الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133915
تحميل: 7992


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133915 / تحميل: 7992
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهو: كيف ارتبطت بالتكليم الإلهي، وكيف وثقت أنّه من عند اللَّه مع أنّها ليست نبيّاً ولا وصيّ نبيّ؟ كما لم يتمّ ذلك بتوسّط نبي زمانها، بل تمّ ذلك من دون وساطة رسول أصلاً، وكيف صدّقت بنبوّة نبيّ آت وبشريعته المقبلة؟ وكيف قامت ببدايات أعباء الرسالة قبل عيسى، حتّى جعلها القرآن في درجة عيسى؟ كما يظهر من قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) ، و ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ ) ، و ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) ، و ( كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ.. ) (1) ، الدالّة جميعاً على أنّ مريم كانت في مصاف الرسالة ومن أصول الدين، خاصّة مع الالتفات إلى أنّ المخاطب به مثل زكريا - على فرض حياته - ويحيى وأنبياء زمانها. لا جواب على هذا السؤال سوى أنّها معصومة مصطفاة، وأنّ لها مقاماً لا يقلّ عن مقام النبوّة.

ومع كلّ هذا، لا عجب أن تكون فاطمة عليهما‌السلام شافعة للأنبياء، كما في الرواية المنقولة، كيف لا وهي من أهل آية التطهير الذين شهد القرآن أنّهم يَمُسُّون الكتاب المكنون كلّه، ولديهم العلم بالكتاب المبين العلويّ كلّه، بينما لم ينعت القرآن الأنبياء أولي العزم، فضلاً عن غيرهم، بأنّهم يعلمون الكتاب كلّه، بل قال في حقّ موسى عليه‌السلام مثلاً: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (2) ، فما اُوحي لموسى هو (من كلّ شي‏ء)، وفي حقّ عيسى عليه‌السلام : ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (3) ، فكان ما جاء به بعض العلم، بينما وصف القرآن أنّه مهيمن على ما بين يديه من الكتب التي بعث بها الأنبياء السابقين، وأنّه تبياناً لكلّ شي‏ء.

____________________

1) سورة النساء: 171.

2) سورة الأعراف: 145.

3) سورة الزخرف: 63.

٥٢١

أو: (على معرفتها دارت القرون الأولى) ، بل يمكن أن نسجّل جملة امتيازات قرآنية للسيدة الزهراء على مريم عليهما‌السلام .

الامتياز الأوّل: افتراق في نوعية التطهير بين فاطمة الزهراء عليها‌السلام وبين مريم، حيث إنّ الذي ورد في مريم التعبير بصيغة الفعل الماضي، وهو دالّ على وقوع التطهير فيما سبق وإلى حدّ درجة من العصمة، بينما الذي ورد في فاطمة عليهما‌السلام هو إذهاب الرجس عنها، أي توقيتها عن أن يقترب إليها وإلى أصحاب الكساء الرجس، وعبّر عن التطهير بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار وأكّد بالفعل المطلق ( تطهيراً ) ، مضافاً إلى أنّ هذا التطهير الخاصّ المستمرّ هو من نمط خاصّ بسيد الأنبياء وأهل بيته أصحاب الكساء، فأين ذاك من ذا؟

الامتياز الثاني: إنّ لفاطمة علم الكتاب دون مريم عليهما‌السلام ؛ لأنّ فاطمة عليها‌السلام من المطهّرين في أُمّة النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وصف المطهّرون من هذه الأُمّة بقوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (1) ، وهو وصف للقرآن، ثمّ أردف بـ: ( لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) (2) .

فشهود حقيقة القرآن والكتاب كلّه بتلك الدرجة من الكرامة في كنانة الكتاب وهو ذو المجد القرآن المجيد في حفظ اللوح المحفوظ، ولفاطمة عليهما‌السلام حيث إنّها من المطهّرين في آية التطهير علم الكتاب الموصوف في القرآن بأوصاف متعدّدة: ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (3) ، و ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (4) ، وغيرها من الأوصاف.

وهذا العلم شهودي لدنّي، بينما لم يكن للمطهّرين في الشرائع السابقة حتّى الأنبياء هذا المقام؛ إذ إنّهم لم يشهدوا إلاّ ما تنزّل عليهم، بينما مريم سلام اللَّه عليها

____________________

1) سورة الواقعة: 77 - 78.

2) سورة الواقعة: 79.

3) سورة الأنعام: 59.

4) سورة الرعد: 39.

٥٢٢

وصفت بأنّها صدّقت بالكتب وهو غيب بالنسبة إليها، وبهذه الآيات يتبين أحد دلالات القرآن بأفضلية خاتم الأنبياء وأهل بيته على سائر الأنبياء.

الامتياز الثالث: وهو وليد للامتياز السابق، وهو شهادة الأعمال لارتباطه بالكتاب المكنون، وقد حفل ملف آيات الإشهاد في القرآن الكريم على جميع الناس من الأوّلين والآخرين، أنّ هؤلاء الأشهاد من هذه الأُمّة، وأنّ سيد الأنبياء هو الشاهد على الأشهاد، وأنّ هؤلاء الأشهاد هم من ذرّية إبراهيم وإسماعيل، كما أشارت إليه آخر سورة الحج، ودعاء إسماعيل وإبراهيم في سورة البقرة، وكذا في سورة الدهر؛ حيث بينت أنّ عباد اللَّه الذين يطعمون الطعام للمسكين، واليتيم، والأسير، هم الذين يسقون الأبرار من عين الكافور، فلهم الإشراف على الأبرار وأعمالهم كما في سورة المطفّفين أيضاً، وهذا المقام لم تُنعت به مريم عليها‌السلام في القرآن الكريم.

الامتياز الرابع: آية المباهلة، لا بتقريبها السطحي وهو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يباهل إلاّ بأعزّ ما لديه، وإنّما بما يستبطنه هذا التقريب من معنى دقيق وهو: أنّ المباهلة نوع من الدعاء والملاعنة، والقسم والحلف لإثبات الحقّ وتوثيقه، فالآية تدلّ على أنّ الدين في بُعده الغيبي مرتبط بهؤلاء الخمسة.

بعد الالتفات إلى أنّ الذي كان يستهدفه الرهبان من هذه العملية إطفاء برهان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يمثّل رمز الدعوة وحربتها، فضمّ النبيّ تلك الصفوة معه في هذه العملية للتدليل على رمزيتهم وأنّهم أصحاب الدعوة أيضاً وشركاؤه، فمن قَبِله فبها، ومن ثمّ قال تعالى: ( فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) ، في مقابل الصادقين، فكان التعبير بالجمع لا بالمفرد (على من كان كاذباً)، فهي شهادة بالشركة على أنّ نبوّته خاتمة وهي دين ____________________

1) سورة آل عمران: 61.

٥٢٣

الإسلام، ونبوّته خاتمة النبوّات وأنّ المسيح عبد اللَّه ورسوله، خاصّة مع وجود قرابة آخرين له، ولفيف من الصحابة، وبعضهم يُزْعَم له شأن في الإسلام، إلاّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يشركهم في العملية.

أضف إلى ذلك أنّ تعيين هؤلاء كان من اللَّه سبحانه وتعالى وليس من النبيّ، ممّا يؤكّد أنّ القضية ليست بحكم المَعزَّة والقرابة.

ولو أبيت عن قبول دلالة القصّة على فكرة كون أصحاب الدعوى شراكة بنحو الطولية والتبعية، وأنّها لا تعني إلاّ التوثيق وقد حصل بهؤلاء، فنقول: إنّ التوثيق عادة يكون بالثقل، وإنّ هؤلاء عليهم‌السلام أثقل المسلمين، ومن ثمّ تمّ اختيار اللَّه لهم للوقوف إلى جانب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه العملية، فهم وثيقة للدين كما هو صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعندما نستذكر زيارة الرضا عليه‌السلام نلحظ فيها أنّ كلّ إمام في عصره آية حقّانية للنبيّ ومعجزة صدقه.

النموذج القرآني السادس: قصّة أُمّ موسى

سورة القصص من آية 1 إلى 13.

في المقدّمة نشير إلى مدلول آية: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ... ) ، فإنّ الواضح منها الاستمرار، وبيان السنّة الإلهية وقاعدة القضاء والقدر، وإلاّ لو كانت خاصّة بالأُمم السابقة لجاء التعبير (وأردنا) بصيغة الماضي لا بصيغة المضارع الدالّ على الاستمرار.

قوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) :

أ - يلحظ الشبه الكبير بين خفاء ولادة موسى وخفاء شخصه وظفره، وبين خفاء ولادة صاحب الزمان (عج) وخفاء شخصه وظفره.

ب - لم ينصّ في الآية على أنّ الوحي كان بتوسّط نبيّ أو رسول أو وصيّ، بل

٥٢٤

في الروايات أنّها نوديت، وأنّه مباشرة، في الوقت ذاته لا دلالة في الآية على أنّه من أيّ قسم من الأقسام الثلاثة للوحي.

قوله تعالى: ( أَنْ أَرْضِعِيهِ... ) ، سلسلة من الأوامر في كيفية التعاطي مع الوليد الجديد بشكل يحفظه مع إخبار الغيب المستقبلي: ( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

مثل هذه الأوامر التفصيلية من اللَّه تعالى هي لخواصّ من هو حجّة، مصطفاة من القسم الرابع الذي يتجسّد فيه إعمال الحقّ تعالى ولايته مباشرة، ومن دون توسيط نبيّ تلك الأُمّة. ولكن من دون خروج عن الشريعة الظاهرة آنذاك بالشكل الذي بيّناه في قصّة الخضر، ولهذه الأوامر دلالة على أنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي الفطري كما قد يتصوّر أنّه من قبيل: ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ... ) (1) بعد الالتفات إلى أنّ متعلّقات الأوامر المذكورة ليست ممّا تُدركه الفطرة.

يضاف إلى ذلك الإخبارات بالغيب التي رافقت الأوامر، واطمينان أُمّ موسى بالوحي المذكور، دليل مقامها وسموّ مكانتها، وإلاّ لتلكّأت لاحتمال أن يكون نفث الجنّ، أو مكاشفة وإلقاءات شيطانية. وبتعبير آخر: أنّ الوحي المباشر، وقبولها له لا يعقل إلاّ مع كون القناة معصومة، وإلاّ لم تكن تستوثق منه.

هذه القصّة وسابقاتها تدفعُ الإنكارَ على مقولة الشيعة: بأنّ الإمام يرتبط بالوحي‏. بعد وضوح معتقدهم أنّه ليس وحي نبوّة، علماً أنّ القرآن لم يحدّثنا عن حجّية أُمّ موسى بدائرة أوسع من حجّيتها على نفسها في ما يرتبط بطبيعة التعامل مع الوليد.

قوله تعالى: ( وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ، فقد آمنت أُمّ موسى برسالته قبل أن يُرسل، كما

____________________

1) سورة النحل: 68.

٥٢٥

آمن الأنبياء السابقون بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يولد، وكما نصّت الزهراء البتول بإمامة الأئمّة حيث دوّنوا في اللوح الأخضر الذي نزل من السماء.

قوله تعالى: ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) ، توضّح عن رابطة الأُمّ بطفلها، وأنّها امتحنت بأصعب شي‏ء كما امتحنت السيدة مريم بكرامتها وعِرضها وعفّتها، وهي سيدة العفّة في زمانها.

لولا أن جاء التسديد الإلهي لمثل هؤلاء البشر الذين اختاروا تنفيذ الإرادة ولو على حساب أعزّ ما لديهم: ( لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ) .

النموذج القرآني السابع: قصة لقمان

وهذا النموذج وإن لم يكن نموذج للإمامة ولا للحجّية المصطفاة، إلاّ أنّه نموذج على الهبة اللدنية الإلهية، وهي ليست مقام نبوّة أيضاً. نعم الحجّية في الحكمة هو في ذاتها ومقالاتها حيث إنّها منطوية على الدليل والبرهان، وهاهنا نقاط يُلفت إليها:

1 - تشير الروايات إلى أنّ لقمان لم يصل إلى مقام الحكمة إلاّ بعد أن واظب على جملة من السنن، منها أنّه لم يكن يتكلّم إلاّ عند الحاجة.

2 - وتشير أيضاً إلى أنّه قبل أن يُمنح هذا المقام خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة، على العكس من داود.

3 - وتشير أيضاً إلى أنّ سلمان المحمدي أعظم حكمةً من لقمان، وفي زيارته والروايات الواردة في شأنه إشارة إلى مقامات خاصّة، من قبيل أنّه (باب علم الوحي) و (أدرك علم الأوّلين والآخرين)، بل في الروايات يستشهد الصادق عليه‌السلام بكلمات سلمان وهو دليل حكمة سلمان.

4 - وفي الروايات: مَن أخلص للَّه أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة على

٥٢٦

لسانه.

5 - يظهر من سورة لقمان وممّا ورد في سلمان أنّ هذا المقام والمنزلة مفتوح لكلّ مَن يجاهد نفسه، ومثل مقامات أُخرى كالصدّيقين. وفي رواية في كفاية الأثر للخزّاز وغيره يشرح الصادق عليه‌السلام هذه المقامات ويذكر الطريق إليها.

6 - يظهر أنّه مقام لدني كالنبوّة بحكم التخيير.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ... ) ، وقد وردت الحكمة في آل إبراهيم وآيات أُخر، منها: ( مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) (1) ، ويظهر من الآية أنّها علم إلهي خاصّ يغاير النبوّة والمقامات الأُخر في الجملة، وهذا العلم لدني ويمنح وليس فطرياً؛ بقرينة: ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ، فإنّ تعلّم الكتاب ليس فطرياً.

وقد عُرّفت الحكمة بتعريفات متعدّدة أشرنا إليها في كتاب العقل العملي، والحقّ أنّها: العلم الذي يتلقّاه العقل العملي فيتمّ الإذعان به والتصديق، فهي ليست صفة عملية بحتة ولا علمية بحتة.

قوله تعالى: ( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ... ) ، الظاهر من (أن) أنّها تفسيرية، وبالتالي الظاهر من الآية تفسير الحكمة بالشكر، ممّا يعبّر عن أنّ رأس الحكمة شكر اللَّه.

وقد أخذ قِبال الشكر في القرآن الكفر: ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) ، كما قابلت الروايات بين الجهل والعقل، ممّا يعني كلّ ذلك أنّ هذه الصفات ليست إدراكية محضة، وإنّما عملية، من ثمّ كان الشغل الشاغل للأنبياء هو العقل العملي الذي هو تحت اختيار الإنسان، وأمّا الإدراك والعلم، فالفطري منه موجود من دون اختيار.

ثمّ لا ريب أنّ العلم الذي مُنح للقمان، والذين نُعتوا بالحكمة، وإن لم يندرج تحت واحد من الأقسام الحجج، إلاّ أنّ علم الحكم حجّيته منطوية فيه لانطواء

____________________

1) سورة البقرة: 269.

٥٢٧

البرهان والدليل في أقضيتها.

ويستفاد من هذه نتيجتان مفصليتان بعد الالتفات إلى النقاط التالية:

1 - إنّ لقمان ليس نبيّاً باتّفاق الجميع.

2 - إنّ المستعرض لحكمة لقمان في القرآن هو اللَّه تعالى، أي لم تُعرض حكمته في القرآن على لسان نبيّ وإنّما على لسان الحقّ تعالى.

3 - إنّ استعراض الحقّ تعالى لحكمته كاستعراضه لكلام الأنبياء.

4 - بل استعراضه يمتاز عن سنن بعض الأنبياء من جهة أنّ شرائعهم منسوخة ولا يفهم أبديتها إلاّ بالقرينة: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (1) ، بينما الظاهر من حكمة لقمان أبديتها، بنكتة كونها كلّيات فوقانية، فهي البنية التحتية للشرائع، أو لأنّها حكمة، أو لأنّها فطرية عقلية مستوسعة، والكلّ واحد تقريباً.

نعم، تمتاز سنن الأنبياء عن الحكمة بأنّها تنزل الهداية للتفاصيل ولدائرة أوسع بكثير من الحكمة، بينما الحكمة هي في دائرة الكلّيات.

5 - لم يذكر حجّية حكمة لقمان من جهة عرضه على نبيّ أو من جهة إقرار القرآن لها، وإنّما حجّيتها من جهة تضمّنها للدليل والبرهان.

6 - إنّ حجّية الحكمة هي من حجّية العقل، وحجّية العقل تلازم حُكم الشرع؛ لأنّه كلّ ما حَكم به العقل البديهي أو النظري المبدّه حكم به الشرع، فهو لا يختلف روحاً عن التشريع الظاهر، وإن كان تشريعاً باطناً كما يسمّى العقل بالرسول الباطن.

من ثمّ وبعد أن عرفنا أنّ طبيعة الحكمة ليست إلاّ علماً خاصّاً أُودع من قبل اللَّه تعالى في فطرة لقمان بنحو البسط، فهي لا تختلف عن العلوم الفطرية التي

____________________

1) سورة المائدة: 48.

٥٢٨

يمتلكها البشر جميعاً من هذه الزاوية، إلاّ في أنّها أوسع نطاقاً من الآخرين، فحينئذٍ أمكن أن نفهم:

أوّلاً: ما ورد في الروايات أنّ العقل رسول باطن وحجّة باطنة ومنزّل منزلة قناة الوحي، الظاهر في أنّ كلّ إنسان مرتبط بعلم اللَّه تعالى وإرادته في دائرة البديهيات أو النظريات المبدّهة. وبهذا يكون ردّاً على الأشاعرة، والسلفيين، والظاهريين، وقبلهم أصحاب السفسطة، حيث أنكروا العقل أو حجّيته.

حيث عرفت أنّ هذا النمط من العلم موجود ويوجب اليقين والجزم، وأنّه قد استوسع للقمان، وفي الروايات إشارة إلى أنّ مصدراً من مصادر علومهم عليهم‌السلام هذا النمط من العلم وهو الحكمة، لكن بدائرة تفوق كلّ من أوتي الحكمة.

ثانياً: النقض على أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان؛ حيث أنكروا وجود مصدر للحجّية والارتباط بالسماء غير النبوّة، مع أنّا لاحظنا وجود قنوات أُخرى لها، وجود ضامر في كلّ إنسان وأنّها قد توسّع للبعض لا بتوسّط نبيّ، فالحال في الإمام الذي هو خليفة اللَّه تعالى في أرضه المعلّم علم الأسماء كلّها أوضح.

بل إنّ أهل سنّة الجماعة إذا ارتضوا العقل كالمعتزلة، متجاوزين المسلك الأشعري ولو في مساحة محدودة، فلا بدع في سنّة اللَّه في الإمامة بعد أن كان العقل قناة إلى جنب قناة النبوّة، فيمكن للَّه تعالى أن يفتح قناة ثالثة أو يوسّع من قناة العقل والفطرة، وتكون ملزمة وحجّة.

والملفت أنّ القرآن لم يذكر جملة من الأنبياء، أو ذكر جملة أُخرى منهم ولم يذكر لهم قولاً، في الوقت الذي تعرّض فيه لجملة من المؤمنين مع عرض كلماتهم، كمؤمن آل فرعون، ومؤمن آل ياسين، وزوجة فرعون، بالإضافة إلى النماذج التي سبقت الإشارة إليها بمَن فيهم لقمان.

٥٢٩

وليس ذكر مثل هؤلاء إلاّ للعِبرة، وليس ذكر كلماتهم إلاّ للاحتجاج في أنّ الحجّية الذاتية لا تنحصر بالنبوّة، إذ قد تكون من خلال علم فطري تفتّق، أو علم لدنّي خاصّ مُنح من قبل اللَّه تعالى، إلاّ أنّ حجّية النبوّة والإمامة دائرتها أوسع بلا مقايسة مع دائرة حجّية العقل الفطري البديهي.

قوله تعالى: ( أَنِ اشْكُرْ... ) ، وجوب الشكر في الحكمة العملية يوازي في الحكمة النظرية وجوب وجوده تعالى.

قوله تعالى: ( فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) ، بدليل: ( إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ، و ( حَمِيد ) ، فيها إشعار إلى أنّه يشكر مَن شكره: ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) ، أو يعني جامع الكمالات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ، في هذه الآية وعموم الآيات القرآنية يلاحظ الترابط بين البعد النظري والعملي، فالشرك أعظم غلطة وكذباً وجهلاً على مستوى الإدراك، والظلم العظيم أعظم قبحاً في العقل العملي.

قوله تعالى: ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ... ) ، المداقّة في الحساب - وكما ورد في سورة الزلزلة - ممّا لا يدركه العقل لوحده، كذا باطن الفعل في الملكوت بمقتضى الآية المبين فيها، حيث إنّ إتيان اللَّه به يوم الحساب دليل بقائه وثباته.

قوله تعالى: ( فِي السَّمَوَاتِ ) ، إمّا كناية عن الإحاطة الإلهية، أو إشارة إلى وجود جزاء لأهل السماء مجهول الكيفية لنا، كما يبدو من آيات وروايات متعدّدة، مثل: ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إلاّ مَا عَلَّمْتَنَا ) ، وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة حول الملائكة: (إنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً)، و.. الكاشف عن وجود ظاهرة العمل والجزاء في الملائكة.

قوله تعالى: ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة ) ، بعد أن فرغ من توحيد اللَّه ومعاده ودخل في استعراض كلّيات الشريعة، وفيه دلالة على أنّ الصلاة ثابت في كلّ شريعة، حيث كانت فطرية، وأنّ الأمر بالمعروف فطري، وهو وإن كان في الفقه الاصطلاحي يقابل

٥٣٠

الجهاد والقصاص والديات والقضاء، إلاّ أنّه بالمعنى الأعمّ شامل لها، بل شامل لكلّ معروف بعد أن كان الإتيان به يستبطن الدعوة لإقامته. والصبر يكشف عن أنّ الأُمور العملية فيها عناء ولا يتمّ إلاّ بالصبر.

قوله تعالى: ( وَلا تُصَعِّرْ ) ، فعل جارحي ناتج عن الكبر.

قوله تعالى: ( مَرَحًا ) الزهو، وهو الترف والفرح للمادّيات المذموم في القرآن.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) ، إنباء لقمان عن المحبّة الإلهية، والتي على أساسها أمكنه العلم بالمحبوبات، وعلى أساس ذلك أمكنه النسبة. ويعرّف أيضاً: أنّ الحكمة ليست علماً صرفاً، وإنّما هي التي تستوجب العمل. وبه يمكن الردّ على من يقول: إنّ حكم العقل منجّز فقط. حيث ظهر أنّه يلازم حكم الشرع، بل يمكن نسبته إليه تعالى.

قوله تعالى: ( إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ ) ، فيه دلالة على إلمامه الواسع بالخليقة، وإن كان قد ورد أنّ المراد بذلك صوت بعض أصحاب التابوت في قعر جهنّم.

النموذج القرآني الثامن: قصّة آصف بن برخيا صاحب سليمان.

وتبدأ من آية 35 إلى آية 41 من سورة النحل.

قال تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ.. ) ، إنّما كان سليمان حريصاً على السرعة الخاطفة في إحضار عرش بلقيس لإظهار مقام آصف وأنّه وصيّه والإمام من بعده، كذا جاء في الروايات عنهم عليهم‌السلام ، ويعاضده سياق الآيات.

والإتيان بالوصف: ( عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) مشعر بالعلّية، وأنّ الوصف هذا هو الذي أهّله للقيام بهذا العمل. وآصف ليس نبيّاً بالاتّفاق، فتدلّ الآية على توفّر غير الأنبياء أيضاً على علم لدنّي وهو خاصّ، وصنّف هذا العلم بعلم الكتاب وهو علم مرتبط بالأديان،

٥٣١

وبالدقّة: علم السنن الإلهية الكونية والشريعة بحسب التكوين.

وقد جاءت أوصاف العلوم اللدنية في الروايات متنوّعة: علم الكتاب، فصل الخطاب، علم الوصايا، علم الأصلاب، علم شهادة الأعمال، علم المنايا والبلايا، علم التأويل، علم تأويل الأحاديث، منطق الطير، وغيرها. كما ألفت القرآن إلى علم الكتاب في مواضع متعدّدة:

أ - ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا... ) (1) .

وقد نزلت الآية في كفّار قريش الذين طالبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقوم بتسيير الجبال المحيطة بالبيت الحرام بعيداً، ويقطّع الهضاب في مكّة كي تصير الأرض سهلة زراعية كأرض الشام وتذهب حُزونتها، ويحيي لهم موتاهم ممّن مضى، إلاّ أن القرآن ذكر أنّ المطلوبات الثلاثة لو أُنجزت بالقرآن لا بالمصحف الشريف المقدّس لما آمنوا، فهذه الآية دالّة على أنّ هذه الأُمور ممّا يمكن تحقّقها بحقيقة القرآن إلاّ أنّه تعالى لم يأذن لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتحقيقها وإيجادها بتوسّط ما لديه من حقيقة القرآن؛ لأنّ مشركي قريش لا يفون بشرطهم باستجابتهم للإيمان، ممّا يكشف عن أنّ هذه الأُمور تحصل بالقرآن، سوى أنّه لم يحصل لأنّه لا يؤدّي إلى وفائهم وإيمانهم.

ب - ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) (2) ، فالخشية ها هنا عظيمة، ومن ثمّ جاء: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ، ومن الواضح أنّ نفس المصحف الشريف لو وضع على جبل لا يوجب تصدّعه، فمن الواضح أنّ المراد هو نزول حقيقة القرآن على الذات الحقيقية الخفية للجبل، حيث يثبت القرآن الكريم للأشياء الجامدة ذاتاً خفية وراء أجسامها، كقوله تعالى:

____________________

1) سورة الرعد: 31.

2) سورة الحشر: 21.

٥٣٢

( أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) (1) ، و ( وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (2) ، ممّا يثبت أنّ لذوات الأشياء إدراك وشعور.

ج - وفي آيات أُخرى: ( آتَانِيَ الْكِتَابَ ) (3) وما أشبه، دالّة على مؤهّلات النبيّ الظاهرة في أنّ إيتاء الكتاب غير جعل النبوّة، وإنّما هو مقام غيبي آخر وعلم لدني قد يقترن بالنبوّة.

د - قوله تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (4) ، وقوله تعالى: ( مَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (5) ، الدالّ على أنّ كلّ شي‏ء مستطرّ في الكتاب والكتاب المبين، فالذي لديه علمه يحيط بذلك أو لديه بعضه فيحيط بقدر منه.

والقرآن هو الكتاب كما ورد في الواقعة وهي قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (6) ، وكذا في سورة الدخان وهي قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ... ) (7) ، وغيرها من السور الدالّة. وقد منح شطر من العلم المزبور لآصف بن برخيا.

ونرجع دفّة الكلام إلى أصل القصّة وبدايتها، من قوله تعالى: ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ

____________________

1) سورة فصلت: 21.

2) سورة الإسراء: 44.

3) سورة مريم: 30.

4) سورة الأنعام: 59.

5) سورة النمل: 75.

6) الواقعة: 77 - 78.

7) سورة الدخان: 1 - 3.

٥٣٣

أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (1) .

والمفاد الأوّلي لهذه الآية: أنّ جليس سليمان لم يصفه القرآن بأنّه نبيّ ولا مرسل، بل لديه علم من الكتاب، في حين يثبت له القرآن الكريم علم غير كسبي.

ثمّ يستفاد من الآية أُمور:

أوّلاً: إنّ جليس سليمان الذي هو آصف بن برخيا - والذي عليه الفريقان - لم يكن نبيّاً ولا مرسلاً، مع ذلك زوّد بعلم لدنّي غير كسبي، ممّا يعني أن هذا العلم لا يختصّ بنبيّ ولا رسول، بل تعلّق بغيرهما، ولكونه حجّة من الحجج الإلهية.

ثانياً: إنّ علمه لدني غير كسبي، ودليل ذلك:

1 - وصفه القرآن الكريم بأنّه علم من الكتاب توطئة لبيان القدرة على المجي‏ء بعرش بلقيس، والوصف دخيل في العلّية، حيث وصف علمه بعلم الكتاب، فالعلّة والسبب لهذا الفعل هو العلم غير الكسبي بل اللدنّي كما يقال في علم البلاغة والبيان الوصف مشعر بالعلّية.

2 - إنّ آصف بن برخيا مؤهّل لهذه المهمّة الإلهية التي تُعدّ إحدى المقامات العالية التي لا ينالها إلاّ أهلها، ممّا يعني أنّ آصف بن برخيا في درجة من الطاعة والعبودية يستحقّ عندها الاصطفاء لهذه الحبوة الكريمة. على أنّ الكتاب المشار إليه في الآية لم يكن هو الكتاب الخطّي المنقوش، بل هو الكتاب الحقيقي الملكوتي الذي يهيمن على النشآت الأُخرى، لذا ورد لفظ الكتاب في القرآن الكريم في عدّة موارد مشيراً إلى هذه الحقيقة، كما في قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (2) ، وقد أشارت إلى ذلك سورة الواقعة في قوله تعالى: ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاّ

____________________

1) سورة النمل: 38 - 40.

2) النمل: 75.

٥٣٤

الْمُطَهَّرُونَ ) (1) ، وفي سورة الرعد وصف لهذا الكتاب: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا... ) (2) ، وكما في سورة الحشر قوله تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) (3) ، فالإنزال المشار إليه هو إنزال ملكوتي حقيقي، وليس هذا المصحف المنقوش بل بوجوده اللدنّي الملكوتي. ومن آثار هذا العلم اللدنّي إمكانية حامله بإتيان عرش بلقيس قبل أن يرتدّ الطرف، وهي قدرة خارقة عجيبة حاز عليها آصف بن برخيا بتحمّله هذا العلم الإلهي الذي هو بعض ذلك العلم، لتنكير كلمة (علم) الواردة في الآية ولفظة (من) ممّا يشير إلى أنّ آصف حُبي ببعضه فقط.

كما يجب التنويه إلى أنّ وجود علم الكتاب عند غير الأنبياء دليل تشريك في المسؤولية والحجّية بينهم وبين مَن عنده علم الكتاب وهم الحُجج. وبانتظام ومطابقة بين علم الكتاب في سورة الرعد وعلم الكتاب في سورة الواقعة يُتنبه إلى حقائق:

الأُولى: إنّ سوراً عديدة تفسّر الكتاب المبين بالقرآن، كما هو عليه سورة الدخان في قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) (4) ، والتنزيل إشارة إلى أنّ المنزّل هو ذلك القرآن الذي وصفته الآية بالكتاب المبين، وكما في سورة الواقعة عند قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (5) ، وقوله تعالى في سورة النمل: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (6) ، ممّا يعني أنّ الكتاب المشار هو القرآن الكريم.

____________________

1) سورة الواقعة: 78 - 79.

2) سورة الرعد: 31.

3) سورة الحشر: 21.

4) سورة الدخان: 1 - 3.

5) سورة الواقعة: 77 - 78.

6) سورة النمل: 75.

٥٣٥

الثانية: إنّ الكتاب تارةً يُطلق على جنس الكتاب، وتارةً يُطلق على الكتاب العهدي للام العهدية، والمقصود من الكتاب هنا هو القرآن الكريم لورود اللام العهدية في تعريفه، وأنّ للقرآن مواقع ومنازل كونية ملكوتية، وأنّ المصحف الشريف هو أنزل تلك المواقع والمنازل، ومن ثمّ وصف في الآيات بأنّه تنزيل الكتاب، أي الدرجة والموقع النازل من الكتاب لا المواقع المكنونة الغيبية القدسية ذات المجد والكرامة.

الثالثة: إنّ القرآن الكريم وصفه اللَّه تعالى بأنّه مهيمن على الكتاب، وهذه الصفة تعني الإحاطة، فما نزل على الأنبياء من الحقائق العلمية والتي أودعت في كتب مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى فهي مودعة مثلها في القرآن الكريم.

والخلاصة:

إنّ ما كان عند آصف بن برخيا هو بعض علم الكتاب أي بعض من القرآن؛ إذ الكتاب هو القرآن الشامل لكلّ الكتب التي أسلفنا.

وتبين عند ذلك أنّ الكتاب له وحدة واحدة وهو القرآن، أي: أنّ المعارف السماوية وحقائقها كلّها أودعت في القرآن الكريم، وإذا كان آصف بن برخيا قد علِم بعض حقائق القرآن فكيف بمَن أُحيط بعلمه كلّه، ظاهراً وباطناً، وهو رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الحجج المعصومين من أهل بيته الطاهرين (صلوات اللَّه عليهم أجمعين)؟.

النموذج القرآني التاسع: قصّة عُزير

قوله تعالى: ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ

٥٣٦

اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) (1) ، على اختلاف الروايات عند الفريقين فإنّ الذي مرّ على قرية هل هو (إرميا) النبيّ أم هو عزير الذي هو أحد الحجج الإلهية؟

وعلى كلا الوجهين فإنّ الذي يهمّنا هو أنّ الكلام الإلهي المقصود في الآية كونه إسناداً مباشراً إلى اللَّه تعالى فهذا الوحي والخطاب الإلهي خوطب به الذي مرّ على القرية.

وعلى فرض أنّ المقصود هو عُزير - وهو المشهور بين الفريقين - فإنّ عُزير لم يكن نبيّاً، بل هو حجّة من حجج اللَّه تعالى، ومع ذلك فقد حصل على مقام التكليم مع اللَّه تعالى مباشرة، ممّا يعني أنّ التكليم الإلهي ليس من مختصّات مقام النبوّة فقط، بل يشترك معها مقام الحجج الإلهية كذلك.

ولسائل أن يقول: إذا كان نبيّ اللَّه إبراهيم قد سأل اللَّه تعالى بنفسه ما سأل عُزير حين قال حكاية عن إبراهيم: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (2) ، فكان ذكره في مقام مدح وثناء، بينما كان تساؤل عُزير في مقام ذمّ واستياء، كما يفيد ظاهر الآيتين وسياقهما.

وقد ذهب المفسّرون أنّ إبراهيم كان في تساؤله طلباً واستفهاماً وغايته الاطمئنان القلبي، في حين كان تساؤل عُزير استنكاراً لقدرة اللَّه تعالى، وأنّ إبراهيم استعمل أدباً خاصّاً في طرحه لهذا التساؤل الاستفهامي، لذا فإنّ الإحياء الذي وقع لإبراهيم كان فيه كرامة في حين كان الإحياء لدى عُزير واقعاً في نفسه حيث كان محلاًّ لقدرة اللَّه تعالى.

____________________

1) سورة البقرة: 259.

2) سورة البقرة: 260.

٥٣٧

إضاءة حول الرَّجعة:

وفي قوله تعالى: ( كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .

فالمحاورة التي جرت بين اللَّه تعالى وبين عُزير كانت على مستوى الروح وليس على مستوى البدن؛ لأنّ بدن عُزير لم يتمّ إنشاء إعادته أثناء المحاورة، فلا سمع بدني عندئذٍ ولا لسان ولا جوارح أُخرى تُقدِره على ذلك.

كما أنّ طبيعة النفس الإنسانية إذا وجدت في نشأة بعد نشأة أُخرى فإنّها تكون في حالة غيبوبة، ولدى النفس إقبال على النشأة الجديدة وذهول عن النشأة السابقة، كما في قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ يَوْمًا ) (1) ، وهذا ممّا يؤيّد ما تذهب إليه الإمامية في الرجعة، وذلك أنّه لو أُشكل بأنّ القول بالرجعة ينافي كون الدنيا دار امتحان وذلك بسبب إبطال الامتحان فيما سبق من النشآت، ممّا يعني أنّ أهل جهنّم عندما يرجعون إلى دار الدنيا قبل يوم القيامة بسبب ما ذاقوه من عذاب البرزخ سوف يتوبون وأنّ أهل الحقّ سوف يزدادون في أعمال الخير وهذا خلاف حكمة الامتحان في دار الدنيا.

والجواب: إنّ النفس عندما تقبل على نشأة أُخرى جديدة فإنّها تنسى النشأة السابقة وتعيش في نشأة جديدة.

ونفس الجواب يُجاب به لمن أشكل من فلاسفة المسلمين من الخاصّة حيث يستشكلون في عالم الذرّ من أنّ فرض وجود روح والمخاطبة في عالم لو كان كذلك لما نُسي عالم الذرّ في عالم النشأة اللاحقة، وكما أشكل ملاّ صدرا - إضافة إلى ما سبق - بقوله: ولكنّا معطّلين الوجود في عالم الذرّ أي لو كانت النفس غير

____________________

1) سورة طه: 102 - 104.

٥٣٨

حادثة بحدوث البدن، بأن كانت أسبق منه في الخلق، واستدلّ بأنّا لا نتذكّر أنّا كنّا في حركة وتأثير وفعّالية، ومن ثمّ اختار وأسّس نظريته أنّ النفس جسمانية الحدوث وروحانية البقاء، ورفض كون النفس روحانية الحدوث وروحانية البقاء.

والجواب عن كلّ ذلك هو: أنّ انبعاث النفس إلى نشأة جديدة وانشدادها إليها ينسيها مشاهد النشأة السابقة والنشآت السابقات، كما يقصّه لنا القرآن الكريم حول نسيان النفوس نشأة البرزخ. علماً أنّ السؤال الفطري في عالم الذرّ لا ينافي النسيان في النشأة اللاحقة.

وقوله تعالى: ( فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ) .

إنّ بدن عُزير في الظاهر قد بُلي، أمّا الطعام والشراب لم يبلَ، وهو نوع إعجاز، والقدرة الاعجازية هنا تعلّقت بالطعام والشراب الذي لابدّ من فساده ولم يفسد، وإحياء ما قد بُلي وهو عُزير.

وهذا شاهد قرآني على طول عمر الإمام الحجّة (عج)؛ فإذا أمكن إبقاء قابلية الطعام والشراب على البقاء ففي قدرته تعالى على إبقاء الإمام الحجّة (عج) أولى.

وقوله تعالى: ( وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ) ، أي: معجزة للناس، ولم يكن عُزير نبيّاً ولا رسولاً.

إنّ كون الشي‏ء آية لعموم النوع والجنس مثل خلق الإنسان، فلا تكون الحجّية لكلّ واحد من الناس بخصوصه في خلقته، في حين لو كان الإعجاز لشخص معين من حيث هو فعل اللَّه تعالى لشخص من باب التكريم والرحمة، فإنّ هذه الكرامة هي قدرة اللَّه تعالى تظهر في الشخص الذي هو في مقام الحجّة الإلهية.

على أنّ الذي يُحبى بالمعجزة الإلهية لا يمكن أن يكون غير حجّة؛ لأنّ ذلك سيكون تغريراً بالمكلّفين، نعم، فيما إذا كانت المعجزة لا من باب التكريم بل من باب النقمة، فإنّ الذي تقع عليه المعجزة عندئذٍ ليس بحجّة، كما حدث لفرعون

٥٣٩

وأمثاله من الظالمين.

كما أنّ أغلب موارد غير الحجّة لا يُعبّر عنها بالجعل، بل يُعبّر عنها بغير ذلك، نحو: (ليكون آية)، ( فَالْيَوْمَ نُنَجّيِكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (1) ، في حين موارد الحجّية أغلبها عبّر عنها القرآن الكريم (بالجعل)، كما في قوله تعالى: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (3) ، وهذا ما يؤيّد حجّية عُزير، فقوله تعالى: ( وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ) (4) ، والآية هنا آية تكوينية.

قوله تعالى: ( قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

وهذا أحد مؤيّدات حجّية عُزير؛ لأنّ العلم هنا إشارة إلى العلم اللدنّي لا الاكتسابي، ومن القرائن المؤيّدة أنّ عُزير له مقام الحجّة، ذكره في دعاء أُمّ داود في النصف من رجب، حيث ورد ذكره في سياق الحجج كلقمان، وخالد بن حنظلة، وغيرهما.

قوله تعالى: ( قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ ) ، إنّ اليهود ادّعوا أنّ العُزير ابن اللَّه لا على سبيل البنوّة، بل تشريفاً، كقوله تعالى: ( قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) (5) ، أي: اتّخاذ تشريفي لا حقيقي على سبيل البنوّة. لذا فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين حاجج اليهود - كما في رواية الطبرسي في الاحتجاج - وسألهم عن سبب اتّخاذهم هذه الدعوى، وكون عُزير هو ابن اللَّه، فقالوا: لأنّه أحيى التوراة فأقرّهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّه أحيى التوراة، ولكن لم يؤيّدهم على دعواهم الفاسدة أنّه ابن اللَّه. وهذه بنفسها قرينة على أنّ الإحياء للتوراة لا يكون إلاّ من قبل وصي.

____________________

1) سورة يونس: 92.

2) سورة مريم: 21.

3) سورة المؤمنون: 50.

4) سورة البقرة: 259.

5) سورة الكهف: 4.

٥٤٠