الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141419 / تحميل: 8973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

٢٠٥ ـ رواية الحسن بن كثير :

وقد روى الحسن بن كثير وعبد خير ، قالا : لما وصل عليعليه‌السلام إلى كربلا وقف وبكى ، وقال : بأبي أغيلمة يقتلون ههنا. هذا مناخ ركابهم ، هذا موضع رحالهم ، هذا مصرع الرجل.

ـ رواية أخرى :(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ ص ١٧١)

عن الحسن بن كثير ، عن أبيه ، أن علياعليه‌السلام أتى كربلاء ، فوقف بها ، فقيل له :

يا أمير المؤمنين ، هذه كربلاء. فقال : ذات كرب وبلاء. ثم أومأ بيده إلى المكان ، فقال : ههنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم.

ثم أومأ بيده إلى مكان آخر ، فقال : ههنا مهراق دمائهم. ثم مضى إلى ساباط.

٢٠٦ ـ شهداء كربلاء مثل شهداء بدر (رض):

(أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ، ج ٤ ص ١٤٣)

في منتخب كنز العمال عن الطبراني في الكبير ما لفظه عن شيبان بن محرم ، قال :إني لمع عليعليه‌السلام إذ أتى كربلاء ، فقال : يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم إلا شهداء بدر.

ـ شهداء كربلاء لا يسبقهم سابق :(المنتخب للطريحي ، ص ٨٧)

عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : مر أمير المؤمنينعليه‌السلام بكربلاء ، فبكى حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، وقال : هذا مناخ ركابهم ، هذا ملقى رحالهم ، ههنا تراق دماؤهم. طوبى لك من تربة عليها يراق دم الأحبة. مناخ ركاب ومنازل شهداء ، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من كان بعدهم.

٢٠٧ ـ إخبار عليعليه‌السلام أن الحسينعليه‌السلام يقتل وموضع ذلك ، وما في ذلك من معجزات :(مدينة المعاجز لهاشم البحراني ، ص ١٢٠)

روى الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس ، قال : كنت مع عليعليه‌السلام في خروجه من صفين. فلما نزلنا نينوى ـ وهي بشط الفرات ـ قال بأعلى صوته : يابن عباس أتعرف هذا الموضع؟ قلت : لا أعرفه يا أمير المؤمنين. فقال عليعليه‌السلام : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي لبكائي. قال فبكىعليه‌السلام طويلا حتى اخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معه ، وهو يقول : أوه أوه ، مالي

٢٢١

ولآل أبي سفيان مالي ولآل حزب الشيطان وأولياء الكفر. صبرا صبرا يا أبا عبد الله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم. ثم دعا بماء فتوضأ وضوء الصلاة ، فصلى ما شاء الله أن يصلي.

وذكر نحو كلامه ، إلا أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ، ثم انتبه فقال :يابن عباس. قلت : ها أنذا. فقال : ألا أحدثك عما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي؟ فقلت : نامت عينك ورأيت خيرا يا أمير المؤمنين. قالعليه‌السلام : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلدوا سيوفهم ، وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطة. ثم رأيت كأن النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض ، تضرب بدم عبيط (أي طري) ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي ، قد غرق فيه ، يستغيث فلا يغاث. وكأن الرجال البيض (الذين) نزلوا من السماء ، ينادونه ويقولون : صبرا آل الرسول ، فإنكم تقتلون على يدي شرار الناس ، وهذه الجنة يا أبا عبد الله مشتاقة إليك. ثم يعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشروا فقد أقرّ الله عينك يوم يقوم الناس لرب العالمين. ثم انتبهت هكذا.

والذي نفس علي بيده ، لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أني سأمر بها في خروجي إلى أهل البغي علينا. وهي أرض كرب وبلاء ، يدفن فيها الحسينعليه‌السلام وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمةعليها‌السلام . وإنها لفي السموات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس. ثم قال : يا بن عباس ، اطلب حولها بعر الظباء ، فو الله ما كذبت ولا كذبت ، وهي مصفرة ، لونها لون الزعفران. فطلبتها فوجدتها مجتمعة. فناديته : يا أمير المؤمنين قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي. فقال عليعليه‌السلام : صدق الله ورسوله.

ـ قصة مرور عيسىعليه‌السلام بكربلاء :

ثم قام عليعليه‌السلام يهرول حتى جاء إليها فحملها وشمها ، وقال : هي هي ، أتعلم يابن عباس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمها عيسى بن مريم ، وذلك أنه مرّ بها ومعه الحواريون ، فرأى ههنا ظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسىعليه‌السلام وجلس الحواريون. فبكى وبكى الحواريون ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى. فقالوا : يا روح الله وكلمته ما يبكيك؟ قال : أتعلمون أي أرض هذه ، هذه أرض من يقتل فيها

٢٢٢

فرخ رسول الله أحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرخ الحرة الطاهرة البتول ، شبيهة أمي ، ويلحد فيها أطيب من المسك ، لأنها طينة الفرخ المستشهد ، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء. فهذه الظباء تكلمني وتقول : انها ترعى هذه الأرض شوقا إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض.

ثم ضرب بيده البعيرات فشمها ، وقال : هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها. اللهم فأبقها أبدا حتى يشمها أبوه ، فتكون له عزاء وسلوة. فبقيت إلى يومنا هذا وقد اصفرت لطول زمنها ، وهذه أرض كرب وبلاء.

ثم قال بأعلى صوته : يا رب عيسى بن مريم ، لا تبارك في قتلته والمعين لهم والخاذل له. ثم بكى طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا. ثم أفاق فأخذ البعر فصّره في ردائه وأمرني أن أصرها كذلك.

ثم قال : يابن عباس ، إذا رأيتها تتفجر دماء عبيطا ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبد اللهعليه‌السلام قد قتل بها ودفن.

قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشد من حفظي لما افترض اللهعزوجل علي ، وأنا لا أحلها من طرف كمي. فبينا أنا نائم في البيت فإذا هي تسيل دما عبيطا ، وان كمي قد امتلأ دما عبيطا. فجلست وأنا باك ، وقلت : قتل والله الحسين ، والله ما كذبني قط في حديث ، ولا أخبر بشيء أن يكون إلا كان كذلك ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره. ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين. ثم طلعت الشمس فرأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط. فجلست وأنا باك ، وقلت قتل والله الحسينعليه‌السلام .

وسمعت صوتا من ناحية البيت ، وهو يقول : اصبروا آل الرسول قتل الفرخ النحول ، نزل الروح الأمين ببكاء وعويل. ثم بكى بأعلى صوته وبكيت. فأثبتّ عندي تلك الساعة ، وكان شهر محرم يوم عاشور لعشر مضين منه ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره ، وتاريخه كذلك. فحدثت بهذا الحديث الذين كانوا معه فقالوا :والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ، ولا ندري ما هو. قلت : أترى أنه الخضرعليه‌السلام .

٢٢٣

٢٠٨ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام حين مر بكربلاء وهو سائر إلى صفين :

(وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ١٤٠ ط ٢)

قال نصر بن مزاحم : حدثني مصعب بن سلام عن هرثمة بن سليم ، قال :غزونا مع علي بن أبي طالبعليه‌السلام غزوة صفين. فسار حتى انتهى إلى كربلاء ، فنزل إلى شجرة فصلى إليها ، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ، ثم قال : واها لك أيتها التربة ، ليحشرن منك (وفي رواية : ليقتلن بك) قوم يدخلون الجنة بغير حساب.

فلما رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته ـ وهي جرداء بنت سمير ، وكانت شيعة لعليعليه‌السلام ـ فقال لها زوجها هرثمة : ألا أعجّبك من صديقك أبي الحسن؟ لما نزلنا كربلا رفع إليه من تربتها فشمها ، وقال : «واها لك يا تربة ، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب». وما علمه بالغيب؟! فقالت : دعنا منك أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين لم يقل إلا حقا.

فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن عليعليه‌السلام وأصحابه ، قال هرثمة : كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم ، فلما انتهيت إلى القوم وحسين وأصحابه ، نظرت إلى الشجرة ، فذكرت الحديث وعرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع عليعليه‌السلام ، والبقعة التي رفع إليه من ترابها ، والقول الذي قاله ، فكرهت مسيري. فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسينعليه‌السلام ، فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل.

فقال الحسينعليه‌السلام : فأنت معنا أم علينا؟ فقلت : يابن رسول الله لا معك ولا عليك. تركت أهلي وولدي وعيالي ، أخاف عليهم من ابن زياد.

فقال الحسينعليه‌السلام : فولّ في الأرض هربا حتى لا ترى لنا مقتلا ، فو الذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلا أدخله الله النار. قال هرثمة :فأقبلت في الأرض هاربا حتى خفي علي مقتله.

ملاحظة : هذه الفقرة هي جمع عدة روايات مع بعض ، إحداها وردت في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٣ ص ١٦٩ ط مصر ـ تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم.

٢٠٩ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام بما سيحدث في كربلاء :

(المصدر السابق ، ص ١٤١)

حدّث نصر بن مزاحم عن مصعب بن سلام عن سعيد بن وهب ، قال : بعثني

٢٢٤

مخنف بن سليم إلى عليعليه‌السلام عند توجهه إلى صفين. فأتيته بكربلاء ، فوجدته يشير بيده ويقول : ههنا! فقال له رجل : وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال : ثقل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل ههنا ، فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم!.

فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال (ويل لهم منكم) تقتلونهم ، (وويل لكم منهم) يدخلكم الله بقتلهم إلى النار.

٢١٠ ـ حديث الإمام الحسنعليه‌السلام عن مصرع أخيه الحسينعليه‌السلام :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٣٨ ط نجف)

روى الإمام الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال : دخل الحسين على أخيه الحسنعليهما‌السلام يوما ، فلما نظر إليه بكى. فقال له الحسنعليه‌السلام : ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال :أبكي لما يصنع بك. فقال له الحسنعليه‌السلام : إن الذي يؤتى إليّ سم يدس إلي فأقتل به(١) ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينتحلون بك الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء دما ورمادا ، ويبكي عليك كل شيء ، حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار.

٢١١ ـ إخبار الحسينعليه‌السلام بمقتله :

عن معاوية بن قرة قال : قال الحسينعليه‌السلام : والله ليعتدن عليّ كما اعتدت بنو اسرائيل في السبت.

قال : وأنبأنا علي بن محمد ، عن جعفر بن سليمان الضبعي ، (قال) قال الحسينعليه‌السلام : والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة.

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف ، ص ١٤.

٢٢٥

أخبار أخرى

٢١٢ ـ ورود سلمان (رض) كربلاء :

(وسيلة الدارين في أنصار الحسين للسيد إبراهيم الزنجاني ، ص ٧١)

في الخبر عن المسيب بن نجبة الفزاري ، قال : خرجت أستقبل سلمان الفارسي حين أقبل من المدينة إلى المدائن. فلما وصل إلى كربلاء تغير حاله وبكى ، وقال :هذه مصارع إخواني. هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم. يقتل بها خير الأولين وابن خير الآخرين.

٢١٣ ـ إخبار أبي ذر الغفاري بمقتل الحسينعليه‌السلام ونتائج ذلك :

(الإرشاد للشيخ المفيد ، ص ٢٣٦)

في (كامل الزيارة) عن عروة بن الزبير ، قال : سمعت أبا ذر ، وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة ، فقال له الناس : يا أبا ذر أبشر ، فهذا قليل في الله. فقال ما أيسر هذا ، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن عليعليه‌السلام قتلا (أو قال : ذبح ذبحا)؟. والله لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة (يعني علي بن أبي طالب) أعظم قتيلا منه. وإن الله سيسل سيفه على هذه الأمة لا يغمده أبدا. ويبعث ناقما من ذريته فينتقم من الناس. وإنكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار ، وسكان الجبال في الغياض والآكام ، وأهل السماء من قتله ، لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم. وما من سماء يمر بها روح الحسينعليه‌السلام إلا فزع له سبعون ألف ملك ، يقومون قياما ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة. وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله. وما من يوم إلا وتعرض روحه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيلتقيان.

٢١٤ ـ ملازمة رجل من بني أسد أرض كربلاء :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ، ص ٢١٢)

قال العريان بن الهيثم : كان أبي يتبدى فينزل قريبا من الموضع الذي كانت فيه معركة الحسينعليه‌السلام . فكنا لا نبدو إلا وجدنا رجلا من بني أسد هناك. فقال له أبي : أراك ملازما هذا المكان!. قال : بلغني أن حسيناعليه‌السلام يقتل ههنا ، فأنا أخرج إلى هذا المكان ، لعلي أصادفه فأقتل معه.

قال ابن الهيثم : فلما قتل الحسينعليه‌السلام قال أبي : انطلقوا بنا ننظر ، هل الأسدي فيمن قتل مع الحسينعليه‌السلام . فأتينا المعركة وطوّقنا ، فإذا الأسدي مقتول.

٢٢٦

(أقول) لعل هذا الشهيد هو أنس بن الحرثرحمه‌الله . وهذا درس يعلمنا أن المؤمن النبيه يسعى نحو الحق حتى يدركه ، فينال أعلى درجات السعادة والكرامة ، كما فعل أنس بن الحرث الأسدي.

٤ ـ أخبار بمن يقتل الحسينعليه‌السلام

٢١٥ ـ الحسينعليه‌السلام يخبر بأن عمر بن سعد سيقتله :

(كشف الغمة ٢ / ٩ وإرشاد المفيد ص ٢٨٢ والبحار ٤٤ / ٢٦٣)

روى سالم بن أبي حفصة ، (قال) قال عمر بن سعد للحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، إن قبلنا أناسا سفهاء يزعمون أني أقتلك. فقال له الحسينعليه‌السلام : إنهم ليسوا سفهاء ، ولكنهم حلماء. أما إنه يقر عيني أن لا تأكل من برّ العراق بعدي إلا قليلا.

٢١٦ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام بأن عمر بن سعد يقتل ابنه الحسينعليه‌السلام :

عن الأصبغ بن نباتة ، قال : بينا أمير المؤمنينعليه‌السلام يخطب الناس ، وهو يقول :سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء مضى ولا شيء يكون إلا أنبأتكم به. فقام إليه سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة. فقال : أما والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنك ستسألني عنها. وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ابني الحسينعليه‌السلام . وكان عمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه.

(أقول) : فلما كان من أمر الحسينعليه‌السلام ما كان ، تولى عمر بن سعد قتل الحسينعليه‌السلام ، وكان الأمر كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وفي رواية (الإرشاد) للمفيد ص ٢٠ قال له عليعليه‌السلام :

وآية ذلك مصداق ما خبّرتك به. ولو لا أن الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكن آية ذلك ما أنبأتك به من لعنتك وسخلك الملعون.

قال ابن سيرين : وقد ظهرت كرامات علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذا ، فإنه لقي قاتل الحسينعليه‌السلام وهو شاب ، فقال : ويحك ، كيف بك إذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار؟

وسيرد هذا الخبر عند الحديث عن عمر بن سعد ، الذي تولى قيادة الجيش لقتال

٢٢٧

الحسينعليه‌السلام ، وقد نصحه الحسينعليه‌السلام كثيرا ، ولكن حب الدنيا أعمى قلبه.

تنبيه حول السائل :ذكر فخر الدين الطريحي في (المنتخب) ص ١٦٦ : أن الذي سأل الإمامعليه‌السلام : كم شعرة في رأسي ، هو يزيد والد خولي بن يزيد الأصبحي.ولعل بعض الروايات تشير إلى أنه سنان بن أنس ، والله أعلم.

يقول العلامة المجلسي في البحار ، ج ٤٤ ص ٢٥٧ : لا يخفى ما في الحديث من تسمية الرجل السائل المتعنت بأنه سعد بن أبي وقاص ، حيث أن سعد بن أبي وقاص اعتزل عن الجماعة وامتنع عن بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاشترى أرضا واشتغل بها ، فلم يكن ليجيء إلى الكوفة ويجلس إلى خطبة الإمام عليعليه‌السلام .ومن جهة أخرى إن عمر بن سعد قد ولد في السنة التي مات فيها عمر بن الخطاب وهي سنة ٢٣ ه‍ فكان عمره حين خطب الإمامعليه‌السلام هذه الخطبة بالكوفة غلاما بالغا أشرف على العشرين ، لا أنه سخل في بيته.

ولما كان أصل القصة مسلمة مشهورة ، عدل الشيخ المفيد في (الإرشاد) عن تسمية الرجل ، وتبعه الطبرسي في (إعلام الورى) ص ١٨٦. ولعل الصحيح ما ذكره ابن أبي الحديد ، حيث ذكر الخطبة في شرحه على النهج ، ج ١ ص ٢٥٣ عن كتاب (الغارات) لابن هلال الثقفي عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد الباقرعليه‌السلام وقال في آخره : والرجل هو سنان بن أنس النخعي.

٢١٧ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزيد هو قاتل الحسينعليه‌السلام :

أخرج الطبراني عن معاذ بن جبل ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يزيد ، لا بارك الله في يزيد. نعي إليّ الحسينعليه‌السلام وأتيت بتربته ، وأخبرت بقاتله. والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه ، إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا (أي جماعات متفرقين).

وأخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ : يزيد ، لا بارك الله في يزيد ، الطّعان اللعّان ، أما إنه نعي إلي حبيبي وسخلي حسين ، أتيت بتربته ورأيت قاتله. أما إنه لا يقتل بين ظهراني قوم فلا ينصرونه ، إلا عمّهم الله بعقاب.

وأخرج أبو يعلى عن أبي عبيدة (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية ، يقال له : يزيد.

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والروياني والحافظ أبوبكر محمد بن اسحق ابن

٢٢٨

خزيمة السلمي النيسابوري والبيهقي وابن عساكر والضياء ، عن أبي ذر ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية. وزاد الروياني : يقال له يزيد.

٢١٨ ـ رواية أخرى :

(معجم الطبراني ص ١٣٠ ومقتل الخوارزمي ص ١٦٠ وكنز العمال ١٣ / ١١٣ وأمالي الشجري ص ١٦٩)

في معجم الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن معاذ بن جبل أخبره قال :خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متغير اللون ، فقال : أنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوتيت فواتح الكلام وخواتمه ، فأطيعوني ما دمت بين أظهركم ، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب اللهعزوجل ، أحلوا حلاله وحرموا حرامه ، (فإذا) أتتكم الموتة أتتكم بالروح والراحة.كتاب الله من الله سبق ، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، كلما ذهب رسل جاء رسل ، تناسخت النبوة فصارت ملكا. رحم الله من أخذها بحقها ، وخرج منها كما دخلها.

أمسك يا معاذ واحص!. قال : فلما بلغت خمسة ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يزيد ، لا بارك الله في يزيد. ثم ذرفت عيناه. ثم قال : نعي إلي حسين ، وأوتيت بتربته ، وأخبرت بقاتله. والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه ، إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا.

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : واها لفراخ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف.

أمسك يا معاذ. فلما بلغت عشرة ، قال : الوليد(١) اسم فرعون ، هادم شرائع الاسلام ، يبوء بدمه رجل من أهل بيته ، يسل الله سيفه فلا غماد له ، ويختلف الناس فكانوا هكذا ، وشبك بين أصابعه.

ثم قال : وبعد العشرين والمائة موت سريع وقتل ذريع ، فيه هلاكهم ، ويلي عليهم رجل من ولد العباس.

__________________

(١) لعل المقصود به الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وهو الذي مزّق القرآن وقال :

تهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل : يا ربّ مزّقني الوليد

٢٢٩
٢٣٠

الفصل السادس

المآتم الحسينيّة

١ ـ إقامة ذكرى الحسينعليه‌السلام والحزن عليه

ـ إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام

٢ ـ فضل البكاء والحزن على الحسينعليه‌السلام

٣ ـ إقامة ذكرى الحسينعليه‌السلام ومراسم الحزن يوم عاشوراء

ـ اتخاذ بني أمية يوم عاشوراء يوم عيد وفرح

ـ أحاديث موضوعة في فضل يوم عاشوراء وأنه عيد

ـ هل يجوز صيام يوم عاشوراء؟

٤ ـ فلسفة المآتم الحسينية

٢٣١
٢٣٢

الفصل السادس

المآتم الحسينيّة

* مقدمة الفصل :

لا يخفى أن مصيبة الحسينعليه‌السلام الكبيرة قد أقضّت مضجع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحوذت عليه كل اهتمامه. فلا عجب إذا رأيناه يقيم المأتم على الحسينعليه‌السلام منذ مولده ، وفي عدة مناسبات من حياته. وعلى ذلك سار الأئمة الأطهار ودعوا كل من شايع الحسينعليه‌السلام إلى إقامة الحزن والعزاء عليه في كل مكان وزمان ، ولا سيما يوم العاشر من المحرم ، حتّى صار شعارهم :

«كل أرض كربلا ، وكل يوم عاشورا»

في حين كان بعض المسلمين عمدا أو جهلا يقيمون الفرح في ذلك اليوم ، جريا على السنّة التي اختطها لهم بنو أمية من غابر الزمان.

وسوف نتكلم في هذا الفصل حول إقامة المآتم الحسينية ، ثم فضل الحزن والبكاء على الحسينعليه‌السلام ، ثم إقامة مراسم العزاء والحزن والحداد يوم العاشر من المحرم كل عام. ونتعرض إلى بعض خصوصيات يوم عاشوراء ، والمحاولات المغرضة لتغيير مفهومه وصرفه عن حقيقته. ثم ننهي الفصل بفلسفة المآتم الحسينية ، وتتضمن أهداف ذكرى الحسينعليه‌السلام والفوائد التي تحققها المجالس الحسينية ، وأن هدفها ليس فقط الحزن والبكاء ، وإنما العظة واليقظة والاعتبار ، وتبديل السلوك وتعديل المسار ، والخروج من مستنقع الخطايا والأوزار ، إلى رياض الأخيار وجنان الأبرار.

١ ـ مآتم الحسينعليه‌السلام

مرت في الفصل السابق روايات مستفيضة حول إخبار جبرئيل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنبأ استشهاد الحسينعليه‌السلام ، ثم إخبار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهله وأصحابه بذلك. وكان في

٢٣٣

تلك الأحوال يضع الحسين الطفل في حضنه ، ويبكي بكاء شديدا ، ويقبّله من فمه ونحره ، ويشمّه ويضمه إلى صدره ، فكانت تلك المشاهد أول المآتم المقامة على الحسينعليه‌السلام في حياته وقبل مماته. وعلى هذا الهدي المحمدي سار شيعة الحسينعليه‌السلام من بعده ، يقيمون المآتم والعزاء عليه ، بعد موته واستشهاده ، اقتداء بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشاركة له في محنته ومصيبته.

٢١٩ ـ مأتم الحسينعليه‌السلام في دار فاطمةعليها‌السلام :

(قادتنا : كيف نعرفهم؟ ، ج ٦ ص ١٢٠)

روى الخوارزمي عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : زارنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعملنا له حريرة ، وأهدت لنا أم أيمن قعبا من لبن وزبدا وصفحة من تمر. فأكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكلنا معه. ثم وضّأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقام فاستقبل القبلة ، فدعا الله ما شاء. ثم أكبّ على الأرض بدموع غزيرة مثل المطر. فهبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نسأله!.

فوثب الحسينعليه‌السلام فقال : يا أبتي رأيتك تصنع ما لم أرك تصنع مثله!.فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني إني سررت بكم اليوم سرورا لم أسرّ بكم مثله. وإن حبيبي جبرئيل أتاني فأخبرني أنكم قتلى ، وأن مصارعكم شتى ، فدعوت الله لكم ، وأحزنني ذلك.

فقال الحسينعليه‌السلام : يا رسول الله ، فمن يزورنا على تشتّتنا ، ويتعاهد قبورنا؟.قال : طائفة من أمتي ، يريدون برّي وصلتي. فإذا كان يوم القيامة شهدتها بالموقف ، وأخذت بأعضادها ، فأنجيتها والله من أهواله وشدائده.

٢٢٠ ـ في دار أم سلمة :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ، ص ١٧٦)

وروى ابن عساكر بإسناده عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه (قال) قالت أم سلمة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نائما في بيتي ، فجاء الحسينعليه‌السلام . قالت : فقصد الباب ، فسبقته على الباب مخافة أن يدخل فيوقظه. قالت : ثم غفلت في شيء ، فدبّ فدخل ، فقعد على بطنه.

قالت : فسمعت نحيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فجئت فقلت : يا رسول الله ، والله ما علمت به. فقال : إنما جاءني جبرئيلعليه‌السلام وهو على بطني قاعد ، فقال لي :

٢٣٤

أتحبّه؟. فقلت : نعم. قال : إن أمتك ستقتله. ألا أريك التربة التي يقتل بها؟.(قال) فقلت : بلى. قال : فضرب بجناحه فأتى بهذه التربة. قالت : فإذا في يده تربة حمراء ، وهو يبكي ويقول : يا ليت شعري من يقتلك بعدي؟!.

وفي رواية أخرى للخوارزمي : (قادتنا ـ ج ٦ ص ١٢٦)

قال : ثم أخذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك القبضة التي أتاه بها الملك ، فجعل يشمّها ويبكي ، ويقول في بكائه : الله م لا تبارك في قاتل ولدي ، وأصله نار جهنم.

ثم دفع تلك القبضة إلى أم سلمة ، وأخبرها بقتل الحسينعليه‌السلام بشاطئ الفرات ، وقال : يا أم سلمة خذي هذه التربة إليك ، فإنها إذا تغيرت وتحولت دما عبيطا ، فعند ذلك يقتل ولدي الحسينعليه‌السلام .

إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام

٢٢١ ـ إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٩٣)

يقول الفاضل الدربندي : اعلم أن من تأمل في الأخبار المروية من طرق العامة في فضل الحسن والحسينعليه‌السلام ومناقبهما ، علم أن البكاء على الحسينعليه‌السلام وإقامة تعزيته في كل سنة ، بل في كل شهر ، بل في كل أسبوع ، بل في كل ليلة ، من أفضل العبادات وأشرف الطاعات والقربات. فلعنة الله على كل متعصب من المخالفين ، الذين يأخذون يوم عاشوراء عيدا ، ويسمّون الاجتماع للعزاء والبكاء على سيد الشهداء بدعة ، وذلك كابن حجر العسقلاني ومن مثله.

٢٢٢ ـ ثواب إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

(المنتخب للطريحي ، ص ٢٨ ط ٢)

روي أنه لما أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسينعليه‌السلام وما يجري عليه من المحن ، بكت فاطمةعليه‌السلام بكاء شديدا ، وقالت : يا أبتي متى يكون ذلك؟. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في زمان خال مني ومنك ومن عليعليه‌السلام . فاشتد بكاؤها ، وقالت : يا أبة فمن يبكي عليه؟. ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال

٢٣٥

أهل بيتي ، ويجددون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة. فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء ، وأنا أشفع للرجال. وكل من بكى على مصاب الحسينعليه‌السلام أخذنا بيده وأدخلناه الجنة.

يا فاطمة ، كل عين باكية يوم القيامة ، إلا عين بكت على مصاب الحسينعليه‌السلام ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة.

٢ ـ فضل البكاء والحزن على الحسينعليه‌السلام

٢٢٣ ـ البكاء على أمناء الرحمن :

(المنتخب للطريحي ، ص ١٦ ط ٢)

يقول فخر الدين الطريحي : فيا إخواني ، كيف لا نبكي على أمناء الرحمن ، وسادات أهل الزمان؟. وكيف لا نجدد النوح والأحزان ، في كل آن ومكان؟. على الشهيد العطشان ، النائي عن الأهل والأوطان ، المدفون بلا غسل ولا أكفان؟.فعلى الأطائب من أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم تذرف الدموع من العيون.

٢٢٤ ـ فضيلة البكاء من خشية الله :

(أخبار الدول للقرماني ص ١١١)

قال الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : ما اغرورقت عين بمائها من خشية الله ، إلا وحرّم اللهعزوجل وجه صاحبها على النار. فإن سالت على الخدين دموعه ، لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة. وما من شيء إلا له جزاء إلا الدمعة ، فإن الله تعالى يكفّر بها بحور الخطايا. ولو أن باكيا بكى في أمة ، لحرّم الله تلك الأمّة على النار.

(أقول) : ومن هذا القبيل بكاء المؤمن على الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٢٥ ـ البكاء من خوف الله وخشيته :

(أسرار الشهادة ، ص ٤٨)

يقول الفاضل الدربندي : ومنها أن البيت المبني من الطين إذا انهدم أمكن إصلاحه بقرب من الماء ، فكذلك الإنسان المخلوق أصله من الطين ، إذا فسد أمره بارتكاب المعصية ، أمكنه تداركه بإرسال العبرات على الحسرات. كما قال أمير

٢٣٦

المؤمنين ، وسيد الموحدين ، وتاج رؤوس البكّائينعليه‌السلام : أمحوا المثبّتات من العثرات بالمرسلات من العبرات.

٢٢٦ ـ البكاء على الحسينعليه‌السلام هو من خشية الله :

(المصدر السابق ، ص ٤٩)

ويقول الفاضل الدربندي : واعلم أن البكاء على مصاب أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سيما على مصاب سيد الشهداء روحي له الفداء ، ليس أمرا مغايرا للبكاء من خوف الله تعالى. حتّى يتمشّى سؤال : أهل البكاء من خوف الله تعالى أفضل ، أم البكاء على سيد الشهداءعليه‌السلام ؟. بل إن البكاء عليه هو البكاء في محبة الله ، والبكاء المنبعث عن التقرب إلى الله.

٢٢٧ ـ البكاء من خوف الله قسمان :

(المصدر السابق)

ثم يقول الفاضل الدربندي : فإن شئت أن توضّح المطلب في غاية الإيضاح فقل :إن البكاء من خوف الله تعالى ينحلّ إلى نوعين وينقسم إلى قسمين :

الأول : أن يكون منشأ البكاء معاصي الإنسان ، وتذكّره لحالة الاحتضار وأهوال البرزخ والمحشر والعقوبات التي يستحقها. فهذا البكاء وإن كان يطلق عليه أيضا أنه بكاء من خوف الله وقسم منه ، إلا أنه في الحقيقة يرجع إلى بكائه على نفسه وعلى ذنبه.

الثاني : أن يكون ذلك البكاء في مقام محبة الله تعالى ، وملاحظة عظمة صفاته وكبريائه وجبروته ، وفي مقام التفكر في التقصير في عبادته. وهذا في مقام ذوق حلاوة مناجاته ومحبته التي انبعثت عنها المحبة والموالاة لأوليائه وحججه ، فلا يلاحظ في هذا القسم أصلا رجاء الثواب ولا الخوف من العقاب. فلا شك أن هذا القسم من البكاء هو أفضل من القسم الأول. ومما لا شك فيه أن البكاء على مصاب آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا القسم ، إذ قد عرفت أن المحبة والموالاة لهم مما يرجع إلى محبة الله وموالاته. ويتضح هذا المطلب عند الفطن المتدبر ، إذا لا حظ عوم الأئمة الطاهرين ، وسباحة حجج الله المعصومين ، في بحار البلايا وقواميس المصائب ، لأجل محبة الله تعالى.

شرح : القواميس : جمع قاموس ، وهو البحر العظيم.

٢٣٧

٢٢٨ ـ ثواب البكاء عامة على الحسين ومصيبة سائر الأئمةعليه‌السلام :

(الخصال الأربعمائة ٢ / ٦٣٥ والبحار ٤٤ / ٢٨٧)

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منا وإلينا.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل عين باكية إلا عين بكت على مصاب الحسينعليه‌السلام ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة».

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام للريان بن شبيب : إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان ، فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا. فلو أن رجلا تولّى حجرا حشره الله معه يوم القيامة.

وقال الإمام عليعليه‌السلام : كل عين يوم القيامة باكية ، وكل عين يوم القيامة ساهرة ، إلا عين من اختصه الله بكرامته ، وبكى على ما ينتهك من الحسين وآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . (راجع مقتل العوالم ص ٥٢٥).

٢٢٩ ـ من قطرت عينه قطرة على الحسينعليه‌السلام :

(مجالس المفيد ، ص ٣٤٠ وأمالي الطوسي ١ / ١١٦ والبحار ٤٤ / ٢٧٩)

عن الإمام الحسينعليه‌السلام قال : ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة ، أو دمعت عيناه فينا دمعة ، إلا بوّأه الله تعالى بها في الجنة (غرفا يسكنها) حقبا. (وفي رواية) : أحقابا أحقابا.

شرح : الحقبة من الدهر : مدة لا وقت لها ، جمعها : حقب. وهي كناية عن الدوام.

٢٣٠ ـ فضيلة البكاء على الحسينعليه‌السلام :

(مقتل العوالم ، ج ١٧ ص ٥٢٦)

في (تفسير علي بن إبراهيم) عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام قال : كان علي ابن الحسينعليه‌السلام يقول : أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن عليعليه‌السلام دمعة ، حتّى تسيل على خده ، بوّأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا. وأيما مؤمن دمعت عيناه (دمعا) حتّى يسيل دمعه على خده ، لأذى مسّنا من عدونا في الدنيا ، بوّأه الله مبوّأ صدق في الجنة. وأيما مؤمن مسّه أذى فينا ، فدمعت عيناه حتّى يسيل

٢٣٨

دمعه على خديه ، من مضاضة ما أوذي فينا ، صرف الله عن وجهه الأذى ، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار.

٢٣١ ـ البكاء على الحسينعليه‌السلام يحطّ الذنوب :

(بحار الأنوار للمجلسي ، ج ٤٤ ص ٢٨٢)

عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال لفضيل : تجلسون وتتحدثون؟. قال : نعم جعلت فداك. قال : إن تلك المجالس أحبّها ، فأحيوا أمرنا يا فضيل ، فرحم الله من أحيا أمرنا.

يا فضيل ، من ذكرنا أو ذكرنا عنده ، فخرج من عينه مثل جناح الذباب ، غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت أكثر من زبد البحر.

٢٣٢ ـ حديث : نفس المهموم لظلمنا تسبيح :

(مجالس المفيد ، ص ٣٣٨ وأمالي الطوسي ١ / ١١٥ والبحار ٤٤ / ٢٧٨)

عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : نفس المهموم لظلمنا تسبيح ، وهمهّ لنا عبادة ، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله.

ثم قالعليه‌السلام : يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب.

٢٣٣ ـ حديث : من دمعت عينه فينا دمعة :

(مجالس المفيد ، ص ١٧٤ وأمالي الطوسي ١ / ٩٧ والبحار ٤٤ / ٢٧٩)

عن محمّد بن أبي عمارة الكوفي ، قال : سمعت جعفر بن محمّدعليه‌السلام يقول :من دمعت عينه فينا دمعة ، لدم سفك لنا ، أو حقّ لنا أنقصناه ، أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا ، بوّأه الله تعالى بها في الجنة حقبا.

٢٣٤ ـ حديث : من ذكرنا عنده :

(كامل الزيارات ، ص ١٠٤ والبحار ٤٤ / ٢٨٥)

عن فضيل بن فضالة ، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ، حرّم الله وجهه على النار.

وروي عن الصادقعليه‌السلام قال : لكل سرّ ثواب ، إلا الدمعة فينا.

٢٣٩

٢٣٥ ـ حديث الإمام الصادقعليه‌السلام لمسمع كردين :

(كامل الزيارات ، ص ١٠١ والبحار ٤٤ / ٢٨٩)

سأل الإمام الصادقعليه‌السلام مسمع كردين ، وهو من أهل العراق : هل يبكي على الحسينعليه‌السلام ؟ فقال : بلى

قال : ثم استعبر واستعبرت معه. فقالعليه‌السلام : الحمد لله الّذي فضّلنا على خلقه بالرحمة ، وخصّنا أهل البيت بالرحمة.

يا مسمع ، إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين رحمة لنا. وما بكى لنا من الملائكة أكثر. وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا. وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا ، إلارحمه‌الله قبل أن تخرج الدمعة من عينيه. فإذا سالت دموعه على خده غفر الله ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر. فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم ، لأطفأت حرّها حتّى لا يوجد لها حرّ. وإن الموجع لنا قلبه ليفرح يوم يرانا عند موته ، فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض. وإن الكوثر ليفرح بمحبّنا إذا ورد عليه ، حتّى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه.

٢٣٦ ـ حديث : من تذكر مصابنا وبكى :

(أمالي الصدوق ، ص ٦٨ وبحار الأنوار ٤٤ / ٢٧٨)

قال الإمام الرضاعليه‌السلام : من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منا ، كان معنا في درجاتنا يوم القيامة. ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى ، لم تبك عينه يوم تبكي العيون. ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

٢٣٧ ـ الحسينعليه‌السلام قتيل العبرة :

(أمالي الطوسي ، ص ١٢١)

عن الإمام الصادقعليه‌السلام (قال) قال الحسين بن عليعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة ، قتلت مكروبا ، وحقيق على الله أن لا يأتيني مكروب قط ، إلا ردّه الله وأقلبه إلى أهله مسرورا.

وعن الحسينعليه‌السلام قال : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

مُبِينٍ ) (١) .

تلقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته للكلمات والكلام الإلهي بوجوده التكويني لا الاعتباري:

إنّ ما يتلقّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من وحي لا ينحصر في الوحي الإنبائي، كما أنّ سِنخ الوحي الإنبائي لا ينحصر في إلقاء المعاني أو الأصوات، بل إنّ عمدة أنواع وأنماط الوحي هو ما يكون من قبيل تلقّي حقائق الأشياء بحقيقتها التكوينية بكينونة تفوق الكون المادّي، وهو ما يعبّر عنه بنشأة الملكوت في القرآن الكريم، قال تعالى: ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٢) .

وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود كينونة للأشياء في نشأة الملكوت فقال تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٣) .

وقال تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (٤) .

وقال تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (٥) .

وقال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (٦) ، وغيرها من الآيات التي تدلّ على أنّ في نشأة الكتاب المبين - وهي نشأة تحيط بغيب السماوات والأرض - يستطرُ فيها كلّ شي‏ء بحسب ملكوته، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ

____________________

١) سورة الأنعام: ٥٩.

٢) سورة يس: ٨٣.

٣) سورة الأنعام: ٥٩.

٤) سورة الأنعام: ٣٨.

٥) سورة النمل: ٧٥.

٦) سورة يس: ١٢.

٣٦١

نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (١) ، فأثبت تعالى للسماوات والأرض مَلَكُوت، فإحاطة وهيمنة الملَكُوت على كلّ الأشياء وصف مقرّر للكتاب المبين، وتقرّر الأشياء بحسب ملكوتها فيه ليس تقرّر معانيها ومفاهيمها، بل تقرّر كينونة وجودية مَلَكُوتية، بل أنّ هناك أوصافاً ونعوتاً قرآنية أُخرى للكتاب المبين تفوق ذلك.

والقرآن جملة وهو جملة حقيقية، فحقيقة القرآن ليست بلفظ عربي أو أعجمي، كما أنّه ليس بمعنى بل هو الروح الأعظم، حيث عبّر عنه في سورة النحل قوله تعالى: ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (٢) ، والآية الكريمة في نفس السورة التي صدرها: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ ) (٣) .

فبين الآيتين في السورة الواحدة ارتباط، وأنّ ذلك الروح الذي ينزل به الملائكة هو روح القدس، وهو الروح النازل في ليلة القدر بجملة الكتاب، ويعضد هذا الارتباط بين الآيتين في سورة النحل توسّط آية أُخرى في السورة وهي قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (٤) ، ومن الواضح في هذه الآية إرادة جُملة الكتاب وحقيقته ، لا النزول النُّجومي ولا تنزيل القرآن بوجوده اللفظي؛ لأنّ الذي فيه تبيان كلّ شي‏ء هو حقيقة القرآن، الذي يعبّر عنه بالكتاب المبين، والمكنون، واللوح المحفوظ، إلى غيرها من الأوصاف الآتي استعراضها لهذا الوجود الرابع.

وكذلك سيأتي استعراض روايات أهل البيت عليهم‌السلام الكاشفة لتفسير كلّ ذلك من

____________________

١) سورة الأنعام: ٧٥.

٢) سورة النحل: ١٠٢.

٣) سورة النحل: ٢.

٤) سورة النحل: ٨٩.

٣٦٢

ظاهر ألفاظ الآيات الكريمة. وتقدّم الكلام في أنّ القرآن اسم حقيقة لروح القدس، النازل على النبيّ جملة في النزول الدفعي الجملي للقرآن كما في آخر سورة الشورى، وأنّه ملتحم مع روح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده مع أرواح الأوصياء من أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولا يخفى أنّ لفظة الكتاب شأنها في أقسام الوجود شأن ما تقدّم من الوجودات الأربعة لكلّ شي‏ء، فإنّ الكتاب يُطلق على: وجود النقش والرسوم المكتوبة ، وهو الذي يُستعمل فيه كثيراً.

كما يُطلق الكتاب أيضاً على: أصوات الألفاظ المجموعة ، فيقال قراءة الكتاب.

ويُطلق على: وجود المعاني، فيقال حفظتُ كتاباً كاملاً.

ويُطلق على: الوجود العيني الخارجي الجامع للكلمات التكوينية .

وبعبارة أُخرى: إنّ الكتاب الذي هو مجموع الكلمات، والكلمة بدورها لها أربع وجودات:

الأوّل: الكلمة المكتوبة المنقوشة.

الثاني: الكلمة الملفوظة المصوّتة.

الثالث: الوجود الذهني في الفكر للكلمة.

الرابع: الوجود العيني الخارجي لشي‏ء دالّ على شي‏ء آخر.

كما أطلق تعالى القرآن على عيسى عليه‌السلام في قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (١) ، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) (٢) ، وهذا الإطلاق ليس مجازياً، بل حقيقياً؛ لكون الأصل في معنى الكلمة هو الشي‏ء الموجود لأجل الدلالة على المعنى الخفي، وأي دلالة أعظم على صفات اللَّه من أنبيائه ورسله والأوصياء والحجج، والكلمة مقاربة في

____________________

١) سورة آل عمران: ٤٥.

٢) سورة النساء: ١٧١.

٣٦٣

معناها لمعنى الآية، حيث إنّ معناها العلامة الدالّة على معنى ومدلول ما، وقد أُطلق لفظ الآية على الوجودات التكوينية في كثرة كاثرة من الموارد في القرآن الكريم.

منها: قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (١) .

وقوله تعالى: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) (٢) .

وقوله تعالى: ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) (٣) .

فأطلق على النبيّ عيسى عليه‌السلام كلّاً من (الكلمة والآية)، ويقرب لفظ (الاسم) من هذا المعنى من لفظ (الكلمة والآية) وإطلاقهما على الوجود التكويني، حيث إنّ معناه من السمة وهو العلامة أيضاً الدالّة على شي‏ء أو معنى ما. فهذه الألفاظ الثلاثة هي بدورها - أيضاً - لها أربع وُجُودات:

الأُوّليّان اعتباريان وهما: الصوت الملفوظ، والنقش المرسوم على الورق.

والأُخريان تكوينيان: الثالث منها، وجودها في أُفق المعنى والفكر والذهن ومدارج المعاني، والرابع: الوجودات العينية.

وعلى ضوء ذلك، فالكتاب الذي هو مجموع الكلمات أيضاً هو بدوره له أربع وُجُودات:

اثنان اعتباريان، وهما: المنقوش والملفوظ.

واثنان تكوينيان، وهما: الوجود في أُفق الفكر والذهن، والوجود العيني الخارجي

وإذا كان عيسى بن مريم عليه‌السلام ، بما له من روح نبويّة، كلمةٌ من هذا الكتاب وآية من آياته، فكيف بك في بقية الكلمات والآيات؟ بل ما هو الحال في جملة الكتاب؟ مع أنّه تعالى يقول في عيسى بن مريم عليه‌السلام - الذي هو كلمة من هذا الكتاب -: ( وَآتَيْنَا

____________________

١) سورة المؤمنون ٥٠: ٢٣.

٢) سورة مريم ٢١: ١٩.

٣) سورة الأنبياء ٩١: ٢١.

٣٦٤

عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (١) ، فعبّر تعالى بتأييده بروح القدس، ممّا يفهم أنّ روح القدس أعظم من روح النبيّ عيسى عليه‌السلام ؛ حيث قال تعالى في عيسى عليه‌السلام : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (٢) ، وقال تعالى: ( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (٣) ، ومن ثمّ لم يكن للنبيّ عيسى العلم بالكتاب كلّه كما كان لسيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لقوله تعالى في عيسى: ( قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (٤) ، تبيّن الآية أنّه عليه‌السلام يبيّن بعض اختلاف بني إسرائيل لا كلّه.

وكذلك الحال في موسى عليه‌السلام حيث قال تعالى: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (٥) ، فما كُتب لموسى ليس كلّ شي‏ء وإنّما من كلّ شي‏ء، بخلاف القرآن الكريم حيث وصف بالمهيمن وأنّه تبيان كلّ شي‏ء.

فهذا الارتباط بين كون عيسى كلمة وآية وبين كونه مؤيد بروح القدس، لا أنّ عيسى هو روح القدس.

كما أنّ الارتباط والصلة التي تشير إليها سورة القدر والدخان والشورى والنحل وغافر - كما تقدّم استعراض آيات السور - بين الروح الأمري وروح القدس وبين نزول الكتاب المبين، يدلّ بوضوح أنّ الكتاب المبين حقيقته هو روح القدس، والذي يعبّر عنه في بعض الروايات بالروح الأعظم.

فهذا الروح، الذي هو حقيقة وجود الكتاب المبين، هو الذي أُوحي به إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (٦) ، فدراية الكتاب كلّه هو بإرسال هذا الروح إلى روح النبيّ، ومقتضى دراية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتاب كلّه هو

____________________

١) سورة البقرة: ٨٧.

٢) سورة النساء: ١٧١.

٣) سورة المائدة: ١١٠.

٤) سورة الزخرف: ٦٣.

٥) سورة الأعراف: ١٤٥.

٦) سورة الشورى: ٥٢.

٣٦٥

التحام الروح في ضمن روحه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك تنزّل هذا الروح في الليلة المباركة وهي ليلة القدر والذي هو تنزّل لحقيقة الكتاب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣٦٦

نعوت حقيقة الكتاب وهي روح القدس

منها: قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا ) (١) .

فوصف القرآن بأنّه يسيّر به الجبال، وتقطّع به الأرض، ويُحيى به الموتى، ومن الواضح أنّ هذه الخواص ليست للكتابة المنقوشة التي هي بين الدفّتين للمصحف المقدّس، بل هي لحقيقة القرآن الموجودة في الغيب وهي روح القدس.

ومنها: قوله تعالى: ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢) ، ومن الواضح أنّ لوح المحو والإثبات وما فوقه من أُمّ الكتاب ليس في المصحف الورقي، بل هو في نشأة الغيب.

ومنها: قوله تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (٣) ، ومن الواضح أنّ المصحف المقدّس المنقوش بين الدفّتين لو وُضع على جبل ما رأيناه ينهدّ متصدّعاً، إذن، المراد بذلك هو نزول روح القدس على ملكوت الجبل؛ لأنّ لكلّ شي‏ء ملكوت كما قال تعالى: ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (٤) ،

____________________

١) سورة الرعد: ٣١.

٢) سورة الرعد: ٣٩.

٣) سورة الحشر: ٢١.

٤) سورة يس: ٨٣.

٣٦٧

فملكوت الجبل ليست له تلك القابلية والظرفية لنزول روح القدس عليه، بل لم تكن تلك القابلية في الأنبياء أُولي العزم كما تقدّمت الإشارة إليه، بل هي خاصّة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المطهّرين، كما سيأتي بيان ذلك.

ومنها: قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (١) ، ومن الواضح أنّ تبيان كلّ شي‏ء ليس في ظاهر المصحف المنزّل، وإنّما في الكتاب المبين في النشأة الغيبية أي روح القدس، ومن ثمّ تكرّر التعيير المشابه للوصف في سورة النحل وفي سورة الشورى، ونظير هذا الوصف في قوله تعالى:

( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٢) ، فذكر أنّ فيه كلّ مغيّبات السماء والأرض وتقدير الحوادث، كما ذكر ذلك في سورة القدر والدخان، ونظيره قوله تعالى:

( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٣) ، وقوله تعالى:

( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٤) ، وقوله تعالى:

( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٥) ، وكذلك قوله تعالى:

( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (٦) ، وقوله تعالى:

( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٧) .

ومن الظاهر أنّ هذه الإحاطة بتفاصيل كلّ الأشياء ليست في تفاصيل ظاهر

____________________

١) سورة النحل: ٨٩.

٢) سورة يونس: ٦١.

٣) سورة هود: ٦.

٤) سورة النمل: ٧٥.

٥) سورة سبأ: ٣.

٦) سورة الأنعام: ٣٨.

٧) سورة الأنعام: ٥٩.

٣٦٨

التنزيل، وأنّما هو نعت للنشأة الغيبية لحقيقة الكتاب، ومِن ثمّ هذا الوصف بيّن ظرفه في أرواح الذين أوتوا العلم في قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (١) ، وهذا ممّا يدلّ على التحام روح القدس مع من يتنزّل الروح عليه ليلة القدر ، وهم الذين يؤتون علم الكتاب كلّه.

ونعوت الوجود التنزيلي للقرآن وصفت في الآيات العديدة أنّه بلسان عربي مبين، كما في قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (٢) ، فالتشابه وصف لظاهر التنزيل، بينما المبين كلّه وصف للكتاب المكنون؛ وإلاّ لو حُمِلَت النعوت على مرتبة واحدة من وجود القرآن - وهو ظاهر التنزيل - لتناقض الوصفان، فكيف يكون فيه متشابه ويكون مبيناً كلّه وتبياناً لكلّ شي‏ء؟

ومنها: وصْفُه بالكنّ والمجد، كقوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (٣) ، وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (٤) ، فوصف الكرامة قريب من وصف المجد، ووصف المكنون قريب من وصف المحفوظ، ومعنى اللوح قريب من الكتاب.

ومن ثمّ وُصِف أيضاً بكونه: ( لاَ يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٥) أي لا يصل إليه إلاّ من طهّره اللَّه، لا المتطهّر بالوضوء والغسل. ومن ثمّ وصف أيضاً بتنزيل من ربّ العالمين أي له وجود علوي.

____________________

١) سورة العنكبوت: ٤٩.

٢) سورة آل عمران: ٧.

٣) سورة الواقعة: ٧٧ - ٧٨.

٤) سورة البروج: ٢١ - ٢٢.

٥) سورة الواقعة: ٧٩.

٣٦٩

الثقل الأكبر هو القرآن الناطق:

إذا تبينت الأُمور الثلاثة المتقدّمة من أنّ حقيقة القرآن هي روح القدس وتلك الحقيقة هي عين ذواتهم عليهم‌السلام ، وأنّ للقرآن مدارج ودرجات، وأنّ المصحف هو أنزل الدرجات، فهو القرآن النازل وهو تنزيل القرآن، وأمّا الدرجات العليا فهي حقيقة القرآن وهي أكثر عظمة وقدسية وبهاءً وسموّاً، وأنّ تلك الحقائق هي الثقل الأكبر، إذ كيف يكون الوجود النازل وهو المصحف أكبر من أُمّ الكتاب ومن الكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي‏ء، ومن اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلاّ المطهرون.

وتلك الحقائق الغيبية التي هي روح القدس مرتبطة وملتحمة مع أرواح الأئمّة عليهم‌السلام حقيقةً لا تنزيلاً واعتباراً، فالارتباط الحي الحيوي بروح القدس هو ذات الإمام عليه‌السلام ، فالثقل الباقي بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الأكبر لا محالة يكون الإمام والمصحف هو الأصغر، وعلى ذلك جملة من الشواهد:

الأوّل: ما ورد بنحو مستفيض ومتواتر أنّهم عليهم‌السلام القرآن الناطق، والمصحف هو القرآن الصامت، ولا ريب أنّ القرآن الناطق هو الثقل الأكبر؛ إذ الناطق أعظم شَرافة من الصامت، بل أنّ ملحمة صفّين الكبرى تُسطّر ملحمة عقائدية للأئمّة، في أنّ القرآن الناطق هو عليّ عليه‌السلام ، وأنّ المصحف قرآن صامت.

كما أنّ تلك الروايات المستفيضة في كونهم القرآن الناطق دلالة واضحة على هيمنة حجّيتهم على حجّية المصحف الشريف، أي حجّية ذواتهم الناطقة لا كلامهم المروي في الكتب الذي هو إمام صامت.

وفي الكافي روى فيما هو كالموثق عن مسعدة عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أُخبركم عنه: أنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه

٣٧٠

تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم) (١) .

الثاني: ما رواه الشريف الرضي في كتابه خصائص الأئمّة بسند صحيح عن أبي موسى الضرير البجلي - وهو عيسى ابن المستفاد -، وهو وإن ضُعّف من النجاشي إلاّ أنّه مستندٌ في ذلك إلى تضعيف ابن الغضائري المتسرّع، والحال أنّ مضامين رواياته عالية المعارف، عن أبي الحسن عليه‌السلام في خطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التي خطبها في مرضه، قال:

(يا معاشر المهاجرين والأنصار، ومن حضر في يومي هذا وساعتي هذه من الأنس والجنّ، ليبلغ شاهدُكم غائبَكم، ألا وأنّي قد خلّفت فيكم كتاب اللَّه، فيه النور والهدى، والبيان لِما فرض اللَّه تبارك وتعالى من شي‏ء، حجّة اللَّه عليكم وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر، علم الدين ونور الهدى وضياءه، وهو عليّ بن أبي طالب، ألا وهو حبل اللَّه: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (٢) .

أيّها الناس، هذا عليّ، من أحبّه وتولاّه اليوم وبعد اليوم فقد أوفى بما عاهد عليه اللَّه، ومن عاداه وأبغضه اليوم وبعد اليوم جاء يوم القيامة أصمّ وأعمى، لا حجّة له عند اللَّه،. .. وكلّ سُنّة وحديث وكلام خالف القرآن فهو زور وباطل، القرآن إمام هادٍ، وله قائد يهدي به، ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ) (٣) .

ودلالة الرواية على أنّهم الثقل الأكبر في مواضع:

منها: وصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام بأنّه العلم الأكبر، علم الدين في مقابل المصحف الشريف، مع تكراره صلى‌الله‌عليه‌وآله للأوصاف التي ذكرها لنعت القرآن، كأوصاف

____________________

١) الكافي، ج١، ص٦٠.

٢) سورة آل عمران: ١٠٣.

٣) خصائص الأئمّة للسيد الرضي، ص٧٢ - ٧٤، طبعة آستان قدس رضوي.

٣٧١

لعليّ أيضاً.

ومنها: تخصيصه صلى‌الله‌عليه‌وآله حبل اللَّه بعليّ، مع أنّ المصحف الشريف حبل اللَّه، كما في الأحاديث الأُخرى إلاّ أنّ هذا التخصيص في هذه الرواية للتدليل على أنّه الحبل الأكبر.

ومنها: وصفه الكتاب بأنّه حجّة اللَّه على الناس، وحجّة الرسول، وحجّة الوصيّ، فجعلَ المصحف الشريف حجّة لِما هو مقام أعظم، وهو مقام اللَّه، ورسوله، ووليه.

ومنها: وصف عليّ عليه‌السلام بأنّه قائد للقرآن وأنّه الهادي به، مع أنّ القرآن إمام وهاد، فجُعلت القيمومة لعليّ على المصحف.

الثالث: إنّ المقابلة ليست بين كلام اللَّه تعالى وكلام المعصوم؛ إذ لا ريب أنّ كلام الخالق فوق كلام المخلوق، بل هي بين كلامَي الخالق، أي الكلام النازل، وهو تنزيل الكتاب، وكلامه تعالى في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب.

ولك أن تقول: إنّ المقارنة ليست بين المصحف وكتب الحديث وروايات السنّة النبويّة وسنّة المعصومين؛ إذ لا ريب في عظمة المصحف على كتب الحديث؛ فالحديث يُعرض على الكتاب، وإن كان متشابه المصحف يُعرض على محكمات كلّ من الكتاب والسنّة، فمتشابه السنّة يُعرض على محكمات الكتاب والسنّة، وكذلك الحال في متشابهات العقل في القضايا النظرية تُعرض على محكمات الكتاب والسنّة وبديهيات العقل.

فليس المقارنة بين الكتاب والمصحف العزيز وكتاب الحديث، وإنّما المقارنة هي بين المصحف وذات الإمام المعصوم نفسه عليه‌السلام ، وقد وصف المصحف العزيز بأنّه القرآن الصامت، أي الذي لا ينطق بنفسه في مقام التطبيق وتفاصيل الوقائع ولا متشابه الأُمور، بخلاف ذات المعصوم، فإنّها وصفت بالقرآن الناطق؛ لأنّ ذات

٣٧٢

المعصوم تلتحم بذات الكتاب وأُمّ الكتاب والكتاب المبين.

فدرجات القرآن العليا التي هي جزء ذات المعصوم قرآن ينطق، فيرفع المتشابه في الأُمور، ويكون تلاوة للكتاب حقّ تلاوته، أي يتلو الآية ويطبّقها وينزل تطبيقها في حقّ المورد التي يجب أن تطبّق فيه.

وكذلك الحال في المقارنة بين ذات الإمام وكتب الحديث، فإنّ ذات الإمام إمام ناطق وكتب الحديث إمام صامت، ومن ثمّ لا يُستغنى بتراث حديث النبيّ وأهل بيته عليهم‌السلام عن وجود الإمام المهدي (عج).

وبهذا يتّضح أنّ المقارنة ليس بين كلام اللَّه وكلام المعصوم، بل المقارنة بين كلامَي اللَّه، فإنّ ذات المعصوم هو كلام اللَّه حقيقة، ألا ترى الإشارة في قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (١) ، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ.. ) (٢) .

فأطلق على عيسى عليه‌السلام أنّه كلمة اللَّه. وأيضاً لاحظ التعبير في قوله تعالى لزكريا: ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) (٣) ، أي مصدّقاً بعيسى بن مريم، والتعبير في قوله تعالى في شأن مريم: ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ ) (٤) ، فقوبل هنا بين الكلمات والكتب.

رابعاً: قد يُعترض على جعل أهل البيت الثقل الأكبر في مقابل المصحف الكريم، بأنّه مخالف للحديث النبويّ المستفيض وهو الوصية بالتمسّك بالثقلين، فإنّ الحديث وإن كان متواتراً إلاّ أنّ ما ورد فيه بلفظ الأكبر والأصغر هو في جُلّ الطرق لا كلّها.

____________________

١) سورة آل عمران: ٤٥.

٢) سورة النساء: ١٧١.

٣) سورة آل عمران: ٣٩.

٤) سورة التحريم: ١٢.

٣٧٣

منها: ما رواه الشيخ المفيد في المجالس بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام ، عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين... سببٌ طرفه بيد اللَّه وطرف بأيديكم تعملون فيه... ألا وهو القرآن والثقل الأصغر أهل بيتي. ثمّ قال: وايمُ اللَّه إنّي لأقول لكم هذا ورجالٌ في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم) (١) .

وروى في البحار أيضاً عن تفسير القمّي وغيره قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أما وأنّي سائلكم عن الثقلين كتاب اللَّه الثقل الأكبر، طرفٌ بيد اللَّه وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به) (٢) .

وروى أيضاً في البحار عن تفسير العياشي، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الثقل الأكبر كتاب اللَّه سبب بيد اللَّه وسبب بأيديكم فتمسّكوا به لن تهلكوا أو تضلّوا، والآخر عِترتي، وأنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) (٣) .

وروى في البحار أيضاً عن كتاب النشر والطي، عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر كتاب اللَّه عزّ وجلّ، طرفٌ بيد اللَّه تعالى وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به، والثقل الأصغر عِترتي أهل بيتي؛ فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، كإصبعيّ هاتين - وجمع بين سبابتيه - ولا أقول كهاتين - وجمع بين سبابته والوسطى - فتفضل هذه على هذه) (٤) .

وروى في بصائر الدرجات عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: (الثقل الأكبر كتاب اللَّه سببٌ طرفه بيد اللَّه وسببٌ طرفه بأيديكم) (٥) .

وروى في الخصال عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: (أمّا الثقل الأكبر فكتاب اللَّه عزّ وجلّ سببٌ ممدود

____________________

١) بحار الأنوار، ج١٢، ص٤٧٥، نقلاً عن مجالس المفيد، والأمالي للصدوق، ص١٣٤.

٢) البحار، ج٢٣، ص١٢٩، و: ج٣٦، ص٣٢٨، و: ج٨٩، ص٢٧، تفسير القمّي، ج١، ص٣.

٣) بحار الأنوار،ج٣٧، ص١٤١، تفسير العيّاشي، ج١، ص٤.

٤) البحار، ج٣٧، ص١٢٨.

٥) بصائر الدرجات، ص٤١٤.

٣٧٤

من اللَّه ومنّي في أيديكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم، فيه علم ما مضى وما بقي إلى أن تقوم الساعة، وأمّا الثقل الأصغر فهو حليف القرآن وهو عليّ بن أبي طالب وعِترته، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) (١) .

وتوضيح دفع الاعتراض:

أوّلاً: إنّ كلّ هذه الروايات قد وصفت الكتاب أو القرآن بالثقل الأكبر، فلم تأت بلفظ المصحف والكتاب، القرآن كما يطلق على المصحف يطلق على أُمّ الكتاب وعلى الكتاب المبين وعلى اللوح المحفوظ وعلى روح القدس، كما تقدّم ذلك مفصّلاً في استعمالات آيات السور والاستعمال الروائي، فالكتاب أو القرآن ذو درجات ومقامات متعدّدة.

ثانياً: القرينةُ على إرادة تلك المقامات العالية من لفظ الكتاب والقرآن في طرق حديث الثقلين الموصوف بالثقل الأكبر، وأنّه ليس المراد به مجرّد المصحف الشريف، وصف صلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن بأنّه سببٌ أحد طرفيه بيد اللَّه والطرف الآخر بيد الناس، ومثله توصيفه بأنّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، ممّا يدلّل على أنّ الموصوف بالثقل الأكبر هو الدرجات الغيبية، كروح القدس وأُمّ الكتاب، وهي الطرف الذي بيد اللَّه، فتكرار هذا الوصف بأنّ له طرفان تأكيد على كون أنّ وصف الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه.

ثالثاً: إنّه ورد في عدّة طرق من ألفاظ الحديث الشريف أنّهما لن يفترقا كإصبعيَّ هاتين، وجمع صلى‌الله‌عليه‌وآله بين سبابتيه، وليس كهاتين وجمع صلى‌الله‌عليه‌وآله بين سبابته والوسطى، وعلّل صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك لئلاّ يفضّل أحدهما على الآخر ممّا يقضي بالتساوي، وأنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه.

____________________

١) الخصال، ج١، ص٦٥.

٣٧٥

رابعاً: إنّه قد ورد في ألفاظ الحديث وصف مجموع الثقلين بأنّه حبل اللَّه الممدود بينه وبين خلقه، ممّا يقضي بأنّ مجموع الثقلين هما حبل واحد باطنهما متّحد كحبل نوري واحد.

وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لحقيقة ليلة القدر وإنزال روح القدس على العترة المطهّرة وتأييد أرواحهم به، كما في قوله تعالى: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (١) ، وغيرها من الآيات.

ففي ما رواه النعماني في الغيبة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ألاَ وأنّي مخلّف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عِترتي أهل بيتي، هُما حبل اللَّه، ممدودٌ بينكم وبين اللَّه عزّ وجلّ، ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، سببٌ منه بيد اللَّه وسببٌ بأيديكم، إنّ اللطيف الخبير قد نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كإصبعي هاتين - وجمع بين سبابتيه -، ولا أقول كهاتين - وجمع بين سبابته والوسطى - فتفضّل هذه على هذه) (٢) ، وصفٌ في لفظ هذا الطريق لكلٍّ من الثقلين بأنّهما حبل اللَّه الممدود.

كما وصف صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ كلاًّ من الثقلين طرف منه بيد اللَّه وطرف منه بيد الناس، كما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرنهما بجمع السبابتين لا بجمع السبابة والوسطى؛ لئلاّ تفضل هذه على هذه.

فكلّ ذلك يؤكّد أنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الغيبي في كلّ من المصحف والعِترة ممّا ينتهي إلى يد اللَّه وقدرته، ويزيدك وضوحاً في هذا المعنى أنّه قد ورد مستفيضاً وصْف عليّ والعِترة بأنّهم حبل اللَّه، نظير ما رواه النعماني أيضاً وبسنده عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام قال:

(كان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم جالساً ومعه أصحابه في المسجد، فقال: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنّة يسأل عمّا يعني. فطلع رجل طويل، يشبّه برجال مضر، فتقدّم وسلم على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا رسول اللَّه، إنّي

____________________

١) سورة غافر: ١٥.

٢) الغيبة للنعماني، ص٤٣.

٣٧٦

سمعت اللَّه عزّوجلّ يقول فيما أنزل: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (١) ، فما هذا الحبل الذي أمرنا اللَّه بالاعتصام به وأن لا نتفرّق عنه؟ فأطرق رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ملياً، ثمّ رفع رأسه وأشار بيده إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقال: هذا حبل اللَّه الذي من تمسّك به عُصم في دنياه ولن يضلّ به في آخرته. فوثب الرجل إلى عليّ عليه‌السلام فاحتضنه من وراء ظهره، وهو يقول: اعتصمت بحبل اللَّه وحبل رسوله، ثمّ قام فولّى وخرج) (٢) .

وقد عقد النعماني باباً خاصّاً (٣) في ذلك، كما روى غيره من المحدّثين من الخاصّة والعامّة مثل ذلك (٤) .

وهذه الأحاديث المستفيضة أو المتواترة شاهدة على أنّ وصف الحبل في حديث الثقلين هو لمجموع الثقلين، والحبل كناية أنّ الثقلين لهما امتداد ممدود من عند اللَّه في النشأة الغيبية إلى أن يصل ممتدّاً إلى ما هو ظاهر بين يدي الناس وهو المصحف والعِترة، كما أنّ توصيف جملة من الأحاديث في الثقل الأصغر كالذي رواه في العدد القوية من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (معاشر الناس، أنّ عليّاً والطيبين من وُلده هو الثقل الأصغر، والقرآن هو الثقل الأكبر) (٥) .

ومثل ما رواه ابن طاووس في اليقين عن عليّ عليه‌السلام قوله: (يا ابن عبّاس، ويلٌ لمن ظلمني ودفع حقّي وأذهب عنّي عظيم منزلتي، أين كانوا أولئك وأنا أُصلّي مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله صغيراً لم يكتب عليّ صلاة، وهم عبدة الأوثان، وعصاة الرحمن، ولهم يوقد

____________________

١) سورة آل عمران: ١٠٣.

٢) الغيبة للنعماني، ص٤٢.

٣) الغيبة للنعماني، ص٣٩.

٤) قد ذكر السيد المرعشي في ملحقات إحقاق الحقّ هذا الحديث، وهو وصف عليّ وأهل البيت بحبل اللَّه، عن مصادر غفيرة، فلاحظ: ج٤، ص٢٨٥ - ٢٨٨، و: ج١٤، ص٣٨٤ - ٥٢١، و: ج١٣، ص٣٨٥ و٤٨، و: ج١٨، ص ٢٨، و٥٣٥ و٥٤١، وغيره من المجلّدات، لاحظ الفهرس مادّة ح ب ل.

٥) العدد القوية، ص١٧٤.

٣٧٧

النيران؟! فلمّا قرب إصعار الخدود، وإتعاس الجدود، أسلموا كرهاً، وأبطنوا غير ما أظهروا؛ طمعاً في أن يُطفئوا نور اللَّه بأفواههم، وتربّصوا انقضاء أمر رسول اللَّه وفناء مدّته، لمّا أطمعوا أنفسهم في قتله ومشورتهم في دار ندوتهم، قال اللَّه عزّ وجلّ: ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (١) و: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ لاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢) . .. ولولا اتّقائي على الثقل الأصغر أن يُبيد، فينقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا وحبل اللَّه المتين وحصنه الأمين وُلد رسول ربّ العالمين...) الحديث (٣) .

وروى ابن طاووس في التحصين بسنده... قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا معاشر الناس، أمرني جبرئيل عليه‌السلام عن اللَّه تعالى... أن أعلمكم أنّ القرآن الثقل الأكبر، وأنّ وصييّ هذا وابناي ومَن خلفهم مِن أصلابهم حاملاً وصاياهم الثقل الأصغر، يشهد الثقل الأكبر للثقل الأصغر، ويشهد الثقل الأصغر للثقل الأكبر، كلّ واحد منهم ملازم للآخر...) (٤) .

وأخرج في البحار عن... بسنده عن الكاظم، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حال مرضه، قال: (... أصحاب الكساء الخمسة، أنا سيدهم ولا فخر، عِترتي أهل بيتي السابقون المقرّبون يسعد من اتّبعهم... اسودّت وجوه قوم وردوا ظماء مظمّئين إلى نار جهنّم، مزّقوا الثقل الأوّل الأعظم وأخّروا الثقل الأصغر، حسابهم على اللَّه) (٥) .

وما روى المجلسي في البحار: (... قال أمير المؤمنين: يا كميل نحن الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر وقد أسمعهم رسول اللَّه...) (٦) .

____________________

١) سورة آل عمران: ٥٤.

٢) سورة التوبة: ٣٢.

٣) اليقين، ص٣٢٤.

٤) التحصين، ص٥٨٢، وكذلك رواه ابن فتال في روضة الواعضين، ج١، ص٩٤.

٥) البحار، ج٢٢، ص٤٩٥.

٦) البحار، ج٧٤، ص٢٧٦، وبشارة المصطفى، ص٢٩.

٣٧٨

وكذلك روى المجلسي في البحار: (ألَم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم الإيمان) (١) .

وهذا النمط من ألفاظ حديث الثقلين هو الآخر فيه جملة من القرائن الدالّة على أنّ نعت الأكبر أو الأعظم هو ليس مقتصر على المصحف الشريف، بل هو نعت للكتاب والقرآن، وهما اسمان - كما تقدّم - صادقان في الدرجة الأولى على الوجود الغيبي للقرآن، وهو أُمّ الكتاب، والكتاب المبين، واللوح المحفوظ، وروح القدس، ومن مراتبه النازلة المصحف الشريف، وهذه المراتب العالية كما هي متنزّلة في ألفاظ المصحف الشريف بنحو الوجود اللفظي وفي معانيه بطور عالم المعاني، فهو متنزّل أيضاً - أي: روح القدس - بحقيقته ووجود التكويني لا الاعتباري على العِترة كما تقدّم مبسوطاً في دلالة الآيات والروايات من الفريقين على ذلك.

وهذا التنزّل يجعل من العِترة قرآناً ناطقاً، بينما المصحف الشريف قرآناً صامتاً يستنطق، أي في مقام التطبيق للإرادات الإلهية في الموارد والحوادث الواقعة حين بعد حين إلى يوم القيامة، وهو أحد معاني التأويل، ويكون تطبيق العِترة بنطق قرآني وإشراف من روح القدس الذي هو حقيقة القرآن، بخلاف المصحف الشريف؛ فإنّ أخذ الأُمّة به لتطبيقه من دون العِترة استنطاق منهم ظنّي، وتطبيق ظنّي أيضاً.

فنعت الأكبر صفة للحبل الممدود من اللَّه، طرفه بيده وتنزّله منشَعِب إلى المصحف والعِترة الطاهرة. ومن القرائن التي تقدّمت من الروايات أيضاً أنّ أمير المؤمنين مع وصفه للعِترة بالثقل الأصغر إلاّ أنّه وصفهم أيضاً بشجرة العلم وحبل

____________________

١) البحار، ج٢٤، ص٢٠٩.

٣٧٩

اللَّه المتين، وهو تأكيد على أنّ التسمية بالثقل الأصغر هو في مقابل الكتاب في درجاته العالية، كأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ وروح القدس، ولأجل تنزّله عليهم وراثةً عن رسول اللَّه وصفوا بأوصاف الثقل الأكبر، وهو كونهم حبل اللَّه المتين، مع أنّ الحبل ذو طرفين كما مرّ. وكذلك وصفهم بشجرة العلم فإنّه للدلالة على الامتداد من الأرض إلى سماء الغيب، فالنعت بالأصغر بلحاظ أنّهم أوعية لنزول القرآن، وهم قرآن ناطق بلحاظ أنّ النازل عليهم هو الأكبر.

ومن القرائن أيضاً: أنّ الثقل الأوّل الأعظم الذي مُزّق ليس المراد منه مجرّد المصحف الشريف، إنّما يُراد منه عدم العمل بالكتاب، وقد تقدّم أنّ التطبيق الوحياني للكتاب إنّما يحصل بتوسّط العِترة بتنزّل روح القدس. نعم، يبقى لتطبيق المصحف بحدود دائرة المحكمات في حال كون الموارد والحوادث بيّنة الوجه أنّه تطبيق يقيني.

روى العيّاشي عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال:

(إنّما مثل عليّ عليه‌السلام ، ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة، كمثل موسى عليه‌السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه، ذلك أنّ اللَّه قال لموسى: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَلاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (١) ، ثمّ قال: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (٢) . وقد كان عند العالم علم لم يُكتب لموسى في الألواح، وكان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته، وجميع العلم قد كُتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه، وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلموه وحفظوه،

____________________

١) سورة الأعراف: ١٤٤.

٢) سورة الأعراف: ١٤٥.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592