الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133694
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133694 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ) (1) .

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) ، هذه الآية تتعرّض لمجمل عقائدهم التوحيدية الرفيعة وحكمتهم العملية، من دون أن توجد دلالة في الآيات على تعريفهم بواحدة من الديانات المعروفة، ممّا يعني أنّ إيمانهم هذا بدافع من فطرتهم السليمة.

قوله تعالى: ( وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) ، وهي هداية خاصّة مُنحوا إياها علاوة على إيمانهم، ممّا يدلّ على رفعة مكانتهم.

قوله تعالى: ( فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ ) بداية لإنشاء مجتمع توحيدي منفصل ومستقلّ عن مجتمع الكفّار؛ لوجود التقاطع بين المجتمعين، ممّا يفرض وجود دارين: الإيمان والكفر.

قوله تعالى: ( وَتَرَى الشَّمْس... ) ، النوم وما جرى عليهم في أثنائه أُمور غير اختيارية إلاّ أنّها ممزوجة باختيارهم، وبها كانوا آية من آيات اللَّه تعالى.

قوله تعالى: ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ... ) ، لباب القصّة وحلقة الوصل مع المحور الأصلي في السورة، والهداية من دون قرينة يقصد منها الإيصالية في قبال النذارة، وذيل الآية قرينة على الإيصالية؛ لظهور الولاية في ذلك، والإرشاد وإن كان إراءة إلا أنّه ليس إراءة كلّية كما في نذارة النبوّة، بل هداية تفصيلية متولّدة من الإرادة الكلّية النبويّة في التشريع، ومن ثمّ لم يستعمل نعت الإرشاد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة مقام النبوّة.

ومرّة أُخرى نلفت إلى أنّ محور الخلاف مع العامّة هو أنّهم اقتصروا على ضرورة الإراءة والتنظير من دون الإيصال إلى المطلوب.

____________________

1) سورة الكهف: 21.

٥٠١

قوله تعالى: ( لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) ، عناية إضافية حفظاً لهم عن التلف.

قوله تعالى: ( وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا... ) ، واحدة من الأدلّة القرآنية على مشروعية التقية.

قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ... ) ، واحدة من الغايات، وهي - على الظاهر - نصر المؤمنين في الدين وقدرة الباري تعالى على بعث الأموات.

قوله تعالى: ( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا ) ، غاية أُخرى: وهي المعاد وهو امتداد الهداية الإيصالية، فإنّه يعني السير إلى اللَّه تعالى واللقاء به، وهو لا يتمّ إلاّ بواسطة الهداية الإيصالية والإيصال إلى المطلوب. ومن ثمّ كان المعاد واحداً من الأدلّة على الإمامة، فالآية تدلّ على أنّ الهداية الإيصالية تحقّق وتوفّر بلوغ الغاية في الدنيا والآخرة.

قوله تعالى: ( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا.. ) ، فيه تقرير لجواز اتّخاذ المساجد على القبور ، وجعله مكاناً إذا كان موجباً للعبرة كأصحاب الكهف، والقرينة على ذلك هي تذكير القرآن بهذا الاقتراح من بين الاقتراحات المطروحة من القوم حول أهل الكهف الذين فارقوا الحياة.

قوله تعالى: ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا... ) ، مرتبط بما ذكرناه في سبب نزول السورة ووعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إجابة الأسئلة من دون تعليق ذلك على المشيئة.

قوله تعالى: ( اللَّهُ أَعْلَمُ... ) ، لعلّه ظاهر في أنّ سنّة اللَّه أن يُبقي الولاية والهداية الإيصالية محاطة بشي‏ء من الغموض و الخفاء، فلا تكون معروفة في حينها للجميع، كما لا يتمّ التعريف بكلّ جنباتها، خاصّة النوع الأوّل والثاني المتمثّل في أصحاب الكهف والخضر.

قوله تعالى: ( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ... ) ، فهو الذي يتولّى البشر ويهديهم، والولاية مفهوم قد استبطن فيه القدرة، فالإمامة هي نافذية حكم اللَّه من دون إشراك.

٥٠٢

قوله تعالى: ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ... ) للدلالة على بالغية إحاطة اللَّه تعالى بمجريات الأُمور ومقدّراتها على صعيد الأفراد والمجموع البشري.

وبهذا ينتهي الحديث في هذه القصّة، وأهمّ ما جاء فيها:

1 - وجود هداية إرائية وإيصالية حتّى فيمن لم يتوفّر على هداية الرسول الظاهر.

2 - وجود قسم من الأولياء وذوي الشأن وراء الوليّ الحجّة، وقد وصل بعضهم إلى مقام ضرب المثل والآيتية والقدرة، كما في أصحاب الكهف، ولعلّ نظيرهم: ( وجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) (1) .

3 - إنّ المأخوذ في ماهية الهداية الإيصالية نوع من القدرة والتصرّف التكويني، ولكن من دون إلجاء، بقرينة مرشداً التي تعني الهداية الإرائية والتبعية.

4 - إنّ النصرة والظفر في الدنيا من سنن اللَّه التكوينية، ومن ثمّ يستتبّ الأمر أخيراً لحزب اللَّه النجباء.

5 - وجود ارتباط وثيق بين الإمامة وبين المعاد، وعلى أساسه يمكن فهم فكرة: (الشفاعة)، و (الحضور عند الاحتضار)، و (شهادة الأعمال)، و (قسيم الجنّة والنار).

6 - حكمة اللَّه اقتضت كتمان بعض زوايا الهداية الإيصالية، ومن ثمّ قد توجب نوعاً من الاستغراب والتعجّب عند من لم يطّلع على الأُمور ويتعامل معها بشكل سطحي، وإلى حدّ قد تصل الحالة إلى تفسير بعض الظواهر بالعبث.

7 - ( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) ، يدلّ على أنّ الذي يحقّق الأغراض هو تعالى، فلا تنحصر القضية حينئذٍ بالهداية الإرائية.

8 - مقتضيات الفطرة هي البنية التحتية للأُصول والفروع.

____________________

1) سورة يس: 20.

٥٠٣

والآيات اللاحقة تحوم حول هذه الأفكار:

أ - غايات اللَّه لا مبدّل لها، فلابدّ أنّ تتحقّق: ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ... ) .

ب - الدعوة للتمسّك بالهداية الإرائية والتي هي الخطوة الأُولى في السير والاهتداء بالهداية الإيصالية: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ... ) .

ج - أعمال الكفّار هباء وأعمال المؤمن مثمرة وإن استقلّتها الأعين: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ) .

د - كلّ سير وسلوك تحت قدرة اللَّه جلّ وعلا: ( مَثَلُ الْجَنَّةِ ) .

هـ - سلسلة المنظومة الطبيعية ذات غايات: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ) .

و - عدم النظرة المقطعية ودعوة إلى نظرة طولية: ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ ) .

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ... ) ، أذكر أيها الرسول استخلاف آدم وقد تقدّم تبيانه في الفصول السابقة، وأنّ ظاهر ألفاظ آياتها، كما هو مفاد الروايات، هو لأجل تبيان الإمامة، واتّضح فيها أنّ رائد منظومة الهداة في الإيصال إلى المطلوب هو الإنسان الكامل، وأنّ التدبير في هذا المجال لا يختصّ بالملائكة كما يتوهّم ذلك أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. هذا وأنّ سورة الكهف اقتصرت على هذا المقطع من القصّة وهو ذو الارتباط بالمحور الأصلي في القصّة.

سورة الكهف سورة الإمامة:

إلفاتة: بعد كلّ ما تقدّم من قصّة أصحاب الكهف، وبعد عرض كلّ من قصّتي موسى مع الخضر، وذي القرنين، أصبح من المناسب الإلفات إلى زاوية التناسب بين القصص الثلاث:

حيث يطالعنا القرآن في سورة الكهف في القصّة الأُولى على نموذج لم يكن نصيبهم من الهداية الإرائية أكثر من قضاء الفطرة وحكم العقل، وكأنّهم كانوا في

٥٠٤

زمن الفترة بين الرسل فلم يوَفّقوا لمعرفة الإمام والوصي الخفي آنذاك، ولكن لم يمنعهم ذلك من الاستجابة لفطرتهم وعقولهم، وإن كانت محدودة بالعمومات والأُسس العامّة الفطرية الأوّلية الإجمالية، فلم يحرموا من الهداية الإيصالية بالقدر الموازي لما عرفوه.

في حين نلحظ في القصّة اللاحقة أنّ دائرة ورقعة الهداية الإرائية أوسع من العقلية حيث اقترنت معها هداية تشريعية، فالخضر كان تابعاً لموسى ومتديناً بشريعته، سوى أنّ الهداية الإيصالية كانت خفية وبشكل غير رسمي. في الوقت الذي نلحظ أنّ ذا القرنين زُوّد بالهداية الإيصالية الكاملة:

قال تعالى: ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) .

فالأنواع والدرجات التي أَلفتَ إليها القرآن في الهداية الإرائية الثلاث، وبما أنّ اللَّه بالغ أمره في من اتّبعها، فتكون الهداية الإيصالية لكلّ درجة متناسبة معها.

وعندما ندرس خطوات الأنبياء نلحظ أنّها متدرّجة بالشكل الذي سلسلته سورة الكهف، حيث إنّ أوّل خطوة يخطوها الرسول في طريق الدعوة إلى اللَّه بإراءة الأُمور الكلّية الفطرية، ثمّ التشريعية في مرتبة ترافقها الهداية الإيصالية ذات الطابع السرّي غير المعلن، ثمّ تصل الذروة كما نشهده في قصّة موسى حيث أقام الدولة، وكذا سليمان و النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بقعة من الأرض، وتُختم جميعاً بدولة المهدي عليه‌السلام ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ، والذي كان نموذج ذي القرنين مثالاً له.

ولم يكتف القرآن بذلك كي ينبّهنا أنّ المجتمع البشري دوماً في حالة تقلّب وتغيّر في هذه الأدوار الثلاثة.

ثمّ إنّ الآيات لا تشير إلى انتماء أهل الكهف إلى شريعة خاصّة، وكما في قوله تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ

٥٠٥

بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) (1) ، على الفترة لا يعني خلوّ الأرض من حجّة كما قد يتوهّم خصوصاً من تعبيره بالفاء في الآية الدالّة على التراخي، وإنّما في كلّ عصر يوجد شريعة وهداية إيصالية، سوى أنّ هناك فترات يكون فيها المعصوم مخفياً، وإلاّ فبم نفسّر نبوّة آدم وكيف نكيفها مع الفترة مع الانسياق للتوهّم؟

وهناك روايات (2) تدلّ على أنّ الهداية الإرائية موجودة ومتوفّرة، وهي ما يحكم به العقل والفطرة العقلية في الإنسان وأنّه منجّز وأنّ الإنسان يؤاخذ عليها ويحتجّ بها عليه.

وقصّة أهل الكهف شاهد من بين شواهد كثيرة على أنّ التجاوب مع هذه الهداية الإرائية يوصل إلى الهداية الإيصالية، فلا يحرم التسديد الإلهي في الوصول إلى الكمالات المنشودة والأغراض التي أراد اللَّه من عبيده تحقيقها.

وللتذكير والإيقاظ: نلفت إلى أنّ أحكام العقل لا تغني عن الشرع؛ لمحدوديتها وعموميتها ممّا يجعلها بحاجة إلى الشرع في تنزّلها وتفصّلها، ومن ثمّ لا نلحظ في ما حدّثنا القرآن عن معارف أولئك الفتية والتزامهم أكثر من الأُسس العامّة التي وفّرها الرسول الباطن لهم، كالتوحيد وبعض الفروع الواضحة التي لا تخفى على العقل كقبح الكذب، كما أنّ القرآن لم يحدّثنا عن توفّرهم على الهداية الإيصالية أوسع مدى من هدايتهم الإرائية.

النموذج الرابع القرآني: قصّة طالوت

وتبدأ من آية (246) وتنتهي بآية (253) من سورة البقرة.

في البداية نذكّر مرّة أُخرى: إنّ منهجنا في التفسير يعتمد على الروايات التي

____________________

1) سورة البقرة: 213.

2) الكافي، ج2، ص464.

٥٠٦

وردت في ذيل الآيات مفسّرة لها، والتي يصنّف قسم كبير منها في حقل التأويل، والآخر لمعالجة الظهور الابتدائي.

وبما أنّ التأويل له صلة بمنصّة الظهور - وقد أَلفتَتْ الكثير من الروايات إلى كيفية ذلك - صرنا في صدد التعرّف على الظهور الثاني بتوسّط الظهور الأوّل ببركة الروايات.

وهناك رواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام تلفت إلى أنّ قصّة طالوت التي قصّها القرآن هي لضرب المثل للإمامة، وأنّها فيمن ولمن وممّن تكون.

ونبدأ الحديث بعرض سردي لقصّة طالوت وتجميع مفرداتها ثمّ ننتقل إلى دراستها محورياً.

قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ... ) ، الملأ لغة: وجوه القوم وأعيانهم، فإنّه بهم تملأ العين، أو مجلس البلد وندوته.

قال تعالى: ( مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى... ) ، في الروايات بعده خمسمائة سنة.

قال تعالى: ( نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... ) ، جالوت القبطي كما في الروايات وما يأتي في الآيات، حيث كان مستعمِراً لبعض أراضي بيت المقدس، ويبدو من الآية أنّهم كانوا يفتقدون الملك القوي المدبّر.

قال تعالى: ( لِنَبِيٍّ لَهُمُ... ) ظاهر في أنّه رسول؛ حيث يفترق النبيّ عن الرسول فيما إذا كان قد نبّأ لنفسه أو لأهله، وأمّا إذا كان مبعوثاً لأُمّة فهو رسول، هكذا ورد في الروايات، ومثله في الآيات: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) (1) ، نعم ليس شرطاً في الرسول أن يكون صاحب شريعة؛ إذ يمكن أن يكون تابعاً لشريعة رسول قبله، والاصطلاح القرآني في جملة من استعمالاته

____________________

1) سورة يس: 13.

٥٠٧

في القرية والمدينة ليس بالعمران والحضارة المادّية وإنّما المدنية والتحضّر بالمعرفة الأديانية.

قوله تعالى: ( ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا... ) ، ظاهره في أنّه مغاير للنبوّة، حيث طلبوه من النبيّ، وأنّه غير انتخابي، وإنّما مجعول من اللَّه تعالى، وأنّه أرفع منزلة من ذلك النبيّ؛ وإلاّ لَما أمكن أن يحكم المفضول الفاضل.

ثمّ إنّنا نؤكّد مرّة أُخرى على أنّ الإمامة وإن كانت تستبطن الإيصال، وأنّ لطف اللَّه تعالى بالبشر ونعمته عليهم يتمّ بها فهي ضرورة، إلاّ أنّها ليست بالإلجاء الإعجازي التكويني، ومِن ثمّ كان على المجتمع - كما ذكرنا في قصّة ذي القرنين - أن يبادر ويتحرّك تحت راية الإمام من أجل تحقيق الأغراض الإلهية المرتبطة بعموم المجتمع.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا... ) ، فهذا المُلك عهد إلهي خاصّ، وعبّر عنه القرآن الكريم ببعثة إلهية، فالإمامة بعثة إلهية أيضاً؛ لِما تشمل من مقام غيبي لدنّي، والمبعوث من اللَّه تعالى إماماً بالتالي يكون سفيراً وله سفارة إلهية تغاير سفارة النبوّة والرسالة.

فكون الإمامة سفارة إلهية وبعثة أصل قرآني، وليس بالانتخاب والتعيين من البشر، وطالوت من سلالة بنيامين أخ يوسف عليه‌السلام ومن ثمّ كان محور اعتراضهم؛ حيث كانوا يرون أنّ الملك منحصر فيهم وهم أبناء (لاوا)الأخ الأكبر ليوسف، وقد صاغ القرآن اعتراضهم: ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ) ، وكان جواب النبيّ لهم: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ... ) فالأمر بيده تعالى، لا أنّه يخضع للمقاييس العادية التي يتصوّرونها هم، وإنّما هو نصب إلهي لا ملك دنيوي، ومن ثمّ ستذكر الآيات اللاحقة معجزة هذا الملك، والآية والمعجز دليل على أنّ النصب تشريعي إلهي، فلابدّ أن يستجيب له البشر

٥٠٨

باختيارهم؛ وإلاّ حقّ عليهم العذاب.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ) ، يدلّ على أنّ المشيئة التكوينية أيضاً اقتضت أن يكون طالوت ملكاً، وكلتا المشيئتين مرتبطتان بالهداية الإيصالية، والتدبير الإلهي للأُمور الاجتماعية العامّة.

قوله تعالى: ( قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ... ) ، إخبار السماء لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتراض اليهود على نصب السماء شخصاً فكيف بنصب شخص ليس منهم، لبيان واحدة من أسرار عداء اليهود للإسلام، كما في الرواية عن الإمام عليّ عليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ... ) ، تبين الآية المباركة ضرورة المعجزة في الإمامة - مع الالتفات إلى أنّ القرآن لم يعبّر عن المعجز إلاّ بالآية والبينة ونحوهما، والتعبير بالمعجزة اصطلاح كلامي - وأنّ النصّ لا يكون وحده في السنّة الإلهية، بل مع المعجزة والآية. وعندما نطالع تاريخ الشيعة مع أئمّتهم نلحظ أنّهم كانوا يتحرّون عن المعجز العلمي والعملي كشي‏ء إضافي للنصّ.

قوله تعالى: ( سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ... ) ، في الروايات: ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان، أو روح مخلوق من اللَّه يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شي‏ء كلّمهم وأخبرهم.

قوله تعالى: ( وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ) ، يدلّ على أنّ الإمام وارث من سبقه، والتركة وإن كانت مادّية إلاّ أنّ لها سنخ ارتباط بالغيب، كعصى موسى، وخاتم سليمان، وقميص إبراهيم ويوسف، كما أنّ الآية تشير إلى أنّ الوراثة في بيوت الأنبياء، وأنّها ليست وراثة كسروية ترابية، بل وراثة اصطفائية؛ كما في قوله تعالى: ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ... ) .

قوله تعالى: ( تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ) ، الحفظ الغيبي يدلّ على خطورة وعظم هذا المقام وعظم وخطورة مواريث الأنبياء، والتي هي الآن جميعها عند أهل بيت النبوّة عند خاتمهم المهديّ (عج).

٥٠٩

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ... ) ، فلا إلجاء جبري تكويني، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ) ، فارق طالوت وجنوده المكان.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ) ، يكشف عن علمه اللدنّي وإبلاغه إرادات اللَّه التفصيلية لا بتوسّط النبيّ، فيدلّ على إمامته وأنّ الإمام يحيط علماً بالمشيئة والإرادة الإلهية التفصيلية، لا سيّما وأنّ الإرادة منسوبة إلى الباري صرفاً، كما يكشف عن أنّ التدبير يُباشر من قبل اللَّه تعالى، فالحاكم الأوّل هو تعالى، بل في جملة من مواقع حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يسند إليه تعالى الحكم التفصيلي ولا يسند إلى الرسول، أي وإن كان بتوسّط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما ألفتنا إلى ذلك مراراً.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) ، ظاهر في أنّ الغاية من هذا الامتحان هو التولّي وعدمه، واستعراض القرآن له للإلفات إلى أنّ التولّي لصيق بالاعتقاد بالإمامة، بل هو في درجاته الأُولى، والوجه الآخر للإذعان والإيمان بالإمامة، كما أوضحناه في الفصل الثالث من الجزء الأوّل.

فالأُمّة الواحدة وحدتها على أساس التولّي وعدمه، فالملأ كانوا على شريعة موسى، إلاّ أنّه لم يكف ذلك حتّى صُنّفوا إلى صنفين، من اتّبع الإمامة، ومن لم يتّبعها.

ولا يخفى أنّنا لحدّ الآن لاحظنا جملة من مقوّمات الإمامة وأبرز معالمها، وليكن تجميعها وضبطها بالشكل التالي:

أ - إنّ الإمامة بالنصب والبعثة الإلهية: ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ ) .

ب - إنّها اصطفاء: ( اصْطَفَاهُ ) .

ج - ذو علم متميز لدنّي: ( بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ ) .

د - التكامل الجسدي والقدرة اللدنيان: ( وَالْجِسْمِ ) .

٥١٠

ه - من شأنه المعجزة: ( آيَةَ مُلْكِهِ ) .

و - وارث من سبقه: ( وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ ) .

ز - التولّي هو الوظيفة المطلوبة من الأُمّة بالنسبة لإمامها: ( فَإِنَّهُ مِنِّي ) ، ( فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاّ قَلِيلاً ) ، هو المتولّي، وبقانون لتركبنّ طبقاً عن طبق تعرف النتيجة في عالمنا الإسلامي، كذا ذكر القرآن الذي هو معجزة الإسلام، قرينة على أنّ ما حصل آنذاك سيحصل بعد.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، عرف المتولّي لطالوت بالذين آمنوا، وهذا هو الذي يدّعيه الشيعة من أنّ قضية الإمامة من أُصول الدين الإيمانية.

خاصّة مع الإلفات إلى أنّ الشرائع متطابقة فيما بينها على مستوى المعارف، بل هذا ليس محلّ للنسخ؛ لأنّه من أجزاء الدين الواحد للأنبياء لا من الشريعة التي يعرضها النسخ، نعم تتفاوت بينها بالإجمال والتفصيل.

قوله تعالى: ( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ) ، المقام الذي كان لطالوت أُعطي لداود، ولم تبين هذه الآية نبوّته، وإنّما اقتصرت على: ( آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) ، ويظهر من الآية أن شجاعة وبأس داود في اللَّه أهّلته لهذا المنصب، فإنّ ذكر الأوصاف قبل المنصب يدلّ على الأقلّ على التناسب بين الأمرين.

قوله تعالى: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ) ، سنّة إلهية أن يُدفع غيّ البعض بالبعض، وله مراتب أقصاها القتل، وقد طبّقت لدفع طالوت وجنوده لجالوت، وهو يعني أنّ صلاح الأرض يتحقّق بالإمامة، وبعبارة أدقّ: أنّ بالإمامة - التي هي خلافة اللَّه تعالى في الأرض - صلاح الأرض وتطهيرها من الغي والشرّ.

ثمّ يلحظ من مجموع الآيات المرتبطة بطالوت أنّ الإمامة لم تُعرَف إلاّ بالملك، (ملك التصرّف في الأُمور العامّة) كذا في آية: ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ

٥١١

وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) (1) .

وعندما نراجع الروايات نراها تلفت إلى أنّ إبراهيم أحد الأربعة الذين بُعثوا بالسيف، إلاّ أنّه لم يعهد منه الإمارة، كذا بعض من جاء ذكرهم في الآية، ومن ثمّ كان التعبير: ( وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) مورداً للتساؤل، وجوابه: أنّ الملك باصطلاح القرآن ذو جنبتين:

الأوّلى: تكوينية كالاصطفاء والعلم الخاصّ والسكينة وفصل الخطاب والمواريث، وهذه متوفّرة مُكّن من الملك الظاهر في العلن أو لم يُمكّن، لكنه متمكّن من التصرّف في النظام الاجتماعي البشري بصور خفية متستّرة.

الثانية: التشريعية وهو الأخذ بزمام الأُمور، وهذا البعد قد أُلقي تنفيذه على عاتق الأُمّة، بأن تمارس دورها بإقدار الإمام وإيصاله سدّة الحكم الظاهر في العلن.

وقد عبّر عن الملك الذي مُنح لداود في آية أُخرى بالخلافة في الأرض: ( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ ) (2) .

وقد جاء في آية أُخرى: أنّ الخلافة في الأرض سنّة إلهية ما دامت البشرية، كما نلحظ ذلك في آية من آيات سورة البقرة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، والذي طُبّق على آدم. وبالتالي سنخرج بنتيجة، هي أنّ الإمامة قانون تكويني إلهي وضعه اللَّه للبشرية ما دامت في هذا العالم.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) من بعد الرسل، ممّا يدلّ على وجود سنّة إلهية، وهي سنّة الاقتتال بين أتباع الرسول بعضهم مع البعض الآخر، ومن ثمّ استشهد أمير المؤمنين عليه‌السلام في حرب الجمل بهذه الآية.

____________________

1) سورة النساء: 54.

2) سورة ص: 26.

٥١٢

قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ) (1) ، تبين سرّ الاقتتال وخلفيته، وهو أيضاً: ( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، ومن هنا نعرف أنّ الاختلاف الحادث لا ينسجم مع اجتهاد كلّ من الفريقين وإصابته؛ وإلاّ لا معنى لتصنيف أحدهما فريق الإيمان والآخر فريق الكفر. وبالإضافة إلى أنّه اختلاف مع البينة، فلا معنى للتأويل والاجتهاد.

النموذج القرآني الخامس: قصّة مريم

سورة آل عمران، من آية 41 إلى 47.

قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ ) ، وفي بعض القراءات كما في الروايات: وآل محمّد.

قوله تعالى: ( ذُرِّيَّة ) ، والتوارث في الاصطفاء من باب التوارث الروحي المعنوي لا المادّي، والمعبّر عنه: بالخيرة بعد الخيرة، والنجباء بعد النجباء.

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ ) ، عرض لقصّة ومصداق للذرّية المصطفاة.

قوله تعالى: ( إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي ) ، كان في شريعة بني إسرائيل أنّ للأب مُلكية ابنه المطلقة، ومن ثمّ كان يستطيع إيقافه على المسجد.

قوله تعالى: ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ) ، إمّا نقل لكلام امرأة عمران أو هو كلام اللَّه، وعلى الحالين يدلّ على عدم المساواة بين الجنسين على صعيد الوظائف والقانون في الدنيا، وإن أمكن للمرأة الترقّي في مجال التكوين والمعنى إلى حدّ الاصطفاء، وهذا عموم فوقاني من نوع الجعل الدستوري، وإن صحّ التعبير عنه فهو أصل قانوني من أُسس التشريع ومقصد من مقاصد الشريعة، وبالتالي فالتشريعات التي نحتمل

____________________

1) سورة البقرة: 253.

٥١٣

أنّها وظيفة خاصّة بأحدهما لمناسبة متميزة في أحد الجنسين لا يمكن التمسّك بعمومها.

قوله تعالى: ( وَإِنِّي أُعِيذُهَا... ) ، كما يظهر من الروايات أنّه دعاء بالعصمة، ومع قرينة الاصطفاء وما يأتي من أنّه تعالى تقبّلها بقبول حسن، دليل العصمة واستجابة الدعاء.

قوله تعالى: ( وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ) ، النبت يعني النمو، والآية ظاهرة في أنّ التنشئة المادّية للمصطفى تختلف عن غيره، من قبيل تهيئة اللقمة الحلال. و قوله تعالى: ( زَكَرِيَّا ) ، زوج خالتها.

قوله تعالى: ( أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) ، نوع من التكريم والحبوة الإلهية والاعتناء الخاصّ، مع أنّها ليست نبيّاً ولا إماماً، وهذه الآية تكشف عن نوع ارتباط غيبي بين مريم وبين اللَّه تعالى، والروايات دلّت على أنّ ملكاً كان يأتي لها بالطعام.

قوله تعالى: ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا... ) ، بعد أن شاهد مريم وكرامتها.

( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ... ) ، تصريح بارتباطها بالغيب، والاصطفاء الأوّل كما في الروايات هو الاختيار، والاصطفاء على النساء هو الحجّية عليهنّ.

وقد ظهر لحدّ الآن:

أ - ارتباط مريم بالغيب ونوع من الاتصال من دون وساطة نبيّ كما سيأتي في عين تبعيتها لشرائع الأنبياء. وهذا ليس غلوّاً في مريم، وبعدما عرفت أنّها لم توصف بالنبوّة، ومعه لا نستغرب إذا كان لفاطمة عليها‌السلام مصحف فيه تأويل الكتاب.

ب - اختصاص وليٌّ حجّةٌ بخطاب إلهي خاصّ، وقد يُكلّف بتكاليف خاصّة كما سيأتي لا يعدو مقام التطبيق، لا أنّه خارج عن عموم شريعة موسى كما في

____________________

1) سورة ص: 26.

2) سورة البقرة: 253.

٥١٤

المثال.

والظاهر من بعض الروايات وإن كان أنّ مريم محلّ للحجّية والمعجزة والآية، إلاّ أنّها ليست محلّاً ساذجاً كتكلّم الشجرة وشقّ القمر، وإنّما هي متمّمة للإعجاز ودخيلة فيه، حيث بيّنت الحجّة والمعجزة في إشارتها إليه، وإحضارها للمعجز في وسط بني إسرائيل كما سيأتي مفصّلاً، فهي شريكة عيسى في تبيان معجزته، ومن ثمّ جاء في القرآن: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (1) .

قوله تعالى: ( يُبَشِّرُكَ... ) ، نوع من الإنباء بالغيب المستقبلي، حيث كانت البشارة بنبيّ وباسمه المجعول من قبله تعالى ووجاهته الدنيوية ومكانته الغيبية (قرباً منه تعالى) ومعجزته.

وهذا مجانس لما تعتقده الشيعة في مصحف فاطمة، فإنّه مجموعة إنباءات غيبية مستقبلية (ما كان وما يكون إلى يوم القيامة)، وهو تأويل للكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ غائبة في السماء والأرض.

قوله تعالى: ( قَالَتْ رَبِّ... ) ، كانت تخاطبها الملائكة إلاّ أنّها خاطبت ربّها مباشرة، والظاهر أنّ الجواب (قَالَ) ليس بواسطة الملائكة، وإن كان قد يستفاد أنّه بواسطة جبرئيل بقرينة الآيات الواردة حول مريم في سورة مريم، حيث تمثّل لها جبرئيل بشراً سوياً، وأخبرها أنّ اللَّه أمره أن يهب لها غلاماً، فقالت له: أنّى يكون لي غلام؟ فأجابها جبرئيل.

ولكن ما ذكر لا يصلح قرينة بعد الالتفات إلى أنّ الحوار مع جبرئيل حوار آخر حصل بعد مدّة من الحوار الأوّل المذكور في سورة آل عمران عندما انتبذت مكاناً قصياً، وقرينة ما ذكرنا إجابة جبرئيل الظاهرة في أنّ اللَّه تعالى قد أجابك من قبل

____________________

1) سورة المؤمنون: 50.

٥١٥

عن هذا التساؤل والاستغراب: ( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) (1) .

وحيث إنّ الخطاب مع مريم لم يكن بواسطة رسول، فهو إمّا من قسم الوحي المباشر، أو من وراء الحجاب بموجب الحصر المذكور في الآية: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (2) .

والترتيب المذكور في الآية معنوي علاوة على كونه ترتيباً ذكرياً كما في الروايات، ومن ثمّ كان التكليم من وراء حجاب فضلاً عن الوحي أرفع ممّا كان بواسطة الرسول، ممّا يعبّر عن سموّ مكانة مريم.

وعندما نرجع إلى النماذج التي سبق الحديث عنها لا نلحظ هذا الارتباط المباشر مع اللَّه فيها، وعلى الأقلّ لا صراحة في ذلك، على العكس من مريم فإنّ الآية صريحة في الخطاب المباشر.

قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً.. ) (3) ، سبق أن ألفتنا إلى دلالة الآية على شراكة مريم في الإعجاز والحجّية، وهو تقرير لعقيدة النصارى في مريم أنّها من أركان العقيدة ولكن لا بما هي محرّفة من التأليه. كما أنّ مدلول الآية أعمّ من اصطفائها على نساء العالمين المدلول لآية أُخرى.

بالإضافة إلى أنّ الآية ليست لخصوص أبناء الشريعة المسيحية، وإنّما لكلّ البشر، بما في ذلك أبناء الشريعة المحمّدية، بعد أن كانت واحدة من عقائدنا الإيمان بآيات اللَّه، ومن ثمّ كان علينا بعد إخبار القرآن الإيمان بمقام السيدة مريم،

____________________

1) سورة مريم: 21.

2) سورة الشورى: 51.

3) سورة المؤمنون: 50.

٥١٦

كما كان من الضروري الإيمان بنبوّة عيسى.

ويظهر أيضاً أنّه ليس بدعاً في شرائع السماء أن تأخذ امرأة هذا المقام وأن يكون الإيمان بها جزءً من أُصول الدين.

بالإضافة إلى أنّها ضُربت مثلاً كما في سورة التحريم، وعلى القاعدة القرآنية: أنّ القرآن لا يذكر إلاّ ما فيه العبرة في حياة المسلمين، والروايات الكثيرة الدالّة على أنّه يجري في حياة المسلمين ما جرى على الأُمم السابقة حذو القذّة بالقذّة.

من هنا أصبحت الفرصة مواتية للحديث عن الزهراء عليها‌السلام شيئاً ما، حيث يمكن لنا أن نفهم ما قيل في حقّها أو على تقدير كونه رواية، من قبيل: (نحن حجج اللَّه وفاطمة حجّة علينا) ، و (وأنّها برزخ بين النبوّة والإمامة)، و (أنّها رفع عنها حجاب النبوّة) ، وكثير غيرها، ممّا يمكن أن يستشهد له بطوائف أُخرى متواترة معنوياً، من قبيل روايات ترتّب خلقة أنوارهم عليهم‌السلام .

ومن قبيل: روايات أنّ أحد مصادر علوم الأئمّة مصحف فاطمة عليها‌السلام .

ومن قبيل : أنّها أوّل مصاديق القُربى الذين لهم ولاية الفي‏ء والأنفال، وأنّها الشاهد شهادة لدنية بصدق النبوّة في آية المباهلة لمشاهدتها عياناً حقيقة النبوّة... وغير ذلك من الآيات والروايات؛ مفادها أنّ الزهراء وإن لم تكن نبيّاً وإماماً إلاّ أنّها حجّة وواسطة علمية للأئمّة عليهم‌السلام من ذريتها، أي أنّها مصدر من مصادر علومهم.

بالإضافة إلى أنّ إدانتها موقف السقيفة لا يقلّ دلالة في الحجّية عن قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الغدير، ويشهد لذلك قبول السنّة ذلك كبروياً، ومن ثمّ ركّزوا إنكارهم للصغرى أي وقوع الإدانة منها للسقيفة.

فهي كمريم في أنها شريكة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيتية على مذهب الحقّ والإمامية، حيث لم يكن بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مصدر حجّة يرجع إليه بعد جحودهم لِدلالة الكتاب على الإمامة، وجحودهم حجّة عليّ عليه‌السلام ، لم يكن إلاّ الزهراء، ومن ثمّ يفهم ما ورد

٥١٧

في وصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا عليّ انفذ لما أمَرَتك به فاطمة، فقد أمَرْتُها بأشياء أمر بها جبرئيل عليه‌السلام ) (1) ، وكذا يفهم من احتجاج الأمير بالزهراء. وآية التطهير تدلّ على الاصطفاء والحجّية للزهراء بإرادة إلهية مشتركة في الخمسة أصحابَ الكساء.

وسورة الدهر تثبت مقاماً أرفع من مقام الأبرار لأهل البيت عليهم‌السلام ، وبضميمة سورة المطفّفين فإنّهم المقرّبون الذين يشهدون كتاب الأبرار، كلّ هذا وأمثاله من الآيات والروايات (2) يملي الاعتقاد بمقام الصدّيقة الزهراء.

فإنّها وجود تنزيلي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي لها الحجّية على المسلمين في إثبات الإمامة، والبُعد التقديسي لها من اللَّه ورسوله معلول مقامها السامي.

قوله تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا... ) ، جبرئيل الذي عبّر عنه في آية أُخرى بالروح الأمين، وليُلتفت إلى أنّه لم يصرّح في آيات آل عمران بنوع الملائكة الذين حدّثوها، بينما صرّح به في آيات سورة مريم، ممّا يكشف عن أن التكليم بواسطة الرسول ذو درجات ومراتب.

وفي الروايات أنّ التمثّل الذي حصل لمريم أحد أنماط نزول الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونمط آخر أن يسمع من دون رؤية، وثالثة أن يراه ومن معه.

قوله تعالى: ( فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا... ) ، خاصّية الوارد الرحماني - الهاتف والمكاشفة - التي بها يختلف عن الأنواع الأُخرى - كالشيطاني - أنّه ذو هيبة وسكينة ووقار ويدعو إلى الخير بأتمّ أشكاله.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ِلأَهَبَ لَكِ غُلامًا... ) ، في الوقت الذي كان الوارد

____________________

1) البحار، ج22، ص484، نقلاً عن خصائص الأئمّة للشريف الرضي.

2) لاحظ: كتاب مقامات الزهراء.

٥١٨

رحمانياً، إلاّ أنّ مضمون الرسالة كان شديداً غايتَه على مريم، وتفرّ منه، لارتباطه بعِرضها وناموسها، ومن ثمّ اعترضت مرّة أُخرى حين قالت: ( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) ، ويلحظ في المحادثة السابقة في سورة آل عمران أنّه لم تعتر مريم حالة الاستيحاش كما ظهر هنا، وربما لأنّها كانت تسمعهم هناك من دون أن تراهم.

قوله تعالى: ( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ) ، تذكير مريم بما دار من حوار وحياني سابق.

قد يقال: كيف ينسجم هذا الاعتراض من مريم مع ما لها من مقام سامٍ، ثمّ هل نست الوحي السابق كي تعيد الاعتراض ثانية؟

والجواب: لم تنس مريم، ولكن صعوبة الموقف حيث إنّ القضية مرتبطة بالعِرض: ( وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) ، وبه يفسّر قولها: ( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) . وفي الروايات: أنّ الأنبياء والرسل يتحمّلون البلاء إلاّ ما يرتبط بالعِرض.

قوله تعالى: ( وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) ، وفي آل عمران: ( إِذَا قَضَى أَمْرًا ) ، الظاهر في التعليق، ومن ثمّ يصلح قرينة إضافية على أنّ ما جرى في السورتين حواران اثنان وحيانيان.

قوله تعالى: ( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) ، لها دور رعاية وكفالة لصاحب الشريعة وباختيارها، وهو يوافق ما يظهر من ثنايا زيارة فاطمة بنت أسد من أنّ رعايتها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كسبها مقام صفة بأنّها صدّيقة، فإنّ لها إسهاماً في التمهيد لظهور النبيّ والمعجز.

ودور مريم وإن كان يحتوي على مخاطر لارتباطه بالعِرض فهو سنّة قرآنية للجهاد بالعِرض، إلاّ أنّه كان لكشف دجل وزيف علماء اليهود المقيْمِين على تحريف الديانة، ولم يتغلّب على فضحهم النبيّ زكريا ولا يحيى، وهو نظير ما

٥١٩

ورد في حرم وعيالات سيد الشهداء عليه‌السلام : (شاء اللَّه أن يراهنّ سبايا).

ونظير تصدّي السيدة الزهراء - حتّى عُصرت بين الحائط والباب - لكشف الزيف والدجل المتلوّن بالدين والديانة، ونظير نقل إبراهيم هاجر إلى البرية تمهيداً لظهور حكمة اللَّه ومعجزته.

قوله تعالى: ( فَنَادَاهَا... ) ، استمرار التواصل الغيبي مع مريم ورعايتها وتسديدها. ووجود أوامر كُلّفت بها مريم مباشرة من دون وساطة نبيّ، مع خطورة بعض هذه الأوامر؛ كارتباطها بصرح الشريعة المسيحية، وأصل نبوّة عيسى، ونسخ الشريعة الموسوية، بحيث لو أخلّت مريم عصياناً لما تحقّقت المعجزة.

قوله تعالى: ( مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ... ) ، عرّضوا بها بأبشع تهمة، وقد كانت هذه الظاهرة المثيرة سبباً في الانشداد إلى المعجز والالتفات إليه وكشف قناع الزيف عن علماء اليهود، كما حصل ذلك من السيدة الزهراء، حيث عرّت نفاق السقيفة على المكشوف. والسيدة زينب؛ حيث كانت سبباً في الانتباه إلى افتضاح مسار السقيفة وأنّه هو مسار الأحزاب وبني أُمية.

قوله تعالى: ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ) ، نقلتهم من التركيز على شي‏ء دني‏ء للغاية إلى خطير للغاية. وبهذا ينتهي الحديث عن آيات مريم في سورة مريم.

وهناك ما رود في سورة التحريم، حيث أُشير فيها إلى أنّ مريم مَثَل يضربه تعالى، والمَثَل ليس لخصوص قوم دون قوم، وإنّما لسائر البشرية ولهذه الأُمّة الإسلامية.

كما أشير إلى أنّها صدّيقة: ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) ، فقابل بين الكلمات والكتب، وأنّها: ( كَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ ) ، وتشريفها بـ: ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا... ) .

والخلاصة:

إنّه بالتدبّر في مجمل الآيات الواردة في مريم، ينبثق هذا السؤال،

٥٢٠