الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141552 / تحميل: 8980
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

في المسجد الحرام ولواء منها على طور سيناء، ولا يدع مؤمن ولا مؤمنة إلاّ ويسلّم عليه، إلاّ مدمن خمرٍ، وآكل لحم خنزير، والمتضمّخ بالزعفران) (١) . ونظيره ما روي في كتاب جعفر بن محمد الدورستري.

ومنها: يفرق فيها كلّ أمر حكيم، وأنّها مباركة ببركة خاصّة مضاعفة مُمتازة عن بركة شهر رمضان كلّه، حيث قال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (٣) .

ومنها: أنّها موصوفة بالسلامة، حيث قال تعالى: ( سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) (٤) ، مع أنّ شهر رمضان - كما تقدّم - تُصفد فيه الشياطين وتُفتح فيه أبواب السماء وأبواب الجنان وتُغلق أبواب النيران، إلاّ أنّ في ليلة القدر يزداد هذا الفتح لأبواب والغلق لأبواب أُخرى.

ومنها: يُضاعف العمل ثلاثين ألف ضعف، كما قال تعالى: ( خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) إلى غير ذلك من الخصائص التي امتازت بها ليلة القدر، إلاّ أنّ كلّ ذلك هو تمهيد وتوطئة وإعداد لأكبر امتياز وخاصّية امتازت بها ليلة القدر، وهو نزول القرآن والروح والملائكة فيها في كلّ عام.

وروي في مجمع البيان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (إنّ الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتّى يضي‏ء فجرُها، ولا يستطيع فيها أن ينال أحداً بِخَبَل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيه سحر ساحر) (٥) .

____________________

١) مجمع البيان، ج١٠، ص٤٠٩، في ذيل سورة الفجر. وتأويل الآيات، ج٢، ص٨١٦.

٢) سورة الدخان: ٣ - ٤.

٣) سورة القدر: ٢ - ٦.

٤) سورة القدر: ٧.

٥) تفسير مجمع البيان، ج١٠، ص٤٠٩.

٣٢١

ليلة القَدْر بيئةٌ لنزول القرآن كلّ عام:

فكلّ الإعداد السابق للمسلم والمؤمن في بيئة شهر رمضان المباركة، ومحيط أجواء النور في ليلة القدر وعبادة المؤمن وأعماله في هذه الليلة المتضاعفة أضعافاً، تبلغ أجر العمل في هذه الليلة من كلّ عام ما يزيد على عمر الإنسان لو قدّر تطاوله إلى ما يزيد على ثلاث وثمانين عاماً.

كلّ هذا الإعداد والرقي الروحي للمؤمن يُكتب له لأجل أن يدرك ليلة القدر، وإدراكها بدراية (ما ليلة القدر؟) حيث قال تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (١) ، وهو تحضيض وترغيب، وحثّ على دراية ومعرفة ليلة القدر؛ فـ ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، أي: ما أعلمك بليلة القدر، فإدراكُها بدرايتِها؟

وليست درايتها ومعرفتها هي بمعرفة وقتها الزماني ليتخيّل أنّ إدراكها هو بتحديد أي ليلة هي من الليالي لتوقع الأعمال العبادية فيها، بل هذا أدنى درجات الإدراك، ومُعدّ إلى درجات أُخرى لإدراكها بدرايتها ومعرفة الإرهاصات التي تقع فيها، ومن ثمّ قال تعالى عقيب قوله: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، بقوله تعالى بخيرّيتها من ألف شهر، وأوج معرفتها بتنزّل الملائكة والروح فيها من كلّ أمر، فالعمدة في درك ودراية هذه الليلة بمعرفة نزول الروح والملائكة فيها من كلّ عام.

ويواجه الباحث هنا عدّة تساؤلات:

الأوّل: ما هي العلاقة بين نزول القرآن في ليلة القدر ونزول الروح؟ وما هذه الصلة التي يجدها ملحوظة في سورة القدر؟ حيث إنّ الضمير في: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) يعود إلى القرآن، كما أنّ الضمير في سورة الدخان: ( حم * وَالْكِتَابِ

____________________

١) سورة القدر: ٢.

٣٢٢

الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) يعود إلى الكتاب المبين، وقوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (١) .

الثاني: هل النزول للقرآن يستمرّ باستمرار نزول الروح في ليلة القدر من كلّ عام؟

الثالث: ما هي الصلة بين الكتاب المبين والقرآن الذي أُنزل في الليلة المباركة ليلة القدر؟ كما في سورة الدخان التي تقدّمت، وفي سورة الزخرف من قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢) .

وقد وصفت الآيات المحكمات بأنّهن أُمّ الكتاب في سورة آل عمران في قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) .

الرابع: ما هي الصلة بين نزول القرآن ونزول الروح والملائكة، وتقدير كلّ أمر من الحوادث والآجال والأرزاق، وكلّ صغيرة وكبيرة تقع على كلّ شخص وكلّ مجتمع، بل كلّ نبات وحيوان وجماد، وكون ومكان، ودول وجماعات وأحزاب ومنظمات إقليمية وقطرية، ومذاهب وطوائف، وحرب وسلم، وغلاء ورخص، وأمن وخوف، ومواليد وأموات؟

وتدبير كلّ شي‏ء من عظائم الأُمور وصغائرها، وأحلاف سياسية وعسكرية وأمنية، ومخطّطات ومشاريع، وظواهر اجتماعية واقتصادية، وظواهر فكرية اعتقادية، وانتشار الأمراض والأوبئة المهدّدة للصحّة العالمية البشرية، والسياسات المتبنّاة في كلّ إقليم، وتوازن القوى الاجتماعية والإقليمية والدولية،

____________________

١) سورة البقرة: ١٨٥.

٢) سورة الزخرف: ١ - ٤.

٣) سورة آل عمران: ٧.

٣٢٣

وسقوط دول وبروز أُخرى، وتبدّل أعراف ونشوء أُخرى قانونية واجتماعية وأخلاقية، وما سيدور في الدوائر الأمنية والسياسية والمخابراتية الدولية والقطرية من خلف الكواليس؟ حيث قال تعالى في سورة الدخان: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (١) .

وقال في سورة القدر: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) ، وقوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) (٤) ، وقوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ) (٥) .

وروى الكُليني عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (كان عليّ عليه‌السلام كثيراً ما يقول: ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقرأ: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) بتخشّع وبكاء، فيقولان: ما أشدّ رقّتك لهذه السورة؟ فيقول رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لِما رأت عيني وَوَعى قلبي، ولِما يرى قلبُ هذا من بعدي.

فيقولان فما الذي رأيت وما الذي يرى؟ قال: فيكتب صلى‌الله‌عليه‌وآله لهما في التراب: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) . قال: ثمّ يقول: هل بقي شي‏ء بعد قوله عزّ وجلّ: ( كُلِّ أَمْرٍ ) فيقولان: لا...) الحديث (٦) .

وروى الكُليني صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما، قال: (... وسُئل عن ليلة القدر فقال: تنزّل فيها الملائكة والكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون في أمر السنة وما يصيب العباد، وأمره عنده موقوف له وفيه المشيئة، فيقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء) (٧) .

وروى في صحيح الفضلاء في حديث، في قوله عزّ وجلّ: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر

____________________

١) سورة الدخان: ٤ - ٥.

٢) سورة القدر: ٤.

٣) سورة الرعد: ٣٩.

٤) سورة النحل: ٢.

٥) سورة النحل: ٨٩.

٦) الكافي، ج١، ص٢٤٩.

٧) الكافي، ج٤، ص١٥٧.

٣٢٤

ٍ حَكِيمٍ ) قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شي‏ء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل، خيرٌ وشرٌ، وطاعة ومعصية، ومولود وأجل أو رزق، فما قدّر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم وللَّه عزّ وجلّ فيه المشيّة (١) .

الخامس: من هو الذي ينزل عليه الروح والملائكة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الأُمّة إلى يوم القيامة؟ حيث إنّ نزول الملائكة والروح، بحسب سورة القدر وسورة الدخان، كان قطعاً على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث إنّ نزول الروح والملائكة كان إنزالاً للقرآن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يكن نزولاً بلا مقصد ينتهي إليه النزول، وكذا قوله في سورة الدخان:

( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (٢) ، فالآية تصرّح أنّ مورد النزول هو من يشاء اللَّه من عباده، أي يصطفيهم لذلك ليكونوا منذرين، وكذلك سورة غافر في قوله تعالى: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٣) .

السادس: هل هذا المتنزّل من الكمّ الهائل من المعلومات عن كلّ ما يحدث في الأرض، والذي ينزل على من اصطفاه اللَّه لذلك وشاء له ذلك بنصّ سورة النحل وغافر، والتي هي نظم ومنظومات معلوماتية بالغة الخطورة عن المستقبل في كلّ الحقول ونظم الاجتماع السياسي، والاقتصادي، والأمني، فهل نزولها للترف العلمي ومجرّد اطّلاع من يشاء اللَّه من عباده، أم أنّ ذلك ليقوم بمهام وأدوار خطيرة في البشرية في كافّة أرجاء الأرض؟

وعلى كلّ تقدير، فإنّ ظاهر سورة القدر: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) هو نزول القرآن في ليلة القدر، كما هو ظاهر قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ

____________________

١) الكافي، ج٤، ص١٥٦.

٢) سورة الدخان: ٣ - ٥.

٣) سورة غافر: ١٥.

٣٢٥

الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (١) ، فإنّ مفادهما كما اعترف بذلك جملة كثيرة من المفسّرين من الفريقين، هو نزول القرآن جملة واحدة في شهر رمضان، وظاهر الضمير في سورة القدر عائد إلى القرآن، كما أنّ لفظ الآية في سورة البقرة كذلك: ( الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ، حيث إنّ ظاهر (الـ) في المجموع، وكذلك هو مفاد قوله تعالى في سورة الدخان: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) ، فإنّ الضمير عائد إلى الكتاب المبين برمّته.

هذا مضافاً إلى أنّ بعثة الرسالة النبويّة هي في شهر رجب وهو مبدأ نزول القرآن نجوماً، وأنّ أوّل سورة نزلت هي سورة العلق وغيرها من السور، فمن ثمّ حُمل ذلك على استظهار أنّ للقرآن نزولان:

النزول الأوّل: بجملة القرآن.

والنزول الثاني: هو نزول مفصّل تدريجي نجومي بحسب الوقائع والأحداث.

وقد تفطّن إلى ذلك في دلالة الآيات ببركة ما ورد من روايات أهل البيت عليهم‌السلام وانتشر من حديثهم، فتبنّاها جملة من طبقات التابعين أخذاً عنهم وإن لم يسندوها إليهم، فقد ورد عنهم عليهم‌السلام كما في صحيحة حَمران أنّه سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) ؟ قال: (نعم، ليلة القدر، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلاّ في ليلة القدر...) (٢) .

وقال علي بن إبراهيم في تفسيره في معنى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : فهو القرآن نزل إلى البيت المعمور في ليلة القدر جملة واحدة، وعلى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في طول ثلاث وعشرين سنة: ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) . ومعنى ليلة القدر أنّ اللَّه

____________________

١) سورة البقرة: ١٨٥.

٢) الكافي، ج٤، ص١٥٧.

٣٢٦

تعالى يقدّر فيها الآجال والأرزاق، وكلّ أمر يحدث من موت أو حياة، أو خصب أو جدب، أو خير أو شرّ، كما قال اللَّه تعالى: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (١) ، إلى سنة، قوله: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) قال: تنزّل الملائكة وروح القدس على إمام الزمان، ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأُمور) (٢) .

وروى الكُليني بسنده عن الحسن بن عبّاس بن جريش، عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، قال: (قال اللَّه عزّ وجلّ في ليلة القدر: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) يقول: ينزل فيها كلّ أمر حكيم، والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شي‏ء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللَّه عزّ وجلّ) (٣) . الحديث.

وروى الكُليني بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (نزل القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة. ثمّ قال، قال النبيّ عليه‌السلام : أُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان) (٤) .

وروى الكُليني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (نزلت التوراة في ستّ مضت في شهر رمضان، ونزل الإنجيل في اثنتي عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور ثماني عشرة من شهر رمضان، ونزل القرآن في ليلة القدر) (٥) .

مكان نزول القرآن:

ومن ثمّ كان للقرآن نزولان، وكان ما يتلقّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في النزول الأوّل هو حقيقة القرآن التكوينية، وفي النزول الثاني هو معاني القرآن وألفاظه.

فالنزول الأوّل: هو نزول جملة القرآن وحقيقته التي في نشأة الملكوت

____________________

١) سورة الدخان: ٤.

٢) تفسير القمّي، ج٢، ص٤٣١.

٣) الكافي، ج١، ص٢٤٧، ح ٣.

٤) الكافي، ج٢، ص٦٢٩، ح ٦.

٥) الكافي، ج٤، ص١٥٧، ح ٥.

٣٢٧

التي هي الكتاب المبين، وقد أطلق عليها الروح في القرآن الكريم، أي أنّه وجود حيّ شاعر عاقل أعظم خلقاً من الملائكة، كما أشارت إليه الآيات والروايات.

والنزول الثاني: هو نزول معاني وألفاظ القرآن، وهو نزول القرآن نجوماً على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي سُمّي القرآن فرقاناً بلِحاظه.

وقد ذهب إلى تنوّع النزول أكثر المفسّرين والمحدّثين، ويشير إلى النمط الأوّل من النزول قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء ) (١) ، وقوله تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (٣) ، وقوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٤) ، وقوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) (٥) . ومن ثمّ اختلف توقيته، توقيت النزول الجملي للقرآن عن بدء البعثة في رجب، التي هي مبدأ لأوّل ما نزل بنحوٍ نجومي متفرّق فُرقاني، أو الذي هو من النمط الثاني.

ويشير أيضاً إلى النمط الأوّل من النزول جملة من الروايات:

منها: ما رواه العياشي عن إبراهيم، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (سألته عن قوله تبارك وتعالى: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) (٦) ، كيف أُنزل فيه القرآن وإنّما أُنزل القرآن في عشرين سنة من أوّله إلى آخره، فقال عليه‌السلام : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ أُنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة) (٧) .

وفي اعتقادات الصدوق، قال في نزول القرآن: اعتقادنا في ذلك أنّ القرآن نزل

____________________

١) سورة الشورى: ٥٢.

٢) سورة الشعراء: ١٩٣ - ١٩٤.

٣) سورة الدخان: ٣.

٤) سورة القدر: ١.

٥) سورة البقرة: ١٨٥.

٦) سورة البقرة: ١٨٥.

٧) تفسير العيّاشي، ج١، ص٨٠، والكافي، ج٢، ص٦٢٩.

٣٢٨

في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ نزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة، وأنّ اللَّه تبارك وتعالى أعطى نبيّه العلم جملة واحدة، ثمّ قال له: ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (١) وقال عزّ وجلّ: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٢) (٣) .

وما ذكره مضمون جملة من الأخبار والروايات، وفي بعض الزيارات تضمّن الخطاب (أيها البيت المعمور) (٤) .

وفي تفسير القمّي: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) يعني القرآن، ( فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) وهي ليلة القدر أنزل اللَّه القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثمّ نزل من البيت المعمور على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في طول عشرين سنة... الحديث (٥) . وبنفس هذه الرواية والألفاظ رواها عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير سورة القدر.

في دلائل الإمامة للطبري بسنده إلى الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث أنّه قال عليه‌السلام : (ونحن البيت المعمور الذي من دخله كان آمن) (٦) .

وروى الصدوق في الأمالي صحيحة حفص، قال، قلت للصادق عليه‌السلام : (أخبرني عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) كيف أُنزل القرآن في شهر رمضان وإنّما أُنزل القرأن في مدّة عشرين سنة أوّله وآخره؟ فقال عليه‌السلام : أُنزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم أُنزل من البيت

____________________

١) سورة طه: ١١٤.

٢) سورة القيامة: ١٦ - ١٩.

٣) الاعتقادات، ص ٨٣.

٤) مقدمة تفسير البرهان، مادة المعمور.

٥) تفسير القمّي في ذيل سورة الدخان.

٦) البحار، ج٥٦، ص١٩٧، ودلائل الإمامة للطبري، ص١٢٦.

٣٢٩

المعمور في مدّة عشرين سنة)، وروى مثله في كتاب فضائل الأشهر الثلاثة (١) .

وفي دلائل الإمامة للطبري بسنده عن الصادق عليه‌السلام في حديث، قلت: (والبيت المعمور أهو رسول اللَّه؟ قال: نعم، المُمْلي رسول اللَّه والكاتب عليّ) (٢) .

وغيرها من الآيات والروايات التي تشير إلى النمط الأوّل من النزول، الذي هو عبارة عن نزول حقيقة القرآن الملكوتية لا المعاني والألفاظ، والتي تقدم أنّها روح القدس، وهي خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل.

الروح النازل في ليلة القدر هو القرآن:

وفي جملة من الروايات المتضمّنة لنزول القرآن في ليلة القدر الظاهر منها أنّ القرآن النازل في ليلة القدر هو الروح الأعظم الذي ينزل في ليلة القدر ويُنزّل به الملائكة.

فقد روي في الكافي والفقيه بإسنادهما، عن حَمران أنّه سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن قول اللَّه تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) ؟ قال: (هي ليلة القدر، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، ولم ينزّل القرآن إلاّ في ليلة القدر، قال تعالى: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (٣) ...) الحديث (٤) .

وبإسنادهما عن يعقوب قال: (سمعت رجلاً يسأل أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن ليلة القدر، فقال: أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كلّ عام؟ فقال أبا عبد اللَّه عليه‌السلام : لو رُفعت ليلة القدر لرُفع القرآن) (٥) .

وبهذا المضمون جملة مستفيضة من الروايات في ذيل سورة القدر وسورة

____________________

١) البحار، ج٩٤، ص١١، والأمالي، ص٦٢.

٢) دلائل الإمامة، ص ٤٧٨.

٣) سورة الدخان: ٣.

٤) الكافي، ج٤، ص١٥٧، ح ٦.

٥) الكافي، ج٤، ص١٥٨.

٣٣٠

الدخان، ومقتضاها: أنّ قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ) عطف بيان أو بدل عن الضمير في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، أو أنّ الفعل (تَنَزَّلُ) الملائكة والروح بدل عن فعل (أنزلناه)، والنتيجة متّحدة مع الاحتمال السابق.

ثمّ إنّ تفسير البيت المعمور بقلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أشارت إليه الروايات السابقة، لا ينافي تفسير البيت المعمور في جملة أُخرى من الروايات بالبيت الضراح المبني في السماء الرابعة التي تطوف به الملائكة كلّ يوم، فإنّه من تعدّد معاني التأويل، وقد أطلق البيت في التعبير القرآني بهذا المعنى، كما في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ ) (١) ، فرجال عطف بدل على بيوت.

أمّا النمط الثاني من النزول: وهو النزول التدريجي والنجومي، أي نزول المعاني والألفاظ، فيشير إليه جملة من الآيات والروايات، كما في قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (٣) .

وكذا الآيات التي تشير إلى حدث زماني بخصوصه، نظير قوله تعالى: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (٤) ، ومثلها: قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) (٥) ، وغيرها من الآيات والسور النازلة بحسب أسباب النزول الحادثة حالاً بحال، فضلاً عن تدريجية نزول الآيات والسور كما في أوّل ما نزل من السور، كما في قوله تعالى:

____________________

١) سورة النور: ٣٦ - ٣٧.

٢) سورة القيامة: ١٦ - ١٩.

٣) سورة طه: ١١٤.

٤) سورة المجادلة: ١.

٥) سورة الجمعة: ١١.

٣٣١

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِْنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (١) ، وغيرها من السور النازلة بحسب سنوات البعثة وسنوات الهجرة الذي عُرف بآخر السور نزولاً.

وبعبارة أُخرى: أنّ ظاهر قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (٣) ، وقوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٤) ، هو نزول القرآن جملة واحدة، أي نزول جملي لحقيقة واحدة غير مفصّل، ثمّ فُصّل تنزيله بحسب موارد نزول السور والآيات المختلفة، ولذلك كان نزول القرآن بنحو مفصّل في بداية البعثة النبويّة الشريفة في آخر شهر رجب بقوله تعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ... ) ، وكذا بقية السور الأوائل نزولاً، وليس المراد من نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان هو ابتداء نزوله.

ممّا يشير إلى وجود نمطين من النزول للقرآن الكريم - نزول جملي لحقيقة واحدة، ونزول مفصّل - قال تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٥) ، وظاهر مفاد الآية يقتضي أنّ مرحلة جمع مفصّل القرآن وتفصيله غير مرحلة الوحي والقرآن جملة، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عالماً بالقرآن إلاّ أنّه نُهي عن الاستعجال به قبل تنزيل قرآنه ونزول الوحي به، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (٦) ، حيث ( يُقْضَى ) إمّا بمعنى يتمّ أو بمعنى يصل، وعلى كلا التقديرين فظاهر الآية دالّ على علمه بالقرآن قبل إنزاله بالوحي

____________________

١) سورة العلق: ١ - ٣.

٢) سورة البقرة: ١٨٥.

٣) سورة الدخان: ١.

٤) سورة القدر: ١.

٥) سورة القيامة: ١٦ - ١٩.

٦) سورة طه: ١١٤.

٣٣٢

بنحو التفصيل نجوماً، أمّا على كون (يُقْضَى) بمعنى (يصل) فملائمته ظاهرة للمفاد المزبور، وأمّا على كونها بمعنى يتمّ فقيل إنّه بمعنى قراءته للقرآن قبل أن ينتهي جبرئيل من الوحي بتحريك لسانه، ولكنّه خلاف الظاهر؛ حيث إنّه يستلزم الاستخدام في الضمير، ويكون المعنى على هذا التقدير لا تعجل ببعض القرآن من قبل أن يتمّ إليك وحي الباقي منه.

وحمل الكلام على الاستخدام يتوقّف على القرينة الخاصّة، بخلاف الحال ما لو جعلنا مرجع الضمير متّحد بلا استخدام، فإنّ تقدير المعنى يكون حينئذٍ: لا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه مرّة أُخرى، أي وحي الإنزال والتنزيل من النمط الثاني وهو نزول القرآن تفصيلاً ونجوماً، فيدلّ على علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله به من قبل أن يتمّ الوحي من النمط الثاني.

وممّا يدلّ على تعدّد نزول القرآن أيضاً قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١) ، فإنّ المطهّرون وهم النبيّ وأهل بيته عليهم‌السلام عالمون بالكتاب المكنون بمسّ وصول يختلف عن تنزيل القرآن المفصّل، فالكتاب المكنون قد تقدّم أنّه الوجود المجموعي للقرآن بنحو الإحكام والوجود الجملي، وهو الحقيقة الواحدة وهي الروح الأمري الذي يتجدّد نزوله في كلّ ليلة قدر في كلّ عام، وتتنزّل الملائكة به وهو روح أعظم من جبرئيل وميكائيل.

وممّا يشير إلى اختلاف النزولين أيضاً قوله تعالى: ( كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (٢) ، وقد ثبت في تفسير الآية بحسب نزولها المكّي وبحسب وحدة سياق السورة مع الآيات السابقة عليها وبحسب توسّم

____________________

١) سورة الواقعة ٨٠ - ٧٧: ٥٦.

٢) سورة الرعد ٤٣: ١٣.

٣٣٣

قريش في‏بني هاشم جملة من الصفات والحالات غير المعتادة لدى قدرات البشر وبحسب نصوص الفريقين وبحسب النصوص الواردة في ذيلها، أنّ المراد بمن عنده علم الكتاب هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام .

والآية مع كونها مكّية - ولمّا يَستتم نزول القرآن التفصيلي المكّي فضلاً عن المدني - تدلّ على علم الوصيّ فضلاً عن علم النبيّ بالكتاب كلّه؛ إذ هذا التعبير يفترق عن قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) (١) ، بأنّ التعبير الأوّل يدلّ على العلم المحيط بكلّ الكتاب، فالآية ظاهرة بوضوح في حصول العلم بجملة الكتاب لدى المطهّرين، وهم النبيّ ووصيه عليهم‌السلام منذ البداية، وذلك بتوسّط نزول حقيقة القرآن جملة في الوحي من النمط الأوّل.

وممّا يدلّ على ذلك قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) ، فتدلّ الآية على درايته صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتاب كلّه، مع أنّ سورة الشورى مكّية.

وكذا، قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ) (٣) ، وقوله تعالى: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) (٤) ، وجملة من الآيات التي تضمّنت إنزال الكتاب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بناءً على ظهور (أل) في الاستغراق أو الجنسية، لجملة الحقيقة بجملة الآيات السابقة الدالّة على علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بجملة الكتاب المبين والمكنون وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ، وكذلك الأئمّة من أهل بيته تلقّوا ذلك عنه، إلاّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مأموراً باتّباع ما ينزل عليه من الوحي التفصيلي والتنزيل النجومي فيتّبع قرآنه.

____________________

١) سورة النمل ٤٠: ٢٧.

٢) سورة الشورى ٥٢: ٤٢.

٣) سورة النساء ١٠٥: ٤.

٤) سورة المائدة ٤٨: ٥.

٣٣٤

وأمّا اشتمال القرآن الكريم على قوله تعالى: ( الآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ) (١) ، وقوله تعالى: ( عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ) (٣) ، وغيره كثير ممّا يشير إلى تدريجية نزول القرآن حسب سلسلة أحداث زمانية ومكانية طوال البعثة والرسالة الشريفة، فلا يتنافى مع نزول الكتاب جملةً على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ذلك.

اختلاف صفات القرآن في النزولَين:

لأنّ الكتاب بعد تنزيله بالنمط التدريجي تطرأ عليه أوصاف أُخرى أشار إليها القرآن الكريم، كقوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٤) ، وقوله تعالى: ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (٥) ، وقوله تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ) (٦) ، وقوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (٧) ، وقوله تعالى: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (٨) ، وغيرها من الآيات التي تشير إلى اتّصاف القرآن بأوصاف طرأت عليه عند نزوله، كالتفصيل، والعربية، وكونه تصديق الذي بين يديه، وتشابه بعض آياته، والناسخ والمنسوخ، والظاهر والباطن، والتنزيل والتأويل، والجمع والتفريق، وغيرها من الأوصاف الطارئة، فإنّها أوصاف له بعد نزوله نجوماً.

____________________

١) سورة الأنفال: ٦٦.

٢) سورة التوبة: ٤٣.

٣) سورة المجادلة: ١.

٤) سورة الزخرف: ٣.

٥) سورة هود: ١.

٦) سورة يونس: ٣٧.

٧) سورة آل عمران: ٧.

٨) سورة البقرة: ١٠٦.

٣٣٥

وليست أوصافاً له بحسب موقعه في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ والكتاب المبين، وكذلك الحال بالنسبة إلى صورة الألفاظ وما يتبع ذلك من أوصاف، وهي: العربية، والخطابية، والإنشاء، والإخبار، والبلاغة، والفصاحة، وغيرها، فهذه ليست أوصافاً له بحسب موقعه المكنون باللوح المحفوظ، وأنّما هي حادثة له بعد النزول، أمّا جملة معارفه وحقائقه وأحكامه فلا يطرأ عليها مثل تلك الأوصاف.

وبكلمة جامعة: إنّ القرآن بمجموع وجوداته اللفظية وتراكيب جمله، والمعاني ‏المدلول عليها في الظهور الأوّلي في ظاهر الكتاب، هي من نزول القرآن من النمط الثاني؛ إذ النمط الأوّل - كما تقدّم - هو من سنخ الحقائق التكوينية والوجودات العينية، وإن لم ينحصر النمط الأوّل بذلك بل يشمل ما يكون من سنخ معاني التأويل.

النمط الثالث للنزول:

وقد تُعدّ درجات بطون القرآن ومعانيه التأويلية من سنخ ونمط تنزّل ثالث سيأتي بسط الحديث عنه في مقالات لاحقة.

هذا مضافاً إلى متواتر الروايات المتضمّنة للإشارة إلى موارد النزول وتأليف آيات وسور القرآن بوجوده اللفظي. ثمّ إنّ المعاني المتنزّلة من حقيقة القرآن الكلّية وحقائقه الجملية ليست محيطة بها؛ فإنّ المعاني والمفاهيم مهما كانت في السعة والشمول ليست إلاّ لَمَعَات يسيرة من أنواع تلك الحقائق، هذا فضلاً عن الألفاظ المشيرة إلى تلك المعاني التي هي تنزّل لفظي لها؛ فإنّ الألفاظ ليست إلاّ علامات ودوالّ إشارية على مجمل بحور المعاني، وليست بتلك التي تحيط بها، والنسبة بين الألفاظ والمعاني كالنسبة بين المعاني والحقائق.

٣٣٦

فالألفاظ مفتاح وأبواب للمعاني، والمعاني لا تتناهى درجاتها وبطونها، وهي بوابات لشعب الحقائق من دون أن تُكتَنَه المعاني؛ فما يحمله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حقائق، وحقيقة القرآن، لا يمكن أن تسعه المعاني، كما أنّ المعاني التي تنزّلت من تلك الحقائق لا يمكن أن تسعها الألفاظ.

حقيقة وراثة الأوصياء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ومن ثمّ ورد أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكلّم أحداً بكنه عقله قطّ، وكذلك الحال فيما تحمّله الوصيّ عليه‌السلام ووُلده الأوصياء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عُمْدَتُه ليس من الألفاظ والمعاني من قبيل: الحديث والرواية، بل عمدة ما تحمّله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو حقيقة القرآن التي هي الروح الأعظم، وهو أعظم أنماط التحمّل؛ لأنّه اكتناه حضوري للحقائق لا يغيب عنه شي‏ء منها، بخلاف تحمّل المعاني فضلاً عن تحمّل الألفاظ.

ففرق بين الوصاية والفَقَاهة والرواية، حيث دلّت سورة القدر ونحوها من السور على بقاء تنزّل ذلك الروح كلّ عام على من يشاء من عباده، قال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) (١) ، وقال تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٢) ، وقال تعالى: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٣) ، فكما أنّ تنزّل الروح الأعظم في ليلة القدر دائم دائب في كلّ سنة بالضرورة، فكذلك ليلة القدر تعني وراثة وليّ اللَّه تعالى لمقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تنزّل الروح عليه.

____________________

١) سورة القدر: ١ - ٥.

٢) سورة النحل: ٢.

٣) سورة غافر: ١٥.

٣٣٧

وقد تقدم في هذه المقالة أنّ ذلك الروح هو حقيقة القرآن، وأنّه عطف بيان وبدل على الضمير في (أنزلناه) ولو من باب بدل الجملة من جملة، ومن ثمّ قال تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) (١) ، والمطهّرون بصيغة الجمع، وهم أهل آية التطهير، حيث قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) .

وتقدّم أنّ الكتاب المكنون ليس لوحاً ونقش صور الألفاظ، بل هو الروح (الذي هو حقيقة القرآن التكوينية)، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) (٣) ، فالروح الأمري هو الكتاب، والذي يمسّ الكتاب هو الذي يتلقّى تنزّل الروح الأمري كلّ عام في ليلة القدر، والمطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون هم الأئمّة عليهم‌السلام الذين يتوارثون الكتاب وهو الروح الأمري، حيث قال تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (٤) ، فالهداية الأمرية هي بالروح الأمري.

وكذلك في قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٥) ، والذين اصطفاهم وأصفاههم أهل آية التطهير، فهذه الآيات تتشاهد لبعضها البعض؛ لتدلّ على أنّ الأئمّة المطهّرون المصفّون الذين يمسّون الكتاب ويرثوه يتلقّون حقيقة الكتاب، وهو الروح الأمري والذي يتنزّل في ليلة القدر في كلّ عام على من يشاء اللَّه من عباده، وقد ذُكر عنوان ورثة الكتاب والذين يمسّونه بصيغة

____________________

١) سورة الواقعة: ٧٧ - ٨٠.

٢) سورة الأحزاب: ٣٣.

٣) سورة الشورى: ٥٢.

٤) سورة الأنبياء: ٧٣.

٥) سورة فاطر: ٣٢.

٣٣٨

الجمع؛ للتدليل على أنّهم مجموعة ممتدّة طوال عمر هذا الدين وما بقي القرآن.

قراءة جديدة في حديث الثقلين وأنّ الأئمّة عليهم‌السلام هم الثقل الأكبر:

ولكي نبرهن على ذلك لابدّ من توضيح جملة من الأُمور:

الأوّل: إنّهم عين حقيقة القرآن، وهذا معنى عدم افتراق القرآن عن العِترة، أي عدم افتراق حقيقة القرآن التكوينية - وهو الكتاب المكنون وهو الروح الأعظم - عن ذوات العترة المطهّرة، بل هو أحد أرواحهم الذي يسدّدهم.

قراءة جديدة في آية ( وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) :

وهذا معنى تنزيل نفس عليّ عليه‌السلام منزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى: ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) (١) ، كيف لا؟! والروح الأمري - الذي هو الروح الأعظم والذي هو حقيقة القرآن وهو الكتاب المبين الذي نُزّل على قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُوحي إليه - قد ورثه الوصيّ ويتنزّل عليه وعلى ذرّيته الأوصياء عليهم‌السلام .

وفي صحيح أبي بصير قال: (سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه تبارك وتعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) (٢) ؟ قال: خَلْق من خَلْق اللَّه عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده) (٣) .

وفي صحيحه الآخر قال: (سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( وَيَسْأَلُونَكَ

____________________

١) سورة آل عمران: ٦١.

٢) سورة الشورى: ٥٢.

٣) الكافي، ج١، ص٢٧٣، ح١.

٣٣٩

عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (١) ؟ قال: خَلْق أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مع الأئمّة، وهو من الملكوت) (٢) .

وفي صحيح ثالث لأبي بصير - بعد وَصْفه للروح بما تقدّم -: (لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مع الأئمّة يسدّدهم) (٣) .

وفي موثّق علي بن أسباط، عن أبيه أسباط بن سالم، زيادة قوله عليه‌السلام : (منذ أنزل اللَّه عزّ وجلّ ذلك الروح على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما صعد إلى السماء، وإنّه لفينا) (٤) .

وفي رواية أبي حمزة، قال: (سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن العلم، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال، أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك ٍ وأوجب، أما سمعت قول اللَّه عزّ وجلّ: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (٥) ..) الحديث (٦) . وهذا المعنى الذي يشير إليه عليه‌السلام هو ما تقدّم ذكره من أنّ الأوصياء في تحمّلهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس هو تحمّل رواية ألفاظ، ولا مجرّد فهم معاني، بل حقيقة تحمّلهم وعمدته هو تحمّل حقيقة القرآن التي هي روح القدس.

فعمدة ما يتلقّونه بقلوبهم وأرواحهم عليهم‌السلام هو عن قلب وروح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس العمدة هو عن مجرّد لسانه الشريف وآذانهم الطاهرة، ولا عمدته من كتب يقرؤونها كالجامعة ونحوها، فهم بدورهم فيما يبلغونه من ألفاظ مؤدّية إلى طبقات المعاني الموصلة إلى بعض الحقائق التي تلقّوها.

____________________

١) سورة الإسراء: ٨٥.

٢) الكافي، ج١، ص٢٧٣، ح٣.

٣) الكافي، ج١، ص٢٧٣، ح ٤.

٤) الكافي، ج١، ص٢٧٣، ح٢.

٥) سورة الشورى ٥٢.

٦) الكافي، ج١، ص٢٧٣، ح٥.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592