الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية3%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141397 / تحميل: 8971
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

وفي رواية ابن عبّاس أنّ اللَّه تعالى ألقى التوراة في قلب عُزير، فهو إلهام لدنّي، ولكنّ بعض المفسّرين قالوا: إنّ الإحياء هو جمع أوراق التوراة وليس هو إلقائها، إلاّ أنّ الروايات متّجهة إلى الرأي الأوّل، وهو إلقاء التوراة من قبل عُزير.

وفي رواياتنا أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام استنسخ التوراة، وتوارثها أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو ما يسمّى بالجفر الذي يشمل التوراة وصحف موسى وغيرها، ففيها ما هو كائن.

والقرآن الكريم لم يُخطّئ اليهود في تعظيم عُزير ومقام الحجّية لديه، بل يخطّئهم في دعواهم أنّ العُزير ولد اللَّه، سبحانه عما يصفون.

كما يُلاحظ في قصّة عُزير نكتة هامّة وهي أنّ إحياؤه للتوراة وحفظه للرسالة دليل على أنّ عُزير نفسه مؤهّل أن يُفاض عليه ما أفاض اللَّه تعالى على النبيّ موسى عليه‌السلام ، وهذا دليل على كونه حجّة من حجج اللَّه تعالى.

النموذج القرآني العاشر: الحواريون

قوله تعالى: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) (١) ، وظاهر الآية هو وحي وإحياء اللَّه لهم مباشرة لا بتوسّط النبيّ عيسى، كما ورد في الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في تفسير العياشي أنّهم: أُلهموا، وقولهم استجابة لهذا الوحي تخاطباً مع اللَّه عزّ وجلّ، أي اشهد يا اللَّه.

وقد ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام : (أنّ عدّتهم اثنا عشر، وأنّهم سمّيوا بالحواريّين لأنّهم مخلصين في أنفسهم ومخلّصين لغيرهم من أوساخ الذنوب) (٢) ، وكذلك عن

____________________

٥٥٣) سورة المائدة: ١١١.

٥٥٤) عيون أخبار الرضا، ج٢، ص٧٩، وتوحيد الصدوق، ص٤٢١، وعلل الشرائع، ص٨٠.

٥٤١

الإمام الرضا عليه‌السلام : (إنّ عدّتهم اثنا عشر وكان أفضلهم ألوقا) (١) ، وفي احتجاج الرضا عليه‌السلام على جاثليق النصارى في مجلس المأمون، قال عليه‌السلام : (أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أُمّته وأقرّت به الحواريّون) (٢) . أي بشارته لأُمّته بسيد الأنبياء، وهو الذي أقرّت به الحواريّون، فيظهر من كلامه عليه‌السلام أنّ الحواريين هم من الحجج المنصوبين، حيث احتجّ بإقرارهم.

وفي رواية عن أبي جعفر عليه‌السلام : (ثمّ إنّ اللَّه أرسل عيسى بن مريم إلى بني إسرائيل خاصّة، فكانت نبوّته في بيت المقدس، وكان من بعده الحواريّون اثني عشر، فلم يزل الإيمان يستسر في بقية أهله منذ رفع اللَّه عيسى عليه‌السلام ، وأرسل اللَّه تعالى محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الجنّ والإنس عامّة، وكان خاتم الأنبياء وكان من بعده الاثنا عشر الأوصياء عليهم‌السلام ) (٣) .

____________________

٥٥٥) التوحيد، ص٤٢١، وعيون أخبار الرضا، ج١، ص١٥٨.

٥٥٦) التوحيد، ص٤٢٠، وعيون أخبار الرضا، ج١، ص ١٥٦، وبحار الأنوار، ج١٠، ص٣٠١.

٥٥٧) البحار، ج١١، ص٥٢، عن إكمال الدين للصدوق.

٥٤٢

القائمة الثانية

من النماذج القرآنية

وهو ما حَبى اللَّه تعالى به من الأنبياء والرسل كما في القرآن الكريم من مقامات ومناصب إلهية، لا ترتبط وحيثية النبوّة، إلاّ أنّ أهل سنّة الجماعة فسّروا هذه المقامات بأنّها من باب الإعجاز، إلاّ أنّ القرآن الكريم وصفها بأنّها مناصب إلهية وليس هي لغرض الإعجاز فقط.

وجواب آخر لهذا التوهّم: وهو أنّ المعجزة يكفي فيها وقوعها بنحو دُفعي فقط فيما كانت من الأفعال، أما استمرارها فلا حاجة إليه، فالمعجزة كالبارقة الغيبية لإثبات الإعجاز، والحال أنّ هذه المقامات الموهوبة لهم مستمرّة طيلة أعمارهم الشريفة.

وجواب ثالث: إنّ هذه القدرات والمناصب لا ترتبط بحيثيات النبوّة، والشاهد على ذلك أنّ عصمة الأنبياء لو كانت في دائرة التبليغ فقط دون مقام حكومتهم لاستلزم التدافع عقلاً بين عدم العصمة في حكومتهم والقول بأنّ نصبهم من اللَّه تعالى؛ وذلك لأنّ أمر اللَّه تعالى بطاعتهم المطلقة يتناقض مع فرض إمكان خطئهم.

فيتبين من ذلك أنّ منصب الحاكمية والحكومة والإمامة الثابت لسيد الرسل، ولمن قبله في جملة من الرسل، هو مقام لهم لدنّي زائد على مقام النبوّة، وهذا ممّا يدلّل على أنّ المقامات الإلهية لا تختصّ بالنبوّة والرسالة فقط، بل تشمل الحاكمية وهي الإمامة وغيرها، كما في مقام الحجّية في دائرة محدودة كما في

٥٤٣

مريم وأُمّ موسى، ومن ثمّ فإنّ أهل سنّة الجماعة يذعنون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعصمة في حكومته ولكن يتحاشون من التصريح بذلك؛ خوفاً من لوازمها، ويشهد لإذعانهم الخفي بذلك أنّهم يقرّون بلزوم التوفّر على الفضائل في من يخلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولابدّ أن يكون صاحب فضائل يفوق غيره.

وهذه الفضائل والمناقب التي يذعنون بلزومها فيمن يخلف النبيّ إذا أمعن النظر في معانيها وحقيقتها يتّضح أنّها هي حقيقة العصمة، وأنّهم اضطرّوا إلى دعوى أنّ الخلفاء الثلاثة هم أفضل الخلق لأجل ذلك، فهذا إقرار خفي منهم بأنّ المفضول لا يقدّم على الفاضل، وبذلك أذعنوا إلى حقيقة مهمّة وهي أنّ من يتولّى منصب الإمامة والخلافة لابدّ من عصمته، إلاّ أنّهم يحاولون الاجتناب عن التصريح بذلك.

إذن فهناك حَبَوات ملكوتية تُعطى للأنبياء ليس على سبيل الإعجاز فقط، بل هي عناوين ومناصب إلهية أُخرى غير النبوّة.

ومعنى ذلك أنّ هذه المقامات لدى الأنبياء لا بما هم أنبياء، بل بما هم أولياء، فهذه الجهات مجعولة من قبل اللَّه تعالى بما هم حجج أولياء؛ لغرض الهداية الإيصالية، فالقرآن نبّه على هذه المقامات بما هم حكام أولياء لا بما هم رسل أنبياء.

النموذج الأوّل لهذه القائمة: آدم عليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا

٥٤٤

تَعْلَمُونَ ) (١) ، والآية مطلقة في الجعل الكلّي للخلافة والإمامة، والخلافة هي ولاية مطلقة، والنيابة هي ولاية متوسّطة، والوكالة هي ولاية ضعيفة.

والقرآن الكريم لا يستعرض بصراحة نبوّة آدم بل صرّح بخلافته، لذا أنكر بعض المنحرفين نبوّة آدم ؛ لعدم التصريح بذلك في الآيات.

قوله تعالى: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ ) ، فاعتراضهم من جهة ولاية آدم وليس في تبليغه كنبيّ.

قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ) ، وتعليم الأسماء ليس فيه بعثٌ لآدم في مقام النبوّة، فهي ليست شريعة ولا منهاجاً، بل حقائق مقامات تكوينية مرتبطة بأصل الديانة والولاية الإلهية.

والآية بينت أنّ ولاية آدم ليست مختصّة في الأرض، بل هي شاملة على الملائكة والإنس والجنّ، فالكلّ تُفترض عليه طاعة آدم.

وفي قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، والاصطفاء لا يختصّ بالنبوّة، بل يعمّ سائر المقامات والفضائل والكمالات اللدنية الوهبية، هذا الاصطفاء كالجنس العامّ للمقامات الغيبية؛ وذلك لدخول مريم عليها‌السلام في آل عمران مع كونها غير نبيّ بل كونها حجّة، فالاصطفاء إذن هو اجتباء للطهارة والعصمة، وللمقام من المقامات الغيبية.

النموذج الثاني: إبراهيم عليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا

____________________

١) سورة البقرة: ٣٠.

٢) سورة آل عمران: ٣٣ - ٣٤.

٥٤٥

قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) ، إنّ أصل الإمامة ليس هو مجرّد منصب اعتباري، بل هو منصب تكويني غيبي، وجعل إبراهيم إماماً إحدى درجاته النازلة هو الإدارة الظاهرة المعلنة أو الخفية لشؤون البشر، وتزويده بالعلم اللدنّي وجعله إماماً هو مقام غيبي يغاير مقام النبوّة.

وإذا كانت الهداية الإراءية أي بقاء الشرائع والتي هي من مهام الأنبياء غير منقطعة في أي حقبة من حقبات البشر، فإنّ الهداية الإيصالية التي هي من مهام الإمامة غير منقطعة كذلك، ومعنى ذلك أنّ الإمامة لا يمكن أن تنقطع أبداً، فمنصب الإمامة يؤكّده القرآن كسنّة إلهية، وليس هو بدعاً في العقيدة بل عقيدة قرآنية راسخة.

قوله تعالى: ( تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) (٢) ، ومعنى الإيتاء هنا هو الإيتاء بالعلوم اللدنّية والمقامات الإلهية التي ليست زائدة على شؤون النبوّة وحيثياتها.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) (٣) ، فإيتاء الكتاب والحكمة يغاير النبوّة، بشهادة سياق التعداد لبيان تنوّع النعم والمنن على بني إسرائيل، فكيف يُدّعى أنّ إيتاء الكتاب والحكمة هي النبوّة؟ ويعلم من الآية الكريمة أنّ الذي عنده علم الكتاب ليس بالضرورة أن يكون نبيّاً، كما هو الحال في آصف بن برخيا صاحب سليمان كما تقدّم. بل القرآن فيه موارد متعدّدة تدلّل على أنّ الإيتاء غير النبوّة.

قوله تعالى: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ

____________________

١) سورة البقرة: ١٢٤.

٢) سورة الأنعام: ٨٣.

٣) سورة الجاثية: ١٦.

٥٤٦

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) (١) ، فالكتاب، والحكمة، وإيتاء المُلك العظيم، ليس يتعلّق بحيثيات النبوّة، والمُلك سِنخ ملكوتي لدنّي وليس سِنخ اعتباري، ومن هنا يُفسّر الملك العظيم كما في الروايات بأنّه الإمامة.

لأنّ الملك مصحوب بالقدرة نظير عنوان الخلافة، كما في آدم، زوّد بالأسماء ثمّ سجدت له الملائكة، فقدرته نابعة من الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى إيّاه.

ودُعّم هذا المعنى بنفس الآية في قوله تعالى: ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) ، وهذا هو المُلك العظيم الذي هو القدرة وطاعة وخضوع جميع الملائكة في السموات والأرضين وائتمارهم للخليفة فضلاً عمّن هو تحت سيطرة الملائكة.

قوله تعالى: ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (٢) ، يُعبّر عن الإمامة بتعابير مختلفة، فمرّة يُعبّر عنها بالملك، وأُخرى يُعبّر عنها بالخليفة والإمامة، ورابعاً يُعبّر عنها بالكلمة، وإلى غير ذلك.

وذهب بعض أهل سنّة الخلافة بأنّ الكلمة هي كلمة التوحيد، أي مجرّد قول لا إله إلا اللَّه على اللسان، وهذا غير موافق لظاهر الآية؛ لأنّ إطلاق الكلمة قرآنياً لا يقتصر على الكلمة لفظياً، فقد أطلق على عيسى بكلمة اللَّه، فالحجج الإلهية هم كلمات اللَّه تعالى، والكتاب التكويني هو الذي تجمع فيه الكلمات جميعاً، أمّا هذا الكتاب الذي بين أيدينا فهو كتاب اعتباري جُمعت فيه الكلمات الاعتبارية.

وقوله تعالى: ( يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) (٣) أي يقيم الحقّ بكلماته، بيان للقائمين بالهداية الإرائية والإيصالية، والكلمات هم الحجج الذين يتولّون مهام

____________________

١) سورة النساء: ٥٤.

٢) سورة الزخرف: ٢٨.

٣) سورة يونس: ٨٢.

٥٤٧

الهداية الإرائية، ومن ثمّ مهام الهداية الإيصالية كذلك.

وفي قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (١) وإراءة الملكوت مقام زائد على مقام النبوّة، ومن ثمّ امتاز به إبراهيم على جملة من بقية الأنبياء، والملكوت هو الجانب الأمري والسلطة على كلّ مخلوق والذي هو بيده تعالى.

النموذج الثالث: إسحاق ويعقوب عليهما‌السلام

قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (٢) ، فالجعل هنا كالتعريف لبيان حدود المعنى للإمامة، إذ هناك منصب آخر غير النبوّة وهو منصب الإمامة كما ورد في القرآن الكريم، والهداية المعبّر عنها بقوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) هي هداية أمرية وهي هداية مَلَكوتية في مقابل الهداية المُلكية، وقد تقدّم شطر من بيان معنى الأمر من الكلام في الفصل السابق في مباحث ليلة القدر والفصول السابقة أيضاً، وأنّ الأمر هو الروح الأمري، وهو روح القدس الذي يتنزّل ليلة القدر وينزل الملائكة معه.

وقوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ... ) ، ممّا يدلّ على أنّ الإمامة هي وحي تسديدي وليس من الوحي النبوي.

وقوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) ، ولم يكن التعبير: (وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات) والفرق بين التعبيرين أنّ في التعبير الأوّل متعلّق الوحي ذات فعل الخير تكوينياً، وأمّا في التعبير الثاني متعلّق الوحي ليس هو ذات الفعل وإنّما هو الأمر التشريعي والطلب الإنشائي للفعل، وهو دليل على أنّ الأئمّة عليهم‌السلام لديهم

____________________

١) سورة الأنعام: ٧٥.

٢) سورة الأنبياء: ٧٣.

٥٤٨

العصمة الفعلية، كما أنّ منصب الإمام ليس هو مجرّد منصب تشريعي اعتباري، بل منصب تكويني لدنّي.

فهناك عصمة علمية وعصمة عملية لقوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) ، ممّا يدلّ على أنّ أفعالهم حجّة إلهية، فضلاً عن أقوالهم صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

وقوله تعالى: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (١) ، والآية تدلّ على وجود الهداية الإيصالية في الإمامة لقوله تعالى: ( وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ، أي هناك حيثية إيصالية في هدايتهم لبيان الغاية والعاقبة.

وقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٢) ، وهنا تبين أنّ الإمامة سنخ غيبي غير سنخ النبوّة، فالأمر الإلهي في القرآن هو جانب الملكوت. والإيقان هو التسليم والمعرفة التامّة، فالإمام لديه اليقين التامّ، أي أنّ الملكوت أمامه دائماً، والروح الأمري وهو غيب عن عالم السماوات وعن عالم الملائكة، لذا فهو يهدي بالهداية الإيصالية.

وقوله تعالى: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٣) ، إنّ التعبير: ( إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) دليل على أنّ العلم هذا ليس علماً كسبياً، بل هو علم لدنّي أوتي به يعقوب غير مرتبط بالنبوّة، هو من غير قناة النبوّة، بل هو من باب الولاية الاصطفائية.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ

____________________

١) سورة القصص: ٥.

٢) سورة السجدة: ٢٤.

٣) سورة يوسف: ٩٦.

٥٤٩

شَيْ‏ءٍ إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١) ، وهذا هو العلم الذي عُلّم به يعقوب، غير مرتبط بالنبوّة، بل مرتبط بتدبير الأُمور على نحو التفصيل في الشؤون المعاشية المرتبط بالولاية، والتعبير لما علّمناه هو تأكيد آخر على كونه علماً لدنياً غير كسبي.

النموذج الرابع: يوسف عليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (٢) ، إيتاء علم تأويل الأحاديث ليوسف ليس كسبياً بل هو لدنّي، وليس هو من شؤون النبوّة؛ إذ ليس مرتبطاً بالتشريع أو المسائل الاعتقادية. فما المقصود بتأويل الأحاديث؟

إنّ تأويل الأحاديث ليس هو تأويل الرؤيا وحده، بل هو أحد مهامه إذ تأويل الأحاديث أعمّ من ذلك، حيث إنّ كلّ نشأة تأويل للنشأة السابقة، فعالم الأصلاب هو تأويل لعالم الذرّ وعالم الأرحام تأويل لعالم الأصلاب وهكذا، إذ التأويل من الأوْل أي الرجوع، فكلّ نشأة راجعة إلى النشأة السابقة، فالتأويل هو منتهى الشي‏ء والمآل له.

ونبيّ اللَّه يوسف عليه‌السلام ليس لديه تأويل الرؤيا فحسب، بل لديه علم معرفة مآلات أحداث الدنيا أي عواقب تلك الأحداث الدنيوية.

هذا على مستوى نطاق نبوّة يوسف عليه‌السلام ، فكيف بنبيّ اللَّه الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه المعصومين؟ فقد حُبوا أكثر وأعظم مما حُبي به يوسف عليه‌السلام ، وذلك لقوله تعالى:

____________________

١) سورة يوسف: ٦٨.

٢) سورة يوسف: ٢١.

٥٥٠

( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) ، والضمير في تأويله عائد إلى كلّ الكتاب، وتأويل كلّ الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا رطب ولا يابس ولا غائبة في السماء والأرض إلاّ أحصاها، ومعلوم أنّ الراسخين في العلم في هذه الأُمّة هم صلوات اللَّه عليهم أجمعين؛ وذلك بشهادة آية التطهير، وأنّ أهل البيت هم المطهّرون في هذه الأُمّة، وقد قال تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢) .

وأما قوله تعالى: ( هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) (٣) ، فالظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما أنعم اللَّه عليه من معرفة تأويل الأحاديث، ومنه تفسير الرؤيا الذي عرف به مآل مستقبل أهله وإخوته.

وهذا نوع من أنواع العلم اللدنّي الذي حُبي به يوسف عليه‌السلام ، ولا ربط له بالرسالة بل بعلوم الولاية. وتأويل الأحاديث أعمّ من تعبير الرؤيا إلاّ أنّه أخصّ من تأويل القرآن؛ لأنّ تأويل القرآن تأويل لكلّ النشأت السابقة واللاحقة للنشآت الأُخروية، فالذي يحيط بعلم تأويل القرآن هو أعلم ومهيمن على علم من يحيط بتأويل الأحاديث، ومن هذا القبيل قوله تعالى:

( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً ) (٤) ، إشارة إلى أنّ الاستنباط بالمعنى القرآني لا بمعنى الاجتهاد الظنّي؛ إذ هو لا يورث العلم ولا يوقي عن اتّباع الشيطان في تدبير النظام الاجتماعي السياسي؛ إذ يتوقّف ذلك علاوة على العلم المحيط بالتشريعات الإلهية، على العلم اللدنّي المحيط

____________________

١) سورة آل عمران: ٧.

٢) سورة الواقعة: ٨٠.

٣) سورة يوسف: ١٠٠.

٤) سورة النساء: ٨٣.

٥٥١

بالموضوعات في الشؤون المختلفة وعلم الأحداث الذي يزوّد به وليّ الأمر في ليلة القدر، حيث يتنزّل عليه تفاصيل كلّ الأحداث المستقبلية صغيرها وكبيرها، وقد تقدّم شطر وافر من الكلام في الفصل السابع من مباحث ليلة القدر، وقرينة على إرادة هذا المفاد من الآية هو التعبير بـ ( لَعَلِمَه ) الظاهر في حقيقة العلم لا الظنّ، لا سيّما قد وصف هذا العلم بأنّه يوقي بنحو دائمٍ باتٍ عن اتّباع الشيطان، وهو أشرف من علم تأويل الأحاديث.

قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (١) ، إنّ الآية تبيّن أنّ التمكين بيد اللَّه تعالى فزمام الأُمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكلّ دقائق الحياة - كما سيأتي بيانه مفصّلاً - موكول أمره إلى اللَّه تعالى.

وتمكين يوسف في الأرض مقاماً غير النبوّة، بل هو مقام حاكمية من قبل اللَّه تعالى، وهي إحدى الحَبوات التي حُبي بها يوسف عليه‌السلام .

وإنّ ما عمله أُخوة يوسف عليه‌السلام هو بنفسه يصبّ في الغرض الإلهي، وإن كان معصية من قِبَلهم، وهذه سنّة لا تتخلّف من أنّ كلّ ما يعمله الظالمون والمفسدون فإنّه غير غالب لتدبير اللَّه تعالى، بل اللَّه تعالى غالب على أمره قد جعل اللَّه لكلّ شي‏ء قدراً: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٢) ، فإنّه أخيراً سيصبّ في الغرض الإلهي، ولا يعني هذا حسن عمل السوء، فالقبيح يبقى قبيحاً، وعمل السوء يحيق بصاحبه: ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّى‏ءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ ) (٣) ، ولا يضرّ اللَّه شيئاً

____________________

١) سورة يوسف: ٢١ - ٢٢.

٢) سورة الأنفال: ٣٠.

٣) سورة فاطر: ٤٣.

٥٥٢

- وهو ما تؤكّده الآية التالية - نظير عمل إبليس، فإنّ دخول الشرور في منظومة الخلقة الإلهية لا يخرج الأمر عن تدبيره تعالى، ولا يعيق قيد شعرة الخطّة الإدارية التكوينية عن الوصول إلى الغايات الكمالية.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) وهذا تأكيد على أنّ كلّ مجريات العالم بدقائقه وكلّياته مرتبطة بإرادته تعالى، وهذا خلاف ما ادّعته اليهود بأنّ يد اللَّه مغلولة، فأجابهم اللَّه تعالى بقوله: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) ، فالإرادات التكوينية للمخلوقين لا يمكن أن تتخطّى إرادة اللَّه تعالى، لا بمعنى إلجائهم بنحو يُفقدهم الاختيار إلى الجبر، بل بمعنى إنّ ما يفعلوه من أفعال الشرّ يستثمره الباري تعالى بلطيف قضاءه وقدره، ومكنون حكمته، في تحقيق الغايات الكمالية الإلهية، ففعلهم شرّ، إلاّ أنّ فعله تعالى في تدبير القضاء والقدر لاستثمار ذلك خير تامّ بالغ، فكيف نتصوّر بعد ذلك أنّ اللَّه تعالى قد رفع اليد عن الأُمور الاجتماعية وأهمّها قيادة المجتمع الذي يمثّله تعيين الإمام الخليفة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قوله تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ، أي: لا يعلمون أنّ كلّ حدث يجري ويصبّ هو في الإرادة الإلهية.

وبالتدبّر في سيرة حكومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن، وتصرّف وإرادات اللَّه تعالى في حكومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المستعرضة في القرآن واضحة جلية، فهل يعقل انقطاع تصرّف الإرادات الإلهية في تدبير النظام البشري بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعدم تعيين الخليفة الذي تتنزّل عليه المشيئة الإلهية والإمام من قبل اللَّه تعالى؟

فالقول بعدم تعيين الإمام من قبل اللَّه تعالى تعطيل محض لإرادات اللَّه تعالى وحُكْمه وحاكميته في تدبير النظام البشري.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ، فإيتاء العلم والحكمة جزاء لمن وصل إلى مقام الإحسان؛ لقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ

٥٥٣

نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ، ولا علاقة لهذا الإيتاء بالنبوّة.

فالعلم اللدنّي هنا لمقام المحسنين وليس للنبوّة، وهو ما يتوفّر لدى الأئمّة عليهم‌السلام الذين آتاهم اللَّه تعالى علماً لدنياً بسبب مقامات عدّة ليس لها علاقة بمقام الرسالة، بل لكونهم حججاً مصطفين.

قوله تعالى: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) ، فصرف السوء والفحشاء ليس لكونه نبيّاً فقط، بل لكونه من عباده المخلَصين، وقد عبّر تعالى بقوله: ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ) ، أي نمنع عنه السوء والفحشاء، ولم يقل ونصرفه عن السوء والفحشاء، أي نبعد السوء عن أن يقترب إليه، وليس إبعاد يوسف عن أن يقترب إلى السوء والفحشاء؛ إذ لم يكن من قبل النبيّ يوسف إقبال على الفحشاء والسوء كي يُبعد عنه، بل الفحشاء في فعل زليخا حيث أرادت أن تقبل على يوسف فصُرفت عنه، فهذه دلالة على عصمة يوسف ذاتاً بل وعصمته عن أن يُخترق حريم عصمته من البيئة المعاشة.

وبذلك يظهر دلالة قوله تعالى الذي هو بنفس التعبير والتركيب: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (١) على عصمتهم الذاتية، وعلى عصمتهم عن أن يخترق الرجس حريم عصمتهم، كما يشير إلى ذلك أيضاً ما في زيارة سيد الشهداء عليه‌السلام : (ولم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمّات ثيابها)، وهذا دليل على أنّ يوسف عليه‌السلام لم يهمّ بها بل هي همّت به.

لذا فإنّ لدى المعصوم شعاع من العصمة يمنع السوء عن المعصوم فضلاً عن عصمته الذاتية. وفي سورة الدهر أكّدت أنّ أهل البيت عليهم‌السلام من عباد اللَّه المخلصين حيث أخلصوا مع اللَّه تعالى فانتجبهم واجتباهم، وحيث جعلوا فوق مقام الأبرار

____________________

١) سورة الأحزاب: ٣٣.

٥٥٤

فهم يسقون الأبرار من عين الكافور فيمزجون شرابهم منه.

قوله تعالى: ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (١) .

وهذه المرتبة حيثية أُخرى غير النبوّة يمكن أن تجعل النبيّ حاكماً في الأرض، والشرائط الشرعية في كونه حاكماً أن يكون حفيظاً عليماً، وهي بعينها شرائط الإمامة، وهي كونه تتوفّر لديه العصمة العلمية (عليم) ، فضلاً عن العملية (حفيظ) ، بخلاف من قال بتقديم المفضول على الفاضل كما ذهبت إليه المعتزلة.

وفي الآية مفهوم من أقوى المفاهيم، وهو مفهوم التعليل حيث علّلت العلم علّة لمنصب الحاكمية والجاهل ليس له ذلك، وهذا ما تلتزم به الإمامية من كون الإمام والخليفة لابدّ أن تتوفّر لديه العصمة العلمية فضلاً عن العملية، فيكون عليماً بنظم التدبير في النظام الحاكم في مجالاته المختلفة، ولا يجهل أوفق البرامج الموصلة إلى المثل العليا في الكمال في الأنظمة الاجتماعية في الميادين المختلفة، ويكون حافظ لهذه الأمانة في الحاكمية فلا يميل به الهوى ولا تستولي عليه العصبية ولا يغلبه التجبّر ولا يقعده الجبن، إلى غير ذلك من الصفاة المانعة من حفظ الأمانة.

قوله تعالى: ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) (٢) ، وهي إشارة إلى أنّ الأُمور لدى الأنبياء فضلاً عمّن دونهم كلّياتها وجزئياتها تجري وفق التدبير الإلهي

____________________

١) سورة يوسف: ٥٤ - ٥٦.

٢) سورة يوسف: ٧٦.

٥٥٥

وضمن مسارات الإرادة الإلهية، فأخذ يوسف أخاه في دين الملك لم يكن بتدبير يوسف منعزلاً عن الإرادة الإلهية والمشيئة الربّانية.

قوله تعالى: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (١) ، فخاصّية قميص يوسف أنّه إذا أُلقي على أبيه يرتدّ بصيراً، فكيف ببدن يوسف عليه‌السلام ، لذا فإنّ اللَّه تعالى يكرّم أولياءه بخاصّيات تكوينية.

قوله تعالى: ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (٢) ، وهذا أيضاً تأكيد على أنّ ما أُوتي من مقامات لا ترتبط بمقام النبوّة والرسالة بل بمقام الولاية.

النموذج الخامس: موسى عليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَاْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاّ فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٣) .

____________________

١) سورة يوسف: ٩٣.

٢) سورة يوسف: ١٠١.

٣) سورة البقرة: ٦٧ - ٧٣.

٥٥٦

إنّ البقرة هنا لها خاصّية إحياء الموتى على يد موسى عليه‌السلام فكيف بالنبيّ أو الوصيّ عليهما‌السلام ، وليس في ذلك غلوّ أو خلاف الحقّ، بل القرآن ينصّ على خصائص تكوينية لأجسام الأنبياء والأوصياء.

ثمّ إنّ الآية - وهي في منازعة قضائية جنائية - تؤكّد أمراً مهمّاً، وهو متابعة اللَّه تعالى للمجتمع الإسرائيلي الذي أسّسه موسى عليه‌السلام في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا يعني أنّ اللَّه تعالى يباشر حكومة هذا المجتمع عن طريق موسى في السياسات الكلّية والجزئية، ممّا يؤكّد أنّ اللَّه تعالى يمارس الحاكمية بشكلٍ تفصيلي بكلّ دقائق الأُمور وكلّياتها.

إنّ التوجّه السائد لدى أهل سنّة الجماعة والخلافة - وللأسف - أنّهم يُبعدون الذات المقدّسة عن ساحة الأحداث، وهو لازم قولهم إنّ خلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر دنيوي لا دخل للحاكمية والولاية الإلهية التفصيلية فيه، أي تعطيل الدور الإلهي وإزوائه، والإرادة الإلهية التفصيلية والمشيئة التنفيذية لا تتنزّل على أحد إلاّ على نبيّ أو وصي معصوم، وهو ما دفع أهل سنّة الجماعة - على ما يبدو - إلى عدم الالتزام بهذه الحقيقة القرآنية العظيمة وهي حاكمية اللَّه وسلطته التنفيذية في تفاصيل تدبير النظام البشري السياسي والاجتماعي.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (١) ، والآية صريحة في عقيدة الإمامية من كون الحكم بالشريعة في النظام الاجتماعي السياسي هو للأنبياء، وهو منصب يختصّون به، والمرتبة الثانية أنّ الحكم للربّانيين وهم الأولياء المصطفون، والرتبة الثالثة الحكم للأحبار أي

____________________

١) سورة المائدة ٤٤: ٥.

٥٥٧

العلماء، وهذه الطولية في جعل الحكم هي لمغايرة الربّانيين للأحبار.

والربّاني هو المنسوب إلى الربّ، وهي صيغة مبالغة وهذه الصيغة تدلّ على شدّة القرب للَّه تعالى، فهو لابدّ أن يكون معصوماً، والربانية هي مرتبة اصطفائية وهم الأئمّة عليهم‌السلام .

وقرينة أُخرى على أن المراد بهم الأوصياء بقوله تعالى: ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) ، فالذي يكون شهيداً على الكتاب كلّه لابدّ أن تكون إحاطته بالكتاب لدنيّة، أي نظير تعبير بمن عنده علم الكتاب، كما تدلّ هذه القرينة على أنّ الربّاني لا تخلو منه الأرض، لأنّه الحافظ لإقامة كتاب اللَّه في النظام البشري فقد استحفظ وكان على ذلك شهيداً، فلا يستقلّ الأحبار في الحكم النيابي عن الربّاني وعن هيمنة وإشراف الوصي المعصوم في كلّ الأزمان.

قوله تعالى: ( إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) (١) ، وجعل الملك في بني إسرائيل من قبل اللَّه تعالى دليل على كونه جعلاً إلهياً وعهداً منه، وأنّ سنخ جعل الملك كما هو في جعل النبوّة، كما في قصّة طالوت حيث جعله اللَّه ملكاً بغضّ النظر عن اختيار الناس له.

والملك هنا ملك تصرّف فهو لا يقتصر على الاعتبار التشريعي، بل الملك هنا أعمّ كما في قوله تعالى في آل إبراهيم: ( وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) (٢) ، فهو منصب إلهي غير منصب النبوّة؛ إذ إنّ موسى عليه‌السلام جعل الملك نعمة وحَبوة، وهي غير مختصّة ببني إسرائيل فتعمّ كلّ الأمم، والأُمّة الإسلامية هي أولى في جعل الملك لديها وهي الإمامة، ففي آيات عدّة عُرّف حدّ الإمامة بالملك وولاية التصرّف.

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ) (٣) ،

____________________

١) سورة المائدة: ٢٠.

٢) سورة النساء: ٥٤.

٣) سورة المائدة: ١٢.

٥٥٨

فمع كون النقباء غير أنبياء إلاّ أنّ التعبير ورد ( وَبَعَثْنَا ) ، فبعث النقباء كبعث الأنبياء عهدٌ إلهيٌّ، ملكوتي، تكويني، وقد ورد التعبير بعينه أيضاً في طالوت حيث قال تعالى على لسان نبيّ بني إسرائيل: ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) (١) كذلك.

والنقابة هي معرفة أحوال القوم وخفاياهم، فالنقيب من نقّب عن أحوال قومه، ولذا فقد ورد في صِفاة الإمام معرفته لأحوال وأسرار أُمّته، حيث ورد في الروايات أنّ الإمام عليه‌السلام له عمود نور يرى بواسطته أعمال الناس، وهو مفاد قوله تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (٢) ، فالمؤمنون هاهنا خصوص الأئمةّ الشهداء على أعمال البشر، يرون الأعمال حين صدورها من الإنسان، وهو معنى الشهادة والرؤية لها في سياق رؤية اللَّه تعالى، ومن بعده رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن بعده المؤمنون المعني بهم ما ذكرهم تعالى في آخر سورة الحجّ:

( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (٣) ، فهم من نسل إبراهيم الخليل من قريش، فالإمام نقيب بما فيه من التأهيل لمعرفة أحوال البشر.

كما أنّ العدد اثني عشر له دلالة على الإمامة الاثني عشرية، فالعدد هذا ليس اعتباطي بل سنّة إلهية في الأُمم؛ إذ ورد أنّ أوصياء كلّ نبيّ اثنا عشر، كما ورد أنّه يجري في هذه الأُمّة ما جرى في بني إسرائيل، وورد في الحديث النبويّ (٤) المتواتر: (أنّ خلفائي اثني عشر كلّهم من قريش من هذا البطن من بني هاشم).

قوله تعالى: ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ

____________________

١) سورة البقرة: ٢٤٧.

٢) سورة التوبة: ١٠٥.

٣) سورة الحجّ: ٧٨.

٤) لا حظ إحقاق الحقّ، ج١، ص١ - ٥٠.

٥٥٩

لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) ، تدلّل الآية على أنّ الشريعة الموسوية فيها حاكمية وإمامة إلهية؛ لأنّ موسى عليه‌السلام استخلف هارون عليه‌السلام في قومه حاكماً فترة غيابه والتي وهي أربعون ليلة، فكيف لا يستخلف النبيّ عليه‌السلام إماماً وخليفة بعد وفاته؟ مع أنّ أهل سنّة الجماعة أقرّوا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلف في حياته على المدينة المنوّرة عند خروجه في الغزوات.

قوله تعالى: ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (٢) ، والأُمّة هي المجموعة ذات الهدف الواحد، و (من) تبعيضية، أي بعض قوم موسى يقومون بالهداية ويقيمون العدل بالحقّ، ودوام الصفة وإطلاقها يدلّ على العصمة العلمية والعملية؛ إذ الصفة أوتي بها بصيغة جملتين من الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار والشمولية، والتعبير في الجملة الأُولى يدلّ على دوام الفيض العلمي اللدنّي لديهم، والتعبير في الجملة الثانية يدلّ على دوام البسط والتمكين الإلهي لهم لأسباب إقامة العدل، وهم أئمّة وذلك بهديهم وإمامتهم للناس، فكيف في أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذن لا يكون هناك أُمّة منهم أئمّة هدى؟

قوله تعالى: ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ) (٣) ، فاختيار موسى للميقات هو اختياره لهم إلى مقام تشريفي، إلاّ أنّ اللَّه تعالى لم يرتضِ أهلية هؤلاء؛ لأنّ فيهم السفهاء وهم جهلاء ظالمون، فلا يكونوا مؤهّلين لسماع الوحي والتكليم الإلهي، لقوله تعالى لإبراهيم في إمامة ذرّيته: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، وكما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّف أبا بكر تبليغ سورة براءة، إلاّ أنّ الوحي استدرك وأمره: (أن لا يبلّغ إلاّ

____________________

١) سورة الأعراف: ١٤٢.

٢) سورة الأعراف: ١٥٩.

٣) سورة الأعراف: ١٥٥.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592