسواء كانت في جانب الأُمور التنفيذية أو في الجنائيات والعقوبات، وغيرها من أمور التدبير العام، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (1) ، وقال تعالى: ( لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (2) .

ولا يخفى أنّ هذه الآيات قد تعرّضت إلى عدّة أقسام من مهام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورتبه ومواقعه البنيَوية الأصلية في الدين، حيث إنّ قوله تعالى: ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ) إشارة إلى القسم الأوّل، وهو النطق والإدلاء بالتنزيل بالقرآن، وقوله تعالى: ( يُزَكِّيهِمْ ) بيان لهذا القسم السادس وللصلاحية المفوّضة للحكم السياسي وتدبير نظام المجتمع، وقوله تعالى: ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ) بيان لصلاحية القسم الثالث، وهو بيان التأويل والبطون، وقوله تعالى: ( الْحِكْمَةَ ) بيان للقسم الثاني، كما يشمل القسم السادس.

وقال تعالى: ( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ

____________________

1) سورة الجمعة: 2.

2) سورة آل عمران: 164.

٢٤٧

وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (1) ، وهي تدلّ على أنّ المصدر والمفزع في الأُمور هو الرسول وأُولي الأمر، وأنّ الواجب على المسلمين إذا انتابهم أمر يمسّ حياتهم في النظام الاجتماعي، هو الرجوع والردّ للبتّ في شأنه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى أولي الأمر؛ وذلك لإحاطة تلك الثلّة باستنباط واستخراج العلم بما هو الحقّ في تدبير ما ألمّ بهم من أمر، لا الظنّ بالحقّ؛ لكون التعبير في‏ الآية ( لَعَلِمَهُ ) لا (ظَنّه)، ولذلك حصر نجاة الأُمّة عن اتّباع الشيطان، بردّ الأُمور إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر، ممّا يدلّ على أنّ الرجوع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى أُولي الأمر عاصمٌ للأُمّة عن اتّباع الشيطان.

فالآية دالّة على أنّ تدبير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر ليس اجتهادياً ولا ظنّياً كما ذهب إليه العامّة، بل هو تدبير عن علم وإحاطة بالأُمور بإقدار من اللَّه عزّ وجلّ، فهذا الاستنباط هو استخراج صُراح الحقّ، وليس إعمال الموازين الظاهرية التي قد تخطأ أو تصيب، كما لا مجال للخطأ في استخدام الموازين الآلية في تدبير الأُمور العامّة من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر.

نعم، قد يوهم إسناد الخطأ إلى الرسول وأُولي الأمر من ناحيتين:

الأُولى: الجسم البشري في الجهاز الحاكم في حكومة الرسول وأُولي الأمر عليهم‌السلام ، هذا الكمّ والحشد البشري غير معصوم، وقد يرتكبون الأخطاء والمعاصي، فينسب بعضهم ذلك إلى الرسول وأُولي الأمر. لكنّ هذا الإسناد ليس في الحقيقة متّصلاً بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يسند ويُنسب إلى أعضاء حكومته.

نظير ما ارتكبه خالد بن الوليد يوم فتح مكّة، حيث غدر ببني الأجلح، فتبرّأ

____________________

1) سورة النساء: 83.

٢٤٨

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من فعله بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد)، فقد كان معيّناً من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على إحدى الفرق العسكرية، ثمّ انتدب رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام ليسترضيهم، ويعطي الديّة عن من قتل منهم.

وكذا ما ارتكبه أُسامة بن زيد من قتل من أظهر الإسلام اشتباهاً منه في أنّ إظهار الشهادتين لا يحقن الدم مع الريبة عندما كان يقود سرية.

الثانية: إنّ الميزان في الموضوعات الخارجية هو الظاهر الشرعي، لا الواقع واستكشافه ومعرفته. وقد خلط العامّة بين الميزان الظاهري في الموضوعات، وعمّموا ذلك لمعرفة الأحكام في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وهو من الخلط بين المقامين، مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام العمل والتطبيق والتنفيذ ليس غالب، أدواته بموازين ظاهرية في الموضوعات، وهذا الذي وظّف اللَّه تعالى نبيّه وولاة الأمر عليهم‌السلام بالعمل به، هو من جملة الموازين الموظّفة شرعاً، فبعضها موازين ظاهرية بضميمة الموازين الواقعية.

وحيث كان بعضها ظاهرياً فالميزان قد يخطئ وقد يصيب، نظير البيّنة، والحلف في القضاء، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجلٍ قطعتُ له من مال أخيه شيئاً فكأنّما قطعت له قطعةً من النار) (1) .

فتحصّل: إنّ تدبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره في الحكم السياسي - بمقتضى مفاد الآية الشريفة - هو العصمة عن الزلل والخطأ، وإنّه إن شوهد ما يوهم ذلك في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ ذلك - عند التدبّر - راجع إلى أعضاء جهازه الحكومي من الولاة والأُمراء وغيرهم، أو إلى كون الميزان الشرعي في الموضوعات الموظّف العمل به في التدبير ظاهرياً،

____________________

1) الوسائل، باب كيفية الحكم، ب 2، ح 1.

٢٤٩

فقد لا يصيب الواقع في بعض موارده.

ثمّ إنّ هذه الآية دالّة على وجود ثُلّة في هذه الأُمّة هم ولاة الأمر، مقرونة ولايتهم بولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ لهم عصمة في التدبير، والعصمة في التدبير متقوّمة بالعصمة العلمية والعملية، وأنّ هذه الثلّة باقية ما بقيت الأُمّة وما بقي القرآن الكريم؛ لأنّ الآية خطاب إلى كلّ المكلّفين إلى يوم القيامة، وأنّ الواجب عليهم ردّ وإيكال ما يَنُوبَهم ويعتريهم، في أُمورهم السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها، بإيكاله وردّه إلى أُولي الأمر العالمين بحكمه؛ لقدرتهم على استنباط واستخراج الحقّ والرأي الصائب فيه.

ومن البيّن: أنّ هذا الاستنباط الموصِل إلى العلم بحقائق الأُمور المستقاة من الكتاب الكريم، لا بلحاظ ما فيه من تشريع فقط؛ فإنّ ذلك لا يوجب بمفرده العصمة في التطبيق والتدبير، بل لابدّ بالإضافة إلى ذلك معرفة ما في الكتاب من تبيان كلّ شي‏ءٍ فيه، من كلّ غائبة في الأرض أو في السماء أو رطب أو يابس، في رتبة حقائقه العالية من الكتاب المكنون، الذي هو الكتاب المبين، والذي لا يمسّه إلاّ المطهرون، وهو وصف أُولي الأمر المعصومين.

القسم السابع: صلاحيتهم في بيان النسخ؛ وذلك بأن يُودع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الناسخ لديهم إلى حين أوانه فيبرِزُوه ناسخاً. وقد أثبت هذا القسم جملة من أعلام الإمامية، كما سيأتي في الأبواب تفصيل أقوالهم.

وحقيقة هذا البيان للنسخ، لا يخفى أنّه ليس إخبار محض، كما هو الحال في القسم الأوّل الذي مضى بيانه مفصّلاً، وأنّه بمثابة الناطق الرسمي القانوني عن السماء، أي في أصل أداء الأحكام عن اللَّه، حيث قد مرّ أنّه لا يخلو هذا البيان عن ماهية الإنشاء، فكيف بإبراز النسخ الذي هو إنهاء لفعلية تشريع ثابت وتفعيل وتشريع جديد، فهو أوغل في إنشائية التشريع.

٢٥٠

ويندرج في هذا القسم نسخ القرآن بالسنّة القطعية النبويّة، وقد قال بذلك أغلب الخاصّة والعامّة إلاّ من شذَّ، ومن أمثلته (1) تبليغه عليه‌السلام سورة البراءة، حيث إنّ مفاد سورة البراءة قد نسخ بعض الأحكام السياسية مع المشركين المذكورة في السور السابقة، مع أنّ المبلّغ للنسوخ إلى البشرية هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وسيأتي بيانه لاحقا ً.

القسم الثامن: صلاحية تفويض القضاء والحكم فيه، وقد قال تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ) (3) ، وقوله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ) (4) ، وقوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (5) .

وقد استظهر من قوله تعالى: ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ) تخيّره صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحكم بحسب الموازين الشرعية بين الظاهرية والواقعية، بحسب واقع الأمور التي يُريها اللَّه له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما قد استفيد من مجموع هذه الآيات وغيرها، وتخيّره صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحكم بين مراتب الحكم الواقعي. قال الشيخ المفيد (رحمه الله): (للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات، ومتى عرف من المشهود عليه ضدّ ما تضمّنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شَهدَ عليه، وحكم عليه بما أعلمه اللَّه) (6) .

القسم التاسع: من الصلاحيات المفوّضة ولاية الإمامة السياسية والخلافة،

____________________

1) ومن أمثلته نسخ أفضلية الاستحباب للسور الخواصّ، (أي: الأفضلية) في الصلاة.

2) سورة النساء: 65.

3) سورة المائدة: 49.

4) سورة النساء: 105.

5) سورة الأحزاب: 36. 6) أوائل المقالات: 66.

٢٥١

وإقامة الحكم السياسي والدولة، وإدارة النظام الاجتماعي والسياسي، وقد كتب في هذا المضمار علماء الإمامية أسفاراً جمّة، وأشبعوا البحث درايةً وبياناً وتفصيل) (1) .

القسم العاشر - من الصلاحيات المفوّضة لهم -: كونهم الفيصل والمصدر العلمي الشرعي المهيمن عند الاختلاف في معاني ومؤدّيات الأدلّة والأحكام الشرعية، فضلاً عن المتشابه في المعارف والاعتقادات. سواء كان الاختلاف أو التشابه في ظواهر أدلّة القرآن والسنّة النبويّة هو بنحو التعارض أو الإجمال والإيهام، أو تزاحم المقتضيات، وغيرها من أقسام الاختلاف، فلزوم الرجوع إليهم عليهم‌السلام كما هو في الابتداء - كما مرّ في الأقسام السابقة -، كذلك في المآل عند وقوع الاختلاف في جميع أقسامه، فهم عليهم‌السلام بلحاظ هذا القِسم بمثابة المحكمة الدستورية لكلّ الدين، لا لخصوص نظام الدولة الذي هو شعبة من فروع الدين، فهم الفيصل عند الاختلاف في تفسير الدين والشريعة وقراءة النصوص، ويشير إلى هذا القسم قوله تعالى: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (2) ، و: ( الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ) بمعنى يستخرجون حقيقة الواقع - كما هو معنى الاستنباط لغةً، لا المعنى المتداول عند الفقهاء بمعنى الاستظهار الظنّي - هم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر من قُرباه، أهل آية التطهير، والمباهلة، كما مرّ بيانه.

____________________

1) راجع: الجزء الأوّل من كتاب الإمامة الإلهية.

2) سورة النساء: 83.

٢٥٢

صلاحية التشريع

مبدأً، وماهيةً، ومنتهى

تقديم:

إنّ البحث في صلاحية التشريع، أو الولاية التشريعية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة من بعده، إنما هو بعد وضوح أنّ الشارع الأوّل والمهيمن هو الباري تعالى، إلاّ أنّه وقع الكلام في ثبوت هذه الصلاحية والمقام له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهم عليهم‌السلام ، في مدار محدود تابع لتشريع اللَّه تعالى، وفي ظلّ التشريعات الإلهية.

كما قد وقع الكلام في حقيقة وساطته صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الباري والناس، أي في حقيقة التبليغ عن اللَّه، وكذلك في حقيقة وساطة الأئمّة عليهم‌السلام عن اللَّه ورسوله، أي في حقيقة تبليغ الأئمّة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي ماهية الطرق والمنابع التي يأخذ منها الرسول والأئمّة صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

فلابدّ من إقامة البحث في ذلك؛ ليتبين لنا حقيقة صلاحية جعل القوانين، وسَنّ الأحكام، وحقيقة التبليغ. وهل هي على وِزان دور سائر الناس في عملية التبليغ والإبلاغ؟ كما هو الحال في الرواة الذين يكونون وسائط في مجرّد نقل محضّ اللفظ من دون أن يكون لهم بالضرورة دراية تامّة محيطة بتمام معاني التشريعات وحقائقه. وهذه النظرية، والنظرة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ولهم عليهم‌السلام ، يترتّب عليها آثار خطيرة:

منها: عدم اشتراط العصمة في الرسول والإمام لأداء مهمّة التبليغ، بل يكفي الصدق بدرجة العدالة في ذلك، حيث إنّ هذه النظرة مسخ لماهية التبليغ النبويّ

٢٥٣

والتبليغ الولوي (1) ، وأنّ درجته لا تتطلّب أكثر من ذلك.

ومنها: تساوي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام مع جملة من الأفراد الآخرين الذين يعرفون جملة من ما أُثر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنهم عليهم‌السلام .

بل قد يكون الأفراد الآخرون في بعض الأحيان - والعياذ باللَّه تعالى - أفقه منهم صلوات اللَّه عليهم؛ إذ على هذه النظرية من حقيقة تبليغهم تجري قاعدة ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه (والعياذ باللَّه)، وهذه النظرة والنظرية هي التي كانت لدى بعض الصحابة (2) ، ولأجل ذلك كان يُكثر من المشاققة والاعتراض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعارضه في القول والفعل، حتّى نزلت الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (3) .

ومنها: إطلاق الرواة عليهم، وقد ارتكبه جملةٌ في الأعصار المتأخّرة، وبالتالي فعلمهم - صلوات اللَّه عليهم - منحصر في التنزيل دون التأويل، وبالمحكم دون المتشابه، فقال بعضهم، حول صلاحية التشريع، وحول ما دلّ من الآيات والروايات على كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام أولى بالمؤمنين من أنفسهم: (وأما ما كان من الأحكام المتعلّقة بالأشخاص بسبب خاصّ من زواج وقرابة ونحوهما، فلا ريب في عدم عموم الولاية له، وأن يكون أولى بالإرث من القريب وأولى بالأزواج من أزواجهم، وآية: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ ) إنّما يدلّ على أولويته فيما لهم - أي الأشخاص - الاختيار، لا فيما لهم من الأحكام تعبّداً وبلا اختيار).

وقال آخر: (أي: فوّض إليهم أن يحلّلوا ما شاءوا ويحرّموا أيضاً ما شاءوا

____________________

1) أي تبليغ الإمام المعصوم.

2) كالشيخين، وفيهما نزلت الآية من سورة الحجرات، كما أخرج ذلك السيوطي في الدرّ المنثور في ذيل الآية، عن جملة من مصادر الحديث لديهم.

3) سورة الحجرات: 1.

٢٥٤

وهذا أيضاً ضروري البطلان؛ فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس شارعاً للأحكام، بل مبين وناقل له، وليس شأنه في المقام إلاّ شأن ناقل الفتوى بالنسبة للمقلّدين).

وقال بعضهم: إنّ وصول المعصوم إلى الحكم الشرعي يتمّ في جملة من الأحيان بواسطة مراجعة المعصوم إلى الكتب التي ورثها عن رسول اللَّه، والفحص في أبوابها، وملاحظة المطلق والمقيد والعامّ والخاصّ والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين، تماماً كما يمارس ذلك الفقيه، غاية الأمر الفرق بينهما أنّ المعصوم مسدّد عن الخطاء.

وأمّا قول العامّة باجتهاد الرسول - والعياذ باللَّه - فهو إفك جاء به عصبتهم الأوائل، لتبرير معارضة وعصيان الرسول، وتلقّاه أواخرهم بألسنتهم وحسبوه هيناً وهو عند اللَّه بهتان عظيم.

وقد تفشّت هذه المقولة واتُّبعت هذه الخطوات في بعض الأقلام المنتحلة، فأطلقوا التعبير باجتهاد أئمّة أهل البيت، وأنّ هذا فهمهم، وأنّهم رواة عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ علمهم قائم بالكتب المدوّنة المنفصلة عن أرواحهم، إلى غير ذلك من الأقاويل التي يطلقونها.

وكلّ ذلك ناشئ عن قصور وتقصير في معرفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، وموقعية وساطتهم في الدين الحنيف والشريعة الغرّاء، وعن الجهل بمصادر علومهم، وضروب العلم لديهم وأبوابها، وحقيقة مراحل التشريع والشريعة، وأنّ الإحاطة الواقعية بتفاصيل الأُمور وحقائقها لا يتمّ إلاّ بالعلم الجمعي اللدنّي بأُمّهات أُصول الشريعة، فمن ثمّ استدعى البحث في دورهم ومقامهم في منابع علومهم عليهم‌السلام التي هي مصادر الشريعة.

قال العلاّمة الطباطبائي: (إنّهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقّيهم المعارف الإلهية ومصدريتهم للأُمور الخارقة بنفوسهم العادية -

٢٥٥

ثمّ ذكر خلطهم من إرادة النبيّ إبراهيم عليه‌السلام عملية الإحياء بين جانبها الملكوتي وجانبها الحسّي الظاهري، إلى أن قال: -

لكنّ هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من أمر الفساد، وكلّما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحقّ) (1) .

وقال في موضع آخر: (ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين، أنّهم يظنّون أنّ دعوة إبراهيم عليه‌السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسى عليه‌السلام لميت عند إحيائه: قم بإذن اللَّه. وجريان الريح بأمر سليمان، وغيرها، ممّا يشتمل عليه الكتاب والسنّة، إنّما هو لأثر وضعه اللَّه تعالى في ألفاظهم المؤلّفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدلّ عليه ألفاظهم، نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها، وقد خفي عليهم أنّ ذلك أنّما هو عن اتّصال باطني بقوّة إلهية غير مغلوبة، وقدرة غير متناهية هي المؤثّرة الفاعلة بالحقيقة) (2) .

____________________

1) الميزان، ج2، ص376.

2) الميزان، ج2، ص 370.

٢٥٦

منابع علومهم عليهم‌السلام

هي مصادر ومتون الشريعة

أقسام الوحي:

( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى )

قال تعالى: ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (1) .

والبحث في هذه الآيات هو أحد أُمّهات البحوث في معرفة النبوّة، وقد استدلّ بها فريق المثبتين لصلاحيته صلى‌الله‌عليه‌وآله لدور التشريع التابع لتشريع اللَّه، كما استدلّ بها النافون لهذا الدور والمقام.

وقد استدلّ بها كثير من العامّة لحصر عصمة النبوّة في التبليغ دون بقية الأفعال والشؤون، وهذه الدعوى منهم مبنية على التفكيك بين شخصية النبوّة فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشخصية شؤونه الأُخرى، وعلى تعدّد حيثيات شخصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن ثمّ تعدّد حيثيات شؤونه، وبالتالي انقسام أقواله وأفعاله إلى ما يرتبط بالشريعة، وإلى ما لا صلة له بالشريعة، وهذه النظرة إلى شخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أصبحت عندهم من المسلّمات (2) ، وهي بعيدة تمام البعد عن حقيقة شخصيّة النبيّ؛ فإنّ حقيقة تكوين

____________________

1) سورة النجم: 1 - 5.

2) وزيّفت موارد مفتراة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قد أخطأ، كقضية أُسارى بدر، وتأبير النخل، وغيرها = [ تتمة الفهرس في الصفحة التالية ]

٢٥٧

وتركيب شخصيّته ليست بنحوٍ يتصوّر فيه انفكاك فطرته الغريزية وفطرته الإنسانية والعقلانية عن فطرته الوحيانية، وبالتالي هيمنة الفطرة الوحيانية على تمام درجات فِطَرِه الأُخرى، وذوبانها فيها، وتبعيتها وانقيادها لها، وانصباغها وتلوّنها بها، فلا مجال للتفكيك والتفكّك، ولا للانفصال والفصل، بل كلّ حركاته وسكناته، وخوضه وإمساكه، وقوله وفعله، وحِلّه وترحاله، مسيره وخطواته، كلّ ذلك متنٌ وحياني ونموذج أمثل ركّبته يد القدرة الإلهية؛ ليحتذي به النبيّون والمرسلون والأوصياء والمصطفون، فضلاً عن سائر البشرية.

فالتفكيك في شخصيّته بين الشؤون الشرعية وأُمور الحياة الاعتيادية نظرية خاطئة متفشّية في بحوث المعرفة والعلوم الدينية، ولأجل الوقوف على مفاد الآيات الكريمة السابقة لابدّ من تحرّي المراد من كلّ من العناوين الواردة فيها، من: الوحي، والنطق، والهوى، والضلال، والغواية.

أمّا العنوان الأوّل: فالوحي، الذي هو مصدر نطق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عُلّل به قضايا الإخبار الثلاث في الآيات السابقة، حيث قد سبق الإخبار عن حصر مصدر النبيّ ومعتمده علي الوحي - ( إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) - ثلاثة إخبارات، الأوّل: ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ) ، الثاني: ( وَمَا غَوَى ) ، الثالث: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) ، فجاء الإخبار الرابع: ( إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) في مقابل الإخبارات الثلاثة، أي: في مقابل المنفي في الإخبارات الثلاثة، فهو بمنزلة العلّة للنفي فيها، فليس هو تعليل للنفي في الإخبار الثالث فقط، كما شاع في كلمات جملة من المفسّرين وأبحاث العلوم الإسلامية، بل هو تعليل للنفي في كلّها.

وعلى ذلك، فالضمير في الإخبار الرابع ( إِنْ هُوَ إِلاّ... ) لا يعود إلى النطق، بل

____________________

= من حكايات مصطنعة لفّقوها بأقلام أموية مَرْوَانية، تنفث عن أدبيات يهودية نصرانية، في الإزراء بمقام الأنبياء عليهم‌السلام .

٢٥٨

يعود إلى شخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهويته، والإخبار عن هويته وشخصيّته بأنّها وحيٌ يوحى، وهو من قبيل زيدٌ عدلٌ، أي لبيان استغراق زيد في العدالة في أفعاله، وأقواله، ومواقفه، وإحجامه، وإقدامه. فكذلك الحال في الإخبار عن هويته صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه وحيٌ يوحى للدلالة على أنّ شخصيّته صلى‌الله‌عليه‌وآله في تمام أبعادها هي بتركيب وتصوير وهيئة وحيانية.

بل إنّ في الإخبار الرابع عناية فائقة في تأكيد ذلك بأداة الحصر، أي بحصر هويته في الوحي، أي ليس هويته بشي‏ء من الأشياء إلاّ وحيٌ يوحى. وهذا مفاد ما مرّ من أنّ الفطرة والغريزة فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والفطرة الإنسانية والفطرة العقلانية لا استقلال لها مقابل الفطرة الوحيانية التي له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكلّ تلك الفطر قد انقادت وتبعت الفطرة الوحيانية.

بل في الآية تأكيد آخر، وهو أنّه لم يُجعل الخبر عن هويته صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي بمفرده، بل جُعل مؤكّداً بنفس العنوان بصيغة الفعل المضارع المستمر؛ للدلالة على التأكيد، والتأبيد، والاستمرار، والشمولية، لكلّ شؤونه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أُكّد هذا المضمون في الآية بالقَسم الإلهي: ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) ، ولا يخفى أنّ القَسم الإلهي وقع على مجموع الإخبارات الأربعة وما بعدها، وهو ممّا يؤكّد أنّ الضمير في ( إِنْ هُوَ إلاّ ) غير راجع لخصوص النطق، بل هو إلى حقيقة وهوية وشخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله . وممّا يؤكّد هذا المفاد أيضاً الإخبار الخامس في الآيات، وهو: ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) ، فإنّ الضمير في ( علّمه ) راجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، متّحد السياق مع ضمير ( هو ) ، مع أنّ التعليم شامل لكلّ شؤون النبيّ لا لخصوص القرآن.

وإلى هذا التقرير من مفاد الآية يشير الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : (ولقد قرن اللَّه

____________________

1) نهج البلاغة الخطبة القاصعة.

٢٥٩

به صلّى اللَّه عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يَسلُكُ به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهارهُ).

وفي صحيح الفُضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : (إنّ اللَّه عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1) ، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ، وإنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس، لا يزلّ، ولا يخطى‏ء، في شي‏ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب اللَّه) (2) .

وما في ذيل الرواية قد يشير إليه الإخبار الخامس في الآيات: ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) ، فإذاً، تبين أنّ مرجع الضمير ليس هو النطق والكلام النبويّ، بل هو كلّ سلوكيات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيرته، وهديه، وبسطه، وقبضه، وظهر أنّ الوحي في الآيات الكريمة السابقة ليس هو خصوص الوحي التشريعي، بل يعمّ الوحي التسديدي، والتأييدي، والإلهامي، والتوفيقي، وغيرها.

ولكلّ من هذه الأقسام معنىً وسنخٍ ونمط يختلف عن الآخر، أُوضِحت في محالّها.

وقد أُشير إلى الوحي التسديدي وغيره في مواطن عديدة من القرآن الكريم، نحو قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (3) .

حيث إنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي التشريعي الذي هو عبارة عن الأمر والنهي الإنشائي؛ لأنّ متعلّق الوحي قد جُعل نفس فعل الخيرات، أي أنّها كانت تصدر عنهم بوحي مقارن بصدور الفعل، كما أشار إلى ذلك العلاّمة الطباطبائي في

____________________

1) سورة القلم: 4.

2) الكافي، ج1، ص266، كتاب الحجّة.

3) سورة الأنبياء: 73.

٢٦٠