الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141404 / تحميل: 8971
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وإن لم يحتمله ، كما لو باع شقصاً مستوعباً يساوي ألفين بألف ، فإن ردّه الورثة ، بطل البيع في بعض المحاباة ، وهو ما زاد على الثلث. وفي صحّة البيع في الباقي للشافعيّة طريقان :

أحدهما : التخريج على الخلاف في تفريق الصفقة.

والثاني : القطع بالصحّة(١) .

وهو مذهبنا ، لكنّ المشتري بالخيار ؛ لتبعّض الصفقة عليه ، فإن اختار الشفيع أن يأخذه ، لم يكن للمشتري الردُّ. وإن لم يرض الشفيع بالأخذ ، فللمشتري الخيارُ بين أخذ الباقي وبين الردّ.

وعلى الصحّة ففيما يصحّ البيع؟ للشافعيّة قولان :

أحدهما : أنّه يصحّ في قدر الثلث والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن.

والثاني : أنّه لا يسقط من المبيع شي‌ء إلّا ويسقط ما يقابله من الثمن(٢) .

وهذا الأخير هو الأقوى عندي ، وقد تقدّم(٣) بيانه.

فإن قلنا بالأوّل ، صحّ البيع - في الصورة المفروضة - في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. وإن قلنا بالثاني ، دارت المسألة.

وطريقه أن نقول : صحّ البيع في شي‌ء من الشقص بنصف شي‌ء ، يبقى مع الورثة ألفان يعادل شيئاً ونصفاً والشي‌ء من شي‌ء ونصف ثلثاه ، فعلمنا صحّة البيع في ثلثي الشقص ، وقيمته ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث بثلثي الثمن ، وهو نصف هذا ، فتكون المحاباة بستّمائة وستّة وستّين‌

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٣) في ص ٢٤ ، المسألة ٥٦٠.

٢٤١

وثلثين ، يبقي للورثة ثلث الشقص وثلثا الثمن وهُما ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ، وذلك ضِعْف المحاباة.

وعلى القولين(١) للمشتري الخيارُ حيث لم يسلم له جميع المثمن(٢) . فإن اختار ، أخذ الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على الأوّل ، وثلثيه بثلثي الثمن على الثاني.

ولو فسخ المشتري قبل طلب الشفيع ، لم تبطل الشفعة عندنا. وللشافعي قولان(٣) .

ولو أجاز الورثة ، صحّ البيع في الجميع.

ثمّ إن قلنا : إنّ إجازتهم تنفيذ لما فعله المورّث ، أخذ الشفيع الكلَّ بكلّ الثمن. وإن قلنا : إنّها ابتداء عطيّة منهم ، لم يأخذ الشفيع القدر النافذ بإجازتهم ، وأخذ القدر المستثنى عن إجازتهم. وفيه القولان المذكوران عند الردّ.

وإن كانا وارثين أو كان المشتري وارثاً ، فهي محاباة للوارث ، وهي عندنا صحيحة ، فالحكم فيه كما في الأجنبيّ.

أمّا الجمهور : فإنّهم منعوا من المحاباة للوارث ، فتكون المحاباة مردودةً(٤) .

ثمّ للشافعي قولان ، فإن لم يفرّق الصفقة ، بطل البيع في الجميع. وإن قال بالتفريق ، فإن قال في القسم الأوّل على ما سبق من التصوير : إنّ البيع‌

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « التفريق » بدل « القولين ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الثمن » بدل « المثمن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٤ ، المغني ٥ : ٤٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٥.

٢٤٢

يصحّ في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن ، فهنا في مثل تلك الصورة يصحّ البيع في نصفه بجميع الثمن. وإن قلنا هناك : يصحّ في ثلثيه بثلثي الثمن ، فهنا يبطل البيع في الكلّ ؛ لأنّ البيع لا يبطل في شي‌ء إلاّ ويسقط بقدره من الثمن ، فما من جزء يصحّ فيه البيع إلاّ ويكون بعضه محاباةً ، وهي مردودة.

وفيه كلامان :

أحدهما : أنّ المفهوم من هذا التوجيه شيوع المعاوضة والمحاباة في جميع الشقص ، وذلك لا يمنع تخصيص قدر المحاباة بالإبطال ، كما أنّه لم يمنع في القسم الأوّل تخصيص ما وراء القدر المحتمل من المحاباة بالإبطال.

والثاني : أنّ الوصيّة للوارث - عندهم(١) - موقوفة على إجازة باقي الورثة على رأي ، كما أنّ الوصيّة بما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الورثة على رأي ، فلنفرّق هنا أيضاً بين الإجازة والردّ ، كما في الأوّل.

إذا عرفت هذا وقلنا بالأوّل ، تخيّر المشتري بين أن يأخذ النصف بكلّ وبين أن يفسخ ، لأنّ الصفقة تفرّقت عليه ، ويكون للشفيع أن يأخذ ذلك وإن كان وارثا ، لأنّه لا محاباة فيه.

وإن أراد المشتري الردَّ وأراد الشفيع الأخذَ ، كان حقّ الشفيع مقدّماً ؛ لأنّه لا ضرر على المشتري ، وجرى مجرى المبيع المعيب إذا رضيه الشفيع لم يكن للمشتري ردّه.

وإن كان الشفيع وارثاً دون المشتري ، فعندنا يصحّ البيع فيما يحتمل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢

٢٤٣

الثلث ، ويكون للشفيع أخذه بالشفعة.

وقالت الشافعيّة : إن احتمل الثلث المحاباة أو لم يحتمل وصحّحنا البيع في بعض المحاباة في القسم الأوّل ومكّنّا الشفيع من أخذه ، ففيه وجوه :

أ - أنّه يصحّ البيع في الجميع ، ولا يأخذه الوارث بالشفعة ، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة.

أمّا صحّة البيع : فلأنّ المشتري أجنبيّ.

وأمّا بطلان الشفعة : فلأنّها لو ثبتت ، لكان المريض قد نفع وارثه بالمحاباة ؛ لأنّ الشفعة تستحقّ بالبيع ، فقد تعذّرت الشفعة ، فلم نعد ذلك بإبطال البيع ، لأنّها فرع عليه ، وإذا بطل بطلت ، فلم تبطل لأجلها - وهو أصحّ الوجوه عندهم - لأنّا إذا أثبتنا الشفعة ، فقد جعلنا للوارث سبيلاً إلى إثبات حقٍّ له في المحاباة. ويفارق الوصيّة ممّن له عليه دَيْنٌ ؛ لأنّ استحقاقه للآخَر إنّما هو بدَيْنه ، لا من جهة الوصيّة ، وهذا استحقاقه حصل بالبيع ، فافترقا.

ب - أنّه يصحّ البيع ويأخذه الوارث بالشفعة ؛ لأنّ محاباة البائع مع المشتري ، وهو أجنبيّ عنه ، والشفيع يتملّك على(١) المشتري ، ولا محاباة معه من المريض.

ج - أنّه لا يصحّ البيع أصلاً ؛ لأنّه لو صحّ لتقابلت فيه أحكام متناقضة ؛ لأنّا إن لم نثبت الشفعة ، أضررنا بالشفيع ، وإن أثبتناها ، أوصلنا إليه المحاباة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مع » بدل « على ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

٢٤٤

د - يصحّ البيع في الجميع ويأخذ الشفيع ما يقابل الثمن منه ، ويبقى الباقي للمشتري مجّاناً ؛ لأنّ المحاباة تصحّ مع الأجنبيّ دون الوارث ، ويُجعل كأنّه باع بعض الشقص منه ووهب بعضه ، فيأخذ المبيع دون الموهوب.

ه- أنّه لا يصحّ البيع إلّا في القدر الموازي للثمن ؛ لأنّه لو صحّ في الكلّ فإن أخذه الشفيع ، وصلت إليه المحاباة ، وإن أخذ ما وراء قدر المحاباة ، كان إلزاماً بجميع الثمن ببعض المبيع ، وهو على خلاف وضع الشفعة(١) .

ويضعّف بأنّ صحّة البيع لا تقف على اختيار الشفيع للشفعة.

وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه : إن ترك الشفيع الشفعة ، صحّت المحاباة مع المشتري ، وإلّا فهو كما لو كان المشتري وارثاً ، فلا تصحّ المحاباة.

ووجه ترتيب هذه الأقوال أن يقال : في صحّة البيع وجهان ، إن صحّ فيصحّ في الجميع أو فيما وراء قدر المحاباة؟ وجهان ، إن صحّ في الجميع فيأخذ الجميع بالشفعة أو ما وراء قدر المحاباة أو لا يأخذ شيئاً؟ ثلاثة أوجه(٢) .

وهذا - عندنا - كلّه ساقط.

مسالة ٧٣٥ : من شرط الشفعة : تقدّم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه على ما سبق ، فلو كان في يد اثنين ملك اشترياه بعقدين وادّعى كلٌّ

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٧٨ - ٧٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ - ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣.

٢٤٥

منهما سبق عقده على عقد صاحبه ، وأنّه يستحقّ الشفعة عليه ، فمن أقام البيّنة منهما على دعواه حُكم له بها ، وسقطت دعوى الآخر.

ولو أقاما بيّنتين على السبق - بأن شهدت بيّنة هذا بسبق عقده على عقد صاحبه ، وشهدت بيّنة صاحبه بسبق عقده على العقد الأوّل ، أو شهدت إحداهما لأحدهما أنّه اشترى يوم السبت وصاحبه اشترى يوم الأحد ، وشهدت الاُخرى للآخَر أنّه اشترى يوم السبت والآخَر يوم الأحد - تعارضتا ، وينبغي أن يُحكم لأكثرهما عدداً وعدالةً ، فإن تساويا ، احتُمل القرعة ؛ لأنّه أمر مشكل ، وكلّ أمر مشكل ففيه القرعة ، والقسمة بينهما.

وللشافعي هنا قولان :

أحدهما : تساقط البيّنتين كأنّه لا بيّنة لواحد منهما.

والثاني : أنّهما تُستعملان ، وفي كيفيّته أقوال :

أحدها : القرعة ، فعلى هذا مَنْ خرجت قرعته أخذ نصيب الآخَر بالشفعة.

والثاني : القسمة ، ولا فائدة لها إلاّ مع تفاوت الشركة ، فيكون التنصيف تعبّدا(١) .

والثالث : الوقف ، وعلى هذا يوقف حقّ التملّك إلى أن يظهر الحال(٢) .

ومن الشافعيّة مَنْ لا يجري قول الوقف هنا ؛ لانتفاء معناه مع كون الملك في يدهما(٣) .

____________________

(١) كذا ، وفي المصدر : « مقيّداً » بدل « تعبّداً ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣ - ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧ - ١٦٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٦

ولو عيّنت كلّ واحدة من البيّنتين وقتاً واحداً ، فلا تنافي بينهما ؛ لاحتمال وقوع العقدين معاً ، ولا شفعة لواحدٍ منهما ؛ لأنّا تبيّنّا وقوع العقدين دفعةً.

وللشافعيّة وجه : أنّهما تسقطان ؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تتعرّض لمقصود مقيمها فكأنّه لا بيّنة(١) .

البحث الرابع : في كيفيّة الأخذ بالشفعة.

مسالة ٧٣٦ : يملك الشفيع الأخذ بالعقد إمّا بالفعل بأن يأخذ الحصّة ويدفع الثمن إلى المشتري ، أو يرضى بالصبر فيملكه حينئذٍ ، وإمّا باللفظ ، كقوله : أخذته ، أو : تملّكه ، أو : اخترت الأخذ ، وما أشبه ذلك ؛ عملاً بالأصل من عدم اشتراط اللفظ.

وقال بعض الشافعيّة : لا بدّ من لفظٍ ، ك‍ « تملّكت » وما تقدّم ، وإلّا فهو من باب المعاطاة(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ المعاطاة تتوقّف على رضاهما ، ولا يتوقّف الأخذ بالشفعة على رضا المشتري.

ولا يكفي أن يقول : لي حقّ الشفعة وأنا مطالب بها ، عنده(٣) ؛ لأنّ المطالبة رغبة في الملك ، والملك(٤) لا يحصل بالرغبة المجرّدة(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٣) أي : عند البعض من الشافعيّة ، المتقدّم قوله آنفاً.

(٤) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فالملك ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٧

وقال بعضهم(١) بقولنا.

ولا يملك الشفيع بمجرّد اللفظ ، بل يعتبر مع ذلك أحد اُمور :

إمّا أن يسلّم العوض إلى المشتري ، فيملك به إن تسلّمه ، وإلّا خلّى بينه وبينه ، أو رفع الأمر إلى الحاكم حتى يلزمه التسليم.

و [إمّا ](٢) أن يسلّم المشتري الشقص ، ويرضى بكون الثمن في ذمّته.

ولو كان المبيع داراً عليها صفائح من أحد النقدين والثمن من الآخَر ، وجب التقابض فيما قابَلَه خاصّةً.

ولو رضي بكون الثمن في ذمّته ولم يسلّم الشقص ، حصل الملك عندنا - وهو أحد وجهي الشافعيّة - لأنّه معاوضة ، والملك في المعاوضات لا يتوقّف على القبض.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، وقول المشتري ما لم يتّصل به القبض في حكم الوعد.

وإمّا أن يحضر في مجلس القاضي ، ويثبت حقّه في الشفعة ، ويختار التملّك ويقضي القاضي له بالشفعة - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة - لأنّ الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري حتى كأنّ العقد له ، إلّا أنّه مخيّر بين الأخذ والترك ، فإذا طلب وتأكّد طلبه بالقضاء ، وجب أن يحكم له بالملك.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، ويستمرّ ملك المشتري إلى أن يصل إليه عوضه ، أو يرضى بتأخيره.

وإمّا أن يشهد عدلان على الطلب واختيار الشفعة ، فإن لم نثبت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٢٤٨

الملك بحكم القاضي ، فهنا أولى ، فإن(١) أثبتناه ، فوجهان لهم ؛ لقوّة قضاء القاضي(٢) .

وهذا كلّه غير معتبر عندنا.

مسالة ٧٣٧: لا يشترط في تملّك الشفيع بالشفعة حكمُ الحاكم ولا حضور الثمن أيضاً ولا حضور المشتري ورضاه ، عند علمائنا - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ حكم الشفعة يثبت بالنصّ والإجماع ، فيستغني عن حكم الحاكم ، كمدّة الإيلاء والردّ بالعيب. ولأنّه تملّك بعوض ، فلا يفتقر إلى إحضار العوض ، كالبيع ، ولا إحضار المشتري ورضاه به ، كالردّ بالعيب.

وقال أبو حنيفة : يعتبر حضور المشتري أو حكم الحاكم ، ولا يحكم الحاكم إلّا إذا اُحضر الثمن(٤) .

وعن الصعلوكي أنّ حضور المأخوذ منه أو وكيله شرط(٥) . وهو ممنوع.

وإذا ملك الشفيع بغير تسليم الثمن - بل إمّا بتسليم المشتري الشقص ويرضى بكون الثمن في ذمّته ، أو بحضوره في مجلس القاضي وإثبات حقّه في الشفعة ويختار الملك فيقضي له القاضي - لم يكن له أن يتسلّم الشقص حتى يؤدّي الثمن إلى المشتري وإن سلّمه المشتري قبل أداء الثمن ، ولا يلزمه أن يؤخّر حقّه بأن أخّر البائع حقّه.

مسالة ٧٣٨ : يجب على الشفيع دفع الثمن معجّلاً ، فإن تعذّر تعجيله‌

____________________

(١) الظاهر : « وإن ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٩

أو ادّعى غيبته ، اُجّل ثلاثة أيّام لإحضاره ؛ لأنّ تحصيله في الحال يتعذّر في غالب العادات ، فلو شرط إحضاره في الحال ، أدّى إلى إسقاط الشفعة ، وذلك إضرار بالشفيع ، فإن أحضر الثمن في مدّة الثلاثة ، فهو أحقّ ، وإلاّ بطلت شفعته بعدها.

ولو ذكر أنّ الثمن في بلد آخر ، أجّل بقدر وصوله من ذلك البلد وثلاثة أيّام بعده ما لم يتضرّر المشتري.

ولو هرب الشفيع بعد الأخذ ، كان للحاكم فسخ الأخذ ، وردّه إلى المشتري وإن لم يكن له ذلك في البيع لو هرب المشتري أو أخّر الدفع ؛ لأنّ البيع حصل باختيارهما ، فلهذا لم يكن للحاكم فسخه عليهما ، وهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه ، فإذا اشتمل على إضرار بالمشتري ، مَنَعه الحاكم وردّه.

ولو هرب قبل الأخذ ، فلا شفعة له ، وكذا العاجز عن الثمن.

وقال بعض الشافعيّة : إذا قصّر في الأداء ، بطل حقّه من الشفعة. وإن لم يوجد ، رفع إلى الحاكم ( وفسخ منه )(١) (٢) .

والمعتمد : الأوّل ؛ لما قلناه.

ولما روى عليّ بن مهزيار أنّه سأل الجوادَعليه‌السلام : عن رجل طلب شفعة أرض ، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها أيبيعها أو ينتظر مجي‌ء شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال‌

____________________

(١) ورد ما بين القوسين سهواً في النسخ الخطّيّة والحجريّة بعد تمام الرواية الآتية في نفس المسألة. وموضعه هنا تتمّةً لقول بعض الشافعيّة كما في « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

٢٥٠

وإلّا فليبع وبطلت شفعته في الأرض ، وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه ، وإلّا فلا شفعة له »(١) .

مسالة ٧٣٩ : ولا يثبت في الشفعة خيار المجلس عند علمائنا‌ ؛ للأصل الدالّ على عدمه.

ولدلالة قولهعليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا »(٢) على اختصاص الخيار بالبيع ؛ لأنّه وصف علّق عليه حكم ، فينتفي بانتفائه.

ولأنّ الخيار لا يثبت للمشتري ؛ لأنّه يؤخذ الملك منه قهراً ، ولا للآخذ ؛ لأنّ له العفو والإسقاط.

نعم ، لو أخذ وثبت الملك له ، لم يكن له الخيار في الفسخ ؛ للأصل.

وللشافعي قولان :

أظهرهما : ثبوت الخيار - وقد تقدّم(٣) - بأن يترك بعد ما أخذ ، أو يأخذ بعد ما ترك ما دام في المجلس ؛ لأنّ ذلك معاوضة ، فكان في أخذها وتركها خيار المجلس ، كالبيع(٤) .

وله قولٌ آخَر : إنّه يسقط ؛ لأنّ الشفعة حقّ له ثبت ، فإذا أخّره أو تركه ، سقط ، كغيره من الحقوق(٥) .

فعلى قوله بالخيار يمتدّ إلى مفارقة المجلس.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٣٩.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٨٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٦٤ / ١٥٣٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٤٧ / ١٢٤٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥.

(٣) في ج ١١ ص ١٥ ، ضمن المسألة ٢٢٧.

(٤) الوسيط ٤ : ٨١ ، العزيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩ ، المجموع ٩ : ١٧٧.

٢٥١

وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري؟ وجهان : المنع ؛ لأنّه لا حظّ له في الخيار ، فلا اعتبار بمفارقته. والانقطاع ؛ لحصول التفريق(١) .

مسالة ٧٤٠ : يجوز للمشتري التصرّف في الشقص قبل أن يأخذه الشفيع وقبل علمه بالبيع ، فإذا تصرّف ، صحّ تصرّفه ؛ لأنّ ملكه بالعقد إجماعاً ، وفائدة الملك استباحة وجوه الانتفاعات ، وصحّ قبض المشتري له ، ولم يبق إلّا أنّ الشفيع ملك عليه أن يملك ، وذلك لا يمنع تصرّفه ، كما لو كان الثمن معيباً فتصرّف المشتري في المبيع.

وكذا الموهوب له إذا كان الواهب ممّن له الرجوع فيها ، فإنّ تصرّفه يصحّ وإن ملك الواهب [ الرجوع ](٢) فيها.

إذا ثبت هذا ، فإنّ تصرّفه إن كان ممّا تجب به الشفعة - كالبيع خاصّةً عندنا ، وكلّ معاوضة عند الشافعي(٣) ، كجَعْله عوض الصداق أو الخلع أو غير ذلك من المعاوضات - تخيّر الشفيع إن شاء فسخ تصرّفه وأخذ بالثمن الأوّل ؛ لأنّ حقّه أسبق ، وسببه متقدّم ، فإنّ الشفعة وجبت له قبل تصرّف المشتري. وإن شاء أمضى تصرّفه ، وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني ؛ لأنّ هذا التصرّف يُثبت الشفعة ، فلو باعه المشتري بعشرة بعشرين فباعه الآخَر بثلاثين ، فإن أخذ من الأوّل ، دفع عشرة ، ورجع الثالث على الثاني بثلاثين ، والثاني على الأوّل بعشرين ، لأنّ الشقص يؤخذ من الثالث وقد انفسخ عقده ، وكذا الثاني. ولو أخذ من الثاني ، صحّ ، ودفع عشرين ؛ وبطل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

٢٥٢

الثالث ، فيرجع بثلاثين. ولو أخذ من الثالث ، صحّت العقود ، ودفع ثلاثين.

وإن كان تصرّفه لا تثبت به الشفعة كالهبة والوقف وجَعْلِه مسجداً ، فإنّ للشفيع إبطالَ ذلك التصرّف ، ويأخذ بالثمن الأوّل ، ويكون الثمن للمشتري ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال مالك : إنّه يكون الثمن للموهوب له(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ الشفيع أبطل الهبة ، وأخذ الشقص بحكم العقد الأوّل ، ولو لم يكن وهب كان الثمن له ، كذا بعد الهبة المفسوخة.

وكذا للشفيع فسخ الوقف وكونه مسجدا أو غير ذلك من أنواع التصرّفات ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : إنّ الوقف يُبطل الشفعة ؛ لأنّ الشفعة إنّما تثبت في المملوك وقد خرج من أن يكون مملوكاً(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك الاستحقاق سابق والوقف متأخّر ، فلا يبطل السابق ، ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حقّ الغير ، كما لو وقف المريض أملاكه أو أعتق عبيده وعليه دَيْنٌ مستوعب ، فإنّ العتق والوقف صحيحان ، وإذا مات ، فسخا لحقّ الغرماء ، كذا هنا.

مسالة ٧٤١ : إذا ملك الشفيع ، امتنع تصرّف المشتري. ولو طلب الشفيع ولم يثبت الملك بَعْدُ ، لم يمنع الشريك من التصرّف ؛ لبقائه في ملكه.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، الوسيط ٤ : ٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ ، المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

(٢) المغني ٥ : ٤٩١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

(٤) المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

٢٥٣

ويحتمل قويّاً المنع ؛ لتعلّق حقّ الشفيع به وتأكّده بالطلب.

وكلاهما للشافعيّة(١) أيضاً.

ولو تصرّف الشفيع قبل القبض بعد أن سلّم الثمن إلى المشتري ، نفذ.

وللشافعيّة وجهان ، أظهرهما : المنع ، كتصرّف المشتري قبل القبض(٢) .

وهو باطل ؛ لاختصاص ذلك بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً. ولأنّه ملك قهريّ كالإرث ، فصحّ تصرّفه فيه ، كالوارث قبل القبض.

ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي ، نفذ تصرّفه.

وقالت الشافعيّة : لا ينفذ(٣) .

وكذا لو ملك برضا المشتري بكون الثمن عنده.

مسالة ٧٤٢ : لا يشترط علم الشفيع بالثمن ولا بالشقص في طلب الشفعة‌ ، بل في الأخذ ، فلا يملك الشقص الذي لم يره بالأخذ ولا بالطلب ؛ لأنّه غرر والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه(٤) ، بل يشترط علم الشفيع في التملّك بالثمن والمثمن معاً ، فلو جهل أحدهما ، لم يصح الأخذ ، وله المطالبة بالشفعة.

ولو قال : أخذته بمهما كان ، لم يصح مع جهالته بالقدر.

وقالت الشافعيّة : في تملّك الشفيع الشقص الذي لم يره طريقان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٣ / ١٥١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٩ / ٢١٩٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٥٤ / ٣٣٧٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٣٢ / ١٢٣٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥١ ، الموطّأ ٢ : ٦٦٤ / ٧٥.

٢٥٤

أظهرهما : أنّه على قولي(١) بيع الغائب إن منعناه ، لم يتملّكه قبل الرؤية ، وليس للمشتري منعه من الرؤية. وإن صحّحناه ، فله التملّك.

[ ثمّ ](٢) منهم مَنْ جَعَل خيار الرؤية على الخلاف في خيار المجلس.

ومنهم مَنْ قطع به وقال : المانع هناك - على رأي - بُعْدُ اختصاص ذلك الخيار بأحد الجانبين.

والثاني : المنع ، سواء صحّحنا بيع الغائب أو أبطلناه ؛ لأنّ البيع جرى بالتراضي فأثبتنا الخيار فيه ، وهنا الشفيع يأخذ من غير رضا المشتري ، فلا يمكن إثبات الخيار فيه.

نعم ، لو رضي المشتري بأن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار ، فعلى قولي بيع الغائب ، فإذا جوّزنا له التملّك وأثبتنا الخيار ، فللمشتري أن يمتنع من قبض الثمن وإقباض المبيع(٣) حتى يراه ليكون على ثقة فيه(٤) .

وإذا بلغه البيع فقال : قد اخترت أخذ الشقص بالثمن الذي تمّ عليه العقد ، وعلم قدره ونظر إلى الشقص أو وُصف له وصفاً يرفع الجهالة ، صحّ الأخذ وإن لم يجز المشتري ولا حضر.

وقال أبو حنيفة : لا يأخذ بالشفعة حتى يحضر الثمن ، ولا يقضي له القاضي بها حتى يحضر الثمن(٥) .

وقال محمد : إنّ القاضي يؤجّله يومين أو ثلاثة ، ولا يأخذه إلّا بحكم‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « قول ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « البائع » بدل « المبيع ».

والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٥) المغني ٥ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

٢٥٥

الحاكم أو رضا المشتري ؛ لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بغير اختيار المشتري ، فلا يستحقّ ذلك إلّا بعد إحضار الثمن ، ولهذا كان المشتري لمـّا كان يستحقّ تسلّم المبيع بغير اختيار البائع لم يكن له إلّا بعد إحضار الثمن(١) .

وقد بيّنّا أنّ الشفيع يأخذ بالعوض ، فلا يشترط حضوره ، كالبيع ، والتسليم في الشفعة كالتسليم في البيع ، فإنّ الشفيع لا يتسلّم الشقص إلّا بعد إحضار الثمن ، وكون التملّك بغير اختياره يدلّ على قوّته ، فلا يمنع من اعتباره في الصحّة بالبيع.

وإذا كان الثمن مجهولاً عند الشفيع ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّه تملّك بعوض ، فلا يصحّ مع جهالة العوض ، كالبيع.

ولو قال : أخذته بالثمن إن كان مائةً فما دونها ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّ مثل هذا لا يجوز أن يكون ثمناً في البيع ، كذا الشفعة.

ولو لم يشاهد الشقص ولا وُصف له بما يرتفع معه الجهالة ، لم يكن له أخذه ، وبه قال بعض الشافعيّة ، سواء قالوا بجواز بيع خيار الرؤية أو لا ؛ لأنّ مع القول بالجواز أثبتوا فيه خيار الرؤية برضا البائع ، لأنّه دخل على ذلك ، وفي مسألتنا يأخذه الشفيع بغير رضا المشتري ، فلا يثبت الخيار(٢) .

و(٣) قال ابن سريج : إلّا أن يرضى المشتري بخيار الرؤية ، فيجوز ذلك على القول الذي يجيز البيع بها(٤) .

وقال بعض الشافعيّة : مَنْ قال من أصحابنا : إنّه يثبت في الشفعة خيار المجلس يجيز أيضاً خيار الرؤية فيها على أحد القولين(٥) .

إذا عرفت هذا ، فإذا أخذ الشقص بالشفعة ، وجب عليه الثمن ،

____________________

(١) بدائع الصنائع ٥ : ٢٤ ، وانظر : المغني ٥ : ٥١٠ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

(٢و٤و٥) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٣) في « س ، ي » لم ترد كلمة « و».

٢٥٦

ولا يجب على المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن.

مسالة ٧٤٣ : إذا كان الشقص في يد البائع ، فقال الشفيع : لا أقبضه إلّا من المشتري‌ ، لم يكن له ذلك ، ولم يكلّف المشتري أخذه من البائع ، بل يأخذه الشفيع من يد البائع ؛ لأنّ هذا الشقص حقّ الشفيع ، فحيثما وجده أخذه. ولأنّ يد الشفيع كيد المشتري ؛ لأنّه استحقّ قبض ذلك من جهته ، كما لو وكّل وكيلاً في القبض ، ألا ترى أنّه لو قال : أعتق عبدك عن ظهاري ، فأعتقه ، صحّ ، وكان الآمر كالقابض له ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ للشفيع ذلك ؛ لأنّ الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري ، فيلزمه أن يسلّمه بعد قبضه ، وعلى الحاكم تكليف المشتري أن يتسلّم ويُسلّم ، أو يوكّل في ذلك ، فإن كان المشتري غائباً ، نصب الحاكم مَنْ يقبضه من البائع عن المشتري ويسلّمه إلى الشفيع ، وإذا أخذه الشفيع من المشتري أو من البائع ، فإنّ عهدته على المشتري خاصّةً(١) .

ولو أفلس الشفيع وكان المشتري قد سلّم الشقص إليه راضياً بذمّته ، جاز له الاسترداد ، وكان أحقَّ بعينه من غيره.

مسالة ٧٤٤ : إنّما يأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع عليه العقد‌ ؛ لما روى العامّة عن جابر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « فهو أحقّ به بالثمن »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « فهو أحقّ بها من غيره بالثمن »(٣) .

ولأنّ الشفيع إنّما يستحقّ الشفعة بسبب البيع ، فكان مستحقّا له‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ - ٥٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٢.

(٢) سنن البيهقي ٦ : ١٠٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٠.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٨.

٢٥٧

بالثمن ، كالمشتري.

لا يقال : الشفيع استحقّه بغير اختيار مالكه ؛ لحاجته إليه ، فكان يجب أن يستحقّه بالقيمة ، كالمضطرّ إلى طعام الغير.

لأنّا نقول : المضطرّ إنّما استحقّه بسبب الحاجة خاصّةً ، فكان المرجع في بدله إلى القيمة ، والشفيع يستحقّه لأجل البيع ، فإنّه لو كان انتقاله في الهبة أو الميراث ، لم يستحقّ فيه الشفعة ، وإذا اختصّ ذلك بالبيع ، وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع.

إذا ثبت هذا ، فإن بِيع بمثليٍّ - كالنقدين والحبوب - أخذه بمثله.

ثمّ إن قُدِّر بمعيار الشرع ، أخذه به. وإن قُدِّر بغيره كما لو باع بمائة رطل من الحنطة ، أخذه بمثله وزناً تحقيقاً للمماثلة.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّه يأخذه بالكيل(١) .

ولو تعذّر المثل وقت الأخذ ؛ لانقطاعه أو لغيره ، عدل إلى القيمة ، كما في الغصب.

تذنيب : لا يجب على الشفيع دفع ما غرمه المشتري من دلالة واُجرة وزّان ونقّاد وكيل وغير ذلك من المؤن.

مسالة ٧٤٥ : ولو لم يكن الثمن مثليّاً بل مقوَّماً - كالعبد والثوب وشبههما - أخذه الشفيع بقيمة السلعة التي جُعلت ثمناً - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك(٢) - لأنّه أحد نوعي الثمن ، فجاز أن تثبت الشفعة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٦ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٦ ، المعونة ٢ : ١٢٧٦ ، التفريع ٢ : ٣٠٢ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٨

بالمشتري به ، كالذي له مِثْلٌ.

وقال الشيخرحمه‌الله : تبطل الشفعة(١) - وبه قال الحسن البصري وسوار القاضي(٢) - لما رواه عليّ بن رئاب عن الصادقعليه‌السلام في رجل اشترى داراً برقيق ومتاع وبزّ وجوهر ، قال : « ليس لأحد فيها شفعة »(٣) .

ولأنّ الشفعة إنّما تجب بمثل الذي ابتاعه به ، وهذا لا مثل له ، فلم تجب.

والرواية ضعيفة السند ؛ لأنّ في طريقها الحسن بن محمد بن سماعة وليس منّا.

والمثل قد يكون من طريق الصورة وقد يكون من طريق القيمة ، كما في بدل الإتلاف والغصب.

وتُعتبر القيمة يوم البيع ؛ لأنّه يوم إثبات العوض واستحقاق الشفعة ، فلا اعتبار بالزيادة بعد ذلك ولا النقصان ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال ابن سريج : تُعتبر قيمته يوم استقرار العقد بانقطاع الخيار(٥) .

وقال مالك : الاعتبار بقيمته يوم المحاكمة(٦) .

وليس بجيّد ؛ لما تقدّم من أنّ وقت الاستحقاق وقت العقد‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٤٣٢ ، المسألة ٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٤٠.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٥) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ - ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٦) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٩

للمشتري. ولأنّ الثمن صار ملكاً للبائع ، فلا تُعتبر زيادته في حقّ المشتري.

ولو اختلفا في القيمة في ذلك الوقت ، قُدّم قول المشتري مع اليمين.

مسالة ٧٤٦ : لو جعل الشقص رأس مال سَلَمٍ ، أخذ الشفيع بمثل الـمُسْلَم فيه إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً.

ولو صالح من دَيْنٍ على شقص ، لم تكن له شفعة.

وعند الشافعي يأخذه بمثل ذلك الدَّيْن إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً(١) .

ولا فرق بين أن يكون دَيْن إتلافٍ أو دَيْن معاملة.

ولو أمهرها شقصاً ، فلا شفعة عندنا.

وعند الشافعي يأخذ بمهر مثل المرأة ؛ لأنّ البُضْع متقوَّم ، وقيمته مهر المثل. وكذا إذا خالعها على شقص. والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح أو يوم جريان البينونة(٢) .

وخرّج بعض الشافعيّة وجهاً أنّه يأخذه بقيمة الشقص(٣) . والأصل فيه أنّ المرأة إذا وجدت بالصداق عيباً وردّته ، ترجع بقيمته على أحد القولين ، فإذا كان المستحقّ عند الردّ بالعيب بدل المسمّى ، كذا عند الأخذ بالشفعة ، وبه قال مالك(٤) .

ولو متَّع المطلّقة بشقص ، فلا شفعة عندنا.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٣) في « العزيز شرح الوجيز » : « بقيمته يوم القبض ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

الهرمية، ومن قبيل ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (١) ، الدالّ على أنّ دور الهادي هو الهداية الإيصالية، ومن قبيل الروايات الدالّة على أنّ الإمام يحضر على الصراط في الحشر والنشر.

ويوافق هذا اضطراب الأُطروحة الصوفية في الإمامة والولاية، مع ضمور ما انتهوا إليه بالقياس إلى ما ورد في الروايات ممّا يشفّ عن أنّهم ليسوا أصحاب النظرية.

ولابدّ من التنبّه إلى أنّ واحدة من ألوان الاختراق الفكري هي مسخ المفاهيم عن حقيقتها واستبدالها بمحتوى آخر، ويأخذ هذا اللون من الاختراق طابع الثبات في الذهنية العامّة في بعض حالاته، فتقع الأُمّة في شرك التحريف من دون أن تشعر؛ وذلك لأنّ عملية المسخ لم تأت معلنة وإنّما متلبّسة بصورة الحقّ، حيث استغلّ القائمون بهذه المهمّة فكر العلاقات بين المعاني والمعاني وبين ألفاظها مع المعاني كذلك أو وحدها، بعد التفاتهم إلى أنّ اللفظ يكتسب حسناً من معناه الحسن؛ نتيجة العلقة الوطيدة بين اللفظ والمعنى، والكناية والاستعارة والمجاز العقلي مرتبط كلّه بهذا المجال الذي ذكرناه، وهو معبّر عن بعد إيجابي في اللغة.

ولكن البعض قد يستفيد من لفظ محبّب إلى القلوب، أو ذي قداسة وحرمة لمحبوبيّة أو حرمة محتواه، بتفريغه من محتواه واستبدال المعاني بمعاني أُخر، فضلاً عن تقنيع المعاني بألفاظ أُخرى ووضع محتوى جديد له لا يمتّ إلى الدين بصلة، كاستعمال العدالة في الظلم الخاصّ، ومن ثمّ قيل: من أجل تحريف الدين يكفي مسخ المعاني دون التلاعب بالألفاظ (٢) .

____________________

١) سورة الرعد ٧: ١٣.

٢) الاعتراضات على الشيعة في قضية البطون: =

٤٨١

كما يمكن أن يكون ذلك واحدة من حِكَم ومبرّرات حرمة التعرّب بعد الهجرة، وهو يشمل استيطان بلاد الكفر وما يسمّى بالمهجر مطلقاً، وهو الوقوع في عملية مسخ في محتوى الدين. وعلى هذا الأساس كانت أوّل مهمّة لابدّ أن ينجزها الباحث هي التأكّد من ضبط معنى اللفظ قبل أن يدخل في التفاصيل.

وواحدة من الألفاظ التي تعرّضت لهذا النوع من المسخ للمعنى كلمة الباطن و(الغيب)، حيث أصبحت تعبّر عن اتّجاه منحرف فاقد للشرعية، فوصمت اللفظتين بهذا الطابع السلبي، ومن هنا فإنّ فكرة البطن في الفكر الشيعي وإن كانت حقيقة؛ لكون أئمّة أهل البيت هم المطّلعين على اللوح المحفوظ والكتاب المبين والكتاب المكنون، ولكن بالمعنى الذي مرّ، تحديده مع العلاقة التي ألفتنا إليها بين البطن والظهر.

الفائدة الرابعة:

إنّ القضايا التي تعرّض لها موسى مع الخضر قد وقعت بنفسها له من قبل، فوضْع أُمِّه له في اليم يشبه خرق السفينة من جهة تعرّضها للغرق ولم تغرق، وقتله للقبطي، وهو لم يكن مقصوداً، يشبه قتل الخضر للغلام، واستسقائه لبنات شعيب، وعدم أخذه الأجرة مع جوعه وضناه الشديد على ذلك، كإصلاح الحائط

____________________

= ١ - توسعة مع إغراق في الجانب الغيبي للأئمّة؛ وذلك لاستحكام الجانب الحسّي المادّي لأصحاب الاعتراض.

٢ - تطبيق الظاهر على الغيب بغرض التناسب بينهما بالشكل الذي مرّ؛ وذلك لحصر أصحاب الاعتراض الشريعة ومعارف الدين في ظاهر الألفاظ وإنكار العملي غير اللساني للتأويل الحقّ.

٣ - تصوير المنظومة الهرمية وأنّ قطبها الإمام عليه‌السلام ؛ وذلك لحصر أصحاب الاعتراض آليات وأدوات الإدارة والتدبير للنظام البشري بما يكون على السطح المعلن الرسمي.

٤٨٢

من دون أخذ الأجرة مع جوعهما. فهذه الأُمور الثلاثة التي حصلت للخضر كانت قد حصلت له مثيلاتها ممّا يكشف عن موازاة بين ما وقع لكلّ منهما.

وهذا مصداق لما قيل في بحوث المعرفة؛ من أنّ كلّ إنسان في كلّ حادثة تقع له تكون مورداً لاستغرابه قد وقعت له حادثة شبيهة لها من قبل ولم يستغرب منها؛ لأنّه كان عارفاً بأسبابها آنذاك، ولكنّه غفل عنها عند الاستغراب الآن، بل كلّ ما سيقع للإنسان في مستقبل أيامه وفي البرزخ وعرصات يوم القيامة كلّها يندرج في قوله تعالى: ( هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) (١) .

وقد ظهرت تفسيرات متعددة لهذه الموازاة:

أوّلها: تفسير أهل المعنى والذوق.

أن يُري اللَّه تعالى عباده أنّ سرّ القدرة هو تكرّر ما يجري في السابق على أساس وحكمة.

وثانيها: تفسير المفسّرين.

لأجل إعلام موسى أنّ علمه محدود وأنّ الإحاطة الكلّية محجوبة عنه. وهذا التفسير مقبول على شرط أن لا يتنافى مع العصمة.

ولكن كلا التفسيرين ناقصان، ومن ثمّ نقدّم تفسيراً ثالثاً مقتبساً من القرآن متمّماً لهما، وهو:

إنّ هناك تطابقاً بين عالم القضاء والقدر والإرادات التكوينية، أي بين السنن الكونية الإلهية، وبين الشريعة بحسب الظاهر، وأنّهما جميعاً تسعيان لغاية واحدة ولا تتخلّف في الجميع.

ومن ثمّ يفهم قوله تعالى: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (٢) وقوله تعالى: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٣) ،

____________________

١) سورة البقرة: ٢٥.

٢) سورة البقرة: ٩.

٣) سورة الأنفال: ٣٠.

٤٨٣

ورتّب على ذلك ما في قوله تعالى: ( لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّى‏ءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ ) (١) . إذ يتصوّر هؤلاء أنّهم نقضوا إقامة الشريعة الظاهرة بمكرهم ودسائسهم، فأجابهم القرآن بأنّ عملهم هذا وإن كان رأس فتنة الشرّ ومكرهم تكاد تزول الجبال منه، كما هو الحال في شر إبليس، إلاّ أنّه في مجموع نظام الخلقة يصبّ في تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة من دون أن يشعروا، إذ الإرادات التكوينية تأخذ مجالها نحو غايتها، وهي في نفسها غاية الشريعة بحسب الدرجتين، وهذا لا يعني نفي شرّية عملهم ولا نفي شرّية إبليس ولا مشروعيته، إلاّ أنّ الباري تعالى يوظّفه في منظومة الخير كما هو الحال في العقرب، والأفعى، والذئب.

وهذا العالم هو عالم القضاء القدر والإرادات التكوينية قد يعبّر عنه بعالم الملائكة كما في لغة القرآن، وقد يعبّر عنه بعالم العقول والنفوس الكلّية كما في لغة الاصطلاح الفلسفي، حيث جعل العقل الأخير والعقول التي قبله تعبيراً عن القضاء، والنفس الكلّية تعبيراً عن لوح القدر، وقد يعبّر عنه بعالم الأنوار والأرواح والنفوس، مع مغايرة الثالث للثاني بأنّه أدنى درجة، كما استقرّ عليه الاصطلاح عند أهل المعرفة، أخذاً له من الشرع، وهو عالم الولاية.

وهذا العالم ذو درجات متسلسلة تكويناً، وقد عبّر عنه الفلاسفة بالنظام العليّ والعلمي، ونظام الوجوب والعلم، مع استثناء لوح القدر حيث لا يكون مبرماً.

وقد لوحظ على الحكماء بأنّ فهمهم وإحاطتهم بهذه العوالم محدودة، ومن ثمّ لم يعكسوا لنا إلاّ صورة نظام جامد يفتقد الحياة، ومن ثمّ لم يتفاعل الناس معهم كما تفاعل مع الأنبياء والأوصياء ومن بعدهم أهل المعنى، حيث قدّموا صورة مفعمة بالحياة لتلك العوالم، وأعطوا صورة عنها بأنّها موجودات حية مختارة، مع

____________________

١) سورة فاطر: ٤٣.

٤٨٤

حفظ الفارق أيضاً بين تصوير العرفان والدين، في حين لم يتمكّن الحكماء إلاّ بتقديم كلّيات تؤمن حالة من المعرفة من بعيد لا أكثر. والمتكلّم اعتمد على الحسن والقبح وفيه حيوية العقل العملي، ومن ثمّ كان واحداً من امتيازاته.

وبعبارة أُخرى: إنّ الفلاسفة وإن قبلوا أنّ الملائكة موجودات حيّة مختارة، ولكنّهم في الوقت نفسه قالوا بأنّها أسباب تكوينية لا تتخلّف، مع تركيزهم على هذه الزاوية في عموم كلماتهم، ومن ثمّ فسّروا الأمر في: ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ) (١) ، و ( هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٢) والأمر بالسجود لآدم، بأنّها ليست أمراً اصطلاحياً، وإنّما بالأسباب التكوينية التي لا تتخلّف، وهي لفتة صحيحة وغير صحيحة بمعنى آخر!

فهي صحيحة: من جهة أنّه ليس هناك أوامر اعتبارية وإنشاءات وشريعة ظاهرة.

وهي غير صحيحة: من جهة أنّها أوامر حقيقية، فلا مبرّر لتأويلها بالسبب الموهم لانعدام الاختيار، وإن كان الفلاسفة لا ينفون الاختيار، وإنّما هي شريعة كونية في الإرادات الإلهية التكوينية، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إنّ حكم اللَّه في أهل السماء والأرض واحد) (٣) ، فهم مختارون حقيقة، وإمكان المخالفة موجودة وباب التكامل مفتوح، فقد ورد أنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً.

نعم: المخالفة لا تكون بالمعصية؛ فإنّ القرآن صريح في أنّهم لا يعصون، كما أنّهم لم يتوفّروا على داعي المعصية - كما جاء في الحديث الشهير - وهي الشهوة

____________________

١) سورة التحريم: ٦.

٢) سورة الأنبياء: ٢٧.

٣) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.

٤٨٥

والغرائز الحيوانية، وإنّما تتحقّق المخالفة بترك الأولى الناشئ من محدودية العلم بسبب محدودية وجودهم، فيقعون في مخالفة الواقع الأوّلي.

وتصوير إمكان المخالفة في عالم النفوس الكليّة أوضح، حيث إنّها تحتاج إلى تأمّل ورَويّة في أخذ قرار العلم، بالإضافة إلى محدودية الوجود واختلافها في درجة العلم مع الملائكة التي من سنخ العقول.

وبهذا العرض يمكن أن نفهم اعتراضهم (أتجعل فيها) ، وقضية (فطرس) وعشرات الروايات التي يظهر منها تخلّف الملائكة عن الصواب، لكن بنحو ترك الأولى لا المعصية، بل إنّ الموجود كلّما تجرّد كلّما كان أقوى وجوداً وصفة ومنها الاختيار والحياة، فالملائكة أشدّ اختياراً وحياةً، ومع تصوير القدرة البشرية لابدّ أن تكون هذه القدرة موجودة هناك وبنحوٍ أرقى وأشدّ.

وبعد كلّ هذا يتّضح أنّ فكرة الأمر والنهي متصوّرة في عالم الملائكة بشقّيه العقلي والنفسي، فلا داعي للتأمّل، بل بهذا العرض يتبين الوساطة في الفيض، وفي قوس النزول أيضاً علّة اختيارية، ما به الوجود لا ما منه الوجود؛ فإنّه خاصّ به تعالى. وقد قرّر ذلك في مباحث الفلسفة أيضاً، إلاّ أنّ نمط البحث العقلي النظري لا يترقّى في تصويره إلى بيان أنّ نظام الأسباب في حين كونه نظام وجوب؛ فهو بأفعال اختيارية تنفيذاً للأمر الإلهي.

ويتّضح أنّ المطلب الذي أوقع البحث العقلي في التقريب الناقص للموضوع، وإلى حدٍّ قد ينعكس منه الجبر وأنّ القضية ذات نظام ذاتي لا يمكن الخروج عنه، نظير ما قالته اليهود من أنّ يد اللَّه مغلولة، هو اعتمادهم على لغة العقل وحده منفصلاً عن النقل.

والمؤسف أنّ البعض لم يرضَ بالنقلة الإيجابية التي خطاها صدر المتألّهين في حكمته حيث طعّمها بالقرآن والسنّة، آخذاً عليه أنّه خروج عن منهج البحث

٤٨٦

الفلسفي الذي يتطلّب التمحّض في العقليات.

ولا نقصد بذلك التفكيك في العمل بالنقل بمعزل عن العقل، وإنّما الغرض هو التنبيه على عدم الجمود على القواعد الفلسفية والعرفانية والكلامية مع ضرورة الخوض فيها، وأنّها بدونها تكون عملية التفقّه في العقائد سطحية، لكن اللازم الترقّي بالتوغّل أكثر في روايات أهل البيت؛ لاكتشاف المعارف التي قصرت المناهج عن الوصول إليها، مع أنّها مدلَّلة بنكات بينة في الروايات، لكن لم يحصل التنبّه إليها في العلوم العقلية، بل جملة كثيرة مترامية من المسائل لم تعنون في البحوث العقلية.

وبعد كلّ هذا، اتّضح نظام عالم الملائكة وأنّه مختار ومتكامل ومعصوم، ووقوع المخالفة لإرادة المولى بنحو ترك الأولى بسبب الجهل الممكن تلافيه، ومن ثمّ أمكن تعقّل الأمر والنهي الحقيقيين فيه، وأنّه لا يختلف عن البشر إلاّ في قضية الشهوة والغرائز، ويشترك معه في باقي الخصوصيات. وهذا ما يستفاد من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام - في بيان أمر اللَّه الملائكة بالسجود لآدم وإباء إبليس -: (فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ على اللَّه بمثل معصيته؟ كلاّ، ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمرٍ أخرج به منها ملكاً، إنّ حُكمَه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين اللَّه وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حِمىً حرّمه على العالمين) (١) .

فصريح كلامه عليه‌السلام أنّ الأحكام الإلهية بحسب دائرة الدين واحدة لأهل النشأة الأرضية والنشآت الأُخرى، فدين اللَّه واحد في العوامل وليس يخصّص بدار الدنيا، وكلامه عليه‌السلام يشير إلى قوله تعالى: ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) (٢) .

____________________

١) نهج البلاغة، الخطبة القاصِعة.

٢) سورة آل عمران: ٨٣.

٤٨٧

ومن ثمّ نقول: إنّ هذا النظام الملائكي قد كلّف بشريعة مطابقة لشريعة السنن الإلهية الكونية والظاهرة، بعد التذكير بأنّنا قد انتهينا من تصوير الشريعتين الظاهرة والكونية في نظام التكوين، بأنّها شريعة واحدة والوسيلة في التلقّي والتطبيق مختلفة، بيان ذلك:

إنّ الشريعة الظاهرة عبارة عن صفحة نازلة قد دُوّن فيها كلّ ما في عالم التكوين في قوس الصعود والنزول ونشأة الدنيا وهي الواقعة بين القوسين، نهاية الأوّل وبداية الثاني، وبهذا التصوير يفهم قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (١) ، فإنّه يدلّ بوضوح على عدم وجود شرعة أجنبية عن شرعة الظاهر.

وبهذا نصل إلى نتيجة وهي: إنّ القضايا التكوينية التي واجهها موسى قبل لقائه بالخضر المشابهة للقضايا التي شاهدها مع الخضر، أيضاً مطابقة لشريعة الظاهر بنفس البيان، سوى أنّ القضايا التي واجهها موسى أوّلاً حديث ضمن المسار التكويني، والتي واجهها ثانياً مع الخضر حدثت على أساس الشريعة الكونية.

الفائدة الخامسة:

إنّ الأئمّة عليهم‌السلام يطبّقون الشريعة الكونية في السنّة الإلهية التكوينية ويعملون بموازينها جنباً إلى جنب عملهم بالشريعة بدرجة الظاهرة.

وبتعبير آخر: إنّ الأئمّة في تطبيقهم للشريعة الظاهرة يستخدمون كلتا الوسيلتين: العلم اللدنّي والعلم الحسّي، ويشهد لذلك تعليلهم لبعض القضايا بعلم القضاء والقدر، مثل: (شاء اللَّه أن يراهنّ سبايا).

وشاهد آخر: إقدامهم على ما يعلمون، كالإقدام على القتل، فإنّ تفسيره

____________________

١) سورة النحل: ٨٩.

٤٨٨

الصحيح هو العلم اللدنّي، حيث كان استشهادهم بعد إجراء قانون التزاحم بين الملاكات الكاملة أولى (١) .

وظهر أيضاً: أنّ مهمّة الهداية الإيصالية لا تخصّ الملائكة - كما يظهر ذلك من العامّة - بل تعمّ قسماً من البشر الذين يتمتّعون بمواصفات خاصّة، بل يظهر من القرآن أنّهم أكمل من الملائكة. وظهر كذلك أنّ الإمامة غاية النبوة وأنّ الهداية الإيصالية غاية الهداية الإرائية.

وهذه النكتة هي المحور الأصلي في القصّة، بقرينة أسى النبي الذي ورد في أوّل السورة: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ) (٢) ، فكانت قصّة الخضر وغيرها لتطمين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الهداية الإيصالية موجودة وبواسطتها ستتحقّق الأغراض المجموعية والفردية للشريعة الظاهرة.

فإنّ الإرادة الإلهية لمّا كانت تعني بالتحفّظ على أغراض الشريعة الكلّية في الجزئيات التفصيلية بالنسبة إلى عموم المجتمع، وبالأغراض التي تعدّ استراتيجية بالنسبة إلى الشريعة الظاهرة، كما نلحظ ذلك في قضية الخضر، فإنّه يدلّ بالأولوية

____________________

١) نحن لا نرمي بأطروحتنا هذه التفكيك والعمل بالنقل بلا أُصول وبمعزل عن العقل، وإنّما أردنا التنبيه على عدم الجمود على قواعد الفلسفة والعرفان والكلام، مع قبول فائدتها لتكون عملية التفقّه في العقائد تامّة، وإنّما لابدّ من الترقّي بالتوغّل أكثر في الكتاب وروايات أهل البيت لاكتشاف معارف قصرت المناهج تلك من الوصول إليها، وهي مستمدّة ومعتمدة على قواعد بديهية في الروايات لم يتنبّه إليها في الفلسفة، بل قد تدفع إلى إعادة النظر في تلك القواعد كالحركة التكاملية في المجرّدات.

فلا معنى للجمود على قواعد نظرية قد تكون مترامية في نظريتها، وتأويل ما هو بديهي‏ ونصّ في الروايات من أنّ هناك حركة اختيار ومخالفة الأمر في عالم الملائكة.

٢) سورة الكهف: ٦.

٤٨٩

على أنّ الإرادة الإلهية والهداية الإيصالية لا تهمل ما كان بالغ الأهمّية في الشريعة الظاهرة كالشؤون المرتبطة بالدولة والحكم وهداية المجموع.

الخلاصة:

وهذا استعراض لأهمّ المحاور التي وردت في هذه الآيات الكريمة:

المحور الأوّل: وجود تشكيلة من أولياء اللَّه الذين اختارهم اللَّه حججاً على عباده يقومون بدور وظّفوا له ومن وراء الستار، وقد جاء في سورة الكهف (١) ذكر مواصفاتهم.

المحور الثاني: إنّ الإمامة غاية النبوّة، وقد جاءت القصّة لتؤكّد هذا الأمر وطمأنة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الهداية الإيصالية ستتكفّل تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة والهداية الإرائية التي قام بها الرسول الأعظم على أكمل وجه.

المحور الثالث: هناك قسم آخر من الحجج وراء الرسالة والنبوّة والإمامة، والذي تمثّله الزهراء عليها‌السلام ومريم عليها‌السلام والخضر عليه‌السلام مع حفظ الفارق، وقد أشارت الروايات (٢) إلى هذا القسم.

المحور الرابع: وجود شريعتين ظاهرة وكونية في الإرادات ومن دون بينونة بينهما.

المحور الخامس: الملاك والحكم في الشريعتين أو درجتي الشريعة واحد، إنّما الاختلاف في وسيلة الإحراز والإنفاذ.

المحور السادس: التزاحم الملاكي ظاهرة غالبة في الشريعة الكونية، وحلّه هو ترجيح أحد الملاكين الأهم، يتمّ بواسطة العلم اللدنّي بعد مقايسة بين الملاكين ولكن لا بحدود ضيقة مقطعية.

المحور السابع: إنّ الملائكة في قوس النزول مخاطبون ومكلّفون بالدين

____________________

١) سورة الكهف: ٤٥.

٢) البحار، ج٢٣، باب أنّ الأئمّة محدّثون.

٤٩٠

والشريعة في السنن والإرادات الإلهية الكونية، بعد أن كانت لهم إرادة واختيار وتكامل، ممّا يمكن به تعقّل التكليف والطاعة والمخالفة، مع قبول عصمتهم وأنهم لا يعصون اللَّه ما أمرهم، مع الالتفات إلى تبعيتهم في الدين للأنبياء والرسل الذين لهم مقام الإمامة وخلافة اللَّه في الأرض، كما أسجدهم الباري تعالى لآدم، والذي يهدف إلى خضوعهم وتبعيتهم لخليفة اللَّه في أرضه، هذا بعد أن كانت شرائع الأنبياء مشتملة على قوس النزول والصعود والفروع.

وبعبارة أُخرى: أنّ الشرائع التي بُعث بها الأنبياء وإن كانت مختصّة بأهل الأرض من الإنس والجنّ لكنّ الدين المتّحد بين الأنبياء فهو عامّ لأهل السماء والملائكة، كما أنّه عامّ لكلّ النشآت والخلائق.

المحور الثامن: ولاية كلّ نبيّ ورسول مقامٌ أرفع من نبوّته وإمامته، ولكنّ النبيّ أرفع مقاماً من الوليّ الحجّة المعاصر له؛ حيث كان الأوّل محيطاً بالإرادات الكلّية والثاني بالجزئية، فهو تابع للأوّل.

المحور التاسع: إلفتنا لأقسام التأويل، وفرق الباطن عن الظاهر، وفرق الشريعة الكونية عن الظاهر، ولمّا كان الأوّل مأخوذاً فيه الانتهاء والرجوع أمكن أن نضع إصبعنا على الجامع بين الأقسام: إنّ كلّ عالم سابق له تأويله في اللاحق.

ونضيف: أنّ هناك عكس التأويل، فعالم الذرّ والميثاق يفسّران العديد من الظواهر التي تجري لأشخاص في النشأة، وبتعبير أوضح: كما أنّ النشأة اللاحقة تأويل للسابقة، كذا السابقة لها نوع تفسير لِلاّحقة، وهذا هو الذي أشارت له أخبار الطينة: (لو علم الناس كيف خلق اللَّه تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلم أحدٌ أحداً...) (١) وكذا روايات الذرّ والميثاق.

____________________

١) الكافي، ج٢، ص٤٤.

٤٩١

المحور العاشر: إنّ الهداية الإيصالية هداية المجموع والجميع؛ فإنّها كما تُعنى بالأغراض المرتبطة بالمجموع البشري كذا تُعنى بأغراض كلّ فرد بل حتّى الواسطة.

النموذج الثاني القرآني: قصّة ذي القرنين.

سيتمّ الإلفات إلى المحاور التالية:

١ - مرتبة ذي القرنين.

٢ - القوّة التي مُنحت له.

٣ - التدبير الإلهي لجزئيات وتفاصيل المجتمع البشري في قصّة ذي القرنين.

٤ - ربط القصّة بالمحور الأصلي في سورة الكهف.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ ) ، ظاهر في أنّ قصّة ذي القرنين شائعة لدى الأقوام، وأنّ الرجل وقصّته حقيقة تاريخية عاشتها البشرية.

قوله تعالى: ( سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ) ، ظاهر في أنّ القرآن لا يروي كلّ تفاصيل القصّة، وإنّما يقتصر على بعض ملامحها.

قوله تعالى: ( إِنَّا مَكَّنَّا ) تعريف بشخصيّة الرجل كما في قصّة الخضر حيث ابتدأت بالتعريف به، وهذا التمكين هبة وأنّ التمكين هاهنا تمكين لدنّي. والتمكين لا يطلق على المُلك اليسير وإنّما على الملك الواسع العظيم، ومن ثمّ ذكر ذلك في سورة يوسف والآيات الواردة في نشأة المهدي عليه‌السلام في جانب الخير، وفي عاد ونمرود في جانب الشرّ.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَبًا ) ، لا سبب كلِّ شي‏ء، ولكن مع كون (من) تبعيضية إلاّ أنّها دخلت على (كلّ شي‏ء) ، ومن ثمّ شكّل هذا الإعطاء ميزة وخصوصية لذي القرنين؛ لأنّ (كلّ) تفيد

٤٩٢

العموم، ومدخولها في غاية الإبهام والعمومية.

قوله تعالى: ( سَبَبًا ) ، لم يُستعمل في القرآن في غير ذي القرنين، نعم ذكرت منفية عن غيره، مثل: ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ ) (١) ، و ( لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ ) (٢) ، و ( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) (٣) . والسبب في اللغة: كلّ شي‏ء يقتدر به على شي‏ء آخر، سوى أنّه في القرآن استعمل في الوسيلة غير المتعارفة.

وهذا الإعطاء حَبوة إلهية ومنحة، وهي القدرة اللدنّية؛ بقرينة أنّه لم يذكر لغيره، وأنّه أردف الإتيان بالسبب، وأنّ ذا القرنين من الأولياء الحجج كما سيأتي، وأنّه قد استعملت فيه نفس التعبيرات المستعملة في سليمان.

ثمّ إنّ المراد من السبب في عالمنا - كما يظهر من الروايات وجاء في كلمات الحكماء والمتكلّمين - المعدّ، لا سيّما في عالم المادّة، لا الفاعل ومعطي الوجود؛ فإنّه منحصر به تعالى، فهو ما منه الوجود وغيره ما به الوجود.

ويترتّب على ذلك أنّ كلّ المعادلات والقوانين في هذا العالم لا ضرورة بتّية فيها بعد أن لم تكن الظواهر من الأسباب سوى معدّات تعدّ القابل وتهيئه لاستقبال الفيض الإلهي، بل ليس معدّات عالم الطبيعة هي تمام المعدّات، بل توجد معدّات أُخرى ملكوتية فضلاً عن الأسباب الفاعلية، لا سيّما أنّ بعض الأسماء الإلهية تقتضي بعض المعدّات التي لا نعلم بها.

وبه يمكن تفسير جملة من التخلّفات مثل: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٤) ، ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ... ) .

والواو فيها استئنافية، فيكون المفاد أنّه بالإضافة إلى تمكينه - الذي قُيّد بـ (في

____________________

١) سورة ص: ١٠.

٢) سورة غافر: ٣٦.

٣) سورة البقرة: ١٦٦.

٤) سورة الأنبياء: ٦٩.

٤٩٣

الأرض) - الإيتاء وهو المنسجم مع عمومية التعبير الذي سبقت الإشارة إليه، وهو الظاهر من الروايات حيث ذكرت أنّها من أسباب السماوات والأرض، بل الظاهر من الروايات أنّه أوتي ملكوت السماوات والأرض، حيث جاء التعبير بـ (كشط له).

( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) من تلك الأسباب.

( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) سار بالأسباب التي زوّد بها، وقد ذكرت الروايات أنّه كان يسير في فتوحاته بالزئير.)مغرب الشمس(إشارة إلى أقاصي الأرض، وقد يقال بأنّ رحلته فضائية في السماء كما مرّ إشارة الروايات إلى أنّ الأسباب التي أوتيها سماوية وأرضية وأنّه (كُشط له).

قوله تعالى: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) ، خطاب مباشر منه تعالى لذي القرنين، ومن ثمّ قيل إنّه نبيّ، ولكنّه خلاف ظاهر القرآن حيث لم يصفه بالنبوّة ولا بالبعثة والرسالة، مع أنّه في مقام الإجابة عن التساؤل عن الغموض في حال ذي القرنين.

وهذا هو الظاهر من الروايات أنّه محدّث، كما يلاحظ ذلك في أجوبة الأئمّة عليهم‌السلام عندما كانوا يُسألون عن علمهم فكانت الإجابة أنّه كصاحب موسى وذي القرنين، أي ليست علومهم بنبوّة، ولكنّه علم لدنّي معصوم، والوحي المباشر لا يعني النبوّة وإنّما التشريف والحظوة في الاصطفاء، نظير: ( يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

____________________

١) سورة آل عمران: ٤٥ - ٤٧.

٤٩٤

قوله تعالى: ( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا ) ، تدلّ على أنّ الحاكمية - القيادة السياسية والقوّة التنفيذية - أوّلاً وبالذات هي للَّه تعالى، وكلّ حاكم عداه سواء كان نبياً أو وصياً أم غيرهما من الحجج المصطفين، فحاكميته في طول حاكمية اللَّه تعالى. حيث يظهر من الآية أنّ هذا التخيير الإجرائي والتدبير السياسي التفصيلي منحه اللَّه لذي القرنين، ممّا يدلّل على أنّ الحكومة السياسية التنفيذية بيده تعالى، ولم تفوّض للبشر بمعزل عن اللَّه، كما عليه أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. والقيادة السياسية شعبة من شعب الهداية الإيصالية كما سيأتي توضيحه.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) ، والحديثُ الحديث، مع دلالتها على أنّ ذا القرنين كان معنياً بتدبير عدّة مجتمعات وفي مجالات متعدّدة.

قوله تعالى: ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) ، ممّا يكشف أنّهم كانوا في تخلّف مدني حتّى على مستوى الضروريات والأولويات، وقد كُلّف ذو القرنين برفع هذا التخلّف. والروايات أيضاً تدلّ على أنّ من مهام الإمام والولي الحجّة هو رفع هذا النمط من التخلّف، كما في تصدّي الإمام الباقر عليه‌السلام في حساب المسافة في قضية البريد وصكّ النقود، وتصدّي أئمّة أهل البيت لتأسيس جملة من العلوم، كما هو شأن الأنبياء السابقين حيث جاءوا للبشرية بأُسس العلوم (١) ، وهذا مقتضى العناية الإلهية بعد أن كانت لضروريات العيش مدخلية في التكامل الروحي للأُمّة.

قوله تعالى: ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) يدلّ على إحاطة الربّ تعالى بتفاصيل ما يجري وأنّها محور عنايته واهتمامه، فكان كلّ ما يجري تحت نظره.

وبعد اتّضاح الصورة في ملامح ذي القرنين يمكن أن نخرج ببعض النتائج التالية، وهي:

____________________

١) لاحظ كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، للسيد حسن الصدر.

٤٩٥

أوّلاً: إنّ تمكينه في الأرض لأجل استصلاح المجتمعات البشرية وإيصالها إلى الكمال المنشود ببناء حضارتهم ومدَنيتهم بالقدر اللازم، وإرساء العدل، وإفشاء الصلاح ورفع الظلم عنه، كما يبدو ذلك من النماذج التي تعرّض لها القرآن من حياته.

والقرآن - كما ذكرنا سابقاً - يتناول التعريف بالحياة الشخصية للرجالات والأُمم السابقة كسنن إلهية، ويركّز على المحاور ذات العبرة التي تساهم في رسم العقيدة والشريعة، والروايات حدّثتنا عن جملة من الأبعاد الشخصية لهؤلاء.

وما ذكر من ملك ذي القرنين الذي مُكّن منه مع النماذج التدبيرية التي قام بها، تلحظ أنّها وثيقة الصلة في سورة الكهف بالمحور الأصلي وهي طمأنينة الرسول بأنّ الهداية الإيصالية، وهي مقام الإمامة، أنّها هي التي ستحقّق أهداف الرسالة، والهداية الإرائية التي هي مقام النبوّة.

قوله تعالى: ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) ، تخلّفهم أكثر من القوم الذين التقى بهم سابقاً.

ثانياً: قوله تعالى: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) ، مع أنّ ذا القرنين أوتي كلّ ما سبق وأنّه منصوب من قبل اللَّه تعالى وفي الوقت الذي زوّد بتلك القدرة اللدنية وقد ملك فيها الدنيا، إلاّ أنّه يطلب الإعانة، ممّا يعني أنّ الغرض الإلهي لا يتحقّق بالإلجاء، وإنّما لابدّ للأُمّة أن تنهض بمسؤوليتها، في الوقت الذي منّ اللَّه عليها بالهداية الإيصالية أي بنصب الإمام لهم.

ومن هنا أمكن أن نفهم توجيه الخطاب بالحكم ووظائف الدولة للأُمّة، وأنّه لا يعني أنّ الولاية بيد الأُمّة كما فهمه البعض، كما لا يعني أنّ الأُمّة مرفوع عنها المسؤولية تماماً في هذا المجال، وإنّما تعني أنّ هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأُمّة تجاه الحكم والوالي، وهي الإعانة والتجاوب والطاعة، حيث لم تكن سنة اللَّه الإلجاء وكن فيكون في نشأة الدنيا، وبالتالي اليد الواحدة - يد الوالي - لا

٤٩٦

تصفّق، كما في المثل، فنصب الإمام من اللَّه للناس لا يعني إسقاط التكليف عن الأُمّة بنصرته وتمكينه وإقداره من قبلهم، فهناك تكليف مُلقى على عاتق الإمام كما أنّ هناك تكليف مُلقى على عاتق المأمومين وهم الأُمّة.

ثمّ تستعرض الآيات تفصيل بناء السدّ للدلالة على أنّ الأولياء يعملون بالأسباب الظاهرية، على العكس من توقّع الناس أن يكون سيرة ولي اللَّه فيهم كلّها بالإعجاز وخرق الأسباب.

قوله تعالى: ( رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) في حال أنّ بناء السدّ كان من خلال الأسباب الطبيعية، ولكن لم تكن تلك الأسباب مكتشفة آنذاك، ومن ثمّ كان رحمة، حيث اطّلعوا على بعض أسرار الطبيعة.

فتلخّص:

أوّلاً: إنّ هناك قدرة لدنية، زُوّد بها ذو القرنين، وملكاً عريضاً، ربما كان أوسع من ملك سليمان.

وثانياً: وكان برنامجه استصلاح الأقوام البشرية المغلوبة والمتخلّفة والمتناحرة، فأفشى العدل في قوم، وهيّأ ضروريات المدنية لآخرين، وبنى السدّ لثالث.

وثالثاً: وبأسباب طبيعية كُشفت لهم.

ورابعاً: مع نفي الإلجاء وحفظ دور الأُمّة ومسؤوليتها.

وقد ألفت القرآن إلى كلّ هذا في حياة هذا الولي؛ لرفع أسى صلى‌الله‌عليه‌وآله وطمأنته بأنّ الأغراض التي على أساسها كان التشريع ستحقّق من خلال الهداية الأمرية في إمامة الأُمّة، كما قال تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة ) (١) .

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٣.

٤٩٧

النموذج الثالث القرآني: قصة أصحاب الكهف

وهذه السورة متميزة ببحث الإمامة بنحو مركّز جدّاً، ولو سمّيت بسورة الإمامة لكان حرياً، لا سيّما وأنّه ذكر نموذج رابع فيها وهو استخلاف آدم كخليفة للَّه في الأرض، وإطواع جميع الملائكة له، وهذه الواقعة برمتها عنوان كبير لمعتقد الإمامة، فسلسلة البحث في كلّ هذه السورة يدور حول الوصول إلى أهداف الرسالة وغاياتها بتوسّط الإمامة، وأصحاب الكهف وإن لم يكونوا حججاً مصطَفين، إلاّ أنّ الحديث عنهم له صلة بالإمامة من جهة صلة هدايتهم بالهداية الإيصالية، وهي الإمامة عبر قناة الروح لا عبر قناة الهداية الإرائية وهي النبوّة الظاهرة والسماع بالحسّ.

قوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ ) ، بيان أنّ عالمنا عالم الامتحان، فلا إلجاء ولا جبر، كما في قوله تعالى: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (١) ، وإنّما اختيار واختبار، كما في قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) (٢) .

وقد توسّطت هذه الآية بين آية ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ... ) وقصّة الكهف؛ للتنويه على أنّ الهداية الإيصالية وإن كانت متحقّقة في إمامة الإمام إلاّ أنّ المسؤولية ما زالت قائمة على الأُمّة، ولابدّ أن تخطو باختيارها نحو الكمال ومن اللَّه التسديد والتأييد.

ثمّ إنّ سورة أهل الكهف مكّية، نزلت إثر محاولة قريش إحراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما استعانت بثلاثة أرسلتهم إلى نجران للتوفّر على مسائل معقّدة يعجز عن الإجابة عليها، فكانت: أهل الكهف، وصاحب موسى، وذو القرنين. وقد قال علماء نصارى ويهود نجران: إنّ محمّداً إن أجاب عنها فهو نبيّ وإلاّ فلا، ثمّ طلبوا سؤاله برابعة إن

____________________

١) سورة الغاشية: ٢٢.

٢) سورة تبارك: ٢.

٤٩٨

أجاب عنها فهو ليس بنبيّ، وهو: عن الساعة ومتى هي؟

وتذكر الرواية أنّ الرسول أوعد بالإجابة غداً من دون تعليق وعده على المشيئة الإلهية فحُبس عنه الوحي أربعون يوماً، فاغتمّ وحزن كثيراً، وكذا حزن عمّه أبو طالب عليه‌السلام حتّى نزل الوحي بالإجابة.

والملفت للنظر ترابط هذه القصص الثلاث في فكرة الهداية الإيصالية التي هي حقيقة الإمامة، مع أنّ اليهود اختاروها على أساس من المسائل الصعبة لا أكثر.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتَ ) ، لا دلالة في السورة على أنّ أصحاب الكهف أولياء وحجج، وإنّما هم من القسم الخامس وهو الأولياء غير الحجج، وقد شُرّفوا بمقام أوجب ذكرهم.

قوله تعالى: ( الرَّقِيم ) ، في الروايات أنّ أسماءهم مرقومة في لوح من رصاص، رقّمها الملك الكافر الذي كان يريد قتلهم، أو الذي عرفهم بعد إفاقتهم فرقّم أسماءهم على هذا اللوح ووضعه على قبورهم بعد موتهم.

( أَمْ حَسِبْتَ ) تدلّ على أمرين:

الأوّل: البعث والمعاد كما سنبين.

والثاني: إنّ الغلبة للَّه تعالى، وإن أغراضه ستتحقّق، فهؤلاء مجموعة غلبت على أمرها من رواد الباطل وعلى رأسهم المَلك آنذاك، إلاّ أنّ الدائرة دارت عليهم فانقرضوا وبقيت تلك المجموعة المستضعفة خالدة تشكّل نبراساً للحقّ.

وارتباط هذا البعد بالمحور الأصلي واضح، وأنّه مهما حصل وفعل أهل الباطل، ومهما قويت شوكتهم فلن يعيق تحقّق الغرض الإلهي، فإنّ المغلوب ظاهراً غالب باطناً، أي في الخفاء والمآل.

ومن ثمّ يفهم السرّ في ترديد الرأس الشريف المقطوع للحسين عليه‌السلام المشال على رأس الرمح لهذه الآية المباركة وهو يُطاف به في بلدان أُمّة الإسلام.

٤٩٩

والروايات تشير إلى هذا المضمون.

قوله تعالى: ( الْفِتْيَة ) أشرنا ويأتي تفصيل أنّ هؤلاء ليسوا من الأولياء الحجج، وقصّتهم معجزة. ومن ثمّ نفهم أنّ المعجزة ذات طابع الرحمة تكشف عن شرف من تقوم فيهم وعلوّ مقامهم.

هذا في المعجزة الرحمة، والعكس بالعكس، فالمعجزة العذاب كالقمّل، والضفادع، والدم، تعبّر عن ذلّة من قامت فيه المعجزة وخسّتهم.

كما أشرنا إلى أنّ هؤلاء الفتية صاروا عظة وعبرة وقدوة للبشرية، ممّا يؤكّد أنّ مقامهم وإن لم يصل حدّ الحجّية إلاّ أنّه مقام رفيع ومكانة مرموقة في مجال التكامل المعنوي، ومن هنا جاء في الدعاء: (اللهم إنّي أسألك بكلّ عبد امتدحته فيه)، أي في القرآن. ولم يقتصر القرآن في ذكر هذا النمط من البشر على أصحاب الكهف، وإنّما ذكر آخرين، كمؤمن آل فرعون.

قوله تعالى: ( إِذْ أَوَى ) ، ظاهر في نوع الإلجاء والاستجارة، ويؤكّد ذلك طلبهم الرحمة الخاصّة من اللَّه تعالى، ممّا يكشف عن عمق محنتهم.

قوله تعالى: ( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) ، عبّرت عن كلا الطرفين بالحزب، مع أنّ أهل الكهف قلّة جدّاً، ممّا يدلّ على التفخيم، وأنّهم يمثّلون خطّاً هو خطّ الهداية.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ) ، النوم نوع من التُوفّي كما أشار إليه القرآن الكريم، ونظير البعث الإيقاظ من النوم للتعريف بالأطول بقاءً، والتدليل على أنّ الهداية الإيصالية لا تتخلّف، وهذا هو البعد المرتبط بالمحور الأصلي.

وفي الروايات بيّن هدف بعثة أصحاب الكهف من رقدتهم بأنّه: دحض دعوى الكافرين حيث كانوا ينكرون المعاد، كما يشير إليه قوله تعالى: ( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592