الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133703
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133703 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حتّى في الحقب التاريخية التالية، فلا يقصر الحدث على أهميته في حقبة زمنية معينة، بل يلاحظ بحسب عموم التاريخ.

ومن هنا فإنّ أثر شهادة الحسين عليه‌السلام على حفظ الدين والشريعة إلتزامُ الناس على مرّ الزمان وعدم الرضوخ للظلم والطغيان، وقد سنّ (صلوات اللَّه عليه) هذه السنّة في الدين التي هي إحدى الملاكات المتولّدة من شهادته عليه‌السلام ، والتي ما كان لها أن تظهر لو قصرنا النظر على زمن الحادثة والاستشهاد في تلك الفترة الزمنية الخاصّة، وكذلك الحال في جملة سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام .

الفارق الرابع: النسخ في الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة اعتباري، علاوة على وجود مرتبة الظاهر الكاشف عن الدرجة الظاهرة التي هي واقعية بحسبها، وظاهرة التقييد بالمعنى العامّ - من تخصيص وحكومة وورود - وتقييد الأدلّة والدلالة على الشريعة الظاهرة لا في متنها، بينما النسخ في الولاية والشريعة بحسب السنن والنظام الكوني تكويني وهو المعروف بالبداء، وبمعرفة الناسخ تتفاوت مراتب الأولياء والحجج.

الفارق الخامس: لم يُستثن أحد من التكليف بالشريعة الظاهرة، فالتدين بها في عهدة الجميع من جنّ وإنس، بما في ذلك الأولياء والحُجج، أمّا في الشريعة الكونية فهي وظيفة خاصّة بحجج اللَّه وملائكته.

ومن ثمّ ينبثق سؤال: إنّ ما عدا المذكورين - وهم غير المعصوم - قد يصلون بالرياضات الشرعية إلى مقامات عالية حيث تتفتّح قلوبهم على عوالم الغيب، فَلِمَ لا يكونون مكلّفين بالولاية وبالشريعة الكونية الإلهية بعد أن تمّ وصولهم إلى أسافل تلك المنازل؟

والجواب: إنّ رقيهم هذا محمود حيث يزيد من علمهم وإيمانهم، ولكنّهم لم يُكلّفوا إلاّ بالشريعة الظاهرة؛ لعدم حجّية ما يتلقّونه بقنواتهم الروحية لعدم

٤٢١

عصمتهم.

الفارق السادس (حقيقة الشريعة الإلهية الكونية) : إنّ أحكام الشريعة الكونية بحسب الدرجة الواقعية والتكوينية لا تعدو كونها إلاّ تطبيقاً للشريعة الظاهرة وسوى أنّه تطبيق بعلم لدني لا بوسيلة الحسّ والعلم الحصولي؛ لأنّ الشريعة واحدة لا تختلف بحسب الظاهر الواقعي ولا الكوني، ولا حدودها وأحكامها، كما استعرض القرآن الكريم لنا قصّة الخضر مع موسى التي كانت يُتراءى فيها في بادئ الأمر الخلاف، ثمّ آل الأمر إلى الوفاق بعد وضوح رجوع التأويل إلى تطبيق خفي لظاهر الشارع، وهذا التعريف أضبط وأصلح التعريفات للشريعة الإلهية في النظام الكوني.

وتوضيح ذلك يتمّ بالالتفات إلى هذه الزاوية:

أشرنا في الفصول السابقة إلى أنّ أصل الولاية للَّه تعالى ( إِنِ الْحُكْمُ إلاّ لِلَّهِ ) (1) ، و ( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) (2) ، أعمّ من التشريع، والحكم القضائي، والحكم التنفيذي، وعندما نطالع القرآن نجد أنّه يلفت إلى الأصل المذكور وتفاصيله، بل في الآيات المرتبطة بالمسائل العامّة الحكومية كآيات الجهاد والأنفال وأمثالها، هي تشريعية بلحاظ تنظيرها الكلّي، وحكم تنفيذي ولوي بلحاظ مواردها التطبيقية الجزئية، وهذه قراءة ثانية لأسباب النزول، لا يقرّ بها ولا يتفطّن إليها أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان، لعدم تصويرهم لولاية اللَّه تعالى السياسية في الأحكام التنفيذية الجزئية زيادة على ولايته تعالى في التشريع الكلّي.

وكذلك في القضاء كما يلحظ ذلك بوضوح في حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التي يستعرض لنا القرآن الكريم سيرتها، فإنّ في المنعطفات الخطيرة في الأحداث

____________________

1) سورة يوسف: 40.

2) سورة الكهف: 44.

٤٢٢

السياسية أو القضائية أو العسكرية والمالية نرى في الآيات أنّ الحاكم الأوّل هو الباري تعالى في تلك الأحداث، والحاكم الثاني هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان يخشون هذا التصوير لحاكمية اللَّه تعالى السياسية على البشر؛ لأنّهم لا يمكنهم تصوير ذلك بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما ذهبوا إليه من انقطاع الاتّصال بالغيب وعدم إمكان إستعلام الإرادة الإلهية الجزئية في الأحداث.

ومن ثمّ فالولاية في هذا المضمار للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده للمعصومين عليهم‌السلام هي في طول ولاية اللَّه تعالى وبإذنه، وليست مستقلّة، خلافاً لإطروحة المعتزلة وغيرهم من المذاهب الأُخرى، ومن قبل اليهود؛ حيث قصروا ولاية اللَّه تعالى على التشريع دون مباشرة القضاء وسلطة التنفيذ، حينما قالوا: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ.. ) (1) .

فالرئيس والحاكم السياسي الأوّل، والمشرّع الأصلي، والقاضي الفعلي، هو اللَّه سبحانه وتعالى، ومَن ثبتت له الولاية وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام، فهي في ظلّ تلك الدولة والولاية المباشرة للَّه تعالى لا بالاستقلال عنها، فكلّ ما يصدر عنهم فهو يصدر عن اللَّه حقيقة.

بل تلك الحاكمية تجلّت بوضوح في القرآن الكريم بمعنى الحكم المسند إليه تعالى خاصّة من دون نسبته إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام (2) على صعيد التنفيذ والفصل القضائي والحكم التنفيذي، وبالتالي يصحّ القول بأنّ حكم وحاكمية اللَّه تعالى ليست بالقوّة في عهد حكومة المعصومين عليهم‌السلام ، بل هي حكومة فعلية للَّه تعالى في الجوانب الثلاثة. أمّا أمثلة التشريع الصادرة مباشرة منه تعالى فكثيرة، وهكذا في القضاء فينشئ تعالى حكماً فاصلاً للنزاع كما في قصّة البقرة في بني

____________________

1) سورة المائدة: 64.

2) الحكم في هذا نظير التشريع، فإنّ منه فريضة إلهية، ومنه سنّة نبويّة، أو علوية ولوية، كذلك في الحكم السياسي والقضائي.

٤٢٣

إسرائيل، وموارد أُخرى استعرضها القرآن الكريم في الحكم الولوي (التنفيذي)، نظير أوامر الجهاد النازلة في موارد معينة، وإن استفيد منها تشريعاً كلّياً أيضاً، وكحكمه تعالى بزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب، وزواج عليّ عليه‌السلام من فاطمة عليها‌السلام ، إذ حكمه تعالى الولوي شامل للوظائف العامّة للدولة والأُمور الخاصّة للبشر.

وهذا النمط ثابت طولاً للمعصومين عليهم‌السلام ، وهذا أحد تفاسير قوله تعالى: ( .. أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.. ) (1) ، وهذا معنى كون حكومة المعصوم إلهية أي لا يقتصر في أحكامها وتشريعاتها على كلّيات الأحكام في الدين، بل إنّ الحاكمية بالفعل في الجوانب الثلاثة هي للَّه سبحانه، وهذا غير متوفّر في غير حكومة المعصوم، وإن كانت بالرسم الديني، وسيأتي توضيحه مبسوطاً في سيرة الرسول على صعيد الدولة في القرآن الكريم.

وبضمّ هذا الفرض إلى ما ذكرناه في الأُصول والفصول السابقة، من أنّ الحكم التنفيذي تطبيق للحكم التشريعي فهو حكم جزئي وذلك كلّي، يتبلور: أنّ أحكام الشريعة الكونية الإلهية بحسب الدرجة الواقعية التكوينية ليست إلاّ أحكاماً تطبيقية للشريعة الظاهرة بعلم لدنّي على حدّ الحكم الولوي (2) ، وأنّ الولاية إقامة وتحقيق وإنجاز لأغراض النبوّة.

الفارق السابع: إنّ منظومة إقامة أحكام الشريعة بحسب المنظومة الظاهرة تخضع للأسباب الطبيعية الظاهرية، وفي باب ومقام الولاية والواقع الخفي الباطن، وشريعة السنّة الإلهية الكونية تخضع للَّه تعالى وتتسلسل تبياناً وبلاغاً

____________________

1) سورة التين: 8.

2) ومن ثمّ امتثالها لا يعدو امتثال الشريعة الظاهرة حتماً، ومن ثمّ يتّضح وجه عدم جواز الأخذ بها لغير المعصوم؛ لاحتمال الخطأ، ومن ثمّ نحتاج إلى جعلٍ، كأيّ طريق أو كأيّ حكم ولوي، وهو لم يثبت.

٤٢٤

وتطبيقاً وتنفيذاً وإقامةً وتشييداً إلى الأوصياء والملائكة، وقد يستعان بغير المعصوم بشكل قسري لا جبري.

ويمكن بيان الفوارق الأخيرة بصياغة أُخرى:

* - إنّ العلم اللدنّي والشريعة الكونية خاصّة بأولياء اللَّه - حججه وملائكته - وليست هي وظيفة عموم البشر الآخرين مهما بلغوا من العلم، وحتّى لو استطاعوا الوصول إلى نفحة ورشحة يسيرة من بحار محيطات العلوم والشريعة.

* - يوجد في الشريعة الظاهرة نسخ هو نسخ اعتباري، وهو المبحوث عنه في الأُصول، بينما في الشريعة الكونية الإلهية يوجد نسخ تكويني وهو البداء المعروف، وتختلف مراتب أصحاب العلم اللدنّي في ذلك، فبعضهم له علم بالمنسوخ فقط وبعضهم له علم بالناسخ والمنسوخ.

* - ذكرنا في الفصل الثاني أنّ الولاية المطلقة للَّه سبحانه وتعالى، ومنها تتفرّع إلى النبيّ الخاتم، ومن ثمّ للمعصومين من وُلده، فولايتهم في التشريع والقضاء والتنفيذ هي متشعّبة عنه جلّ وعلا، إلاّ أنّ هذا لا يعني عدم تدخّله المباشر في صياغة كلّ منها في بعض الأحيان. وبالتالي لابدّ من القول إنّ حكومة اللَّه ليست بالقوّة الشأنية في زمن حكومة المعصومين، بل هي حكومة فعلية للَّه تعالى، فهو يكون مشرّعاً ويكون حاكماً، ويكون مصدراً للحكم الولوي (التنفيذي) في زمن حكومة المعصومين، وهذا يجعل حكومته فعلية.

ومن أمثلة التشريع كثير، إذ في كثير من الأحيان يصدر التشريع منه مباشرة، ولا يكون الاعتبار صادراً من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا في القضاء إذ يحكم هو كما في قصّة البقرة. وموارد أُخرى يكون الحكم والفصل فيها للَّه سبحانه، وفي الحكم الولوي كذلك كما في آيات الجهاد، وزواج النبيّ من زينب، وزواج عليّ من الزهراء (سلام اللَّه عليهما)، ويفترق الحكم الولوي هنا عن غيره بأنّه ليس في

٤٢٥

وظائف الدولة العامّة بل في الأُمور الخاصّة، وهذا النمط ثابت للَّه والمعصومين دون النوّاب من الفقهاء.

فالحقّ تعالى يتصرّف مباشرةً في التطبيق بموازين العلم الإلهي، أي تطبيق الشريعة الظاهرية بما له من موازين العلم الإلهي، ولن يكون التطبيق بموازين ظنّية حسّية، والعلم اللدنّي يختلف درجاته، وبالنسبة للَّه المحيط له أعلى الدرجات، فهو: ( أَصْدَقُ قِيْلاً ) ، وهو ( أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) ، فعندما يقال إنّ حكومة المعصوم إلهية لا يعني أنّ أحكامها وتشريعاتها دينية فقط، بل يعني أنّ الحاكمية هي للَّه سبحانه بالفعل، وهذا غير متوفّر في حكومة غيرهم وإن كانت دينية.

وبناءً عليه نقول: إنّ الشريعة الكونية الإلهية هي عبارة عن تطبيق للشريعة الظاهرة بعلم لدنّي، فتطبيق اللَّه تعالى دوماً يكون بالعلم اللدنّي، أمّا في تطبيق المعصوم فهو في الجملة - لا بالجملة - بحسب الوظيفة المأمور بها.

أمّا الشريعة الظاهرة فهي التنظير في الأُمور الكلّية، والتطبيق يكون بالشريعة الكونية (1) .

____________________

1) في نظام التكوين في كلّ موجود حيثيتان واقعيتان:

أ - ما منه الوجود (حيث كون الوجود مفعولاً موجَداً مفاضاً لم يكن فكان)، ومن هذه الحيثية ينسب إلى اللَّه تعالى فإنّه الفاعل وما منه الوجود.

ب - ما به الوجود (حيث كون الوجود معَدّاً لِما به الوجود)، ومن هذه الحيثية ينسب للواسطة، فإنّها (ما به الوجود)، بمعنى أنّها (معدٌّ ومقرِّب) حيث كان هناك عجز في القابل، وبهذا العرض لا نقع في إشكالية الاعتزال، فلا حاجة لتصوير تجاوز نظام الوسائط. أمّا في التشريع فالحال يختلف؛ فإنّ حصر التشريع والاعتبار بالواسطة يوقعنا في إشكال الاعتزال؛ وذلك لأنّ الاعتبار من زاوية كونه ظاهرة تكوينية وإن كان لا ينتسب إلى الواسطة إلاّ بنسبة (ما به الوجود)، وإلى اللَّه بنسبة (ما منه الوجود)، فلا مشكلة في حصر التشريع بالواسطة لو كانت القضية تنتهي إلى هذا الحدّ، ولكن =

٤٢٦

* - إنّ منظومة الشريعة الظاهرة والارتباطات بين حلقاتها خاضع لآليات النشأة الدنيوية أي الأسباب الظاهرية، أمّا في منظومة الشريعة الباطنة من اللَّه عزّ وجلّ، والنبيّ، والرسل، والأوصياء، فهم مزودون بالعلم اللدنّي، وقد يستعان بغير المعصوم كما في تسخير الآخرين ويكون الفاعل بالقسر والفاعل بالجبر، وآلياته تكون غير ظاهرية، وقد تكون ظاهرية.

بعد استعراض هذه المقدّمات ندخل في صلب البحث، وذلك باستعراض مجموعة من النماذج القرآنية:

1 - استعراض الآيات المرتبطة بالحُجج الذين قاموا بدورهم الملقى على عاتقهم في الأرض بالعلم اللدنّي.

2 - بيان غاية إرسال الرسل، وسنرى أنّ القرآن يثبت أنّ الغاية هي الإمامة.

3 - استعراض الآيات المبيّنة للسيرة النبويّة، أو السيرة الإلهية التي أمر اللَّه تعالى بها.

4 - الشرح القرآني لماهيات المناصب الإلهية.

5 - بيان القرآن للمعاد، والسير إلى اللَّه.

____________________

= هناك زاوية أُخرى في الاعتبار وهي الزاوية الاعتبارية أي المعتبر والوجود الاعتباري، وهذا ينتسب إلى الواسطة بنسبة (ما منه الوجود)، ومن ثمّ كانت هناك ضرورة لفرض الاعتبار المباشر منه تعالى - والذي هو ثابت ديني - كي لا يحصل حالة الاعتزال في هذا المجال.

ويمكن تفسير ظاهرة التشريع بشكل آخر: أنّ التشريع كالتكوين دوماً يكون بنظام الوسائط، سوى أنّ الواسطة قد تكون نفس النبيّ الجزئية المرتبطة بالبدن الجزئي، وقد تكون نفسه الكلّية التي هي المرتبة العالية من نفسه الشريفة، وفي الأوّل يكون للواسطة لون لعدم محوضتها، بخلاف الثاني لا لون للواسطة لتمحّضها بالآيتية، ومن ثمّ فالتشريع إن كان بالواسطة الثانية لا ينسب إلاّ للَّه تعالى فتلغى نسبة ما به الوجود، بخلافه على الأوّل، فإنّه ينتسب إلى الواسطة بنسبة ما به الوجود.

٤٢٧

٤٢٨

الأمر الأوّل

استعراض نماذج الإمامة في القرآن

ونستعرض فيها قائمة لأولياء اللَّه الحُجج، وكيفية توفّرهم على العلم اللدنّي وتصرّفهم على طِبقه، ومنه سوف ينكشف لنا جوانب هذا العلم.

القائمة الأولى

النموذج الأوّل:

قصّة الخضر وموسى والتي تناولها القرآن الكريم في سورة الكهف، من الآية 60 وحتّى الآية 82.

وقبل استعراض الآيات يجب أن نلقي الضوء على الجوّ العامّ الحاكم على سورة الكهف، فالآيات التي ابتدأت بها السورة تستعرض حرص الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله على قومه لعدم استجابتهم وأسفه عليهم لعنادهم، حيث قال تعالى: ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) (1) ، فنزلت هذه السورة لتسلية فؤاده صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال استعراض ثلاث وقائع هي:

* أصحاب الكهف.

* الخضر وموسى.

* ذو القرنين.

وكأنّها تسلّي قلب النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الإرادة الإلهية لا تتخلّف، وأنّ الهداية الإيصالية تتحقّق، وأنّ هناك منظومة من رجال الغيب الذين يقومون بحماية الشريعة من الانحراف والأخذ بيد الناس في أحلك الظروف والمحن بتدبير النظام العامّ بنحوٍ خفي.

____________________

1) سورة الكهف: 6.

٤٢٩

استعراض تفصيلي للآيات:

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى... ) (1) أي: واذكر أيضاً قصّة موسى، ممّا يدلّل على ما ذكرناه من أنّ القصص الثلاث أتت في سياق واحد ومن أجل هدفٍ واحد.

وفي أسباب النزول: أنّ موسى عندما أنزل اللَّه عليه الألواح رجع إلى بني إسرائيل وصعد المنبر وأخبرهم أنّ اللَّه قد أنزل عليه التوراة وكلّمه، فقال في نفسه: ما خلق اللَّه خلقاً أعلم منّي، فأوحى اللَّه إلى جبرئيل أدرك موسى فقد هلك، واعلمه أنّ عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجلاً أعلم منك، فسر إليه وتعلّم منه. أي: أنّ للخضر علم مغاير لعلم موسى، وهذا مع التسالم على أنّ موسى أفضل من جميع من سواه في عصره.

( لا أَبْرَحُ... ) (2) ظاهر في وجود أمر بالمجي‏ء إلى هذا المكان وبالتالي وجوده فيه ضرورة.

( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ) (3) يدلّ على تحديد المكان بالعلامة. والآيات اللاحقة تبين أنّ موسى قد لقي الخضر نائماً ولم يلتفت إلى أنّه هو الذي يجب أن يتبعه فسار قليلاً، فارتدّا على آثارهما بعد أن التفتا إلى ذلك ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) (4) ، وهذه الآية تبين لنا صفات الخضر:

أ - الإضافة التشريفية للَّه جلّ وعلا، حيث عبّر عنه أنّه من عبادنا، ممّا يدلّ على الحظوة والانتساب.

ب - إنّ التتبّع في استخدامات (عبادنا) يفيد أنّه لم يُستخدم إلاّ في الأنبياء

____________________

1) سورة الكهف: 60.

2) سورة الكهف: 60.

3) سورة الكهف: 64.

4) سورة الكهف: 65.

٤٣٠

والمرسلين والأولياء، ولم يستخدم هذا التعبير لجميع العباد.

ج - إنّه مشمول بالرحمة الخاصّة.

د - إنّه متّصل بالغيب من خلال العلم الذي أوتي من الذات المقدّسة، وإنّ هذا العلم من لدن العليم الخبير، ففيه إشارة إلى عدم كون علمه كسبياً بل إفاضياً، وأنّه علم يفاض من لدن الذات.

( قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) (1) ، يذكر الشهيد الثاني في منية المريد جملة دلالات في هذه الفقرة على التواضع، إنّ في هذه الجملة الوجيزة اثني عشر فائدة من فوائد الآداب، منها:

التواضع في الطلب، فقوله: ( هَلْ َ ) تفيد الاستيذان منه قبل الالتحاق به، والتعبير بـ ( أَتَّبِعُك ) ولم يقل أرافقك أو أماشيك، ممّا يفيد معنى التبعية وما فيه من معنى المتابعة المطلقة، وهي الإتيان بمثل فعل الغير لأنّه فعله، لا لوجه آخر، ولا يخفى ما فيها من الخضوع للخضر، وهو في هذه المتابعة مأمور بالكون معه، وفي هذه كمال التواضع والتفخيم للخضر، والتعبير ( عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ ) أي لا يشترط أن تعلّمني، فيدلّ على الرجاء، والتعبير بتعلّمني ولم يقل أعلم، والتعبير ( مِمَّا عُلِّمْتَ ) ، أي ليس هو كلّ ما عُلّمت وهو تفخيم ودليل أنّه تعليم إلهي.

وهذا خضوع وتواضع من قبل النبيّ موسى للخضر عليه‌السلام مع أنّه من أولي العزم ومن الأئمّة، حيث إنّ بعض الأنبياء من غير أولي العزم وصفوا بأنّهم أئمّة، فكيف بأولي العزم، مضافاً إلى أنّه كان حاكماً على بني إسرائيل، والحكومة من شؤون الإمامة لا من شؤون النبوّة، لكنّ الإمامة لها درجات مختلفة في الكمال والفضيلة الكونية كاختلاف النبوّة في الدرجات.

____________________

1) سورة الكهف: 66.

٤٣١

كما أنّ هذا التواضع ليس من باب الخلق الحسن، بل هو من باب ما يقتضيه حقيقة العلم الذي يمتلكه الخضر والذي امتاز به عن النبيّ موسى.

الواضح من هذه الآيات أنّ العلم الذي كان لدى الخضر هو من الشريعة الكونية والسنن الإلهية في نظام التكوين؛ وذلك لأنّه لو كانت من الظاهرة لعلم بها موسى، وإنّما سميت شريعة لأنّ فيها أوامر وإرادة إلهية كونية، وعدم تزويد موسى بها دليل على أنّها خاصّة بالبعض.

والعامّة لجمودهم وابتعادهم عن بيت الوحي والعصمة تراهم وقعوا في حيصَ بيصٍ في كيفية تصوير اختلاف العلم الذي لدى الخضر مع العلم الذي لدى نبيّ اللَّه، وهل هو من سنخ النبوّة أم غير ذلك؟ وما ذلك إلاّ لأنّهم لم يذعنوا بالإمامة والعلم اللدنّي ولم يعترفوا بمقام الولاية الذي يطّلع على المشيئة الإلهية والإرادات الإلهية، والذي يعرّف الشريعة بحسب السنن الإلهية التكوينية، وجمدوا على منصّة الشريعة الظاهرة.

( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) (1) ، دلالة على أنّ الصبر يتصوّر مع العلم، وأنّ العلم التشريعي والنبوّة لم يُحيطا إحاطة تامّة، وأنّه لابدّ أن يزوّد الحجّة بالعلم اللدنّي والشريعة الكونية وهي الولاية؛ إذ لو كانت ظاهرة لما افتقدها موسى عليه‌السلام وشريعته عامّة، وهو وإن كان إماماً أيضاً إلاّ أنّ الإمامة درجات، وكذلك اختلاف العلم اللدنّي الذي يزوّد به الإمام.

ويدلّ هذا المقطع على اختصاص الشريعة بحسب الدرجة الواقعية الكونية بالأولياء المصطفين المعصومين، حيث لم يزوّد بها بتمامها حتّى موسى عليه‌السلام فضلاً عن عموم المكلّفين.

____________________

1) سورة الكهف: 67.

٤٣٢

( قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) (1) ، إشارة إلى نظير وما فعلته عن أمري، الدالّ على أنّه أمر إلهي وإرادة كونية، إلاّ أنّه ليس من الشريعة الظاهرة، وهو إشارة إلى ما يأتي من قول الخضر.

( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْ‏ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) (2) ففيه - أيضاً - إشارة إلى تأدّب الخضر مع النبيّ، فلم يأمره بالاتّباع بل علّقه على مشيئته وإرادته، كما أنّ الاستعلام العلمي عن حكمة فعل من الأفعال لا ينافي الائتمام؛ وذلك لأنّ التبعية ليست معلّلة أو موقوفة على حكمة الفعل.

إنّ هذه الآداب بين الحجج تشير إلى مطلب مهم وهو اعتقادهم بالمناصب الإلهية لكلّ منهما، وقد ورد في حديث المعراج: أنّ النبيّ في أحد المواقف تقدّم على الأنبياء وأمّهم للصلاة، ولم يكن لديه خشية وخوف مع إذعان جميع الأنبياء لهذا التقدّم.

وقد أثار علماء المعارف مدى الارتباط بين الفروع والعقائد، وأنّ الأفعال لها مناشئ وعلل خلقية، ففي قوس النزول نرى أنّ العقيدة تولّد صفات وهي تكون مصدراً لعدد من الأفعال، بينما في قوس الصعود الأفعال تولّد صفات وهي تولّد ملكات جوهرية أي عقائد.

كما يدلّ هذا المقطع على أنّ المأموم تابع لإمامه إمامةً تعبّدية، فلا يحقّ له تعليق تبعيته على معرفة الحكمة والمصلحة في أوامر إمامه، نعم، له الحقّ أن يسأل إمامه عن وجه الحكمة، ولكن كما ذكرنا أنّ منشأ المتابعة ليس معرفة الحكمة وإنّما الإمامة، فالآداب المتبادلة بين الخضر وموسى ذات منشأ وبذر عقائدي.

____________________

1) سورة الكهف: 69.

2) سورة الكهف: 70.

٤٣٣

( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) (1) ، اعتراض من موسى بحسب الشريعة الظاهرة؛ لأنّ خرق السفينة تصرّف في ملك الغير.

( قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) (2) ، ليس المقصود من النسيان المعنى المصطلح وهو المنفي عن مقام العصمة للنبيّ، كما سيتّضح ذلك في الآيات القادمة، بل إنّ عدم اعتراض موسى سوف يكون نقصاناً في علمه النبويّ، وإنّ من الكمال لموسى هو الاعتراض، فالمعنى المراد من النسيان هاهنا ضرب من المعنى لا ينافي العصمة، نظير المعنى المجازي في قوله تعالى: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (3) ، إذ النسيان هو بحسب مقام الولاية الذي كان عند الخضر المطّلع على الشريعة بحسب الواقع الكوني، وهو لا ينافي عصمة موسى بحسب الشريعة الظاهرة، كيف والنسيان ليس أسوأ من عدم علمه بما يعلمه الخضر، ومع ذلك لم ينافِ عصمته.

والمفاد المطابقي لكلام النبيّ موسى عليه‌السلام ليس كلاماً واستفهاماً وإنّما هو اعتراض بمقتضى الشريعة الظاهرة واستنكار للفعل. نعم، يقتضي بالتلازم العقلي الدفاع والجواب من الخضر، فمحور التجاذب في الكلام هو عمّا لم يطلع عليه موسى، ومن ثمّ كانت إجابة الخضر: ( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) (4) ، وهو يشير إلى ما قاله لموسى في بدء لقائهما: ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) (5) ، أي: ما لم تعلمه، ومن ثمّ لم يقل له إنّك لم تفِ بما تعهّدت به، فالموازين بحسب الشريعة الظاهرة هي السبب في اعتراضه الموجب لترك الشرط فيما بينهما، إذ الشرط لا يغير الحكم الأوّلي عمّا هو عليه.

____________________

1) سورة الكهف: 71.

2) سورة الكهف: 73.

3) سورة التوبة: 67.

4) سورة الكهف: 72.

5) سورة الكهف: 68.

٤٣٤

( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) (1) ، وهذه هي الحادثة الأولى، والتي رأى فيها موسى تصرّفاً في ملك الغير وتعريض الآخرين للغرق، كما يُلاحظ أنّ موسى استخدم تعبير ( إِمْرًا ) أي: مستقبح، بينما في قتل الغلام - كما سترى - يستخدم ( نُكْرًا ) وهي أشدّ من الأولى؛ لشدّة قَباحة الفعل ظاهراً.

( فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) (2) ، وهو قتل الخضر للطفل الصغير الذي لم يبلغ الحلم، وفي هذا تعدّيان في نظر موسى، أحدهما: هو القتل من دون سبب مجوّز له، والآخر: أنّه ما زال صغيراً ولا يؤاخذ بما يفعل فضلاً عمّا لم يأت به.

( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) (3) ، فالفعل هنا ليس كسابقه؛ إذ ليس فيه تعدّي، بل عمل تبرّعي محض لمصلحة الآخرين، كما يظهر أنّ إقامة الجدار قام بها الخضر بنفسه من دون موسى، وأنّه كان دفعياً بنحو التصرّف التكويني لا تدريجياً، لذا كان اعتراض موسى عليه بعد انتهاء العمل.

( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) (4) .

إنّ هذه الآية الكريمة توضّح لنا أنّ للخضر نوع من العلم الذي ليس لدى النبيّ موسى؛ وذلك لأنّ العلم النبويّ هو العلم بإرادات اللَّه التشريعية، وهذا بخلاف العلم اللدنّي الذي يكون لدى أولياء اللَّه الحُجج، ونحن في نفس الوقت نثبت أنّ كلّ نبيّ من حيث نبوّته قد يكون مطّلعاً على العلم اللدنّي من بعض جوانبه.

____________________

1) سورة الكهف: 71.

2) سورة الكهف: 74.

3) سورة الكهف: 77.

4) سورة الكهف: 78.

٤٣٥

ومن امتيازات الشريعة في تطبيقها بدرجتها في سنن نظام الكون والعلم اللدنّي، أنّ الواجبات والأحكام يمكن تطبيقها في دائرة واسعة زمنية، أي يقع التزاحم بين الفعلي والمستقبلي حيث يعلم به، وكذا تشخّص الأهمّية في الملاك بعد ملاحظة تداعياته وما يترتّب عليه.

وهذا هو سرّ الفرق بين حكومة المعصوم عليه‌السلام وحاكميته بتوسّط ما يتنزّل عليه كلّ عام في ليلة القدر من مقدّرات كلّ شي‏ء، وبين حكومة غير المعصوم وحاكميته حيث يجهل كلّ ذلك، بل في حكومة المعصوم يُتفادى ذات التزاحم نفسه، لما فيه من التفريط ببعض المصالح الشرعية، بخلاف حكومة غير المعصوم فإنّه لعدم إحاطته بتداعيات الأحداث والحوادث يفرط وينفرط عليه زمام الحفظ للمِلاكات والحدود الشرعية، ويقع في سلسة من التفويت للأغراض الشرعية؛ تحت ضغط ظروف التزاحم المفاجئ والتدافع التي تفرض عليه بسبب عدم قدرته على الإحاطة بخفايا الأُمور الراهنة والمستقبلية.

وعلى ضوء ذلك، تتبلور فظاعة الطغيان والكفر، كما في مَن أحيا نفساً فقد أحيا الناس جميعاً، كما ورد عن الصادق عليه‌السلام : ( ذلك تأويلها الأعظم ) (1) ، الإحياء بالمعرفة، وهو قد ينطبق ويلتئم مع تداعيات الفعل في سلسلة ممتدّة، كما في إعزاء كلّ ذنوب الأُمّة إلى الأوّل والثاني.

وهناك مقولة تقول: إنّ الفقه - بمعنى الكلمة - مَنْ يتوصّل إلى أغراض الشرع بدون تزاحم، ومن بعد الدرجة اللاحقة مَنْ يصل إليها بالتزاحم، ولا تصل النوبة إلى التعارض، ومن بعد مَنْ يتوصّل إليها بالجمع العرفي، فالتعارض هو الخيار الأخير لمن يعجز عن الإحاطة بالدرجات السابقة.

____________________

1) راجع الكافي، ج2، ص211.

٤٣٦

وهذه المقولة تؤشّر على أنّ كثيراً من التزاحمات المتصوّرة هي وَهْمُ تزاحم لا حقيقة، ومع تحقّقه فلا طريق إلاّ التعامل مع الملاك بشكل مقطعي، وهذا ليس إلاّ لفقدان الوسيلة، لا لاختلاف التزاحم بين الشريعة بحسب درجة تطبيقها في النظام الكوني والظاهرة.

نعم، لا يحيط غير المعصوم بالإرادات الكلّية حضوراً، وإنّما هو مختصّ بمن له الهداية في الإراءة، كما أنّه لا قياس ولا مقارنة بين علم المعصوم بالشريعة الظاهرة وما يتوصّل إليه الفقيه بالظنّ القاصر عن الإحاطة بكلّ الشريعة الظاهرة، بل القاصر عن الوصول إلى متن الشريعة، بل من وراء حجاب دلالة الألفاظ مع عدم إحاطته أيضاً بكلّ الدلالة ولا بكلّ تناسباتها، فمن ثمّ يقع الخطأ حتّى في هذا المقدار المحدود من النزر اليسير، فضلاً عن عدم إحاطته بتنزّلات الإرادات الكلّية ومنظوماتها.

وبالجملة لا محلّ لقياس الثرى من الثريا، والتراب من فلك عالم الإمكان، وقد روى العيّاشي عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّما مثل عليّ عليه‌السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسى النبي عليه‌السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسى: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (1) ، ثمّ قال: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (2) ، وقد كان عند العالم علمٌ لم يُكتب لموسى في الألواح، وكان موسى يظنّ أن جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته، وجميع العلم قد كتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ

____________________

1) سورة الأعراف: 144.

2) سورة الأعراف: 145.

٤٣٧

لهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلموه وحفظوه، وليس كلّ علم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علموه ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي‏ء من الحلال والحرام والأحكام يَرِد عليهم فيُسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ بدعة ضلالة.

فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي‏ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلى اللَّه وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا، لا واللَّه ما حسد موسى عليه‌السلام العالم، وموسى نبيّ اللَّه يوحِي اللَّه إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما علمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسى عليه‌السلام إلى العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده.

فلمّا أن سأل العالم ذلك عَلِم العالم أنّ موسى عليه‌السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) (1) ، فقال موسى عليه‌السلام له - وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله -: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) (2) .

وقد كان العالم يعلم أنّ موسى عليه‌السلام لا يصبر على علمه فكذلك - واللَّه يا إسحاق بن عمار - حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم لا يحتملون - واللَّه - علمنا، ولا يقبلونه، ولا يطيقونه، ولا يأخذون به، ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسى عليه‌السلام على علم العالم حين صحبه ورأى ما رأى من علمه، وكان ذلك عند موسى عليه‌السلام مكروهاً وكان عند

____________________

1) سورة الكهف: 68.

2) سورة الكهف: 69.

٤٣٨

اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه ولا يؤخذ وهو عند اللَّه الحقّ) (1) .

والهداية الإيصالية شي‏ء وراء الوساطة في الفيض في قوس الصعود أو هي، ومع كونها هي هل هي مختصّة بالمؤمن أو تعمّ الكافر حيث إنّ الوساطة لم يُستثن منها أحد؟

بل هي مع خصوصيات تذكر في محلّها، والوساطة لم يُستثن منها أحد سوى أنّ الكافر لا فيض إليه وإنّما حرمان، فالوساطة وساطة في الحرمان من تحصيله على كمالات، والواسطة في مثل هؤلاء أئمّة الشرّ والضلال، كإبليس والجبت، والطاغوت.

وباختصار: أنّ السورة المباركة (الكهف) في صدد بيان قصّة الإمامة، وإنّها ظاهرة مستمرّة لا تنقطع، وإنّ إكمال الدين ليس بالنبوّة المجرّدة عن الولاية والإمامة، فإنّها ليست الغرض الأقصى، وإنّما التمام بالهداية الإيصالية، والمتمثّلة بإمام له الولاية وإدارة جماعة خفية مهمّتهم حفظ أغراض الشريعة الظاهرة بتحقيقها سواء المرتبطة بنظام المجتمع أم المرتبطة بالفرد.

ثمّ إنّ الظاهر أفضلية موسى على الخضر من بعض الجهات؛ بقرينة تبعية الثاني لشريعة الأوّل، المستفاد من بيانه لشرعية أفعاله بموازين شريعة التوراة، وإن كان يمتاز على موسى بالعلم اللدنّي للوصول إلى أغراض الشريعة.

وبيانه بشكل مفصّل يعتمد الالتفات إلى هاتين النقطتين:

النقطة الأولى: يذكر في علم أصول الفقه أنّ القضية الشرعية الحقيقية التي يُنشأها الشارع ويعتبرها، لها بعد تكويني وهو الإرادة التشريعية، وحقيقة هذه الإرادة تكوينية تتعلّق باعتبار الحكم الذي هو فعل الشارع.

____________________

1) تفسير العيّاشي، ج2، ص357، ح 46.

٤٣٩

والإرادة التكوينية هذه كلّية من جهة أنّ متعلّقها هو الاعتبار الكلّي. بل العراقي - ومن قبل النهاوندي - افترضا أنّ حقيقة الحكم هي هذه الإرادات والإنشاء والاعتبار مجرّد وسيلة تخبر عن حكم اللَّه الذي هو الإرادة.

ومن ثمّ سواء قلنا إنّ حقيقة الحكم الاعتبار والإرادة مبدأه كما هو الحقّ، أم قلنا إنّ حقيقته الإرادة، والاعتبار مبرز وكاشف ومخبر، فالنتيجة المتوخاة واحدة، وهي أنّ التكوين ذو صلة بالاعتبار، وأنّ غطاء الاعتبار أو محكيه هو الإرادات الإلهية التكوينية الكلّية، وهذه الإرادات بحكم نظام الوسائط تتنزّل حتّى تنتهي بنفس الوحي ومن قبل النبيّ.

هذا ويذكر في علم الأُصول أيضاً أنّ الحكم الكلّي ينحلّ عقلاً إلى أحكام جزئية شرعية اعتبارية، وكذا الإرادات الكلّية تنحلّ إلى إرادات جزئية تكوينية، وقد نبّه إلى ذلك العرفاء أيضاً، وهو الحقّ.

النقطة الثانية: إنّ تنزّل الأمر والشأن منه تعالى على عالم مثل الدنيا يتمّ عبر مراحل ولوائح تكوينية ونشآت متعدّدة، وكلّما كان العالم والنشأة أكثر علوية كلّما كانت المتنزّلات أكثر بساطة، وكلّما توغّل في التنزّل كلّما كان أكثر تقديراً ومحدودية وتضيّقاً.

وعلى هذا الأساس نقول: إنّ النبيّ الحامل لشريعة الظاهر تتلقّى نفسه الشريفة التشريع في لوائح عالية في النشآت الغيبية، فهو يعلم بالاعتبارات وموجبها وهي الإرادات الكلّية التكوينية.

وأمّا حامل الولاية والشريعة في السنن الكونية فيتلقّى الإرادات الإلهية التكوينية الجزئية في نشآتها النازلة، كما يتلقّى الإحاطة بالإرادات الكلّية عن المقام الروحي للنبيّ عن مقامه الغيبي، ومن ذلك يظهر استحالة النبوّة مجرّدة عن الولاية كاستحالة تجرّد الحكم الاعتباري الشرعي وانفكاكه عن الإرادة الشرعية،

٤٤٠