الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133737
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133737 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الثامن

معتقدات الإمامة والمهدي عليه‌السلام

(حاضر المعرفة)

٤٠١

٤٠٢

المقالة الأولى

العلم اللدُنّي والولاية

الشريعة بحسب الظاهر وسنن النظام الكوني

العلم اللدني المقوّم لماهية الإمامة:

وقبل الخوض في ذلك يجدر الإلفات إلى النقاط التالية:

1 - البحث يرتبط بصلة وثيقة بالفصول السابقة من الجزء الأوّل من كتاب الإمامة.

2 - غالب البحث سيكون ذا طابع قرآني، وذلك بعد التنبّه إلى نكات الظهور بتوسّط روايات أهل البيت عليهم‌السلام .

3 - تذكير بنقاط مستخلصة ممّا سبق:

أ - تعريف الإمامة - والذي تقدّم مفصّلاً في الفصل الثالث من الجزء الأوّل - باختصار: إنّ ما ذكره المتكلّمون باقتضاب واختزال - حتّى الشيعة منهم - في تعريف الإمامة موهم أنّ مقام الإمامة عبارة عن الزعامة والرئاسة الاعتبارية الاجتماعية فقط؛ لخلوّه من التنويه إلى ارتباط المعصوم بمقام الغيب، ومن ثمّ أوهم التعريف المزبور أنّ الإمام كأيّ عالم آخر سوى أنّه في درجة متقدّمة، ممّا أوقع الكثير في شبهات حول الإمامة..

وذكرنا في الفصول السابقة المفهوم الذي اخترناه لمعنى الإمامة، وأنّ ما ذكره المتكلّمون وبعض الحكماء من الإمامية في تعريف الإمامة لا يستوعب جميع

٤٠٣

جوانب الإمام.

فالمتكلّمون اقتصروا على الرئاسة الدينية والدنيوية، وهذا قصر للإمامة على الزعامة السياسية والولاية التشريعية، بل إنّ البعض اقتصر على حفظ الدين، ومن الواضح أنّ هذا التعريف وأمثاله أهمل الإشارة إلى مقام الإمام ومنبع علمه، فهل هو القناة الحسيّة أم أُخرى غيبية يمتاز بها عن بقية البشر؟

وهذا الإهمال وقصر حقيقة الإمامة على الشأن الدنيوي هو الذي أوقع كثير من المتأخّرين في العديد من الإشكالات التي لم يجدوا لها جواباً شافياً على هذا التفسير للإمامة. ومن هنا حدّدنا في الفصول السابقة الأركان والمحاور الأساسية التي تبتني عليها حقيقة الإمامة وماهيتها، وهي:

1 - الهداية الإرائية: ويقصد بها التبليغ والتشريع وإراءة الطريق للمؤمنين، وهذه تعتمد على أنّ للإمام علم لدنّي وقناة غيبية يستقي منها علومه، وهي ليست من سنخ النبوّة، بل هي وحي بالمعنى الأعمّ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام في الزيارات ما مضمونه: (أنّ الإمامة سفارة إلهية) .

2 - الهداية الإيصالية: وهي حيثية ولائية مولوية، وقدرة، وقد عرّفها العلاّمة الطباطبائي في الميزان في ذيل آية ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) (1) ، ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (2) : قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلى المنازل المعنوية الكمالية. وهاتان النقطتان من المحاور الأساسية في حقيقة الإمامة، وقد مثّلنا لهما بقوّة العقل النظري والعملي في الإنسان الصغير، وبمقتضى التطابق بين الإنسان الصغير والكبير يمكن معرفة كثير من خصائص الإمامة في مقام الهداية الإرائية والإيصالية.

____________________

1) سورة البقرة: 124.

2) سورة الأنبياء: 73.

٤٠٤

فالهداية الإرائية تتمّ عبر قناة التبليغ، وعبر قناة الاتّصال.

والهداية الإيصالية للمعصوم تتمّ كما في قوّة العقل العملي (1) من دون إلجاء وإجبار، حيث يشوّق، ويحثّ، ويجذب من دون قهر لقوى الإنسان الأخرى، فالهداية الإيصالية تتمّ من دون أن يكون هناك سلب للإرادة والاختيار.

3 - إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من: أمَّ، يؤمّ، وهي تتضمّن خاصّية المتابعة من المأموم للإمام، وهي تتضمّن استمرارية السير والحركة الشعورية الدائمة، وعدم التوقّف والجمود، فلا يكون صرف الإراءة محقّقاً للائتمام، بل هي والإيصالية.

4 - لابدّ للسير والحركة من غاية، وبدون هذه الغاية لا تتحقّق ماهية الإمامة.

وكلّ هذا ممّا حدا بالمحدّثين، والمفسّرين، والفلاسفة، لدفع الإيهام في تعريف المتكلّمين بالإلفات إلى أنّ الإمامة سفارة إلهية...

ومن ثمّ ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : (أنا سفير السفراء) (2) ، وكذا عبّر الإمام الهادي عليه‌السلام في زيارته لجدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الغدير: (يا أمين اللَّه في أرضه

____________________

1) إنّ الإمام كما يكون هادياً في العلوم الحصولية فهو يكون هادياً في العلوم الحضورية أيضاً، والتي ذكرنا مراتبها في الفصل الأوّل من الإمامة، ويكون توسّطه بمعنى: إنّنا نرتبط به حضوراً، وذلك بمقدار ما يكون للإنسان من استعداد، وقد يحرم نفسه بسوء اختياره؛ عندما لا يوفّر الشرائط المطلوبة لمثل هذا الاتّصال، ولكن الطريق للمعصوم بمعنى الحجّية على الآخرين، بل وعلى الشخص نفسه، لا تكون إلاّ بالهداية الإرائية الحصولية من قسم البيان والمعاني.

وأمّا القسم الآخر من الحصولية: وهي الارتباط بالصور المرتسمة في العقل الكلّي والحضورية فليس بحجّة ما لم يعزّز بشاهد من الكتاب والسنّة، نعم هو ينفع في سعة أُفق المعارف وإلفاته إلى نكات في الكتاب والسنّة يعزّز فيها ما انكشف له وشاهده، وسرّ عدم الحجّية هو امكان الخطأ وعدم العصمة، ولذا لا يحتجّ برواية ما يشاهده؛ لإمكان وقوع الخطأ عند تحويله إلى علم حصولي.

2) بحار الأنوار، ج26، ص292.

٤٠٥

وسفيره في خلقه)، وفي زيارته عليه‌السلام ليلة المبعث ويومه - أوردها المفيد، وابن طاووس، والشهيد -: (وعيبة علم اللَّه وسفير اللَّه في خلقه)، وفي البحار: (سفير السفراء)، وفي زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام الرجبية: (السلام عليك يا سفير اللَّه وابن سفيره)، رواه المفيد وابن طاووس والشهيد. فإنّها عبارة عن: الهداية الإرائية والإيصالية.

ومنبع الإرائية: الوحي والغيب، ولكنّه بالمعنى الأعمّ، وليس على حدّ النبوّة. ومنبع الإيصالية: القدرة والولاية، كما ذكر ذلك الطباطبائي في ذيل آية: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (1) ، و ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ) (2) ، أنّه: قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلى المنازل المعنوية والكمالية..

علماً أنّه اقتصر على هذا البعد في تعريفها، مع أنّ الصحيح أنّها هداية إرائية أيضاً؛ استناداً إلى مجموعة أدلّة سبقت الإشارة إليها.

وقال المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية في تعريف الإمامة: الرئاسة المعنوية الكبرى في الدين والدنيا، المنبعثة عن كمال نفسه المقدّسة التي من شؤونها الروحانية وساطتها للفيض وكونها مجرى الفيض النازل من سماء عالم الربوبية، وعليه ينطبق كمال الانطباق قولهم: (مجاري الأُمور بيد العلماء باللَّه) دون الفقيه الذي هو - بما هو فقيه - عالم بأحكام اللَّه لا باللَّه (3) .

وجعل (قدس سره) هذا التعريف من الرئاسة المعنوية، أي: الروحية والتكوينية في قبال الرئاسة الاعتبارية المجعولة تشريعاً من اللَّه تعالى في أُمور الدنيا والدين، وأنّها من المناصب المجعولة الاعتبارية (4) ، بخلاف المعنى الأوّل، فإنّه من المعاني

____________________

1) سورة البقرة: 124.

2) سورة الأنبياء: 73.

3) نهاية الدراية، ج5، ص213، وكذا المجلّد السادس.

4) نهاية الدراية، ج5 و ج6، ص213.

٤٠٦

التكوينية. وجعل التقابل بين هذين المعنيين نظير التقابل بين معنيّ النبوّة، فإنّ المعنى التكويني لها عبارة عن:

أوّلاً: إنّها من الصفات الواقعية ومرتبته عالية من الكمالات النفسانية، وهو تلقّي المعارف الإلهية والأحكام الدينية من المبادئ العالية بلا توسّط بشر، وصيرورة نفسه المقدّسة مجلى المعارف والأحكام معنى بلوغها درجة النبوّة.

ثانياً: إنّها معنى إعتباري من المناصب المجعولة، بمعنى جعله مخبراً ومبلّغاً عن اللَّه تعالى وسفيراً - تشريعاً - إلى خلقه (1) .

هذا، ويلاحظ على تعريفه (قدس سره) إنّ ما جعله منشأ الرئاسة التكوينية، كمال نفسه المقدّسة ووساطته للفيض على النفوس والأرواح ومجاري الأُمور هو الأولى أن يجعل أصلاً في التعريف، وبجعل رئاسته التكوينية وقدرة تصرّفه في الخارج شأن من شؤون حقيقة الإمامة فضلاً عن الرئاسة الاعتبارية القانونية في الدين والدنيا، كما أشار هو (قدس سره) إلى خطأ جعل الرئاسة الاعتبارية هي الأصل في تعريف الإمامة.

كما أنّ هناك فارقاً آخر بين الإمام المعصوم والفقيه - مضافاً إلى ما ذكره من الفارق الأوّل - هو أنّ الفقيه لا يحيط بأحكام اللَّه تعالى في اللوح المحفوظ بتمامها، كما أنّ علمه بأحكام اللَّه هو من وراء حجاب عالم دلالات الألفاظ وبتوسط تركيب الدلالة وتناسباتها، ومن ثمّ قد يصيب في تأليف الدلالة باستكشاف الواقع وقد يخطئ، بل في جملة من المواضع يغيب عنه شطر واسع من النصوص اللفظية، فهو لا يحيط بالأحكام الظاهرية فضلاً عن منظومة الأحكام الواقعية، بل قد يكون ما قد توصّل إليه حكماً تخيّلياً لا ظاهرياً، كما نبّه على ذلك علماء الأُصول في مبحث الإجزاء، إلى غير ذلك من الفوارق.

____________________

1) المصدر السابق.

٤٠٧

هذا وسيأتي في كلام البياضي - في (الصراط المستقيم)، وهو من علماء القرن التاسع - ما يظهر منه التفطّن إلى هذه الجهات في تعريف الإمامة الإلهية.

وقد مثّلنا هاتين الهدايتين بالعقل النظري والعَمَلي، فالإمام هو العقل النظري للإنسان الكبير وعالم التكوين، وهو العقل العملي كذلك.

وكلّما تدبّرنا في خصوصيات العقلين نجدها في الإمام، بما في ذلك أنّهما لا يَقهران الإرادة، ولا يسلبان الاختيار، كذلك الإمام لا يقهر الإرادة ولا يسلب الاختيار، وإنما يُعلِّم ويشوّق فقط.

بل إنّ العقل مرتبط بالعلم الحصولي والإنسان يمتلك علماً آخر وهو العلم الحضوري، والذي ذكرت له مراتب تبدأ بالقلب، فالسرّ، والخفي، والأخفى. كذلك الإمام هو هادي في رتبة العلم الحضوري أيضاً، عِلماً أنّ الهدايتين في هذه المرتبة تندّكان بوجود واحد بسيط.

وعندما نرجع إلى اللغة حيث إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من: أمَّ، يأمُّ ، نلاحظ أنّ الإمامة في الوقت الذي تستبطن الخصوصيتين (الإراءة والإيصال)، تستبطن الحركة والسير والمتابعة للإمام نحو غاية ما عن شعور واختيار.

ومن ثمّ لم يكن صِرف الإراءة محقّقاً للائتمام، وصرف الإيصال كذلك؛ لأنّه سيكون لا عن شعور.

ب - البطون والتأويل في تعريف جديد: إنّ السائد في فهم البطون وتفسيره أنّه التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة الظاهر ومن خلال موازين الظهور.

إلاّ أنّ الاتّجاه المعاصر أخذ ينحو منحىً آخر في فهم وتعريف البطون؛ تبعاً للآيات وكثير من الروايات، وهو: المعنى الذي لا يمكن للذهن العادي - غير المعصوم - الوصول إليه بنفسه عبر منصّة الظهور. أي إنّ البطون هو قسم من

٤٠٨

الظهور لكن لا يهتدي بغير المعصوم إلى تأليف موازين اللفظ والدلالة من مختلف القرائن والمناسبات، ونضد المقدّمات الدقيقة لتحصيل مفاده من منصّة الظهور الأوّلي. وهو يعني أنّه ليس هناك باطن غير ظاهر، سوى أن استنطاقه من النصّ غير متاح لكلّ أحد، وإنّما هو خاصّ بالمعصوم.

وعلى ضوء هذا يفهم قول الصادق عليه‌السلام : (قد ولدني رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أعلم كتاب اللَّه، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر الجنّة وخبر النار، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إنّ اللَّه يقول: ( تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (1) (2) .

ويفهم حثّه عليه‌السلام أصحابه كما في موثق أبي الجارود، قال، قال أبو جعفر عليه‌السلام : (إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب اللَّه، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول اللَّه أين هذا من كتاب اللَّه؟ قال: إنّ اللَّه عزّ وجلّ يقول: ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) (3) وقال: ( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ) (4) وقال: ( لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (5) ) الحديث (6) .

وهذا طبيعي بعد أن كان مصحف الكتاب العزيز نسخة من لوح التكوين وتنزيلاً له.

فيوجد تعريفان للباطن:

أحدهما: هو الذي يعتبر من التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة

____________________

1) سورة النحل: 89.

2) الكافي، ج1، ص61.

3) سورة النساء: 114.

4) سورة النساء: 5.

5) سورة المائدة: 101.

6) الكافي، ج1، ص60.

٤٠٩

الظاهر وموازينه، وهذا هو التعريف المشهور على ألسنة الكثير من المحقّقين.

والثاني: هو نحو من الظهور الذي لا يمكن للأذهان العادية الوصول إليه إلاّ عبر تعليم المعصوم، فهو ليس في قبال الظاهر، بل هو قسم من الظاهر، وهو غير ممتنع على أحد بل هو مفتوح، إلاّ أنّ الوصول إليه يتمّ عبر مناسبات وتأليف للمقدّمات الدقيقة العميقة التي لا تهتدي الأذهان العادية إلى الوصول إليها، وهذا لا يجعله خفياً بل يكون حاله حال علم الرياضيات الذي يعتمد على الأوّليات البديهية ومع ذلك ما زالت ما لا تحصى من المسائل الرياضية متعسّرٌ على الذهن العادي حلّها، وهو لا يخرجها عن حدود علم الرياضيات.

والذي نختاره هو المعنى الثاني؛ لأنّا نراه أقرب إلى مسلك الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث كانوا يحثّون أصحابهم على استنطاق القرآن الكريم بإرشادهم إلى أوجه الدلالة، وترغيبهم في السؤال عن مصدر الحكم، والإشارة إلى المناسبات المتعدّدة والقرائن التي تكون محفوفة بالآيات، وتجميع الآيات المتفرّقة بنحو برهاني، وما استدلال الإمام بالقرآن على روايات الطينة إلاّ من هذا القبيل. وبناءً على هذا نقول:

1 - إنّ روايات الأئمّة عليهم‌السلام في ذيل الآيات لا تكون أمراً مستقلاً عن الآيات ومخالفة للظاهر، بل يجب اعتمادها كملاحق وتبصرات للأُصول القانونية ولأُسس المعارف، وهذا من الناحية العلمية له فوائد جمّة.

2 - إنّ التعامل مع الروايات الواردة في تفسير الآيات لا يكون على أساس مجرّد التعبّد فقط، بل يكون على أساس الإرشاد والإشارة أيضاً إلى كيفية سلوك موازين الظاهر، وإيجاد المناسبات للوصول إلى البطون. وهذا التفسير في كلّ آية آية لا يمكن للعقول الاهتداء إليه إلاّ بهداية المعصوم، ومن ثمّ التنبّه إلى إعمال الموازين الدلالية في الوصول إليه.

وهذه الطريقة هي التي يجب اتّباعها في استخلاص هذه البطون، وسوف

٤١٠

تكون مرتبة من مراتب الظهور، وسوف يكون هذا المنهج برهاناً دلالياً لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد ورد عنهم عليهم‌السلام : (من أخذ دينه من كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله زالت الجبال قبل أن يزول) (1) .

3 - إنّ الطريقة التي نريد تطبيقها في فهم الآيات القرآنية تعتمد على الظهورات الابتدائية للآيات، وتكون نقطة الانطلاق في أيّ فهم آخر.

4 - إنّ الإعتماد على القرائن العقلية يكون تامّاً بشرط أن تعتمد على العقل البيّن، وكلّما أمكن تقليل الاعتماد على العقل النظري يكون أجدر وأصحّ.

وهذا لا يعني أنّه على التفسير الأوّل للباطن يتمّ التسليم بتهمة الباطنية أو عدم وجوب الإيمان به؛ لأنّه ليس من الظاهر؛ وذلك لأنّ الإيمان بالظاهر دون الباطن - الذي هو الغيب والتأويل - كفر، والإيمان بالباطن دون الظاهر هو كفر أيضاً، بل يجب الإيمان بهما معاً. وعليه، فإنّ الذي يقع مورد الثواب والعقاب هو الشريعة الظاهرة ومدى العمل بواجباتها ومحرّماتها، وعدم الالتزام بها والالتفات إلى الباطن فقط زيغ. ومن الجهة الثانية أيضاً إن الاقتصار على الظاهر فقط يكون تركاً للتأويل الحقّ الذي هو الباطن الخفي، ويصبح من الشاذّ والنادر مع مرور الزمن، فلذا يجب الالتزام بهما معاً، والدمج بينهما.

ومن ثمّ تجد أنّ المعصوم عليه‌السلام في أخبار الطينة الغامضة يستنطقون فيها ألفاظ القرآن، وبالتأمّل نلحظ أنّ القرآن ظاهر في ذلك لنكات كانت خفيّة علينا، لا أنّه من باب الجري وذكر المصداق.

بل ظاهرة البطون - أي المعاني الغامضة المعقّدة الخفية - ليست خاصّة بالمعارف الدينية، بل نجد ذلك في مثل علم الرياضيات، فإنّه في حين كونه

____________________

1) الكافي، ج1، ص7.

٤١١

بديهياً وتقلّ إن لم تنعدم فيه الفرضيات، إلاّ أنّه ما زالت هناك مجهولات لم يوفّق لحلّها كبار العلماء مع قبولهم وجود الحلّ في داخل البديهيات الرياضية، سوى أنّهم لم يتمكّنوا من التفطّن لكيفية تنظيم المعادلات بحيث يتوصّل بها لحلّ المجهول (1) ، وكذلك نجدها في مسابقات الأدب، فإن مهرة الأدب يخوضون في التحليل الأدبي إلى درجات عميقة في النصّ يعجز كثير من أبناء اللغة بل بقية

____________________

1) قد يقال: صرف استدلال الإمام بالقرآن، واستخراجه من القرآن، لا يكشف عن أنّ الباطن ظاهر، إلاّ أن يكون عليه‌السلام يلفت إلى نكات تجعل المعنى يظهر لنا من القرآن.

ويجاب: نعم، الإمام عليه‌السلام يُلفت إلى نكات، ونحن ندّعي الموجبة الكلّية في ذلك.. ولكن ليس بالضرورة في كلّ رواية، وإنّما من مجموع ما ورد من روايات في المسألة الواحدة.

وقد يقال: ثمّ هل البطون - بعد حصره بالظاهر - هو التأويل أو أنّ التأويل أعمّ؟ فهناك ما يرتبط منه بالمصداق والوجود الخارجي الذي هو حقيقة القرآن ولوح تكوينه.

ويجاب: نعم، البطن هو التأويل، وليس الثاني أعمّ، والبطن يشمل المصداق والحقيقة، ولكن لا يمنع أن يكون مدلولاً مطابقياً للّفظ بعد أن كان له مفهوم، فالبطن يبدأ من المفاهيم غير الظاهرة إلاّ للمعصوم ويستمرّ في تراميه إلى المصداق، فالحقائق التكوينية بكلّ مراتبها، وكلّها مداليل مطابقية، وظاهرة من اللفظ لوجود ما يدلّ عليها، ولكنّه خفي علينا.

فاللّفظ له مراد استعمالي، فتفهيمي، فجدّي، وهي متاحة لنا، ثمّ تبدأ المرادات الجدّية بالترامي، وكلّ منها يظهر من اللّفظ - لا أنّه لازم لسابقه كي يكون مدلولاً عقلياً لا لفظياً - سوى أنّ الذهن العامّ لم يوفّق للعثور على تلك الدلالات بدون إرشاد المعصوم ووصايته وقيمومته على فهم القرآن.

وقد يقال: هل يعني أنّ اللوازم الفقهية - والتي برع فيها بعض فقهائنا - كلّها ظواهر، كذا ما يكون‏ حصيلة الجمع بين الأدلّة، كالملكية الآنية؟

ويجاب: نعم.

أو يقال: هل يمكن القول بأن العلاّمة قد نهج نفس المنهج - أي التوسع - وإن لم يخرج ذلك بما ذكرتم من تفسير البطن؟

فيجاب: نعم، بالإضافة إلى أنّه - كما ذكرنا في الأُصول - اكتفى بالرجوع للرواية حدوثاً لا بقاءً، وهو ممّا لا نقبله؛ إذ مقتضى تأبيد المعية بين الثقلين هو المعية في الرجوع إليهما ابتداءً وانتهاءً.

٤١٢

الأدباء في الوصول إليها، نظير: ترسيم شخصّية صاحب النصّ، وبيئته، وخلفيته العلمية، وخلقه، وتاريخه، إلى غير ذلك من العوامل والبيئات التي ترتبط بصاحب النصّ، كلّ ذلك من خلال مقطوعة لفظية يدرسها ويحلّلها الأديب البارع. ولقد كانت المسابقات الأدبية معهودة عند عرب الجاهلية حيث كانوا يتعاطون في سوق عكاظ حول القصائد الشعرية والمقطوعات النثرية عند من برز نجمه في الأدب.

والنتيجة: أنّ الروايات التفسيرية ليست مجرّد تعبّدية إجمالية محضة، بل مدلّلة مُبيّنة - على التفسير الثاني للبطون التأويلي الخفي - لأنّ فيها إرشاداً إلى كيفية الاستفادة من الظهور القرآني، بخلافه على المعنى الأوّل؛ فإنّها لا تعدو التعبّد بمعنى: الذي لا نعرف موازينه، ولم نتعرّف عليها.

في حين أنّها على الفهم الثاني للبطون ستكون شرحاً وتفصيلاً للقرآن الذي هو بمثابة الدستور، كما ذكر السيد البروجردي تبعاً لمنهج العلاّمة المجلسي في البحار.

وبهذا الفهم يتمّ القضاء على الشبهة الموجّهة للشيعة الإمامية بأنّها فرقة باطنية غنوصيّة لا تعلن عن أفكارها ومتبنياتها؛ إذ عرفت أنّ الشيعة لا تعتقد ولا تتبنّى فكرة إلاّ وهي ظاهرة مآلاً من القرآن والسنّة (1) .

____________________

1) على الفهم الأوّل للبطون يجاب عن شبهة الباطنية بالحديث الشريف: (من آمن بالظاهر دون الباطن فقد كفر، ومن آمن بالباطن دون الظاهر فقد كفر، ومن آمن بهما معاً فقد آمن).

وذلك لأنّ الإيمان بالباطن دون الظاهر يساوق عدم الالتزام بالشريعة الظاهرية وبواجباتها ومحرّماتها، بل وعقائدها، وهو واضح أنّه انحراف وكفر. فتهمة الباطنية إنّما تشكّل وصمة، وتعبّر عن الانحراف إذا كان بالتنكّر للظاهر، أمّا مع الدمج بينهما فهو الإيمان، بل ورد في الحديث أنّ إنكار الباطن والاقتصار على الظاهر كفر. كيف، وهناك جملة من الآيات القرآنية دالّة على ذلك كقوله تعالى: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، وقوله تعالى =

٤١٣

وعلى أساس هذا الفهم يمكن الدعوة إلى تأسيس تفسير جديد يعتمد الكشف عن خفايا الظهور ومعادلاته وتناسباته بتوسّط روايات أهل البيت عليهم‌السلام بإضافة الاعتماد على العقل البديهي، وإن كانت نقطة الانطلاق هي من الظهورات الابتدائية للآيات.

وستظهر النتيجة في واحدة من صورها بالشكل التالي: (من عرف حقّنا من الكتاب زالت الجبال ولم يزل إيمانه).

ج - وغاية البحث في هذا الرافد: إنّ القرآن ينوّه ويشير إلى حجج غير الأنبياء والرسل، وأنّهم يقومون بدورهم في الأرض بتوسّط وبركة العلم اللدنّي كالأنبياء والرسل، مع بيان لحدود هذا العلم، بحيث يفرزه عن علم النبوّة والرسالة.

د - (منهج البحث) خطوط البحث: سيتمّ الحديث فيما سيأتي ضمن التسلسل التالي، بعد التذكير أنّ سمة الحديث ستكون قرآنية:

1 - استعراض الآيات المستعرضة لنماذج الإمامة والأئمّة الذين قاموا بدورهم

____________________

= ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) ، وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، وقوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ، وقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) ، وغيرها من الآيات الدالّة على أنّ لظاهر القرآن تأويل وحقائق في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، والكتاب المبين، لا يطّلع عليها إلاّ المطهّرون أهل آية التطهير؛ حيث الكتاب آيات بينات في صدورهم، والإيمان بظاهر الكتاب وإنكار تأويله في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، والكتاب المبين، هو من باب: ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) .

ونظير ذلك الحديث النبويّ: (ربّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه)، حيث يدلّ على أنّ فقه الدين وفهمه له مراتب ومدارج مترامية متلاحقة، تمتدّ بامتداد ما للدين من عمق وغُوَرٍ خفيّة عن مرتبة الظاهر الأوّل، وقد أشبعنا البحث في ذلك في الفصول السابقة.

وكذا قوله: ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) .

٤١٤

الملقى على عاتقهم في الأرض بعلمهم اللدنّي.

2 - إرسال الرسول يؤدّي إلى ثمرةٍ وهي الإمامة، وأنّ القرآن يثبت أنّ الغاية هي الإمامة الثابتة لجملة من الرسل وأبنائهم؛ فإنّ جملة من الأنبياء كانوا أئمّة أيضاً: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (1) ، وقوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا... ) (2) ، وكذلك الحال في سيد الرُسل، بل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله إمام الأئمّة.

3 - استعراض الآيات المبينة للسيرة النبويّة في إمامة المجتمع البشري، أو السيرة الإلهية التي أمر اللَّه تعالى نبيّه بها في الحكم وقيادة الناس وأنّها تقتضي مقام الإمامة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يغاير مقام النبوّة.

4 - الشرح القرآني لماهيات المناصب الإلهية، وأقسام الحجج الإلهية.

5 - بيان القرآن للمعاد والسير إلى اللَّه واستلزامه لوجود منصب الإمامة.

هـ - (فوارق النبوّة والإمامة): قبل الدخول في صلب البحث، لابدّ من الوقوف على حقيقة العلم اللدنّي المقوّم لماهية الإمامة، وما ينتج عن هذا من معرفة حقيقة الشريعة في مقابل ظاهر الشريعة، وهو ما قد يعبّر عنه بالشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، كما ذُكر في قصّة الخضر عليه‌السلام مع موسى عليه‌السلام في سورة الكهف، وكقضاء داود من غير بيّنة، وكحكومة سليمان وذي القرنين عليه‌السلام بتوسّط الأسباب اللدنية.

وقد يعبّر عن الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية بالولاية الشاملة للطريقة والحقيقة، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ

____________________

1) سورة الأنبياء: 73.

2) سورة البقرة: 124.

٤١٥

مَاءً غَدَقًا ) (1) بأنّ الطريقة هي ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن الشريعة الظاهرة بالنبوّة، وإن كان سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جمع أعظم مقامات الولاية والنبوّة.

ولابدّ من الالتفات إلى أنّ الشريعة واحدة حدوداً وموازيناً، إلاّ أنّ الفرق هو آلة التطبيق، ولا يخفى أنّ البطون والباطن يطلق على عدّة معانٍ: كالتأويل، والغيب. وفي مقابل ذلك قد يطلق على: التخليط، والخبط، والنزوع الروحي والنفساني والإيحائي، أو الغرائب مع عدم التقيّد بالموازين والأدلّة والحجج، ونحو ذلك.

وقد يطلق على المعاني الغامضة الخفية أو الحقائق المستورة، والمراد في المقام ما يَقرب من المعنيين الأخيرين، والتفرقة بينه وبين العلم المقوّم لماهية النبوّة (الوحي)، وما ينتج عنه من الشريعة الظاهرة فوارق - مع التنبيه على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو إمام الأئمّة أيضاً إلاّ أنّ الكلام في بيان الفارق بين مقامه من حيث النبوّة ومقامه من حيث الإمامة - في تميّز المراد من العلم اللدنّي.

من الأُمور المهمّة التي يجب تسليط الضوء عليها قبل الشروع في بيان أصل البحث، هو المائز بين العلم اللدنّي والعلم النبوّي، أو ما يمكن تسميته الفرق بين الشريعة الظاهرة والشريعة التكوينية (أي: السنّة الإلهية الكونية)، ويمكن إيجاز الفرق في أُمور:

1 - إنّ تطبيق وتنفيذ أحكام العلم النبويّ هو من سنخ الاعتبارات الكلّية الإنشائية القانونية تُبنى على العلم الحصولي، بينما في العلم اللدنّي هي من سنخ تكويني وتعتمد على العلم الحضوري.

ومن الأمثلة على ذلك: أنّ القرآن الكريم والروايات تثبت أنّ للملائكة أوامر إلهية متوجّهة إليهم وهم لا يعصونه، وهذه الأوامر هي ليست من سنخ الاعتبارات

____________________

1) سورة الجن: 16.

٤١٦

والأحكام الظاهرية، فهي من سنخ آخر، مع المحافظة على أنّها موجودات شاعرة مختارة، فهذه الأوامر إرادات إلهية تكوينية من سنخ الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، حيث إنّ الملك مزوّد بالعلم اللدنّي، وتصوير الأوامر والإرادات التكوينية لا ينافي إختيارية الملك.

2 - إنّ الأحكام الواقعية في الشريعة الظاهرة نابعة من أغراض وملاكات، وتحقيق الأحكام لهذه الأغراض يكون غالبياً لا دائمياً، أمّا في العلم اللدنّي فالإصابة تكون دائمية كلّية ولا تحتمل الخطأ.

3 - إنّ الشريعة الظاهرة لها موازين خاصّة بها، حيث إنّها تعتمد في تطبيقها على العلم الحسّي الحصولي، بخلاف الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، فهي لها موازين خاصّة من حيث اعتمادها على علم القضاء والقدر.

ويجب التنبّه إلى عدم الخلط بين الموازين، فاستخدام موازين الشريعة التكوينية والسنن الإلهية الكونية في الشريعة الظاهرة قد تؤدّي إلى الخروج عن الدين، أو العكس، بأن يستخدم موازين الشريعة الظاهرة في الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، وكثير من الإشكالات والشبهات تنشأ من الجهل والغفلة بين هذه الموازين، حيث يستخدم موازين الظاهر في فهم مفادات هي من سنخ الشريعة والسنّة الإلهية الكونية.

ولهذا السبب، وبسبب الغفلة والخلط، نشأت الفرق المنحرفة عن خطّ أهل البيت، فهي من هذا القبيل، حيث إنّهم أَسْرَوا وعمّموا أحكام الشريعة والسنّة الإلهية الكونية التي اطّلعوا عليها على الشريعة الظاهرة التي هم مخاطبون بها أيضاً، فيجب التنبّه إلى وضع هذا الحاجز بين الموازين في كلا الدرجتين من الشريعة، درجة الظاهر ودرجة السنّة الإلهية الكونية.

ومن صور الخلط الذي يحصل: إلغاء الشريعة الظاهرة بحجّة الوصول إلى

٤١٧

أهداف وأغراض الشريعة بدعوى السفارة والنيابة، الإخبار والرواية عنه مع انقطاع الطريق الرسمي بيننا وبينه (عج).

وإحدى التفسيرات لما ورد من أنّ صاحب الأمر عليه‌السلام عند ظهوره سوف يأتي بدين جديد أنّه سوف تقترن موازين الشريعة الظاهرة بالسنن الإلهية الكونية، وهو ليس من باب النسخ، بل هو من باب أنّ الشريعة هي الظاهرة إلاّ أنّ تطبيقها سوف يكون بموازين الشريعة والسنّة الإلهية الكونية.

وليتنبّه إلى أنّ عموم الناس غير مكلّفين إلاّ بالشريعة الظاهرة، ولا يمكن لهم العمل بالدرجة الخفيّة، كما أنّه ليس هناك شريعتان، بل شريعة واحدة لا تختلف وإنّما تطبيقها تارةً بموازين الظاهر وأُخرى بآليات تُصيب الواقع ولا تخطئه، وهي موازين خفية باطنة، وسيأتي بيان حقيقة الشريعة بحسب السنن الإلهية الكونية.

ومن هنا نعرف كيف يتمّ الملائمة بين معرفة الإمام بأنّه سوف يُقتل على يد ابن ملجم، وأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام يعلم أنّه مقتول لا محالة، وذلك عن طريق العلم اللدنّي طبقاً لموازين الشريعة والسنّة الكونية، لا بتوسّط العلم من الأسباب العادية طبقاً لموازين الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة.

بل إنّ موازين الظاهر في باب التزاحمات تطبّق على الأحكام الفعلية، أمّا في الشريعة والسنّة الإلهية الكونية فإنّها تلاحظ بما لها من لوازم ومصالح حتّى في الحقب التاريخية التالية، فلا يقصر الحدث على أهمّيته في حقبة زمنية معينة، بل يلاحظ عموم التاريخ، ومن هنا فإنّ أثر شهادة الحسين عليه‌السلام على حفظ الدين والشريعة والتزام الناس على مرّ الزمان، وعدم الرضوخ للظلم والطغيان، وسنّ هذه السنّة هي إحدى الملاكات التي نشأت من شهادته عليه‌السلام ، والتي ما كان لها أن تظهر لو قصرنا النظر في حادثة الاستشهاد على الفترة الزمنية الخاصّة.

ويمكن بيان الفوارق كالتالي:

٤١٨

الفارق الأوّل: إنّ النبوّة لإبلاغ الأحكام الاعتبارية الإنشائية القانونية، بما يشمل الآداب والعلوم الحصولية كالمعارف، في حين أنّ نفس تلك الشريعة للإمام من سنخ تكويني لا اعتباري، ومعلومة حضوراً لا حصولاً، وشاملةٌ كالأولى، ومن الأمثلة على ذلك: أنّ القرآن الكريم والروايات تُثبت أنّ للملائكة أوامر إلهية متوجّهة إليهم وهم لا يعصونه.

الفارق الثاني: إنّ إصابة الشريعة الظاهرة، أي الأحكام الاعتبارية القانونية الواقعية للواقع - أي الملاكات والمصالح والمفاسد وللأغراض - غالبية لا كلّية دائمية، نظير الحكم الظاهري الأُصولي بالنسبة للحكم الواقعي، وإن كان بين النسبتين فرق جَلِي، كما أنّ هناك فرق في المعنى بين الشريعة الظاهرة والحكم الظاهري، بينما الإصابة في الشريعة بحسب الدرجة الواقعية والسنّة الكونية دائمية كلّية.

الفارق الثالث: إنّ تطبيق الشريعة الظاهرة يرتكز على العلم الحسّي وموازين هذه النشأة، نشأة الظاهر ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (1) ، وتطبيق الشريعة بحسب السنّة الكونية الإلهية يرتكز على علم القضاء والقدر، والمشيئة والإرادة وآثار الأفعال بحسب النشآت الأُخروية.

علماً بأنّ الكثير من الخلط والشبهات والجهالات نشأت نتيجة الخلط بين نحوين من مفادات القرآن والسنّة، حيث إنّ قسماً منها مفاده الأوّل، والآخر الثاني.

وواحدة من عوامل الانحراف في هذا المضمار وزن الظاهر بموازين السنن الكونية أو العكس؛ فالخطّابية والمَغِيرية حكّمت موازين السنن الإلهية الكونية على الظاهر، وقد مرّ أن إحدى التفسيرات لما ورد من أنّ صاحب الأمر المهدي

____________________

1) سورة الروم: 7.

٤١٩

(عج) يأتي بدين جديد أنّه سوف تقترن موازين الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة بالسنّة الكونية، وهو ليس من باب النسخ، بل هو من باب تطبيق الشريعة الظاهرة بموازين الشريعة التكوينية (1) .

فالتساؤل المتوهّم حول الشجاعة في مبيت عليّ عليه‌السلام في فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل هي مع علمه أنّه لا يقتل؟ ثمّ كيفية كونها منقبة عظيمة مدحه بها القرآن المجيد، وكيف يقدم الإمام عليه‌السلام على الصلاة في جامع الكوفة، أو دخول الإمام الحسين عليه‌السلام في معركة كربلاء مع علمه بقتله؟ يرجع التساؤل إلى معالجة التكوين بموازين الظاهر، بل إنّ موازين الظاهر في باب التزاحمات تطبّق على الأحكام الفعلية، أمّا في الشريعة - بحسب السنّة الكونية الإلهية - فإنّها تلاحظ بما لها من لوازم ومصالح

____________________

1) وقد يطرح السؤال: إنّه ما معنى أنّ سنخ الحكم في الشريعة والسنّة الإلهية الكونية تكويني؟

ويجاب: بمعنى أنّ أحكام الشريعة الإلهية الكونية عبارة عن الإرادات التكوينية الإلهية المتعلّقة مباشرة بفعل المكلّف، لا بفعل الحاكم وهو الآمر كما هو في الظاهرة.

ويُتسائل: ولكن على هذا يلزم الجبر؛ لعدم إمكان تخلّف المراد عن الإرادة.

فيجاب: نعم لا يمكن تخلّف المراد عن الإرادة، ولكن من دون جبر؛ لأنّ المراد هو الفعل عن اختيار مع العلم أنّه سيختار، نظير متابعة القوى للعقل العملي فإنّها لا تكون مجبرة.

ويُتسائل: لم كانت الإصابة غالبة في الظاهرة دون الكونية؟

فيجاب: لأنّ متعلّق الإرادة والإرادة في الشريعة الكونية جزئي فلا يتخلّف، وأمّا في الظاهرة فهو كلّي، والكلّيات عندما تتناسب يحصل بينها تزاحم، فلابدّ أنّ تتخلّف في الجملة، فتجد أنّ المقتضي لا يتحقّق مقتضاه كصلاة لا تنهى عن الفحشاء، بل قد تجد تحقّق العكس، كما في ترتّب مفسدة عظيمة على وجود شخص، إلاّ أنّه مع ذلك لا يجوز قتله، مع أنّ حرمة القتل لأجل حفظ الشخص والنوع.

والسؤال: هل يمكن تنظير الفرق بينهما بالفرق بين الحكم والفتوى، وبين القضية الخارجية والحقيقية، فإنّ الأولى يتكفّل تطبيقها الشارع فلا تخطئ عكس الثانية؟

والجواب: نعم.

٤٢٠