الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140857 / تحميل: 8923
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مبغض عليّ وآل عليّ في النار، ومحبّ عليّ وآل عليّ في الجنّة...................... ٥٩٨

الطّرفة الثالثة والثلاثون...................................................... ٦٠٣

قال عليّعليه‌السلام : غسلت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنا وحدي وهو في قميصه، فذهبت أنزع عنه القميص، فقال جبرئيل: لا تجرّد أخاك من قميصه؛ فإنّ الله لم يجرّده

........................................................................... ٦٠٣

[ قال عليّعليه‌السلام ]: فغسّلته بالروح والريحان والرحمة، والملائكة الكرام الأبرار الأخيار، تشير لي وتمسك، وأكلّم ساعة بعد ساعة، ولا أقلب منه عضوا إلاّ قلب لي

........................................................................... ٦٠٥

[ قال عليّعليه‌السلام ]: ثمّ واريته، فسمعت صارخا يصرخ من خلفي: يا آل تيم، ويا آل عدي، ويا آل أميّة( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) ، اصبروا آل محمّد تؤجروا، ولا تحزنوا فتؤزروا،( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ٦٠٧

ثبت مصادر التوثيقات...................................................... ٦١١

٢١

٢٢

مقدّمة المؤسسة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين لا سيّما أوّلهم مولانا أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وخاتمهم مولانا الإمام الثاني عشر المهديّ المنتظر عجّل الله فرجه وفرجنا بظهوره ولعنة الله على أعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

إنّ مؤسّسة عاشوراء للتّحقيق والدراسات جعلت جزءا من نشاطها - والّذي اسندته إلى مؤسسة تاسوعاء للنشر - مهمّة تحقيق النّصوص ونشرها بالمستوى العلمي المطلوب واللاّئق بها، فإنّ هذه المؤسسة بالاضافة إلى نشاطها الواسع والمستمرّ منذ سنين في مجال التّحقيق حول الموضوعات الّتي تهمّ الأمّة الاسلامية وإعداد دراسات شاملة ومستوعبة لهذه الموضوعات التي تؤول نتائجها ومنتهياتها إلى من تخصّهم، سواء الّذين أسندوا إليها القيام بأعمال تحقيقيّة أو دراسات علميّة، أو الّذين ترتكز الاستفادة منها عندهم وتؤتى ثمارها بأيديهم.

فبالاضافة إلى مثل هذا النشاط الواسع العميق الّذي لا يقدّر قدره إلاّ المعنيّون وذوو الاختصاص، من افراد وجماعات ومؤسّسات، ارتأت أن تقوم بمهمّة أخرى وهي تحقيق النصوص والكتب التي ترى أنّ الأمّة بحاجة إليها، سواء الّذي لم ينشر

٢٣

من قبل أو الّذي نشر ولكن بصورة غير لائقة.

ونحمد الله سبحانه - وهو وليّ الحمد - أن تمّ من هذا الجانب من نشاط المؤسّسة تحقيق كتاب ( طرف من الأنباء والمناقب فى شرف سيّد الأنبياء وعترته الاطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ ابى طالب ) للسيّد رضيّ الدين عليّ بن طاوس الحسنى الحلّي، العلاّمة والمؤلّف الشهير، ومن أنبغ اعلام سابع قرون الهجرة النّبويّة. قام بتحقيق الكتاب الاستاذ الشيخ قيس العطّار؛ وقدّم له مقدّمة وافية بالتعريف بالكتاب والمؤلف ومنهج التحقيق، نسأل له التوفيق وللمؤسّسة الهداية والتّسديد فى كافة انحاء النّشاط الّتي تقوم بها، وأن يأخذ بأيديها إلى ما يرضيه سبحانه ويرضي أولياءه المعصومين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنه نعم المولى ونعم النصير.

مشهد المقدّسة

١١ / ذي القعدة / ١٤٢٠

٢٨ / ١١ / ١٣٧٨

( يوم ميلاد مولانا وحامي حمانا الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام )

( مؤسسة عاشوراء للتّحقيق والدراسات )

٢٤

مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق أجمعين، أبي القاسم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى عترته وآل بيته الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

فإنّ أوّل خلاف برز بشكل علنيّ بين المسلمين، هو ذلك الخلاف الّذي بدأه الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب قبيل وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والتحاقه برب العالمين، حين طلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا، فاعترض عمر بن الخطّاب قائلا: « إن الرّجل ليهجر، حسبنا كتاب الله » وافترق المسلمون الحاضرون فرقتين، واحدة تقول بما قال عمر، وثانية تقول بضرورة تنفيذ ما طلبه النبيّ، فكثر الاختلاف واللّغط، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع »، حتّى قال ابن عباس: « الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ».

وليس بالخفي أنّ بوادر الخلاف وعدم الانصياع التام لأوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت

__________________

(١) انظر الملل والنحل ( ج ١؛ ٢٩ ) وصحيح البخاري ( ج ٦؛ ١١ / باب مرض النبي ) وصحيح مسلم ( ج ٣؛ ١٢٥٩ / كتاب الوصيّة - الحديث ٢١، ٢٢ )

٢٥

موجودة حتّى في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد أرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيا ولم يبعثه مقاتلا، فوضع خالد السيف فيهم؛ انتقاما لعمّه الفاكه بن المغيرة؛ إذ كانوا قتلوه في الجاهليّة، فبرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من صنعه وأرسل عليّاعليه‌السلام فودى لهم الدماء والأموال(١) ، كما اعترض عمر على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلح الحديبيّة، وفي وعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ربّه بأن يدخلوا المسجد الحرام(٢) ، وأشار على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتل أسارى بدر وفيهم عمّ النبيّ وبعض أرحامه(٣) ، وأمره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كما أمر الخليفة الأوّل بقتل الرجل المارق الّذي كان يصلّي فلم يطيعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ورجعا عن قتله(٤) ، كما أنهما فرّا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من مرّة وفي أكثر من زحف(٥) ، وكما أنّهما تخلّفا عن جيش أسامة(٦) إلى غير ذلك من مفردات خلاف الشيخين وصحابة آخرين لأوامر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولمّا زويت الخلافة عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، تبدّل مسير التاريخ الإسلاميّ، وأثّر هذا التبدّل على العقائد والفقه والتفسير والحديث وجميع العلوم الإسلاميّة، حتّى إذا تسلّم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أزمّة الأمور واجهته مشاكل جمّة، كان من أكبرها التحريفات والتبديلات الّتي أصيب بها الفكر الإسلامي، والمسار المعوّج

__________________

(١) انظر تاريخ ابن الاثير ( ج ٢؛ ٢٥٥، ٢٥٦ )

(٢) انظر صحيح البخاري ( ج ٦؛ ١٧٠ )، صحيح مسلم ( ج ٣؛ ١٤١١ )، فتح القدير ( ج ٥؛ ٥٥ ) وانظر الطرائف ( ج ٢؛ ٤٤٠، ٤٤١ )

(٣) انظر صحيح مسلم ( ج ٦؛ ١٥٧ )، شرح النهج ( ج ١٤؛ ١٨٣ )، السيرة الحلبية ( ج ٢؛ ١٩١ )

(٤) انظر مسند أحمد ( ج ٣؛ ١٥ )، العقد الفريد ( ج ٢؛ ٢٤٤؛ ٢٤٥ )

(٥) انظر تاريخ اليعقوبي ( ج ٢؛ ٤٧ )، كشف الغمة ( ج ١؛ ١٩٢ )، شرح النهج ( ج ١٥؛ ٢٠ ) مغازي الواقدي ( ج ١؛ ٢٩٣ )، المستدرك للحاكم ( ج ٢؛ ٣٧ ) وانظر دلائل الصدق ( ج ٢؛ ٥٥٣ ) ونفحات الجبروت للعلاّمة المعاصر الاصطهباناتي / الجلد الأول - الدليل الرابع

(٦) انظر السقيفة وفدك ( ٧٤، ٧٥ )، شرح النهج ( ج ٦؛ ٥٢ )، وانظر طبقات ابن سعد ( ج ٢؛ ٩٠ ) و ( ج ٤؛ ٦٦ )، تاريخ اليعقوبي ( ج ٢؛ ١١٣ )، الكامل لابن الاثير ( ج ٢؛ ٣١٧ )، أنساب الأشراف ( ج ١؛ ٤٧٤ )، تهذيب تاريخ دمشق ( ج ٢؛ ٣٩١ )، أسد الغابة ( ج ١؛ ٦٨ )، تاريخ أبي الفداء ( ج ١؛ ١٥٦ )، النص والاجتهاد (٣١)، عبد الله بن سبأ ( ج ١؛ ٧١ ).

٢٦

الّذي رسمته السلطات الانتفاعيّة والانتهازية، والّذي أدّى إلى شلّ الفكر القويم عند طائفة كبيرة من المسلمين.

لقد أجهدت هذه الحالة الفكريّة المشوّشة إصلاحات الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأخذت منه مأخذا كبيرا ووقتا طويلا، فأصلحعليه‌السلام منها ما أصلحه وبقي قسط آخر منها مرتكزا في نفوس الناس كنتيجة سلبيّة من مخلّفات من سبقه من الرجال، فلم يتمكّنعليه‌السلام من تغييرها خارجا وإن أثبت بطلانها وخطأها على الصعيد الفكري.

روي عن سليم بن قيس ثمّ أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال: « قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنّته، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى موضعها وإلى ما كانت في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الّذي وضعه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمةعليه‌السلام ، ورددت صاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ وأعطيت كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي بالسويّة، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله وفرضه وحرّمت المسح على الخفّين، وحددت على النبيذ، وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات وأخرجت من أدخل مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجده ممّن كان رسول الله أخرجه وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها إذن لتفرقوا عنّي والله، لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض

٢٧

أهل عسكري ممّن يقاتل معي: « يا أهل الإسلام غيّرت سنّة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا »، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري. ما لقيت من هذه الأمّة من الفرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار(١) ».

ولمّا آل الأمر إلى ملك بني أميّة، وعلى رأسهم معاوية، أخذ يتلاعب بالدين كيفما شاء ويوجّه الأحكام إلى أيّ وجهة أراد، فوضع في البلدان من يختلق الفضائل لمن لا فضيلة له، ومن يضع المكذوبات للنيل من عليّ وآل عليّعليه‌السلام (٢) ، فالتفّ حوله المتزلّفون والوضّاعون والكذّابون من أمثال أبي هريرة وسمرة بن جندب(٣) ، وغيرهم من الطحالب الّتي تعيش في زوايا المياه، حتّى تسنّى له أن يعلن ويجاهر بسبّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ظلما على المنابر(٤) ، مع أنّ معاوية ملعون عدلا على لسان القنابر(٥) .

ولمّا ملك العبّاسيّون كانوا أشدّ ضراوة وقساوة على الدين وعلى أهل البيت وأتباعهم، فراحوا يسعون ويجهدون إلى طمس فضائلهم وإطفاء نور الله الذّي خصّهم به، فطاردوا العلويّين والشيعة واضطهدوهم سياسيّا وفكريّا، وروّجوا للمذاهب الأخرى المضادّة لمذهب أهل البيتعليه‌السلام ، وتبنّوا الآراء الفاسدة والمنحرفة لمجابهة الحقّ، وإبعادا للمسلمين عن الالتفاف حول المنبع الثرّ والعطاء الزاخر الّذي تميّز به منهج أهل البيتعليه‌السلام .

وهكذا استمرت الحكومات، وتوالت السلطات، وتظافرت على كتم الحقّ ونشر ما يخالفه.

__________________

(١) الكافي ( ج ٨؛ ٥٨ - ٦٣ )

(٢) انظر شرح النهج ( ج ٤؛ ٦٣ ) وصرّح أنّ منهم أبا هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.

(٣) انظر شرح النهج ( ج ٤؛ ٧٣ )، نقلا عن أبي جعفر الإسكافي

(٤) انظر شرح النهج ( ج ٤؛ ٥٦، ٥٧ )، فرحة الغري ( ٢٤، ٢٥ )

(٥) انظر الصراط المستقيم ( ج ٣؛ ٤٧، ٤٨ )

٢٨

إلاّ أنّ الجهود الخيّرة والمساعي المثمرة للأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام صمدت في وجه كلّ تلك الحملات المسعورة، فربّى الأئمّة عباقرة وجهابذة وحملة للرسالة، قارعوا الأفكار الخاطئة ونشروا وتحمّلوا أعباء الرسالة الصحيحة، فدوّنوا المؤلّفات الّتي تصحّح كلّ ما مسّته يد التحريف والتلاعب.

وكان النصيب الأوفر من الخلاف، والقسم الأضخم من النزاع، قد انصبّ على مسألة الإمامة والخلافة والوصيّة لعليّعليه‌السلام ، فدار حولها الجدل والخلاف في أوّل يوم بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك في سقيفة بني ساعدة، حيث احتجّ المهاجرون على الأنصار بأنّهم من قومه وعشيرته، واحتجّت الأنصار على المهاجرين بأنّهم الّذين آووا ونصروا، وأنّهم الأوّلون قدما في الإسلام، وامتدّ النزاع واشتجر بينهم، ناسين أو متناسين حقّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وأولويّته بالخلافة ولو وفق ما احتجّ به الفريقان.

وعلى كلّ حال، فقد سيطر أبو بكر بمساعدة عمر على الأمور بالقوّة والعسف، ولم يصخ سمعا لاحتجاجات عليّعليه‌السلام المحقّة، مبتدعا قولة « لا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم »(١) ، ومن ثمّ ادّعى من بعدها « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث درهما ولا دينارا »(٢) ، وما إلى غيرها من مبتكرات الخلافة المتسلّطة.

من هنا نجد أنّ الصراع الفكري في مسألة الإمامة الّتي أخفى الظالمون معالمها قويّ جدّا، فراح رواة الشيعة وعلماؤهم يؤلّفون أخذا عن أئمّتهمعليه‌السلام في هذا المجال العقائديّ،

__________________

(١) انظر كتاب سليم بن قيس (١١٧) وفيه: ثمّ ادعى أنّه سمع نبي الله يقول: إنّ الله أخبرني أن لا يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة، فصدّقه عمر وأبو عبيدة وسالم ومعاذ. وانظر جواب علي على ذلك إذ دخل في الشورى، في كتاب سليم أيضا (١١٩)

(٢) انظر صحيح البخاري ( ج ٥؛ ١٧٧ )، صحيح مسلم ( ج ٣؛ ١٣٨٠ )، السيرة الحلبية ( ج ٣؛ ٣٨٩ ). وهذا الحديث من مخترعات أبي بكر لم يرو عن غيره. قال ابن ابي الحديد: قال النقيب أبو جعفر يحيى بن محمّد البصري: إن عليا وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة، يكذبون « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » ويقولون أنّها مختلقة. انظر شرح النهج ( ج ١٦؛ ٢٨٠ )

٢٩

فدوّنوا كتبهم في الإمامة والوصيّة - منذ العصور الإسلاميّة الأولى - بشكل مرويّات عن أئمّة آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخير شاهد ودليل على ذلك كتاب « سليم بن قيس الهلاليّ » الّذي يعدّ أقدم ما وصلنا في هذا المضمار، إضافة إلى كثير في كتب أصحاب الأئمّةعليه‌السلام الّتي لم يصلنا أكثرها بسبب الظلم والاضطهاد وقسوة المدرسة المقابلة الّتي تمتلك القدرة الفعليّة وتقمع المعارضين.

بسبب هذا الصراع الفكريّ والعقائديّ، كثرت التآليف في الإمامة عموما بجميع تفاصيلها ومفرداتها، وفي الوصيّة - وصيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالخلافة لعليّ وأبنائه الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام - خصوصا، وهو ما يهمّنا في هذا البحث، باعتبار أنّ كتاب « الطّرف » مختصّ بوصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام بالإمامة له ولولدهعليهم‌السلام ، وكيفيّة أخذهصلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة لعليّعليه‌السلام ، ووصيّته له بأن يدفنه هو ولا يدفنه غيره، وما إلى ذلك من مواضيع تدور كلّها في مدار الوصيّة.

وبنظرة عجلى حول ما ألّف تحت عنوان « الوصيّة »، وجدنا الكتب التالية للمتقدّمين:

١ - « الوصيّة والإمامة » لأبي الحسن عليّ بن رئاب الكوفيّ، من أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام ، ممّا يعني أنّه كان حيّا بعد سنة ١٤٨ ه‍. ق. وهي سنة تولّي الإمام الكاظمعليه‌السلام للإمامة.

٢ - « الوصيّة والردّ على منكريها »، لشيخ متكلّمي الشيعة، أبي محمّد، هشام ابن الحكم الكوفي، المتوفّى سنة ١٩٩ ه‍.

٣ - « الوصيّة » لمحمّد بن سنان؛ أبي جعفر الزاهريّ، من ولد زاهر مولى عمرو ابن الحمق الخزاعيّ، يروي عن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام ، توفّي سنة ٢٢٠ ه‍.

٤ - « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجلي، أبي موسى الضرير، الراوي عن الكاظمعليه‌السلام ، وأبي جعفر الثاني الإمام الجوادعليه‌السلام ، توفّي سنة ٢٢٠ ه‍.

٥ - « الوصيّة » لأبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفي، وهو من ولد عمّ المختار الثقفيّ، توفّي سنة ٢٨٣ ه‍.

٣٠

٦ - « الوصيّة » أو « إثبات الوصيّة » للمؤرّخ الثبت العلاّمة النسّابة، عليّ بن الحسين ابن عليّ المسعوديّ الهذليّ، صاحب كتاب « مروج الذهب »، المتوفّى سنة ٣٤٦ ه‍.

٧ - « الوصيّة » لأبي العبّاس أحمد بن يحيى بن فاقة الكوفيّ، الراوي عن أبي الغنائم محمّد بن عليّ البرسيّ، المتوفى سنة ٥١٠ ه‍، يرويه عن مؤلّفه السيّد أبو الرضا فضل الله الراونديّ.

وأمّا الكتب الّتي ألّفت تحت عنوان « الإمامة » والّتي تتضمّن مرويّات وبحوث الوصيّة فهي كثيرة قديما وحديثا، ممّا يعسر إحصاؤها وعدّها جميعا، حتّى أنّ العلاّمة المتتبّع الآغا بزرك الطهرانيّ (رض) قال:

الإمامة من المسائل الكلاميّة الّتي قلّ في مؤلّفي الأصحاب من لم يكن له كلام فيها، ولو في طيّ سائر تصانيفه، أو مقالة مستقلّة، أو رسالة، أو كتاب في مجلّد، أو مجلّدات إلى العشرة فما فوقها، فأنّى لنا بإثبات الكلّ أو الجلّ(١) ...

ثمّ عدّ من كتب أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام وسائر الرواة والكتّاب ما يقارب المائة مصنّف ومؤلّف من مؤلّفات الشيعة الإماميّة(٢) ، وهي جميعا تحتوي في مطاويها على البحوث والمرويّات المتعلّقة بالوصيّة.

وعلى كلّ حال، فإنّ كتابنا « الطّرف » له ارتباط وثيق بكتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجليّ، وهذا ما يقتضي أن نبحث هذه الزاوية المهمّة، ثمّ نبحث حياة السيّد عليّ بن طاوس مؤلّف « الطّرف »، ومن بعده ما يتعلّق بعيسى ابن المستفاد البجليّ.

اسم الكتاب

لقد اختلفت النسخ الخطيّة، والمطبوعة القديمة، بل وحتّى السيّد ابن طاوس نفسه في تعيين اسم الكتاب كاملا، بحيث نجد أنّ النسخة الواحدة تذكر في بدايتها له

__________________

(١) الذريعة ( ج ٢؛ ٣٢٠ )

(٢) انظر الذريعة ( ج ٢؛ ٣٢٠ - ٣٤٣ )

٣١

اسما، ثمّ تعود في خاتمتها فتذكر اسما آخر، ويذكر له السيّد ابن طاوس في إجازته اسما، وفي كشف المحجّة اسما آخر، وهذا ما يحدو بنا أن نذكر ما اطّلعنا عليه في هذا المجال، ثمّ نرجّح اسم الكتاب في خاتمة المطاف.

إنّ النسخة « أ » صرّحت في بدايتها أنّ اسم الكتاب « طرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ».

ثمّ كتب في آخرها: تمّت صورة ما وجدته من هذا الكتاب الموسوم ب « طرف الأنباء والمناقب في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه وتنصيصه لخلافة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ».

وإذا لاحظنا المطبوعة من الكتاب، والّتي طبعت في النجف الأشرف عام ١٣٦٩ ه‍. ق. عن نسخة سقيمة مغلوطة، وجدنا عنوان الكتاب في الصفحة الأولى، هكذا « الطّرف من المناقب في الذريّة الأطائب »، مع أنّ المصرّح به في آخر الكتاب هو: تمّت صورة ما وجدته من نسخة هذا الكتاب الشريف الموسوم بكتاب « طرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام »، وهذا ما يعني توافق ما في بداية نسخة « أ » مع ما في آخر نسخة « ب ».

وقد أورد الآغا برزگ الطهراني « رض » في « الذريعة » اسم الكتاب مطابقا لما في بداية « أ » وآخر « ب » مع إضافة ألف ولام في بداية عنوانه، فقال: « الطّرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (١) ».

وأورد السيّد ابن طاوس اسم الكتاب في إجازته مطابقا لما في بداية « أ »

__________________

(١) الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦١ )

٣٢

وآخر « ب » أيضا، مع إبداله الواو العاطفة - في قوله « والخلافة » - بالباء المتعلّقة بالوصيّة، فصارت « بالوصيّة بالخلافة »، وإليك نصّ عبارته: « طرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (١) ».

وما أن تقاربت الأسماء حتّى برز اسم الكتاب بشكل آخر في « كشف المحجّة » حيث سماّه ب « طرف الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء وعترته الأطائب(٢) ».

وأمّا النسختان « ج » « هـ » فلم تتعرّضا للاسم أبدا، وإنّما كتب اسم كتاب « الطّرف » من مفهرسي مكتبة الآستانة الرضويّة على مشرّفها السلام.

واكتفت النسخة « د » في بدايتها، والنسخة « و » في بدايتها ونهايتها، بالتعبير بكتاب الطّرف، وهذا تساهل واضح واختصار دأب عليه الكتّاب والمؤلّفون والفضلاء في غير مقام التدقيق العلميّ.

والعجب أنّ كاتب النسخة « أ » من الفضلاء - كما ستقف على ذلك في وصف النسخ - وقد بذل جهدا عظيما في تحرّي الدقّة والضبط ومقابلة نسخته مع نسخ أخرى، ورجّح وأحسن التلفيق في أكثر الموارد، ومع هذا نراه يغفل عن اختلاف اسم الكتاب ومغايرة ما في فاتحته لما في خاتمته.

وأعجب منه ما في بداية نسخة « ب » من اقتضاب مخلّ، عمّا في آخر النسخة من اسم تفصيليّ للكتاب، ولا أدري هل أنّ طابع الكتاب تصرّف بالعنوان حتّى جعله كما مرّ عليك، أم أنّ النسخة الّتي طبع عنها كانت مبتلاة بنفس هذا الاختلاف والاقتضاب.

ومهما كان الأمر، فإنّ الطريقة العلميّة توجب علينا أن نلتزم بما هو أقرب لمراد المؤلّف « رض »، وبما أنّ عنوان الكتاب في إجازات ابن طاوس مقارب جدّا

__________________

(١) الإجازات للسيّد ابن طاوس، المطبوع في البحار ( ج ١٠٧؛ ٤٠ )

(٢) كشف المحجة (١٩٠)

٣٣

لما في بداية « أ » وآخر « ب » وما في الذريعة من جهة، ولأنّ علماءنا في إجازاتهم يتحرّون الدقّة في ضبط ما يجيزون روايته عنهم، رأينا أنّ ما في الإجازات هو أقرب لمراده « رض ».

على أنّ ما في « كشف المحجّة » أيضا لا يمكن التغاضي عنه، لأنّه في الواقع بعض العنوان الذي في الإجازات بسقوط الحرف « من »، وبذكر الموصوف لفظا، أي قوله « وعترته الأطائب »، وهذا المقدار ممّا يتساهل فيه في أسماء وعناوين الكتب، خصوصا أنّ السيّد يذكر مؤلّفاته بأسماء مختلفة متقاربة بعضها من بعض، ومن راجع مؤلّفاته عرف صحّة ما نقول، ويكفيك أن تلقي نظرة سريعة على « كشف المحجّة » و « إجازاته » و « سعد السعود » لترى تعدّد تسمياته لكتبه بعناوين وأسماء متقاربة، وسنثبت بعض ذلك في أثناء تعدادنا لمؤلّفاته ومصنّفاته، فمن هنا ساغ لنا أن نرجّح أنّ اسم الكتاب هو « طرف من الأنباء والمناقب، في شرف سيّد الأنبياء وعترته الأطائب، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ».

بين الطّرف والوصيّة

إنّ « كتاب » الطّرف يحتوي على ثلاث وثلاثين طرفة، دوّنها السيّد ابن طاوس بعد ذكره لمقدّمة أوضح فيها أحقّيّة مذهب الإماميّة الاثني عشريّة على نحو الإجمال.

وكتاب « الطّرف » يعدّ بمنزلة المتمّم أو المستدرك لكتاب « الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف »، فإنّ السيّد ابن طاوس سمّى نفسه في كتاب « الطرائف » ب « عبد المحمود بن داود » تعمية وتقيّة من الخلفاء العبّاسيّين الّذين لا يحتملون سماع الحقّ، وينكلون بكلّ من يفوه به.

وفيما يتعلّق بهذه النكتة نقل عن خطّ الشهيد الثاني، أنّه قال: إنّ التسمية بعبد المحمود لأنّ كلّ العالم عباد الله المحمود، والنسبة إلى داود إشارة إلى « داود ابن الحسن المثنّى » أخ الإمام الصادقعليه‌السلام في الرضاعة، وهو المقصود بالدعاء المشهور

٣٤

بدعاء أمّ داود، وهو من جملة أجداد السيّد ابن طاوس « رض »(١) .

وقد اعتمد السيّد ابن طاوس بشكل كبير جدّا في « الطرائف » على كتب أبناء العامّة ورواتهم، وعلى ما اتّفق على نقله جميع المسلمين في كتبهم للوصول إلى الحقّ وإثبات أحقّيّة مذهب الإماميّة، وبعد باقي المذاهب عن طريق الحقّ وجادّة الصواب، وأنّ المذاهب الأربعة وأتباعها لم يلتزموا بما ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرقهم وطرق غيرهم في ولاية وإمامة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وباقي ولده من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

ونفس هذا النهج في إخفاء اسمه سلكه في كتاب « الطّرف »، فلم يصرّح باسمه بالمرّة، وإنّما قال: « تأليف بعض من أحسن الله إليه وعرّفه ما الأحوال عليه »، قال الآغا بزرك الطهرانيّ « رض »: « وما صرّح في الطّرف باسمه تقيّة »(٢) ، فهو كما كان يتّقي في عدم تصريحه باسمه في « الطرائف »، كذلك اتّقى فلم يصرّح به في « الطّرف ».

لكنّ « الطّرف » يمتاز عن « الطرائف »، بأنّه اختصّ بذكر ما ورد صريحا من طرق آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في إثبات الولاية والإمامة والوصيّة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وما لا مجال فيه من النصوص للتأويل والتمحّل والحمل على الوجوه البعيدة والغريبة، فكأنّه « رض » أراد تتميم أو استدراك ما فات من كتاب « الطرائف ».

وقد صرّح السيّد ابن طاوس بذلك في مقدّمة « الطّرف »، قائلا: « وقد رأيت كتابا يسمّى كتاب « الطرائف في مذاهب الطوائف »، فيه شفاء لما في الصدور، وتحقيق تلك الأمور، فلينظر ما هناك من الأخبار والاعتبار، فإنّه واضح لذوي البصائر والأبصار، وإنّما نقلت هاهنا ما لم أره في ذلك الكتاب من الأخبار المحقّقة أيضا في هذا الباب »(٣) .

__________________

(١) انظر مقدّمة الطرائف (١٠)

(٢) الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦١ )

(٣) انظر نهاية مقدّمة المؤلّف من كتاب الطّرف

٣٥

وقال في كشف المحجّة: « يتضمّن كشف ما جرت الحال عليه في تعيين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمّته من يرجعون بعد وفاته إليه، من وجوه غريبة، ورواية من يعتمد عليه(١) ».

وقال في إجازاته: « وممّا صنّفته وأوضحت فيه من السبيل بالرواية ورفع التأويل كتاب « طرف من الأنباء » وهو كتاب لطيف جليل شريف(٢) ».

ولذلك نرى أنّ النسخ الخطّيّة، تشير إلى أنّه « تكملة الطرائف »، بل ووضعت النسخة « أ » ملحقة بكتاب « الطرائف »، وأشير إلى أنّ « الطّرف » تكملة « للطرائف » وتتمّة له، ولهذا قال الآغا بزرك الطهرانيّ « رض »: « والطّرف استدراك للطرائف »(٣) .

ولو لا أنّ السيّد ابن طاوس كان يصرّح بأسماء كتبه ومؤلّفاته وتفاصيل حياته في مطاوي كتبه، لالتبس علينا أمر « الطرائف » و « الطّرف » واسم مؤلّفهما، لكنّ تصريحه في « إجازاته » و « كشف المحجّة » بنسبة الكتابين إليه، ونسبة جميع العلماء هذين الكتابين له، رفع الالتباس ولم يبق أدنى شكّ في أنّهما من مؤلّفات السيّد ابن طاوس « رض ».

والواقع أنّ الغالبيّة العظمى من محتويات كتاب « الطّرف » مأخوذة من كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجلي، فإنّ السيّد ابن طاوس أورد ثلاثا وثلاثين طرفة في كتابه، منقولة عن عيسى بن المستفاد، باستثناء:

١ - الطّرفة الثانية، فإنّه رواها عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

٢ - الطّرفة السابعة، فإنّه رواها عن عيسى بن المستفاد، ثمّ روى مضمونها بروايتين أخريين.

__________________

(١) كشف المحجّة (١٩٥)

(٢) إجازات السيّد ابن طاوس المطبوعة في البحار ( ج ١٠٧؛ ٤٠ ) وانظر الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦١ )

(٣) الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦٢ )

٣٦

٣ - الطّرفة الثامنة، فإنّه رواها عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، أنّ رجلا قال لعليّعليه‌السلام : ...

٤ - الطّرفة التاسعة، فإنّه رواها عن الصادق، عن أبيهعليهما‌السلام .

٥ - الطرفتين الخامسة عشر والسادسة عشر، فإنّه رواهما عن كتاب « خصائص الأئمّة » للشريف الرضيّ « رض »، لكنّهما أيضا ينتهيان إلى عيسى بن المستفاد، عن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فإنّ سندهما هو: حدّثني هارون بن موسى، حدّثني أحمد بن محمّد بن عمّار العجليّ الكوفي، حدّثني عيسى الضرير، عن الكاظمعليه‌السلام .

٦ - الطّرفة الخامسة والعشرين، فإنّه رواها عن عيسى، عن الكاظم، عن أبيهعليهما‌السلام ، ثمّ نقل روايتها بألفاظ أخرى عن محمّد بن جرير الطبريّ في كتابه « مناقب أهل البيت » بهذا السند: أبو جعفر، حدّثنا يوسف بن عليّ البلخيّ، قال: حدّثني أبو سعيد الآدميّ بالري، قال: حدّثني عبد الكريم بن هلال، عن الحسين بن موسى بن جعفر، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدّهعليه‌السلام .

فإذا تأمّلنا في هذه المستثنيات، وجدنا أنّ الطّرفة السابعة مروية عن عيسى أيضا، وإن عضّدها بروايتين أخريين، وأنّ الطرفتين الخامسة عشر والسادسة عشر وإن رواهما عن الشريف الرضيّ « رض » في كتاب « خصائص الأئمّة » إلاّ أنّ سندهما ينتهي أيضا إلى عيسى بن المستفاد، عن الكاظمعليه‌السلام ، ويظهر أنّه نقلهما عن الشريف الرضيّ « رض » إشارة إلى اعتماد الرضيّ على كتاب « الوصيّة »، وزيادة في توثيق المطلب المروي.

وأمّا الطّرفة الخامسة والعشرون، فإنّه أيضا صرّح بروايته لها عن عيسى، عن الكاظمعليه‌السلام ، ومن ثمّ عضّدها بما رواه أبو جعفر الطبريّ بنفس المعنى وبإسناد آخر - ليس فيه عيسى بن المستفاد - ينتهي إلى الإمام الكاظمعليه‌السلام ، وذلك توثيقا لصحّة ما رواه عيسى في كتاب الوصيّة.

يبقى أنّ الطّرفة التاسعة أسندت إلى الإمام الصادقعليه‌السلام مباشرة، ولم ينقلها

٣٧

عن الكاظمعليه‌السلام ، عن أبيه الصادقعليه‌السلام ، وهذا ما يشعر أنّ الرواية مرويّة بطريق ليس فيه عيسى بن المستفاد، أو أنّ فيه عيسى فيلزم كونه من أصحاب الصادقعليه‌السلام أيضا، مع أنّ الرجاليّين لم يصرّحوا إلاّ بروايته عن الإمام الكاظمعليه‌السلام وإدراكه للجوادعليه‌السلام ، وإن ذهب بعض الرجاليين خطأ إلى أنّه ممّن روى عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام كما سيأتي.

لكنّ الحقيقة هي أنّ هذه الطّرفة مرويّة أيضا عن الكاظم، عن أبيه الصادقعليهما‌السلام ، لأنّ العلاّمة البياضيّ صرّح بأنّ إسناد هذه الطّرفة هو نفس إسناد الطّرف السابقة، فإنّه بعد أن قال: « ما أسند عيسى بن المستفاد في كتاب الوصيّة إلى الكاظم إلى الصادقعليهما‌السلام (١) »، قال في بداية الطّرفة التاسعة: « بالإسناد المتقدّم »(٢) ، وهذا صريح بأنّ هذه الطّرفة مرويّة أيضا عن عيسى في كتاب « الوصيّة »، وكذلك نقل هذه الطّرفة العلاّمة المجلسيّ مصدّرا إيّاها بقوله: « وبهذا الإسناد، عن الكاظم، عن أبيهعليهما‌السلام قال »(٣) ، ممّا يدلّ صراحة على أنّها مرويّة عن عيسى في كتاب الوصيّة، إلاّ أنّ التساهل في ذكر اسم الإمام المروي عنه مباشرة في متن النسخ سبّب ما قد يتوهّم من أنّ عيسى رواها عن الصادقعليه‌السلام مباشرة، أو أنّه ليس براو لهذه الطّرفة.

وعلى هذا، فتبقى الطرفتان الثانية والثامنة فقط من كتاب « الطّرف » ليستا ممّا روي في كتاب الوصيّة لابن المستفاد، وتبقى إحدى وثلاثون طرفة الأخرى كلّها عن كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد.

وقد تنبّه العلاّمة البياضيّ إلى كون كتاب « الطّرف » أو غالبيّته العظمى هو ما في كتاب « الوصيّة » لابن المستفاد، فقال: « فصل نذكر فيه شيئا ممّا نقله ابن طاوس

__________________

(١) الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٨٩ )

(٢) الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٩٠ )

(٣) بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٧٨ )

٣٨

من الطّرف »(١) ، ثمّ قال: « ما أسند عيسى بن المستفاد في كتاب « الوصيّة » إلى الكاظم، إلى الصادقعليهما‌السلام »(٢) .

ونقل المجلسيّ كثيرا من الطّرف، فقال: « كتاب « الطّرف » للسيّد عليّ بن طاوس نقلا من كتاب « الوصيّة » للشيخ عيسى بن المستفاد الضرير، عن موسى ابن جعفر، عن أبيهعليهما‌السلام (٣) »، وقال في نهاية ما أخرجه منه: « انتهى ما أخرجناه من كتاب « الطّرف » ممّا أخرجه من كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد، وكتاب « خصائص الأئمّة » للسيّد الرضيّ وعيسى وكتابه مذكوران في كتب الرجال »(٤) .

وقال الآغا بزرك الطهرانيّ (رض) في معرض كلامه عن كتاب الطّرف: « وفيه ثلاث وثلاثون طرفة، في كلّ طرفة حديث واحد، وأكثرها من كتاب عيسى بن المستفاد يعني كتاب « الوصيّة » كما عبّر به النجاشيّ »(٥) .

إنّ ما نقله لنا السيّد ابن طاوس في كتابه هذا على صغر حجمه، يعدّ كنزا نفيسا من كنوز مرويّات الإمامة والوصيّة - ولو لا ما نقله عنه لضاعت مرويّاته فيما ضاع في تراث المسلمين لأسباب شتّى، لكنّنا لا ندري هل أنّ السيّد ابن طاوس نقل كلّ ما في كتاب « الوصيّة » أم انتخب منه ما أراد فقط؟ - لأنّ ظاهر القرائن تدلّ على أنّ كتاب « الوصيّة » كان موجودا عند السيّد ابن طاوس « رض »، ولذا قال الآغا بزرك « رض »: « وقد أكثر النقل عنه ابن طاوس المتوفّى سنة ٦٦٤ ه‍ في « طرف من الأنباء »، فيظهر وجوده عنده في التاريخ المذكور »(٦) .

__________________

(١) الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٨٨ )

(٢) الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٨٩ )

(٣) بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٧٦ )

(٤) بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٩٥ ) وقال في مرآة العقول ( ج ٣؛ ١٩٣ ) « وأورد أكثر الكتاب السيّد ابن طاوس في كتاب الطّرف من الأنباء ».

(٥) الذريعة ( ج ١٥؛ ١٦١ )

(٦) الذريعة ( ج ٢٥؛ ١٠٣ )

٣٩

وإذا صحّ هذا الاستظهار، فمن الراجح جدّا أنّ كتاب « الوصيّة » فقد فيما فقد من تراث إسلامي في حملات التتر الهمجيّة على بغداد، وحرقهم لمكتباتها، وإلقائهم لكتبها في دجلة حتّى صار ماء دجلة أسود، وحتّى عبرت الدوابّ والخيل عليها، وكان من جملة ما فقد مكتبة ابن طاوس الضخمة، والّتي جعل لها فهرستا مفصلا سماّه « الإبانة في معرفة أسماء كتب الخزانة »، وقد كانت تضمّ في سنة ٦٥٠ ه‍، ألفا وخمسمائة كتابا(١) .

ومكتبته وفهرستها « الخزانة » من المفقودات اليوم، لكنّه أشار في مواضع مختلفة من كتاب « المحجّة » إلى أنّ فيها أكثر من سبعين مجلّدا في الدعوات، وأنّ فيها كتبا جليلة في تفسير القرآن، والأنساب، والنبوّة والإمامة، والزهد، وتواريخ الخلفاء والملوك وغيرهم، وفي الطبّ والنجوم، واللّغة والأشعار، والكيمياء والطّلسمات والعوذ والرقى والرمل، وفيها كتب كثيرة في كلّ فنّ من الفنون(٢) .

فمن الراجح إذن أنّ كتاب « الوصيّة » كان من جملة كتبه، وأنّه فقد فيما فقد منها ومن غيرها من مكتبات بغداد، أمّ الدنيا وعاصمتها آنذاك، ولكن هل نقله لنا السيّد ابن طاوس كلّه، أو نقل بعضه؟!

ربّما تكون إجابة هذا السؤال عسيرة جدّا وضربا من الحدس والتخمين، لكنّ المقطوع به عندنا، أنّ السيّد ابن طاوس لم ينقل لنا صدر الطّرفة الرابعة عشر، والّتي نقلها الكلينيّ (رض) في الكافي وعنه المجلسيّ في البحار، بسند الكلينيّ إلى عيسى بن المستفاد، عن الكاظم، عن الصادق ٨، وهذا ما يجعلنا نميل إلى أنّ السيّد ابن طاوس لم ينقل كلّ ما في « الوصيّة »، وإنّما نقل ما اختاره منه، وأضاف إليه بعض مرويّات من طرق أخرى، وعضّد بعض طرفه بطرق وأسانيد أخرى، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

__________________

(١) انظر الذريعة ( ج ١؛ ٥٨ )

(٢) انظر مقدّمة كتاب اليقين ( ٧٩ - ٨٠ )

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الفصل الثامن

معتقدات الإمامة والمهدي عليه‌السلام

(حاضر المعرفة)

٤٠١

٤٠٢

المقالة الأولى

العلم اللدُنّي والولاية

الشريعة بحسب الظاهر وسنن النظام الكوني

العلم اللدني المقوّم لماهية الإمامة:

وقبل الخوض في ذلك يجدر الإلفات إلى النقاط التالية:

١ - البحث يرتبط بصلة وثيقة بالفصول السابقة من الجزء الأوّل من كتاب الإمامة.

٢ - غالب البحث سيكون ذا طابع قرآني، وذلك بعد التنبّه إلى نكات الظهور بتوسّط روايات أهل البيت عليهم‌السلام .

٣ - تذكير بنقاط مستخلصة ممّا سبق:

أ - تعريف الإمامة - والذي تقدّم مفصّلاً في الفصل الثالث من الجزء الأوّل - باختصار: إنّ ما ذكره المتكلّمون باقتضاب واختزال - حتّى الشيعة منهم - في تعريف الإمامة موهم أنّ مقام الإمامة عبارة عن الزعامة والرئاسة الاعتبارية الاجتماعية فقط؛ لخلوّه من التنويه إلى ارتباط المعصوم بمقام الغيب، ومن ثمّ أوهم التعريف المزبور أنّ الإمام كأيّ عالم آخر سوى أنّه في درجة متقدّمة، ممّا أوقع الكثير في شبهات حول الإمامة..

وذكرنا في الفصول السابقة المفهوم الذي اخترناه لمعنى الإمامة، وأنّ ما ذكره المتكلّمون وبعض الحكماء من الإمامية في تعريف الإمامة لا يستوعب جميع

٤٠٣

جوانب الإمام.

فالمتكلّمون اقتصروا على الرئاسة الدينية والدنيوية، وهذا قصر للإمامة على الزعامة السياسية والولاية التشريعية، بل إنّ البعض اقتصر على حفظ الدين، ومن الواضح أنّ هذا التعريف وأمثاله أهمل الإشارة إلى مقام الإمام ومنبع علمه، فهل هو القناة الحسيّة أم أُخرى غيبية يمتاز بها عن بقية البشر؟

وهذا الإهمال وقصر حقيقة الإمامة على الشأن الدنيوي هو الذي أوقع كثير من المتأخّرين في العديد من الإشكالات التي لم يجدوا لها جواباً شافياً على هذا التفسير للإمامة. ومن هنا حدّدنا في الفصول السابقة الأركان والمحاور الأساسية التي تبتني عليها حقيقة الإمامة وماهيتها، وهي:

١ - الهداية الإرائية: ويقصد بها التبليغ والتشريع وإراءة الطريق للمؤمنين، وهذه تعتمد على أنّ للإمام علم لدنّي وقناة غيبية يستقي منها علومه، وهي ليست من سنخ النبوّة، بل هي وحي بالمعنى الأعمّ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام في الزيارات ما مضمونه: (أنّ الإمامة سفارة إلهية) .

٢ - الهداية الإيصالية: وهي حيثية ولائية مولوية، وقدرة، وقد عرّفها العلاّمة الطباطبائي في الميزان في ذيل آية ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) (١) ، ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (٢) : قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلى المنازل المعنوية الكمالية. وهاتان النقطتان من المحاور الأساسية في حقيقة الإمامة، وقد مثّلنا لهما بقوّة العقل النظري والعملي في الإنسان الصغير، وبمقتضى التطابق بين الإنسان الصغير والكبير يمكن معرفة كثير من خصائص الإمامة في مقام الهداية الإرائية والإيصالية.

____________________

١) سورة البقرة: ١٢٤.

٢) سورة الأنبياء: ٧٣.

٤٠٤

فالهداية الإرائية تتمّ عبر قناة التبليغ، وعبر قناة الاتّصال.

والهداية الإيصالية للمعصوم تتمّ كما في قوّة العقل العملي (١) من دون إلجاء وإجبار، حيث يشوّق، ويحثّ، ويجذب من دون قهر لقوى الإنسان الأخرى، فالهداية الإيصالية تتمّ من دون أن يكون هناك سلب للإرادة والاختيار.

٣ - إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من: أمَّ، يؤمّ، وهي تتضمّن خاصّية المتابعة من المأموم للإمام، وهي تتضمّن استمرارية السير والحركة الشعورية الدائمة، وعدم التوقّف والجمود، فلا يكون صرف الإراءة محقّقاً للائتمام، بل هي والإيصالية.

٤ - لابدّ للسير والحركة من غاية، وبدون هذه الغاية لا تتحقّق ماهية الإمامة.

وكلّ هذا ممّا حدا بالمحدّثين، والمفسّرين، والفلاسفة، لدفع الإيهام في تعريف المتكلّمين بالإلفات إلى أنّ الإمامة سفارة إلهية...

ومن ثمّ ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : (أنا سفير السفراء) (٢) ، وكذا عبّر الإمام الهادي عليه‌السلام في زيارته لجدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الغدير: (يا أمين اللَّه في أرضه

____________________

١) إنّ الإمام كما يكون هادياً في العلوم الحصولية فهو يكون هادياً في العلوم الحضورية أيضاً، والتي ذكرنا مراتبها في الفصل الأوّل من الإمامة، ويكون توسّطه بمعنى: إنّنا نرتبط به حضوراً، وذلك بمقدار ما يكون للإنسان من استعداد، وقد يحرم نفسه بسوء اختياره؛ عندما لا يوفّر الشرائط المطلوبة لمثل هذا الاتّصال، ولكن الطريق للمعصوم بمعنى الحجّية على الآخرين، بل وعلى الشخص نفسه، لا تكون إلاّ بالهداية الإرائية الحصولية من قسم البيان والمعاني.

وأمّا القسم الآخر من الحصولية: وهي الارتباط بالصور المرتسمة في العقل الكلّي والحضورية فليس بحجّة ما لم يعزّز بشاهد من الكتاب والسنّة، نعم هو ينفع في سعة أُفق المعارف وإلفاته إلى نكات في الكتاب والسنّة يعزّز فيها ما انكشف له وشاهده، وسرّ عدم الحجّية هو امكان الخطأ وعدم العصمة، ولذا لا يحتجّ برواية ما يشاهده؛ لإمكان وقوع الخطأ عند تحويله إلى علم حصولي.

٢) بحار الأنوار، ج٢٦، ص٢٩٢.

٤٠٥

وسفيره في خلقه)، وفي زيارته عليه‌السلام ليلة المبعث ويومه - أوردها المفيد، وابن طاووس، والشهيد -: (وعيبة علم اللَّه وسفير اللَّه في خلقه)، وفي البحار: (سفير السفراء)، وفي زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام الرجبية: (السلام عليك يا سفير اللَّه وابن سفيره)، رواه المفيد وابن طاووس والشهيد. فإنّها عبارة عن: الهداية الإرائية والإيصالية.

ومنبع الإرائية: الوحي والغيب، ولكنّه بالمعنى الأعمّ، وليس على حدّ النبوّة. ومنبع الإيصالية: القدرة والولاية، كما ذكر ذلك الطباطبائي في ذيل آية: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (١) ، و ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ) (٢) ، أنّه: قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلى المنازل المعنوية والكمالية..

علماً أنّه اقتصر على هذا البعد في تعريفها، مع أنّ الصحيح أنّها هداية إرائية أيضاً؛ استناداً إلى مجموعة أدلّة سبقت الإشارة إليها.

وقال المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية في تعريف الإمامة: الرئاسة المعنوية الكبرى في الدين والدنيا، المنبعثة عن كمال نفسه المقدّسة التي من شؤونها الروحانية وساطتها للفيض وكونها مجرى الفيض النازل من سماء عالم الربوبية، وعليه ينطبق كمال الانطباق قولهم: (مجاري الأُمور بيد العلماء باللَّه) دون الفقيه الذي هو - بما هو فقيه - عالم بأحكام اللَّه لا باللَّه (٣) .

وجعل (قدس سره) هذا التعريف من الرئاسة المعنوية، أي: الروحية والتكوينية في قبال الرئاسة الاعتبارية المجعولة تشريعاً من اللَّه تعالى في أُمور الدنيا والدين، وأنّها من المناصب المجعولة الاعتبارية (٤) ، بخلاف المعنى الأوّل، فإنّه من المعاني

____________________

١) سورة البقرة: ١٢٤.

٢) سورة الأنبياء: ٧٣.

٣) نهاية الدراية، ج٥، ص٢١٣، وكذا المجلّد السادس.

٤) نهاية الدراية، ج٥ و ج٦، ص٢١٣.

٤٠٦

التكوينية. وجعل التقابل بين هذين المعنيين نظير التقابل بين معنيّ النبوّة، فإنّ المعنى التكويني لها عبارة عن:

أوّلاً: إنّها من الصفات الواقعية ومرتبته عالية من الكمالات النفسانية، وهو تلقّي المعارف الإلهية والأحكام الدينية من المبادئ العالية بلا توسّط بشر، وصيرورة نفسه المقدّسة مجلى المعارف والأحكام معنى بلوغها درجة النبوّة.

ثانياً: إنّها معنى إعتباري من المناصب المجعولة، بمعنى جعله مخبراً ومبلّغاً عن اللَّه تعالى وسفيراً - تشريعاً - إلى خلقه (١) .

هذا، ويلاحظ على تعريفه (قدس سره) إنّ ما جعله منشأ الرئاسة التكوينية، كمال نفسه المقدّسة ووساطته للفيض على النفوس والأرواح ومجاري الأُمور هو الأولى أن يجعل أصلاً في التعريف، وبجعل رئاسته التكوينية وقدرة تصرّفه في الخارج شأن من شؤون حقيقة الإمامة فضلاً عن الرئاسة الاعتبارية القانونية في الدين والدنيا، كما أشار هو (قدس سره) إلى خطأ جعل الرئاسة الاعتبارية هي الأصل في تعريف الإمامة.

كما أنّ هناك فارقاً آخر بين الإمام المعصوم والفقيه - مضافاً إلى ما ذكره من الفارق الأوّل - هو أنّ الفقيه لا يحيط بأحكام اللَّه تعالى في اللوح المحفوظ بتمامها، كما أنّ علمه بأحكام اللَّه هو من وراء حجاب عالم دلالات الألفاظ وبتوسط تركيب الدلالة وتناسباتها، ومن ثمّ قد يصيب في تأليف الدلالة باستكشاف الواقع وقد يخطئ، بل في جملة من المواضع يغيب عنه شطر واسع من النصوص اللفظية، فهو لا يحيط بالأحكام الظاهرية فضلاً عن منظومة الأحكام الواقعية، بل قد يكون ما قد توصّل إليه حكماً تخيّلياً لا ظاهرياً، كما نبّه على ذلك علماء الأُصول في مبحث الإجزاء، إلى غير ذلك من الفوارق.

____________________

١) المصدر السابق.

٤٠٧

هذا وسيأتي في كلام البياضي - في (الصراط المستقيم)، وهو من علماء القرن التاسع - ما يظهر منه التفطّن إلى هذه الجهات في تعريف الإمامة الإلهية.

وقد مثّلنا هاتين الهدايتين بالعقل النظري والعَمَلي، فالإمام هو العقل النظري للإنسان الكبير وعالم التكوين، وهو العقل العملي كذلك.

وكلّما تدبّرنا في خصوصيات العقلين نجدها في الإمام، بما في ذلك أنّهما لا يَقهران الإرادة، ولا يسلبان الاختيار، كذلك الإمام لا يقهر الإرادة ولا يسلب الاختيار، وإنما يُعلِّم ويشوّق فقط.

بل إنّ العقل مرتبط بالعلم الحصولي والإنسان يمتلك علماً آخر وهو العلم الحضوري، والذي ذكرت له مراتب تبدأ بالقلب، فالسرّ، والخفي، والأخفى. كذلك الإمام هو هادي في رتبة العلم الحضوري أيضاً، عِلماً أنّ الهدايتين في هذه المرتبة تندّكان بوجود واحد بسيط.

وعندما نرجع إلى اللغة حيث إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من: أمَّ، يأمُّ ، نلاحظ أنّ الإمامة في الوقت الذي تستبطن الخصوصيتين (الإراءة والإيصال)، تستبطن الحركة والسير والمتابعة للإمام نحو غاية ما عن شعور واختيار.

ومن ثمّ لم يكن صِرف الإراءة محقّقاً للائتمام، وصرف الإيصال كذلك؛ لأنّه سيكون لا عن شعور.

ب - البطون والتأويل في تعريف جديد: إنّ السائد في فهم البطون وتفسيره أنّه التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة الظاهر ومن خلال موازين الظهور.

إلاّ أنّ الاتّجاه المعاصر أخذ ينحو منحىً آخر في فهم وتعريف البطون؛ تبعاً للآيات وكثير من الروايات، وهو: المعنى الذي لا يمكن للذهن العادي - غير المعصوم - الوصول إليه بنفسه عبر منصّة الظهور. أي إنّ البطون هو قسم من

٤٠٨

الظهور لكن لا يهتدي بغير المعصوم إلى تأليف موازين اللفظ والدلالة من مختلف القرائن والمناسبات، ونضد المقدّمات الدقيقة لتحصيل مفاده من منصّة الظهور الأوّلي. وهو يعني أنّه ليس هناك باطن غير ظاهر، سوى أن استنطاقه من النصّ غير متاح لكلّ أحد، وإنّما هو خاصّ بالمعصوم.

وعلى ضوء هذا يفهم قول الصادق عليه‌السلام : (قد ولدني رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أعلم كتاب اللَّه، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر الجنّة وخبر النار، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إنّ اللَّه يقول: ( تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (١) (٢) .

ويفهم حثّه عليه‌السلام أصحابه كما في موثق أبي الجارود، قال، قال أبو جعفر عليه‌السلام : (إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب اللَّه، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول اللَّه أين هذا من كتاب اللَّه؟ قال: إنّ اللَّه عزّ وجلّ يقول: ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) (٣) وقال: ( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ) (٤) وقال: ( لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٥) ) الحديث (٦) .

وهذا طبيعي بعد أن كان مصحف الكتاب العزيز نسخة من لوح التكوين وتنزيلاً له.

فيوجد تعريفان للباطن:

أحدهما: هو الذي يعتبر من التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة

____________________

١) سورة النحل: ٨٩.

٢) الكافي، ج١، ص٦١.

٣) سورة النساء: ١١٤.

٤) سورة النساء: ٥.

٥) سورة المائدة: ١٠١.

٦) الكافي، ج١، ص٦٠.

٤٠٩

الظاهر وموازينه، وهذا هو التعريف المشهور على ألسنة الكثير من المحقّقين.

والثاني: هو نحو من الظهور الذي لا يمكن للأذهان العادية الوصول إليه إلاّ عبر تعليم المعصوم، فهو ليس في قبال الظاهر، بل هو قسم من الظاهر، وهو غير ممتنع على أحد بل هو مفتوح، إلاّ أنّ الوصول إليه يتمّ عبر مناسبات وتأليف للمقدّمات الدقيقة العميقة التي لا تهتدي الأذهان العادية إلى الوصول إليها، وهذا لا يجعله خفياً بل يكون حاله حال علم الرياضيات الذي يعتمد على الأوّليات البديهية ومع ذلك ما زالت ما لا تحصى من المسائل الرياضية متعسّرٌ على الذهن العادي حلّها، وهو لا يخرجها عن حدود علم الرياضيات.

والذي نختاره هو المعنى الثاني؛ لأنّا نراه أقرب إلى مسلك الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث كانوا يحثّون أصحابهم على استنطاق القرآن الكريم بإرشادهم إلى أوجه الدلالة، وترغيبهم في السؤال عن مصدر الحكم، والإشارة إلى المناسبات المتعدّدة والقرائن التي تكون محفوفة بالآيات، وتجميع الآيات المتفرّقة بنحو برهاني، وما استدلال الإمام بالقرآن على روايات الطينة إلاّ من هذا القبيل. وبناءً على هذا نقول:

١ - إنّ روايات الأئمّة عليهم‌السلام في ذيل الآيات لا تكون أمراً مستقلاً عن الآيات ومخالفة للظاهر، بل يجب اعتمادها كملاحق وتبصرات للأُصول القانونية ولأُسس المعارف، وهذا من الناحية العلمية له فوائد جمّة.

٢ - إنّ التعامل مع الروايات الواردة في تفسير الآيات لا يكون على أساس مجرّد التعبّد فقط، بل يكون على أساس الإرشاد والإشارة أيضاً إلى كيفية سلوك موازين الظاهر، وإيجاد المناسبات للوصول إلى البطون. وهذا التفسير في كلّ آية آية لا يمكن للعقول الاهتداء إليه إلاّ بهداية المعصوم، ومن ثمّ التنبّه إلى إعمال الموازين الدلالية في الوصول إليه.

وهذه الطريقة هي التي يجب اتّباعها في استخلاص هذه البطون، وسوف

٤١٠

تكون مرتبة من مراتب الظهور، وسوف يكون هذا المنهج برهاناً دلالياً لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد ورد عنهم عليهم‌السلام : (من أخذ دينه من كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله زالت الجبال قبل أن يزول) (١) .

٣ - إنّ الطريقة التي نريد تطبيقها في فهم الآيات القرآنية تعتمد على الظهورات الابتدائية للآيات، وتكون نقطة الانطلاق في أيّ فهم آخر.

٤ - إنّ الإعتماد على القرائن العقلية يكون تامّاً بشرط أن تعتمد على العقل البيّن، وكلّما أمكن تقليل الاعتماد على العقل النظري يكون أجدر وأصحّ.

وهذا لا يعني أنّه على التفسير الأوّل للباطن يتمّ التسليم بتهمة الباطنية أو عدم وجوب الإيمان به؛ لأنّه ليس من الظاهر؛ وذلك لأنّ الإيمان بالظاهر دون الباطن - الذي هو الغيب والتأويل - كفر، والإيمان بالباطن دون الظاهر هو كفر أيضاً، بل يجب الإيمان بهما معاً. وعليه، فإنّ الذي يقع مورد الثواب والعقاب هو الشريعة الظاهرة ومدى العمل بواجباتها ومحرّماتها، وعدم الالتزام بها والالتفات إلى الباطن فقط زيغ. ومن الجهة الثانية أيضاً إن الاقتصار على الظاهر فقط يكون تركاً للتأويل الحقّ الذي هو الباطن الخفي، ويصبح من الشاذّ والنادر مع مرور الزمن، فلذا يجب الالتزام بهما معاً، والدمج بينهما.

ومن ثمّ تجد أنّ المعصوم عليه‌السلام في أخبار الطينة الغامضة يستنطقون فيها ألفاظ القرآن، وبالتأمّل نلحظ أنّ القرآن ظاهر في ذلك لنكات كانت خفيّة علينا، لا أنّه من باب الجري وذكر المصداق.

بل ظاهرة البطون - أي المعاني الغامضة المعقّدة الخفية - ليست خاصّة بالمعارف الدينية، بل نجد ذلك في مثل علم الرياضيات، فإنّه في حين كونه

____________________

١) الكافي، ج١، ص٧.

٤١١

بديهياً وتقلّ إن لم تنعدم فيه الفرضيات، إلاّ أنّه ما زالت هناك مجهولات لم يوفّق لحلّها كبار العلماء مع قبولهم وجود الحلّ في داخل البديهيات الرياضية، سوى أنّهم لم يتمكّنوا من التفطّن لكيفية تنظيم المعادلات بحيث يتوصّل بها لحلّ المجهول (١) ، وكذلك نجدها في مسابقات الأدب، فإن مهرة الأدب يخوضون في التحليل الأدبي إلى درجات عميقة في النصّ يعجز كثير من أبناء اللغة بل بقية

____________________

١) قد يقال: صرف استدلال الإمام بالقرآن، واستخراجه من القرآن، لا يكشف عن أنّ الباطن ظاهر، إلاّ أن يكون عليه‌السلام يلفت إلى نكات تجعل المعنى يظهر لنا من القرآن.

ويجاب: نعم، الإمام عليه‌السلام يُلفت إلى نكات، ونحن ندّعي الموجبة الكلّية في ذلك.. ولكن ليس بالضرورة في كلّ رواية، وإنّما من مجموع ما ورد من روايات في المسألة الواحدة.

وقد يقال: ثمّ هل البطون - بعد حصره بالظاهر - هو التأويل أو أنّ التأويل أعمّ؟ فهناك ما يرتبط منه بالمصداق والوجود الخارجي الذي هو حقيقة القرآن ولوح تكوينه.

ويجاب: نعم، البطن هو التأويل، وليس الثاني أعمّ، والبطن يشمل المصداق والحقيقة، ولكن لا يمنع أن يكون مدلولاً مطابقياً للّفظ بعد أن كان له مفهوم، فالبطن يبدأ من المفاهيم غير الظاهرة إلاّ للمعصوم ويستمرّ في تراميه إلى المصداق، فالحقائق التكوينية بكلّ مراتبها، وكلّها مداليل مطابقية، وظاهرة من اللفظ لوجود ما يدلّ عليها، ولكنّه خفي علينا.

فاللّفظ له مراد استعمالي، فتفهيمي، فجدّي، وهي متاحة لنا، ثمّ تبدأ المرادات الجدّية بالترامي، وكلّ منها يظهر من اللّفظ - لا أنّه لازم لسابقه كي يكون مدلولاً عقلياً لا لفظياً - سوى أنّ الذهن العامّ لم يوفّق للعثور على تلك الدلالات بدون إرشاد المعصوم ووصايته وقيمومته على فهم القرآن.

وقد يقال: هل يعني أنّ اللوازم الفقهية - والتي برع فيها بعض فقهائنا - كلّها ظواهر، كذا ما يكون‏ حصيلة الجمع بين الأدلّة، كالملكية الآنية؟

ويجاب: نعم.

أو يقال: هل يمكن القول بأن العلاّمة قد نهج نفس المنهج - أي التوسع - وإن لم يخرج ذلك بما ذكرتم من تفسير البطن؟

فيجاب: نعم، بالإضافة إلى أنّه - كما ذكرنا في الأُصول - اكتفى بالرجوع للرواية حدوثاً لا بقاءً، وهو ممّا لا نقبله؛ إذ مقتضى تأبيد المعية بين الثقلين هو المعية في الرجوع إليهما ابتداءً وانتهاءً.

٤١٢

الأدباء في الوصول إليها، نظير: ترسيم شخصّية صاحب النصّ، وبيئته، وخلفيته العلمية، وخلقه، وتاريخه، إلى غير ذلك من العوامل والبيئات التي ترتبط بصاحب النصّ، كلّ ذلك من خلال مقطوعة لفظية يدرسها ويحلّلها الأديب البارع. ولقد كانت المسابقات الأدبية معهودة عند عرب الجاهلية حيث كانوا يتعاطون في سوق عكاظ حول القصائد الشعرية والمقطوعات النثرية عند من برز نجمه في الأدب.

والنتيجة: أنّ الروايات التفسيرية ليست مجرّد تعبّدية إجمالية محضة، بل مدلّلة مُبيّنة - على التفسير الثاني للبطون التأويلي الخفي - لأنّ فيها إرشاداً إلى كيفية الاستفادة من الظهور القرآني، بخلافه على المعنى الأوّل؛ فإنّها لا تعدو التعبّد بمعنى: الذي لا نعرف موازينه، ولم نتعرّف عليها.

في حين أنّها على الفهم الثاني للبطون ستكون شرحاً وتفصيلاً للقرآن الذي هو بمثابة الدستور، كما ذكر السيد البروجردي تبعاً لمنهج العلاّمة المجلسي في البحار.

وبهذا الفهم يتمّ القضاء على الشبهة الموجّهة للشيعة الإمامية بأنّها فرقة باطنية غنوصيّة لا تعلن عن أفكارها ومتبنياتها؛ إذ عرفت أنّ الشيعة لا تعتقد ولا تتبنّى فكرة إلاّ وهي ظاهرة مآلاً من القرآن والسنّة (١) .

____________________

١) على الفهم الأوّل للبطون يجاب عن شبهة الباطنية بالحديث الشريف: (من آمن بالظاهر دون الباطن فقد كفر، ومن آمن بالباطن دون الظاهر فقد كفر، ومن آمن بهما معاً فقد آمن).

وذلك لأنّ الإيمان بالباطن دون الظاهر يساوق عدم الالتزام بالشريعة الظاهرية وبواجباتها ومحرّماتها، بل وعقائدها، وهو واضح أنّه انحراف وكفر. فتهمة الباطنية إنّما تشكّل وصمة، وتعبّر عن الانحراف إذا كان بالتنكّر للظاهر، أمّا مع الدمج بينهما فهو الإيمان، بل ورد في الحديث أنّ إنكار الباطن والاقتصار على الظاهر كفر. كيف، وهناك جملة من الآيات القرآنية دالّة على ذلك كقوله تعالى: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، وقوله تعالى =

٤١٣

وعلى أساس هذا الفهم يمكن الدعوة إلى تأسيس تفسير جديد يعتمد الكشف عن خفايا الظهور ومعادلاته وتناسباته بتوسّط روايات أهل البيت عليهم‌السلام بإضافة الاعتماد على العقل البديهي، وإن كانت نقطة الانطلاق هي من الظهورات الابتدائية للآيات.

وستظهر النتيجة في واحدة من صورها بالشكل التالي: (من عرف حقّنا من الكتاب زالت الجبال ولم يزل إيمانه).

ج - وغاية البحث في هذا الرافد: إنّ القرآن ينوّه ويشير إلى حجج غير الأنبياء والرسل، وأنّهم يقومون بدورهم في الأرض بتوسّط وبركة العلم اللدنّي كالأنبياء والرسل، مع بيان لحدود هذا العلم، بحيث يفرزه عن علم النبوّة والرسالة.

د - (منهج البحث) خطوط البحث: سيتمّ الحديث فيما سيأتي ضمن التسلسل التالي، بعد التذكير أنّ سمة الحديث ستكون قرآنية:

١ - استعراض الآيات المستعرضة لنماذج الإمامة والأئمّة الذين قاموا بدورهم

____________________

= ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) ، وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، وقوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ، وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) ، وغيرها من الآيات الدالّة على أنّ لظاهر القرآن تأويل وحقائق في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، والكتاب المبين، لا يطّلع عليها إلاّ المطهّرون أهل آية التطهير؛ حيث الكتاب آيات بينات في صدورهم، والإيمان بظاهر الكتاب وإنكار تأويله في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، والكتاب المبين، هو من باب: ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) .

ونظير ذلك الحديث النبويّ: (ربّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه)، حيث يدلّ على أنّ فقه الدين وفهمه له مراتب ومدارج مترامية متلاحقة، تمتدّ بامتداد ما للدين من عمق وغُوَرٍ خفيّة عن مرتبة الظاهر الأوّل، وقد أشبعنا البحث في ذلك في الفصول السابقة.

وكذا قوله: ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) .

٤١٤

الملقى على عاتقهم في الأرض بعلمهم اللدنّي.

٢ - إرسال الرسول يؤدّي إلى ثمرةٍ وهي الإمامة، وأنّ القرآن يثبت أنّ الغاية هي الإمامة الثابتة لجملة من الرسل وأبنائهم؛ فإنّ جملة من الأنبياء كانوا أئمّة أيضاً: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (١) ، وقوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا... ) (٢) ، وكذلك الحال في سيد الرُسل، بل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله إمام الأئمّة.

٣ - استعراض الآيات المبينة للسيرة النبويّة في إمامة المجتمع البشري، أو السيرة الإلهية التي أمر اللَّه تعالى نبيّه بها في الحكم وقيادة الناس وأنّها تقتضي مقام الإمامة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يغاير مقام النبوّة.

٤ - الشرح القرآني لماهيات المناصب الإلهية، وأقسام الحجج الإلهية.

٥ - بيان القرآن للمعاد والسير إلى اللَّه واستلزامه لوجود منصب الإمامة.

هـ - (فوارق النبوّة والإمامة): قبل الدخول في صلب البحث، لابدّ من الوقوف على حقيقة العلم اللدنّي المقوّم لماهية الإمامة، وما ينتج عن هذا من معرفة حقيقة الشريعة في مقابل ظاهر الشريعة، وهو ما قد يعبّر عنه بالشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، كما ذُكر في قصّة الخضر عليه‌السلام مع موسى عليه‌السلام في سورة الكهف، وكقضاء داود من غير بيّنة، وكحكومة سليمان وذي القرنين عليه‌السلام بتوسّط الأسباب اللدنية.

وقد يعبّر عن الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية بالولاية الشاملة للطريقة والحقيقة، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٣.

٢) سورة البقرة: ١٢٤.

٤١٥

مَاءً غَدَقًا ) (١) بأنّ الطريقة هي ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن الشريعة الظاهرة بالنبوّة، وإن كان سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جمع أعظم مقامات الولاية والنبوّة.

ولابدّ من الالتفات إلى أنّ الشريعة واحدة حدوداً وموازيناً، إلاّ أنّ الفرق هو آلة التطبيق، ولا يخفى أنّ البطون والباطن يطلق على عدّة معانٍ: كالتأويل، والغيب. وفي مقابل ذلك قد يطلق على: التخليط، والخبط، والنزوع الروحي والنفساني والإيحائي، أو الغرائب مع عدم التقيّد بالموازين والأدلّة والحجج، ونحو ذلك.

وقد يطلق على المعاني الغامضة الخفية أو الحقائق المستورة، والمراد في المقام ما يَقرب من المعنيين الأخيرين، والتفرقة بينه وبين العلم المقوّم لماهية النبوّة (الوحي)، وما ينتج عنه من الشريعة الظاهرة فوارق - مع التنبيه على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو إمام الأئمّة أيضاً إلاّ أنّ الكلام في بيان الفارق بين مقامه من حيث النبوّة ومقامه من حيث الإمامة - في تميّز المراد من العلم اللدنّي.

من الأُمور المهمّة التي يجب تسليط الضوء عليها قبل الشروع في بيان أصل البحث، هو المائز بين العلم اللدنّي والعلم النبوّي، أو ما يمكن تسميته الفرق بين الشريعة الظاهرة والشريعة التكوينية (أي: السنّة الإلهية الكونية)، ويمكن إيجاز الفرق في أُمور:

١ - إنّ تطبيق وتنفيذ أحكام العلم النبويّ هو من سنخ الاعتبارات الكلّية الإنشائية القانونية تُبنى على العلم الحصولي، بينما في العلم اللدنّي هي من سنخ تكويني وتعتمد على العلم الحضوري.

ومن الأمثلة على ذلك: أنّ القرآن الكريم والروايات تثبت أنّ للملائكة أوامر إلهية متوجّهة إليهم وهم لا يعصونه، وهذه الأوامر هي ليست من سنخ الاعتبارات

____________________

١) سورة الجن: ١٦.

٤١٦

والأحكام الظاهرية، فهي من سنخ آخر، مع المحافظة على أنّها موجودات شاعرة مختارة، فهذه الأوامر إرادات إلهية تكوينية من سنخ الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، حيث إنّ الملك مزوّد بالعلم اللدنّي، وتصوير الأوامر والإرادات التكوينية لا ينافي إختيارية الملك.

٢ - إنّ الأحكام الواقعية في الشريعة الظاهرة نابعة من أغراض وملاكات، وتحقيق الأحكام لهذه الأغراض يكون غالبياً لا دائمياً، أمّا في العلم اللدنّي فالإصابة تكون دائمية كلّية ولا تحتمل الخطأ.

٣ - إنّ الشريعة الظاهرة لها موازين خاصّة بها، حيث إنّها تعتمد في تطبيقها على العلم الحسّي الحصولي، بخلاف الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، فهي لها موازين خاصّة من حيث اعتمادها على علم القضاء والقدر.

ويجب التنبّه إلى عدم الخلط بين الموازين، فاستخدام موازين الشريعة التكوينية والسنن الإلهية الكونية في الشريعة الظاهرة قد تؤدّي إلى الخروج عن الدين، أو العكس، بأن يستخدم موازين الشريعة الظاهرة في الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، وكثير من الإشكالات والشبهات تنشأ من الجهل والغفلة بين هذه الموازين، حيث يستخدم موازين الظاهر في فهم مفادات هي من سنخ الشريعة والسنّة الإلهية الكونية.

ولهذا السبب، وبسبب الغفلة والخلط، نشأت الفرق المنحرفة عن خطّ أهل البيت، فهي من هذا القبيل، حيث إنّهم أَسْرَوا وعمّموا أحكام الشريعة والسنّة الإلهية الكونية التي اطّلعوا عليها على الشريعة الظاهرة التي هم مخاطبون بها أيضاً، فيجب التنبّه إلى وضع هذا الحاجز بين الموازين في كلا الدرجتين من الشريعة، درجة الظاهر ودرجة السنّة الإلهية الكونية.

ومن صور الخلط الذي يحصل: إلغاء الشريعة الظاهرة بحجّة الوصول إلى

٤١٧

أهداف وأغراض الشريعة بدعوى السفارة والنيابة، الإخبار والرواية عنه مع انقطاع الطريق الرسمي بيننا وبينه (عج).

وإحدى التفسيرات لما ورد من أنّ صاحب الأمر عليه‌السلام عند ظهوره سوف يأتي بدين جديد أنّه سوف تقترن موازين الشريعة الظاهرة بالسنن الإلهية الكونية، وهو ليس من باب النسخ، بل هو من باب أنّ الشريعة هي الظاهرة إلاّ أنّ تطبيقها سوف يكون بموازين الشريعة والسنّة الإلهية الكونية.

وليتنبّه إلى أنّ عموم الناس غير مكلّفين إلاّ بالشريعة الظاهرة، ولا يمكن لهم العمل بالدرجة الخفيّة، كما أنّه ليس هناك شريعتان، بل شريعة واحدة لا تختلف وإنّما تطبيقها تارةً بموازين الظاهر وأُخرى بآليات تُصيب الواقع ولا تخطئه، وهي موازين خفية باطنة، وسيأتي بيان حقيقة الشريعة بحسب السنن الإلهية الكونية.

ومن هنا نعرف كيف يتمّ الملائمة بين معرفة الإمام بأنّه سوف يُقتل على يد ابن ملجم، وأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام يعلم أنّه مقتول لا محالة، وذلك عن طريق العلم اللدنّي طبقاً لموازين الشريعة والسنّة الكونية، لا بتوسّط العلم من الأسباب العادية طبقاً لموازين الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة.

بل إنّ موازين الظاهر في باب التزاحمات تطبّق على الأحكام الفعلية، أمّا في الشريعة والسنّة الإلهية الكونية فإنّها تلاحظ بما لها من لوازم ومصالح حتّى في الحقب التاريخية التالية، فلا يقصر الحدث على أهمّيته في حقبة زمنية معينة، بل يلاحظ عموم التاريخ، ومن هنا فإنّ أثر شهادة الحسين عليه‌السلام على حفظ الدين والشريعة والتزام الناس على مرّ الزمان، وعدم الرضوخ للظلم والطغيان، وسنّ هذه السنّة هي إحدى الملاكات التي نشأت من شهادته عليه‌السلام ، والتي ما كان لها أن تظهر لو قصرنا النظر في حادثة الاستشهاد على الفترة الزمنية الخاصّة.

ويمكن بيان الفوارق كالتالي:

٤١٨

الفارق الأوّل: إنّ النبوّة لإبلاغ الأحكام الاعتبارية الإنشائية القانونية، بما يشمل الآداب والعلوم الحصولية كالمعارف، في حين أنّ نفس تلك الشريعة للإمام من سنخ تكويني لا اعتباري، ومعلومة حضوراً لا حصولاً، وشاملةٌ كالأولى، ومن الأمثلة على ذلك: أنّ القرآن الكريم والروايات تُثبت أنّ للملائكة أوامر إلهية متوجّهة إليهم وهم لا يعصونه.

الفارق الثاني: إنّ إصابة الشريعة الظاهرة، أي الأحكام الاعتبارية القانونية الواقعية للواقع - أي الملاكات والمصالح والمفاسد وللأغراض - غالبية لا كلّية دائمية، نظير الحكم الظاهري الأُصولي بالنسبة للحكم الواقعي، وإن كان بين النسبتين فرق جَلِي، كما أنّ هناك فرق في المعنى بين الشريعة الظاهرة والحكم الظاهري، بينما الإصابة في الشريعة بحسب الدرجة الواقعية والسنّة الكونية دائمية كلّية.

الفارق الثالث: إنّ تطبيق الشريعة الظاهرة يرتكز على العلم الحسّي وموازين هذه النشأة، نشأة الظاهر ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (١) ، وتطبيق الشريعة بحسب السنّة الكونية الإلهية يرتكز على علم القضاء والقدر، والمشيئة والإرادة وآثار الأفعال بحسب النشآت الأُخروية.

علماً بأنّ الكثير من الخلط والشبهات والجهالات نشأت نتيجة الخلط بين نحوين من مفادات القرآن والسنّة، حيث إنّ قسماً منها مفاده الأوّل، والآخر الثاني.

وواحدة من عوامل الانحراف في هذا المضمار وزن الظاهر بموازين السنن الكونية أو العكس؛ فالخطّابية والمَغِيرية حكّمت موازين السنن الإلهية الكونية على الظاهر، وقد مرّ أن إحدى التفسيرات لما ورد من أنّ صاحب الأمر المهدي

____________________

١) سورة الروم: ٧.

٤١٩

(عج) يأتي بدين جديد أنّه سوف تقترن موازين الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة بالسنّة الكونية، وهو ليس من باب النسخ، بل هو من باب تطبيق الشريعة الظاهرة بموازين الشريعة التكوينية (١) .

فالتساؤل المتوهّم حول الشجاعة في مبيت عليّ عليه‌السلام في فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل هي مع علمه أنّه لا يقتل؟ ثمّ كيفية كونها منقبة عظيمة مدحه بها القرآن المجيد، وكيف يقدم الإمام عليه‌السلام على الصلاة في جامع الكوفة، أو دخول الإمام الحسين عليه‌السلام في معركة كربلاء مع علمه بقتله؟ يرجع التساؤل إلى معالجة التكوين بموازين الظاهر، بل إنّ موازين الظاهر في باب التزاحمات تطبّق على الأحكام الفعلية، أمّا في الشريعة - بحسب السنّة الكونية الإلهية - فإنّها تلاحظ بما لها من لوازم ومصالح

____________________

١) وقد يطرح السؤال: إنّه ما معنى أنّ سنخ الحكم في الشريعة والسنّة الإلهية الكونية تكويني؟

ويجاب: بمعنى أنّ أحكام الشريعة الإلهية الكونية عبارة عن الإرادات التكوينية الإلهية المتعلّقة مباشرة بفعل المكلّف، لا بفعل الحاكم وهو الآمر كما هو في الظاهرة.

ويُتسائل: ولكن على هذا يلزم الجبر؛ لعدم إمكان تخلّف المراد عن الإرادة.

فيجاب: نعم لا يمكن تخلّف المراد عن الإرادة، ولكن من دون جبر؛ لأنّ المراد هو الفعل عن اختيار مع العلم أنّه سيختار، نظير متابعة القوى للعقل العملي فإنّها لا تكون مجبرة.

ويُتسائل: لم كانت الإصابة غالبة في الظاهرة دون الكونية؟

فيجاب: لأنّ متعلّق الإرادة والإرادة في الشريعة الكونية جزئي فلا يتخلّف، وأمّا في الظاهرة فهو كلّي، والكلّيات عندما تتناسب يحصل بينها تزاحم، فلابدّ أنّ تتخلّف في الجملة، فتجد أنّ المقتضي لا يتحقّق مقتضاه كصلاة لا تنهى عن الفحشاء، بل قد تجد تحقّق العكس، كما في ترتّب مفسدة عظيمة على وجود شخص، إلاّ أنّه مع ذلك لا يجوز قتله، مع أنّ حرمة القتل لأجل حفظ الشخص والنوع.

والسؤال: هل يمكن تنظير الفرق بينهما بالفرق بين الحكم والفتوى، وبين القضية الخارجية والحقيقية، فإنّ الأولى يتكفّل تطبيقها الشارع فلا تخطئ عكس الثانية؟

والجواب: نعم.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592