الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية10%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141338 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فمع قرب ابن حنبل من المتوكل وبعده عن أهل البيت (ع) لكن موجة الغضب العامة على المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع) تجعله يشك في أقرب الناس اليه!

3. أبوهاشم الجعفري هو: داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم. وهو من كبار أصحاب الأئمة المعصومين (ع)، ولم يكن من خطهم الثورة كالزيديين، لكنهم كانوا يتضامنون مع الثائرين منهم إذا نُكبوا، ويدافعون عنهم. قال السيد الخوئي « 8 / 122 » : « أبوهاشم الجعفري (رحمه الله): كان عظيم المنزلة عند الأئمة (ع)، شريف القدر، ثقة، روى أبوه عن أبي عبد الله (ع). وقال الشيخ: داود بن القاسم الجعفري، يكنى أبا هاشم، من أهل بغداد، جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة (ع)، وقد شاهد جماعة منهم: الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر، وقد روى عنهم كلهم (ع). وله أخبار ومسائل، وله شعر جيد فيهم، وكان مقدماً عند السلطان وله كتاب، أخبرنا به عدة من أصحابنا ».

4. بنوطاهر وآل طاهر: هم أولاد طاهر بن الحسين وأقاربه، وهوقائد جيش المأمون في حربه مع أخيه الأمين، وهوالذي احتل بغداد وقتل الأمين. وقد أطلق المأمون يده في خراسان حتى عرفت بالدولة الطاهرية، كما أطلق يد آل طاهر في العراق، فكانت بغداد بيد إسحاق بن إبراهيم.

قال ابن الأثير في الكامل « 7 / 236 »: « وفيها « 235 » توفي إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب المصعبي وهوابن أخي طاهر بن الحسين، وكان صاحب

١٨١

الشرطة ببغداد أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل. ولما مرض أرسل إليه المتوكل ابنه المعتز مع جماعة من القواد يعودونه، وجزع المتوكل لموته ».

وقال اليعقوبي « 2 / 488 »: « وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر إلى بغداد من خراسان سنة 237، فصيَّر إليه ما كان إلى إسحاق بن إبراهيم ».

وبنوطاهر ليسوا خزاعيين، بل من موالي خزاعة، وأصلهم من أمراء فارس. قال العمري في أنساب الطالبين / 383: « وأما ابن طاهر فهومحمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان، أسلم جده رزيق على يد عبيد الله بن طلحة الطلحات الخزاعي، والي سجستان فنسب إليه ولقب بالخزاعي لهذا السبب، لا لانتمائه الى قبيلة خزاعة من جهة النسب.

وآل طاهر أسرة قديمة تنتسب الى أمراء الفرس الأولين، ويذكر منها في عالم الحرب والأدب والنجدة أفرادٌ كثيرون، وكان مصعب يتولى أعمال مَرْو مع أعمال هراة. وأول من نبغ من هذه الأسرة واشتهر في عهد بني العباس، طاهر بن الحسين بن مصعب، أبلى في خدمة المأمون أحسن بلاء وأخلص له ونصح في ولائه وتوطيد ملكه، فولاه خراسان وأطلق يده فيها، فأصبحت دولة طاهرية مستقلة في حكومتها، لا تربطها ببغداد الا خطبة المنبر.

وكان محمد بن عبد الله بن طاهر عظيم النفوذ في الدولة، تميل الخلافة حيث يميل ومات محمد في ذي الحجة من سنة 253 ، وهوالذي أنفذ جيشاً الى يحيى ».

ويظهر أن بني طاهر كانوا كأسيادهم العباسيين يعتقدون بصدق النبي (ص)، وبأنهم غصبوا سلطانه من أهل بيته (ع) وظلموهم وقتلوهم بغير حق.

١٨٢

فقد روى أبوالفرج أن محمد بن طاهر والي بغداد تشاءم من قتله يحيى بن عمر العلوي، فأرسل عائلته الى خراسان، لأنه كان يعتقد أن قتله لبني علي (ع) سيسبب زوال ملكه! « وأمر محمد بن عبد الله حينئذ أخته ونسوة من حرمه بالشخوص إلى خراسان، وقال: إن هذه الرؤس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم قط إلا خرجت منه النعمة، وزالت عنه الدولة، فتجهزن للخروج »! « مقاتل الطالبيين / 423 ».

وبالفعل جاءهم الشؤم في الصراعات الداخلية بين خلفاء بني عباس، ومات محمد بن عبد الله بن طاهر في حرب المعتز في أواخر سنة 253 : فـ « اشتد وجد المعتز عليه، وكان يرى أن الأتراك يهابونه من أجله ». « الأعلام: 6 / 222 ».

وانتهت دولة آل طاهر بعد قتلهم يحيى فما انتعشوا بعد ذلك! « نثر الدرر: 1 / 265 ».

ويؤكد ما ذكرنا من اعتقاد بني طاهر بأهل البيت (ع) ما رواه الصدوق في الخصال / 53: « عن محمد بن عبد الله بن طاهر قال: كنت واقفاً على أبي وعنده أبوالصلت الهروي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن محمد بن حنبل، فقال أبي: ليحدثني كل رجل منكم بحديث، فقال أبوالصلت الهروي: حدثني علي بن موسى الرضا، وكان والله رضاً كما سمي، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): الايمان قولٌ وعملٌ فلما خرجنا قال أحمد بن محمد بن حنبل: ما هذا الإسناد؟ فقال له أبي: هذا سُعُوطُ المجانين، إذا سُعِطَ به المجنون أفاق ».

١٨٣

5. تدل قصيدة ابن الرومي على أنه كان شيعياً (رحمه الله). وشعره ملئ بالصنعة وفيه تكلف، وهو لايرقى الى شعر الطبقة الأولى من شعراء العصر العباسي.

كما تدل قصيدته على أن الأبنة والشذوذ كان منتشراً في شخصيات العباسيين، وأن العلويين كانوا طاهرين من هذا الرجس، لاحظ قوله:

أروني امرأ منهم يُزَنُّ بأُبنة

ولا تنطقوا البهتان والحق أبلج

وقوله: يُزَنُّ بأبنةٍ: فعل زَنَّ بتشديد النون بمعنى: اتَّهم.

قال ابن فارس «3/5»: « يقال أزننت فلاناً بكذا، إذا اتهمته به. وهو يُزَنُّ به ».

دور قم المميز في زمن الإمام الهادي (ع)

1. تميزت قم بموقعها الجغرافي ، في طريق خراسان، فكل قاصد من العراق أوالحجاز الى خراسان وما وراء النهر، يمر بها.

2. وتميزت ثانياً بمركزها التجاري ، فقد كانت ضريبتها السنوية مليوني درهم!

قال الطبري « 7 / 183 »: « وفي هذه السنة « 210 » خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج. ذُكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج وكان خراجهم ألفي ألف درهم ». وتقدم ذلك في سيرة الإمام الجواد (ع).

3. وتميزت ثالثاً بشجاعة أهلها وثوراتهم، فقد احتاج المأمون في مهاجمتها الى ثلاث فرق، وكان عمدة أهلها الأشعريون.

قال البلاذري في فتوحه « 2 / 386 »: « وقد نقضوا في خلافة أبي عبد الله المعتز بالله بن المتوكل على الله، فوجه إليهم موسى بن بغا عامله على الجبل، لمحاربة الطالبيين الذين ظهروا بطبرستان، ففتحت عنوةً وقتل من أهلها خلق كثير ».

١٨٤

وقال البلاذري في فتوحه « 2 / 398 »: « ولما كانت سنة 253 ، وجه أمير المؤمنين المعتز بالله، موسى بن بغا الكبير مولاه إلى الطالبيين الذين ظهروا بالديلم وناحية طبرستان. وكانت الديالمة قد اشتملت على رجل منهم يعرف بالكوكبي فغزا الديلم وأوغل في بلادهم وحاربوه فأوقع بهم، وثقلت وطأته عليهم واشتدت نكايته ».

وفي رجال الطوسي / 443: « إبراهيم بن عبد الله بن سعيد، قال: لما توجه موسى بن بغا إلى قم فوطأها وطأة خشنة، وعظم بها ما كان فعل بأهلها، فكتبوا بذلك إلى أبي محمد صاحب العسكر (ع) يسألونه الدعاء لهم، فكتب إليهم أن ادعوا بهذا الدعاء في وتركم، وهو وذكر الدعاء ». « محمد بن الحسين بن سعيد بن عبد الله بن سعيد الطبري، يكنى أبا جعفر، خاصي، روى عنه التلعكبري وقال: سمعت منه سنة ثلاثين وثلاث مائة وفيما بعدها، وله منه إجازة. وسمع منه الدعاء الذي كتب به إلى أهل قم، وروى حديث ابن بغا لما توجه إلى قم ».

وكانت حملة موسى بن بغا على الثوار العلويين في آذربيجان وطبرستان سنة 253 قبل وفاة الهادي (ع) بسنة، وقبل قتل المعتز بسنتين. « ثقات ابن حبان: 2 / 331 ». وسيأتي ذكرها إن شاء الله في سيرة الإمام العسكري (ع).

وتميزت قم بأنها مصدر نصرة للأئمة (ع) « وكان قد سعيَ بأبي الحسن إلى المتوكل، وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم ». « تاريخ الذهبي: 18 / 199 ».

١٨٥

وكان القميون يحملون أخماسهم وهداياهم الى الإمام (ع) في سامراء، وكانت الدولة تحاول كشف ذلك ومعاقبة القميين.

وتميزت قم خامساً، بأنها العاصمة الدينية لأهل البيت (ع) في إيران، فقد كانت مركزاً علمياً فيها فقهاء كبار ووكلاء للأئمة (ع)، وكان الشيعة يأخذون منهم فتاواهم ومعالم دينهم، ويدفعون اليهم أخماسهم ليوصلوها الى الإمام (ع).

« وعن الصادق (ع): إن لله حرماً وهو مكة، وإن للرسول حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهوالكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم ». « البحار: 57 / 216 ».

هذا، وكان لقم صلة بمصر لأن المأمون نفى عدداً من زعمائها الى مصر، ونبغ منهم قادة عسكريون كالقائد المعروف: محمد بن عبد الله القمي الذي ولاه المتوكل أمر قبائل البجة في السودان الذين منعوا المسلمين مناجم الذهب، فوضع لهم خطة وانتصر عليهم، وأسر ملكهم علي بابا، وجاء به أسيراً الى سامراء سنة 241.

وقد روى الطبري تفصيل ذلك في تاريخه « 7 / 379 ».

١٨٦

الفصل التاسع:

مرسوم إمامة ابن حنبل بعد هدم قبر الحسين (ع)

كان ابن حنبل غير مرضي عند المأمون والمعتصم والواثق

قال الخليل في العين « 3 / 338 »: « الحنبل: الضخم البطن في قصر. ويقال: هوالخُف أوالفرو الخلق. والحِنبال والحِنبالة: القصير الكثيرالكلام ».

وأضاف ابن منظور « 11 / 182 »: « الحَنْبَل والحِنْبَال والحِنْبَالة: القصيرالكثير اللحم. والحُنْبُل: طَلْعُ أُمّ غَيْلان ». وهي شجرة العُضَاه، وثمرها كاللوبياء لايؤكل .

وكان أحمد بن محمد بن حنبل من العلماء العاديين في بغداد، ولم يشتهرحتى أحضره المأمون ليمتحنه في خلق القرآن في سنة 212، فقد كان المأمون يُحضرالعلماء ويحذرهم من القول بأن القرآن غير مخلوق، لأنها تعني أنه قديمٌ مع الله تعالى، وأن الله مركبٌ وكلامه جزءٌ منه، وهذا شرك!

فإذا أصرَّ أحدٌ منهم على أن القرآن قديم، كان يُعَزَّره ويحرمه من تولي القضاء. وفي سنة 218، أرسلوا الى المأمون أربعة علماء الى طرطوس ليمتحنهم وكان منهم أحمد بن حنبل، وقبل أن يصلوا جاءهم خبر موت المأمون، فأرجعوهم الى السجن ببغداد، وواصل المعتصم سياسة أخيه المأمون في امتحانهم.

قال السبكي في طبقات الشافعية « 2 / 53 »: « سمعت أبا العباس بن سعد يقول: لم يصبر في المحنة إلا أربعة كلهم من أهل مَرْوٍ: أحمد بن حنبل أبوعبد الله، وأحمد

١٨٧

بن نصر بن مالك الخزاعي، ومحمد بن نوح بن ميمون، المضروب، ونعيم بن حماد، وقد مات في السجن مقيداً. فأما أحمد بن نصر فضربت عنقه، وهذه نسخة الرقعة المعلقة في أذن أحمد بن نصر بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون وهوالواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة، فجعله الله إلى ناره. وكتب محمد بن عبد الملك.

ومات محمد بن نوح في فتنة المأمون. والمعتصم ضرب أحمد بن حنبل. والواثق قتل أحمد بن نصر بن مالك. وكذلك نعيم بن حماد ».

اتهموا ابن حنبل بالخيانة وفتشوا بيته!

اتهموه بأنه آوى ثائراً علوياً، وهي تهمة عقوبتها القتل! قال الذهبي في تاريخه « 18 / 84 »: « رفع إلى المتوكل أن أحمد بن حنبل ربَّصَ « خبأ » علوياً في منزله، وأنه يريد أن يُخرجه ويُبايع عليه ولم يكن عندنا علم. فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصيف سمعنا الجلَبة، ورأينا النيران في دار أبي عبد الله، فأسرعنا وإذا أبوعبد الله قاعد في إزار، ومظفر بن الكلبي صاحب الخبر وجماعة معهم، فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكل: وَرَدَ على أمير المؤمنين أن عندكم علوياً ربصته لتبايع عليه وتُظهره. في كلام طويل. ثم قال له مظفر: ما تقول؟

١٨٨

قال: ما أعرف من هذا شيئاً، وإني لأرى له السمع والطاعة في عسري ومنشطي ومكرهي، وآثره لأدعوالله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار. في كلام كثير غير هذا. وقال ابن الكلبي: قد أمرني أمير المؤمنين أن أحُلِّفَكَ.

قال: فأحْلَفَهُ بالطلاق ثلاثاً أن ما عنده طَلِبَةُ أمير المؤمنين.

قال: وفتشوا منزل أبي عبد الله والسِّرْب والغرف والسطوح، وفتشوا تابوت الكتب، وفتشوا النساء والمنازل، فلم يروا شيئاً ولم يحسوا بشئ »!

أقول: يدل اتهامهم على الشعبية الواسعة للعلويين ورُعب السلطة منهم! وكان المتوكل يعرف أن أحمد ليس في خط العلويين، لكنه من خوفه احتمل أن يكونوا أغروه! كما تفاجأ ابن حنبل فسارع بالقول: « إني لأرى له السمع والطاعة في عسري ومنشطي ومكرهي، وأوثره عليَّ، وأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار ». فقبل منه المتوكل وسُرَّ به واستقدمه الى سامراء وأكرمه، واتفق معه .

أحضر المتوكل أحمد الى سامراء عدة مرات

قال الآلوسي في جلاء العينين « 1 / 242 »: « بعث المتوكل بعد مضي خمس سنين من ولايته لتسيير أحمد بن حنبل، فقد نقل غير واحد أنه وجه المتوكل إلى إسحق بن إبراهيم يأمره بحمله إليه، فوجه إسحق إليه وقال له: إن أمير المؤمنين قد كتب إلي يأمرني بإشخاصك إليه فتأهب لذلك ».

وأحضره المتوكل في أواخر عمره، وكان أحمد يومها في الثالثة والسبعين، وعاش بعدها ثلاث سنوات ونصفاً.

١٨٩

ففي تاريخ الذهبي « 18 / 119 »: « ولي بغداد عبد الله بن إسحاق، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله فذهب إليه فقرأ عليه كتاب المتوكل فقال له: يأمرك بالخروج. فقال: أنا شيخ ضعيف عليل. فكتب عبد الله بما رد عليه، فورد جواب الكتاب بأن أمير المؤمنين يأمره بالخروج. فوجه عبد الله جنوده، فباتوا على بابنا أياماً حتى تهيأ أبوعبد الله للخروج، فخرج، وخرج صالح، وعبد الله، وأبو رميلة.

قال صالح: كان حَمْلُ أبي إلى المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم عاش إلى سنة إحدى وأربعين، فكان قَلَّ يومٌ يمضي إلا ورسول المتوكل يأتيه ...

لما دخلنا إلى العسكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل، فلما حاذى بنا قالوا: هذا وصيف، وإذا فارس قد أقبل فقال لأحمد: الأمير وصيف يقرؤك السلام، ويقول لك: إن الله قد أمكنك من عدوك، يعني ابن أبي دؤاد، وأمير المؤمنين يقبل منك فلا تدع شيئاً إلا تكلمت به، فما رد عليه أبوعبد الله شيئاً، وجعلت أنا أدعولأمير المؤمنين، ودعوت لوصيف. ومضينا فأنزلنا في دار إيتاخ ولم يعلم أبوعبد الله، فسأل بعد ذلك: لمن هذه الدار قالوا: هذه دار إيتاخ. فقال: حولوني، إكتروا لي. فلم نزل حتى اكترينا له داراً.

وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكل والفاكهة والثلج وغير ذلك. فما نظر إليها أبوعبد الله، ولا ذاق منها شيئاً.

وكانت نفقة المائدة كل يوم مائة وعشرين درهماً. وكان يحيى بن خاقان وابنه عبيد الله وعلي بن الجهم، يأتون أبا عبد الله ويختلفون إليه برسالة المتوكل.

١٩٠

ودامت العلة بأبي عبد الله وضعف ضعفاً شديداً، وكان يواصل، فمكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب، فلما كان في اليوم الثامن دخلت عليه وقد كاد أن يطفأ فقلت: يا أبا عبد الله، ابن الزبير كان يواصل سبعة أيام، وهذا لك اليوم ثمانية أيام. قال: إني مطيق. قلت: بحقي عليك. قال: فإني أفعل، فأتيته بسويق فشرب. ووجه إليه المتوكل بمال عظيم فرده، فقال له عبيد الله بن يحيى: فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك. قال: هم مستعفون فردها عليه، فأخذها عبيد الله فقسمها على ولده وأهله.

ثم أجرى المتوكل على أهله وولده أربعة آلاف في كل شهر، فبعث إليه أبوعبد الله: إنهم في كفاية وليست بهم حاجة. فبعث إليه المتوكل: إنما هذا لولدك، ما لك ولهذا؟ فأمسك أبوعبد الله. فلم يزل يجري علينا حتى مات المتوكل.

قال حنبل: فلما طالت علة أبي عبد الله كان المتوكل يبعث بابن ماسويه المتطبب فيصف له الأدوية فلا يتعالج، ودخل المطبب على المتوكل فقال: يا أمير المؤمنين أحمد ليست به علة في بدنه، إنما هومن قلة الطعام والصيام والعبادة.

وبلغ أم المتوكل خبر أبي عبد الله فقالت لابنها: أشتهي أن أرى هذا الرجل. فوجه المتوكل إلى أبي عبد الله يسأله أن يدخل على ابنه المعتز ويسلم عليه ويدعوله ويجعله في حجره. فامتنع أبوعبد الله من ذلك، ثم أجاب رجاء أن يطلق وينحدر إلى بغداد، فوجه إليه المتوكل خلعة، وأتوه بدابة يركبها إلى المعتز فامتنع، وكانت عليها مَيْثَرَةُ نُمُور، فقدم إليه بغل لرجل من التجار فركبه.

١٩١

وجلس المتوكل مع أمه في مجلس من المكان، وعلى المجلس ستر رقيق، فدخل أبوعبد الله على المعتز، ونظر إليه المتوكل وأمه، فلما رأته قالت: يا بني، الله الله في هذا الرجل فليس هذا ممن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله فَأْذَنْ له فليذهب. فدخل أبوعبد الله على المعتز فقال: السلام عليكم وجلس، ولم يسلم عليه بالإمرة. قال: فسمعت أبا عبد الله بعد ذلك ببغداد يقول: لما دخلت عليه وجلست قال مؤدب الصبي: أصلح الله الأمير، هذا الذي أمره أمير المؤمنين يؤدبك ويعلمك. فرد عليه الغلام وقال: إن علمني شيئاً تعلمته. قال أبوعبد الله: فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره. وكان صغيراً.

فأذن له بالإنصراف، فجاء عبيد الله بن يحيى وقت العصر فقال: إن أمير المؤمنين قد أذن لك، وأمر أن تفرش لك حَرَّاقَة تنحدر فيها. فقال أبوعبد الله: أطلبوا لي زورقاً فأنحدر فيه الساعة، فطلبوا له زورقاً فانحدر فيه من ساعته ..

وجاء عن لسان ولده الآخر صالح: فلما كان من الغد جاء يعقوب فقال: البشرى يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: قد أعفيتك عن لبس السواد والركوب إلى ولاة العهود وإلى الدار. فإن شئت فالبس القطن، وإن شئت فالبس الصوف. فجعل يحمد الله على ذلك ».

أقول: توجد عدة روايات عن إحضار أحمد الى سامراء. وقد حاول أحمد ومحبوه أن يقولوا إنه كان زاهداً في الدنيا، ولم يكن راغباً في تكريم المتوكل، ولا بالمناصب والأموال، لأن المتوكل عند المسلمين ظالم لا يجوز الركون اليه!

١٩٢

وفي كلام أحمد وأبنائه نقاط ضعف، ومنها كلام أحمد عن صغر سن المعتز، بينما كان عمره لما زاره أحمد نحوسبع عشرة سنة. فقد خلع نفسه سنة 255 ، وعمره أربع وعشرون سنة. « مروج الذهب: 4 / 81 ».

اتفق المتوكل مع أحمد وجعله مرجعاً للدولة!

في النهاية لابن كثير « 10 / 373 »: « وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وما من يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها، ويستشيره في أشياء تقع له. ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى فامتنع من قبولها وتفرقتها، وقال: إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره، فردها ».

وفي تاريخ الذهبي « 20 / 203 »: « قال عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان: أمر المتوكل بمساءلة أحمد بن حنبل عمن يتقلد القضاء ».

أي أمر أن يأخذوا برأيه في تعيين القضاة في الدولة، فلايعينوا إلا من وافق عليه. وفي المقابل تبنى أحمد طاعة المتوكل، ونشر أحاديث التشبيه والتجسيم!

قال المَلَطي العسقلاني في: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع / 7: « وقال أمير المؤمنين المتوكل لأحمد بن حنبل: يا أحمد إني أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجة فأظهرني على السنة والجماعة. وما كتبته عن أصحابك عما كتبوه عن التابعين، مما كتبوه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه ».

١٩٣

وقال تلميذه أبو بكر المروذي: « سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردُّها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش، فصححها وقال: قد تلقتها الأمة بالقبول، وتُمَرُّ الأخبار كما جاءت ». « طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1 / 56 ».

وهذه هي أحاديث صفات الله تعالى ورؤيته بالعين، التي رفضها الأئمة من أهل البيت (ع) ومالك بن أنس صاحب المذهب، ويريدها المتوكل!

مرجعية ابن حنبل لمواجهة مرجعية الإمام الهادي (ع)

بدأ حكم المتوكل أواخر سنة 232 . وفي سنة 233 ، أحضرالإمام الهادي (ع) الى سامراء وفرض عليه الإقامة الجبرية، وحاول قتله بتهمة أنه ينوي الخروج عليه فظهرت للإمام (ع) كرامات ومعجزات، فهابه وزراء المتوكل والقادة وأحبوه، وكانت أم المتوكل تعتقد أنه ولي الله تعالى وتنذر له النذور في المهمات!

وفي السنة التالية استقدم المتوكل المحدثين المجسمين، الذين يقولون إن الله يُرى بالعين، والقرآن غير مخلوق، وقرَّبهم وأعطاهم جوائز ومناصب.

وكان المتوكل يريد تغيير خط الخلافة فيتبنى المجسمة، لكن نفوذ ابن دؤاد كان قوياً، فهوالذي دبَّر خلافة أبيه المعتصم ورتَّبَ قتل العباس بن المأمون. وهوالذي رتب بيعة أخيه الواثق. وهو الذي خلع ابن الواثق ودبَّر بيعة المتوكل وأخرجه من السجن وجاء به الى كرسي الخلافة.

قال في تاريخ بغداد « 1 / 314 »: « كان المتوكل يوجب لأحمد بن أبي دؤاد، ويستحي أن ينكبه، وإن كان يكره مذهبه، لما كان يقوم به من أمره أيام الواثق، وعقد

١٩٤

الأمر له والقيام به من بين الناس. فلما فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادي الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، أول ما وليَ المتوكل الخلافة، ولَّى المتوكل ابنه محمد بن أحمد أبا الوليد القضاء ومظالم العسكر مكان أبيه، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين، ووكل بضياعه وضياع أبيه.

ثم صولح على ألف ألف دينار، وأشهد على ابن أبي دؤاد وابنه بشراء ضياعهم وَحَدَّرَهُم إلى بغداد، وولي يحيى بن أكثم ما كان إلى ابن أبي دؤاد ».

فكان المتوكل يمهد تمهيدات لضرب ابن دؤاد، الى أن تم عزله في سنة 237، وجاء بابن حنبل الى سامراء، واتخذه مرجعاً.

قال ابن أحمد بن حنبل: « لما دخلنا إلى العسكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل، فلما حاذى بنا قالوا: هذا وصيف، وإذا فارس قد أقبل فقال لأحمد: الأمير وصيف يقرؤك السلام ويقول لك: إن الله قد أمكنك من عدوك، يعني ابن أبي دؤاد، وأمير المؤمنين يقبل منك فلا تدع شيئاً إلا تكلمت به ». « تاريخ الذهبي: 18 / 119 ».

وهذا يدل على أن وصيفاً اتفق مع المتوكل، وكان مهتماً بأن تكثر الشكاية من ابن أبي دؤاد لتبرير عزله، وإعلان مرجعية أعدائه القائلين بقدم القرآن والتشبيه.

احتفل المتوكل بمرجعية أحمد وإنزال رأس ابن نصر!

وكان عزل ابن دؤاد وتولية خصمه ابن أكثم، وإنزال جثة ابن نصر، ودعوة أحمد الى سامراء وإعلان مرجعيته. كل ذلك حول شهر رمضان سنة 237.

١٩٥

قال ابن كثير في النهاية « 10 / 306 »: « ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة، أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين إلى بعد عيد الفطر بيوم أويومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية (رحمه الله). وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه الواثق ».

وقال في النهاية « 10 / 348 »: « وفي عيد الفطر منها « سنة 237 » أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، والجمع بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه، ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، واجتمع في جنازته خلق كثير جداً، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوماً مشهوداً. ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به، وأرهج العامة بذلك فرحاً وسروراً، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل هذا، وعن المغالاة في البشر.

ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لوتكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت. وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير.

ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل واستدعاه من بغداد إليه، فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه فاستحيا منه أحمد كثيراً، فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلاً فيه، ثم نزعها نزعاً عنيفاً وهويبكي رحمه الله تعالى.

١٩٦

وارتفعت السُّنَّة جداً في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لايولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر ».

أهم إنجازات مرجعية أحمد بن حنبل

كانت مدة مرجعية أحمد للدولة ثلاث سنوات ونصفاً، لأن مجيئه الى سامراء في شهر رمضان سنة 337، ووفاته في ربيع الثاني سنة 341.

لكنها كانت مرجعية مؤثرة، حيث حققت إنجازين كبيرين عند أصحابهما:

الأول: ترسيخ حزب المجسمة النواصب، الذين كان يقودهم ابن صاعد، وعرفوا بإسم الصاعدية. وكانوا في زمن المتوكل وبعده تياراً متطرفاً.

ويظهر أنهم صاروا بعد ذلك مذهباً لهم آراؤهم التي تخالف المسلمين!

قال المقدسي في البدء والتاريخ « 5 / 149 »: « وأما الصاعدية فهم أصحاب ابن صاعد يجيزون خروج أنبياء بعد نبينا « ص » لأنه رويَ: لا نبيَّ بعدي إلا ما شاء الله »!

وهم مجسمة الحنابلة الذين يشكو منهم أهل بغداد وأئمة الحنابلة المعتدلون كابن الجوزي. وهم الأجداد الحقيقيون لابن تيمية وأتباعه الوهابية.

والإنجاز الثاني: تأليف صحيح البخاري، فقد كان البريد يصل من المتوكل في سامراء الى أحمد بن حنبل في بغداد كل يوم، وكان البخاري مشغولاً بتأليف

١٩٧

كتابه، وقد زار أحمد بن حنبل ثمان مرات، وكان يسانده ويمدحه، وكان تعيين جميع القضاة ومساعدات جميع المحدثين عن طريق أحمد بن حنبل.

وعندما أكمل البخاري صحيحه عرضه على أحمد فارتضاه، وطلب منه أن يسكن بغداد، فكان البخاري يتأسف لأنه لم يسمع كلامه، ولم يأت الى بغداد.

قال الخطيب في تاريخ بغداد « 2 / 22 »: « محمد بن يوسف يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: دخلت بغداد آخر ثمان مرات، كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل. فقال لي في آخر ماودعته: يا أبا عبد الله، تترك العلم والناس وتصير إلى خراسان؟ قال أبوعبد الله: فأنا الآن أذكر قوله ».

وفي تغليق التعليق لابن حجر « 5 / 423 »: « قال العقيلي: لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة ».

محنة أحمد بن حنبل كذبة حنبلية!

1. لن تستطيع أن تفهم نظرية عمر بن الخطاب بأن الله تعالى أنزل القرآن على سبعة أحرف، فقد قال بعض محبيه إنه حاول فهمها ثلاثين سنة وتوصل الى بضعة ثلاثين وجهاً، لكن ليس منها وجهٌ معقول!

ولن تستطيع حتى لوكنت حنبلياً أن تفهم محنة ابن حنبل التي أحيت الدين! وهي أنه سجن سنتين، وضربوه ثمانية وثلاثين سوطاً، فأحيا بذلك الدين!

١٩٨

قالوا: حبس هو وثلاثة، فمات أحدهم في الطريق، ومات الثاني في السجن بعد عشر سنين، وقتل الثالث بعد سجنه بأكثر من عشر سنين، وعفوا عن أحمد، فأحيا الله الدين بمن أطلقوه، وليس بمن قتلوه، ولا بمن مات في السجن!

ولن تستطيع معرفة كيف صار ابن حنبل أعظم شخص في الأمة بعد النبي (ص)!

قال أبو يعلى في طبقات الحنابلة « 1 / 13 و 227 »: « قال علي بن المديني: أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبوبكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل في يوم المحنة! ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل. قال قلت له: يا أبا الحسن ولا أبوبكر الصديق؟ قال: ولا أبوبكر الصديق، لأن أبا بكر الصديق كان له أعوان وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب »!

وقال ابن كثير في النهاية « 10 / 369 »: « قال البخاري: لما ضُرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة، فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لوكان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة. وقال إسماعيل بن الخليل: لوكان أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً ».

وصادروا لأحمد صفات أئمة الشيعة فقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: « أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه »! « تاريخ بغداد: 5 / 183 ».

2. قصة المحنة كما يسمونها: أن المأمون أمر بإرسال المحدثين الذين لم يقبلوا أن القرآن مخلوق، اليه الى طرسوس، فأرسلوا اليه من بغداد أربعة: أحمد بن حنبل،

١٩٩

وأحمد بن نصر، ومحمد بن نوح بن ميمون، ونُعَيْم بن حماد. فمات المأمون وهم في الطريق فأرجعوهم الى بغداد. ومات محمد بن ميمون في الطريق.

وأحضر المعتصم أحمد بن حنبل وناظره وأطلق سراحه، لأنه قال لهم: أنا أقول بقول أمير المؤمنين! كما شهد بذلك المؤرخ الثبت ابن واضح اليعقوبي.

وبقي نُعيم بن حماد في السجن عشر سنوات حتى مات. وبقي أحمد بن نصر في السجن ثلاث عشرة سنة، فأحضره الواثق ابن المعتصم وقتله.

3. ولكل واحد من هؤلاء الأربعة، قصةٌ ومحاكمةٌ ومناظرةٌ، وأعظمهم بلاءً أحمد بن نصر، حيث أصر على رأيه بأن القرآن غير مخلوق حتى قتله الواثق بيده! لكنهم أهملوه وبالغوا في محنة ابن حنبل، وبالغَ هو في الحديث عن « بطولته » في السجن وصموده تحت سياط الخليفة، وتفوقه في مناظرته لقاضي قضاة المعتصم والواثق. وروى لنفسه ورووا له الكرامات والمعجزات في المحنة!

قال المروزي في مسائل الإمام أحمد / 109، وابن كثير في النهاية، ملخصاً « 10 / 365 »: « وفي عام مائتين واثني عشر أعلن المأمون القول بخلق القرآن، وفي عام ثماني عشرة ومائتين رأى المأمون حمل الناس والعلماء والقضاة والمفتين على القول بخلق القرآن الكريم، وكان آنذاك منشغلاً بغزوالروم، فكتب إلى نائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعوالناس إلى القول بخلق القرآن، فلما وصل الكتاب استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الإمتناع من

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

أنت أو رجل منك)، وهذه سنّة إلهية ثابتة.

فالاختيار والاصطفاء إذن من اللَّه تعالى، فلو كان مع موسى غير سفهاء لكانوا مؤهّلين لسماع الوحي مع أنّهم غير أنبياء، فما تعتقده الإمامية من أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام استمع الوحي ورآه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

(يا عليّ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى) (١) ، سنّة قرآنية أصيلة، ومن ثمّ أمر اللَّه نبيّه في آية المباهلة انتداب عليّ لشهوده الوحي ومسؤوليته لهذه الشهادة، هو وزوجه البتول وشبليه سيدا شباب أهل الجنّة، حيث كانوا أصحاب الكساء يشاهدون الوحي عياناً، فحمّلهم اللَّه تعالى مسؤولية الشهادة في المباهلة كشركاء تابعين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحجّة الإلهية.

كما في قوله تعالى: ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) ، وهو الوحي النازل، ( وَيَتْلُوهُ ) أي يتبعه وتابع له، ( شَاهِدٌ ) أي يشهد الوحي عياناً ويشهد البينة من الربّ، ( مِنْهُ ) أي من أهله وبمنزلة نفسه كما في ( أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) .

وقد يُعترض: بأنّ كلّ مؤمن يشهد بوحدانية اللَّه وبرسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا خصوص الأمر الإلهي في آية المباهلة بأهل البيت عليهم‌السلام بأن يشهدوا للنبيّ والرسالة دون غيرهم؟ أليس قد شهد خُزيمة بن ثابت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما لم يره عندما نازع الأعرابي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عين مال، فأمضى النبيّ شهادته عن بينة بمنزلة شهادة رجلين؟ وذلك ليقين خزيمة بصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وللإجابة عن هذا الاستفسار: أنّ شهادة المؤمن حيث كانت تستند إلى إدراك المعجزة الإلهية على نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي إخبار قطعي لا ظنّي، بل هي إخبار عن عيان؛ لأنّ المعجزة كما هو الصحيح عندنا عيان للقدرة للغيبة يتكشّف شي‏ء من ستار الغيب، فإدراك المعجزة عيان لبروز القدرة الغيبية الإلهية.

____________________

١) نهج البلاغة الخطبة القاصعة.

٥٦١

لا كما عرفها المتكلّمون من أنّها برهان فكري في الاستنتاج الذهني ومن نمط العلم الحصولي، بل هي علم حضوري في الأساس، وإن كانت معجزة علمية أو تكوينية تستند إلى الحسّ في مقدّماتها وإلى المعاني الذهنية، إلاّ أنّ أبصار الإعجاز المترتّب عليها هو عيان وجداني للقدرة الخارقة الغيبية، ومن ثمّ تكون مسؤولية المؤمن الإقرار والشهادة والإخبار القطعي بما أدركه عياناً، إلاّ أنّ هذا الإدراك لمّا كان محدوداً وبنحو إجمالي كانت المسؤولية الملقاة على كاهل المؤمن هي متناسبة بقدر ذلك من افتراض الإيمان عليه والتسليم والطاعة، بل والقيام في الواجبات في الشريعة.

وهذا بخلاف من يحتمل أن يكون قوله وشهادته سنداً بنفسه يقينياً قطعياً لحجّية نفس الرسالة والنبوّة ليضاهي قوله وشهادته المعجزة في إثبات الرسالة، فإنّ مثل ذلك الشخص والأشخاص لا ريب ولابدّ أنّهم يتمتّعون بعيان حضوري لكلّ تفاصيل الوحي، ويشاكلون ويشاركون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع تبعيتهم له في العلم والعيان؛ لِما ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن ثمّ خُصّوا بهذه المسؤولية دون غيرهم، وكانت لهم أهلية ذلك دون بقية كبار الصحابة ودون زوجات النبيّ، كما تقدّم في اختصاص عليّ بتبليغ سورة براءة دون أبي بكر؛ بأمر اللَّه النازل: (لا يبلّغ عنك إلاّ أنت أو رجل منك)، فكانوا على درجة من الصفات توجب اليقين من شهادتهم على حذو اليقين الحاصل من المعجزة.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ) (١) ، فالوزارة للنبوّة جعل إلهي، لذا فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى)، بمعنى الخلافة والوزارة والإمامة، وكون هارون وزيراً غير كونه نبيّاً.

____________________

١) سورة الفرقان: ٣٥.

٥٦٢

النموذج السادس: سليمان وداود عليهما‌السلام

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ) (١) ، فهذه المقامات المذكورة والنعم الموصوفة هي غير مقامات النبوّة، بل هي مقامات إمامة وولاية.

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ، وهي كسابقتها من الآيات؛ إذ الأعطيات التي استوجبت الحمد من قبل داود وسليمان لمكان الحبوة التي حَظيا بها من اللَّه تعالى، لا لمقام النبوّة منهما، بل لحجّيتهما وإمامتهما.

قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (٣) ، فقد وصف اللَّه تعالى داود أنّه عبد في هذه الآية والمقام ولم يذكر وصف النبوّة، ممّا يدلّل - بمقتضى أنّ الوصف مشعر بالعلّية - على أنّ هذه الحبوات إنّما أُعطيت له بمقتضى درجة العبودية التي وصل إليها، والتي هي معنى الولاية كما في الخضر حيث قال تعالى: ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) (٤) .

فبيّنت الآية أنّ العلم اللدنّي والرحمة الخاصّة التي هي من مقامات الولاية وأُعطيت للخضر استحقّها بالعبودية بدرجة خاصّة، فهذه المقامات أُعطيت لداود بسبب مقاماته في العبودية، وهي الولاية؛ لأنّ العبودية هي الجانب الذي يلي من العبد تجاه مولاه، لا بما لداود من مقام النبوّة.

____________________

١) سورة سبأ: ١٠ - ١٢.

٢) سورة النمل: ١٥.

٣) سورة ص: ١٧.

٤) سورة الكهف: ٦٥.

٥٦٣

فالآيات المتقدّمة تشير إلى حقيقة مهمّة، وهي أنّ الحبوات التي حصل عليها الأنبياء لا لمجرّد كونهم أنبياء بل لكونهم حججاً أولياء وأئمّة، فالنبوّة وإن كانت تحتاج إلى المعجزة، إلاّ أنّ المعجزة لا ضرورة لدوامها واستمرارها بنحو ممتدّ، بل يكفي وقوعها وحدوثها لإيجابها واستلزامها الثبات على نحو الدوام، أي أنّ وجودها وإن كان دفعياً إلاّ أنّ حجّيتها ووصف الحجّية لها مستمرّ؛ إذ هي في حدود تصديق نبوّة النبيّ.

فإذا تمّ الغرض انتفت الضرورة لاستمرار وجودها، وإن كان بعض المعاجز - كالقرآن الكريم - معاجز مستمرّة الوجود، بينما هذه الحبوات والمقامات ثابتة لحجج اللَّه تعالى وأوليائه، وهو ما حدث وما يحدث لأئمّة آل البيت عليهم‌السلام من الحظوة بالمقامات الإلهية التي حازوا عليها وأكرمهم اللَّه تعالى بحبواته، فلا مجال إذن لإنكار هذه الحقيقة المعرفية القرآنية تحت ذريعة وغطاء التفويض والغلوّ، كما توهّم البعض. فإيتاء الملك لداود هي الإمامة.

قوله تعالى: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) ، إشارة إلى التدبير الاجتماعي الذي يديره داود في بني إسرائيل، فإيتاء الملك يختلف عن إيتاء النبوّة، فهو منصب خاصّ من قبل اللَّه تعالى، فالإمامة أهلية خاصّة غير أهلية النبوّة.

قوله تعالى: ( أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (١) ، فتوريث الأرض للعباد الصالحين لا لكونهم أنبياء، بل لكونهم عباداً صالحين، وهذا وعد إلهي.

إنّ أحد حدود الإمامة هي العبودية بدرجة فائقة للَّه تعالى وهي ولاية ولي اللَّه الإمام وتولّيه لربّه تعالى، وقد روى هارون بن الفضل، قال: (رأيت أبا الحسن عليّ

____________________

١) سورة الأنبياء: ١٠٥.

٥٦٤

بن محمّد في اليوم الذي توفّي فيه أبو جعفر عليه‌السلام فقال: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون، مضى أبو جعفر عليه‌السلام . فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنّه تداخلني ذلّة للَّه لم أكن أعرفه) (١) .

وفي رواية أُخرى أنّه عليه‌السلام سُئل عن كيفية علمه بوفاة أبيه، قال: (قد دخلني من إجلال اللَّه ما لم أكن أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنّه قد مضى) (٢) .

فالإمامة ولاية ملكوتية غيبية وليست ولاية ملك مادّي فقط، بل ولاية عبودية للَّه تعالى. والولاية أعلى رتبة من النبوّة، وذلك أنّ الولاية هي جهة القرب والارتباط باللَّه تعالى، فولاية كلّ نبيّ هي أعلى وأشرف من نبوّته؛ لأنّها جهة عبودية النبيّ للربّ تعالى، فلذلك الولاية أعظم من النبوّة، أي ولاية ولي اللَّه الإمام وتولّيه لربّه.

قوله تعالى: ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٣) ، إنّ غواية إبليس وإضلاله لا تشمل المخلَصين - بالفتح - فهم معصومون عن غواية إبليس على صعيد العمل وعلى صعيد العلم.

وإنّ سورة الصافات في أربع مواضع ذكرت (عباد اللَّه المخلَصين ) .

١ - قوله تعالى: ( وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٤) .

٢ - قوله تعالى: ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٥) .

٣ - قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٦) .

٤ - قوله تعالى: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٧) .

____________________

١) أصول الكافي، ج١، ص٣٨١.

٢) بحار الأنوار، ج٢٧، ص٢٩٣، عن بصائر الدرجات.

٣) سورة ص: ٨٢ - ٨٣.

٤) سورة الصافات: ٣٩ - ٤٠.

٥) سورة الصافات: ٧٣ - ٧٤.

٦) سورة الصافات: ١٢٧ - ١٢٨.

٧) سورة الصافات: ١٥٩ - ١٦٠.

٥٦٥

فوصف اللَّه تعالى هؤلاء العباد بأنّهم مخلَصين لا تقع منهم معصية ولا يراودهم شكّ أو شبهة، فهم مخلِصين للَّه في عبادتهم، ومخلَصين من أي ذنب أو قبيح.

لذا فإن قوله تعالى: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) ، حيث نزّه اللَّه تعالى عن كلّ وصف إلاّ توصيف عباد اللَّه المخلَصين، وهي أعلى مقامات المخلَصين التي تعني المعرفة الحقّة له تعالى.

فالصلاح الذاتي وما يترتّب عليه من صفات لم يكن كسبياً، بل هو منصب إلهي اصطفائي جعلي؛ وذلك لقوله تعالى: ( وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (١) .

ومثله الرشد الذاتي اللدنّي حيث لم يكن عادياً كسبياً، بل هو إلهي جعلي يمنّ على خاصّة عباده؛ لقوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ ) (٢) .

المشاركة في الحجية:

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ) (٣) ، فهذه مشاركة بين موسى وهارون في الحجّية، فنزول الفرقان لم يختصّ به موسى، بل شاركه هارون كذلك. وهذا مفاد حديث المنزلة، إذ كونه عليه‌السلام من النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة هارون من موسى، يشير إلى جَنْبة مشاركة ما ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شِرْكَة تابعٍ له، كما في قوله تعالى: ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ) (٤) .

أي يتلو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويشهد الوحي عياناً وهو البينة من الربّ وهو رجل من النبيّ من نفسه.

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٢.

٢) سورة الأنبياء: ٥١.

٣) سورة الأنبياء: ٤٨.

٤) سورة هود: ١٧.

٥٦٦

فقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنا مدينة العلم وعليّ بابه) (١) ، وغيرها من الموارد التي تشير إلى المشاركة، كآية المباهلة وآية التطهير.

النموذج السابع: عيسى عليه‌السلام .

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِي‏ءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ ) (٢) .

فهذه المناصب بعضها لا ربط لها بالنبوّة بما هي نبوّة، وكونه رسولاً هو أحد مناصبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوله ( أَخْلُقُ لَكُمْ... ) بمعنى الخلقة والتكوين وليس هو تشكيل الطين على هيئة الطير فقط.

إنّ شبهة كون الخلقة التي يتولاّها عيسى عليه‌السلام هو تشكيل فقط دخلت على العامّة، محتجّين بها على كون الخلق لا يمكن أن يقوم به غير اللَّه تعالى، في حين نقول إنّ الخلقة بأمر اللَّه تعالى ولا مانع من أن يقوم بها أحد عباده المصطفين الذين اصطفاهم اللَّه لهذه المهمّة.

وإنّ تشكيل المادّة لا يقال لها خلقة، بل الخلقة هي حالة إيجاد وتكوين بأقدار اللَّه تعالى وإرادته، مع إمكان تفويض ذلك إلى خاصّة عباده كما هو الحال في عيسى عليه‌السلام ، تفويضاً غير عزلي، أي من دون أن يكون الباري تعالى معزولاً ولا النبيّ

____________________

١) خلاصة عبقات الأنوار، للسيد حامد حسين اللكهنوي، ج ١٠، فقد عقد مجلّداً خاصّاً في بيان تواتر الحديث الشريف.

٢) سورة المائدة: ١١٠.

٥٦٧

عيسى عليه‌السلام ونحوه من الأولياء مستقلاً في فعله كما هو الحال في غير ذلك من الأفعال، لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. ويُستدلّ على ذلك بقوله تعالى: ( فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا ) (١) ، فالنفخ هنا خلق كما في نفخ الصور، فالنفخ هنا ليس تشكيل، إذ الخلق للطير متفرّع على نفخ عيسى عليه‌السلام . ثمّ إحياء الموتى ليس هو كخلق الطير، بل إحياء الموتى هو تزويج الروح بالبدن.

وقوله تعالى: ( وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، فالإبراء وإن كان إحياء وخلق لكن خلق حال وليس إعادة لحياة الذات، وهذا ما يمكن تصوّره في أولياء اللَّه المصطفين كالأئمّة عليهم‌السلام ؛ إذ إمكان إعطائهم هذه الحَبوة كما أُعطيت لعيسى ليس تفويضاً عَزْلياً باطلاً - تعزل فيه قدرة اللَّه تعالى وهيمنته وقاهريته وقيّوميّته - كما هو الحال في أفعال الإنسان: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.

ولا فرق في تمكين وإقدار الباري للمخلوق على الفعل بين فعل النملة وفعل عزرائيل وميكائيل وأعاظم الملائكة والأرواح؛ فإنّه بقانون واحد: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. ومن لا يميز بين التفويض العزلي الباطل وبين التفويض بمعنى الإقدار والتمكين في حين قدرته تعالى، من انحسار لقدرته فيما أقدرهم عليه، يحصل لديه الخلط بينهما، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة.

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) ، إنّ أُصول الدين لا تُنسخ، بل النسخ يكون في الفروع، كما أنّ أركان الفروع غير منسوخة، فأُصول المحرّمات هي واحدة في كلّ الشرائع كحرمة الزنا

____________________

١) سورة آل عمران: ٤٩.

٢) سورة آل عمران: ٥٥.

٥٦٨

والكذب والغشّ وغيرها، وكذلك أُصول الواجبات.

فالنسخ لا يكون في المعارف ولا إلغاءً لها، بل الحال فيها حالات تكامل وتوسّع وتعمّق، وكذلك الكتب الإلهية في نسخها الأصلية غير المحرّفة والتي هي عند الإمام المهدي (عج)؛ لكونه وارث الأنبياء والمرسلين كذلك، وشرائعها السابقة لها قدسيتها في القرآن الكريم وفي كلام أهل البيت عليهم‌السلام .

فمع أنّ عيسى عليه‌السلام قد نسخت شريعته، فهو مع ذلك سيكون له دور مهمّ في شريعة الإسلام، إذ سيؤدّي دوره المقدّر من قبل اللَّه تعالى حيث نزوله من السماء والتحاقه بالإمام المهدي المنتظر (عج).

على أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ غيبة الإمام (عج) لا تعني أكثر من خفاء هوية وليس تغييباً لوجوده ولا إبعاده عن مسرح الأحداث ولا مزايلة عن تدبير الأوضاع البشرية، ولذلك الاعتقادِ أدلّة قائمة قد مرّ الإشارة إليها. وظهور الإمام (عج) يعني ظهور هويته المغيبة، أي المخفية المستترة، وليس بداية لحضور وجوده الشريف، بل وجوده حاضر بيننا نعيشه بوجداننا وأعماقنا.

وكلمة: ( مُتَوَفِّيكَ ) ، أي: قابضك، فهو قبض له حتّى يبعثه اللَّه، إلى حيث يوجّهه لمناصرة وليه الإمام المهدي (عج) ومؤازرته.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (١) ، فروح القدس حبوة إلهية لعيسى عليه‌السلام ، وهي ليست من خصائص النبوّة، كما أنّ روح القدس قد تقدّم الحديث عنه مبسوطاً في الفصل السابع في مباحث ليلة القدر، وهو نور كما فُسّر بلحاظ الهيمنة العلمية، فهو مع الأئمّة عليهم‌السلام ، وهو بلحاظ المناصب الأُخرى غير النبوّة.

____________________

١) سورة البقرة: ٨٧.

٥٦٩

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (١) ، ومضافاً إلى كون عيسى عليه‌السلام رسول اللَّه فقد وُصِف أيضاً بأنّه كلمته وأنّه روح اللَّه.

والكلمة هي الشي‏ء التكويني الدالّ على معنى بدلالة تكوينية لا فرضٌ اعتباري أدبي، وهذا المعنى هو الأصل في معنى ومصداق الكلمة حقيقةً، وأمّا الكلمة التي تتداول في الكلام المحاوري فهي اعتبارية يعتبرها ويفترضها المتكلّم والمخاطب فيما بينهم، فعيسى هو كلمة اللَّه وهو اسمه أيضاً؛ لأنّ الاسم في اللغة يعني السِّمة والعلامة، وهو نفس معنى كلمته وهو آية من آيات ربوبيته، كما قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (٢) ، وقال تعالى: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) (٣) ، والآية في اللغة العلامة والسِّمة أيضاً، وعليه تكون الآية والكلمة والاسم بمعنى واحد، أو مشتركة في أصل معناها.

وكونه روح اللَّه يعني بوجوده وولادته وحالاته الملكوتية خروجه من الغيب مقاماً، فأضيفت إلى الذات الإلهية تشريفاً لمقامها.

وقد قام الدليل على أنّ الأئمّة كلمات اللَّه، كما في قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (٤) ، ولعلّ الإشارة في كلمات الصدق، وتمامية الكلمات صدقاً، هو للمرسلين، وتمامية الكلمة عدلاً هو لجعل اللَّه تعالى للأئمّة الهادين بأمره الذين يوحي إليهم فعل الخيرات وإقامة العدل، ولا ريب أنّ من كلمات اللَّه في عموم هذه الآية هو النبيّ عيسى عليه‌السلام ، فالمراد من الكلمات هم الحجج المصطفين.

وقد ورد من طريق الفريقين في قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ

____________________

١) سورة النساء: ١٧١.

٢) سورة المؤمنون: ٥٠.

٣) سورة مريم: ٢١.

٤) سورة الأنعام: ١١٥.

٥٧٠

فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) ، فقد روى الحاكم في مستدركه: (أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة قال: يا ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي. فقال: يا آدم كيف عرفت؟ قال: لأنّك لمّا خلقتني نظرت إلى العرش فوجدتُ مكتوباً فيه: لا إله إلاّ اللَّه محمّد رسول اللَّه فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك فعرفته أحبّ الخلق إليك) (٢) .

وقد تقدّمت الإشارة في قوله تعالى حول مريم: ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) (٣) ، أنّ مقتضى المقابلة بين الكلمات والكتب قرينة على إرادت الحُجج المصطفين الذين منهم النبيّ عيسى عليه‌السلام ، كما ورد عين هذا التعبير في قوله تعالى لزكريا: ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) (٤) ، أي مصدّقاً بالنبيّ عيسى، نظير التعبير عن مريم: ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ) ، فكلمات اللَّه وكلمة الربّ تطلق على كلّ من اصطفاه اللَّه من أولياءه الحجج، سواء جعله نبيّاً رسولاً أو جعله إماماً للناس خليفة له في أرضه، فلا مجال للإنكار ولا للتنكّر عن هذه المعارف القرآنية؛ إذ عيسى حُبي بهذه الحبوة وهو كونه كلمة، وهذه الحبوة ليست من مناصب خصوص النبوّة ولا من حالاتها، وإنّما هي من شؤون عموم الاصطفاء والجعل الإلهي.

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا ِلأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٥) ، طلب عيسى من اللَّه سبحانه أن يُنزّل مائدةً من السماء اطمئناناً

____________________

١) سورة البقرة: ٣٧.

٢) مستدرك الحاكم، ج٢، ص٦١٥.

٣) سورة التحريم: ١٢.

٤) سورة آل عمران: ٣٩.

٥) سورة المائدة: ١١٢ - ١١٤.

٥٧١

لقلوب الحواريين وقد استجاب اللَّه لسؤاله وأكرمه بنزول المائدة، فكانت تلك المائدة كرامةً لعيسى بن مريم عليه‌السلام ، علماً أنّ هذه الكرامة ليس لخصوص منصب كونه نبيّاً ورسول اللَّه، بل لكونه حجّة إلهية، وبذلك فقد ألقى اللَّه حجّته على الحواريين بحجّية عيسى بن مريم، على أنّ الحجّية كلّما اشتدّت كلّما اشتدّت العقوبة واشتدّ تنجيزها.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (١) ، قد تفسّر البينات بالمعجزة، إلاّ أنّ المعجزة مشتركة مع جميع الأنبياء، فلا يبعد أن تكون البينات منزلة إلهية غير أصل معجزة النبوّة، والقرينة على ذلك هو مجيئه بالحكمة، فهو إشارة إلى خصوصية اختصّ بها عيسى إضافة لنبوّته.

والعامّة لا يثبّتون للنبيّ من وراء نبوّته مقاماً آخر، وهذه مشكلة تُضاف إلى الأذهان لتتبلّد عن معرفة النبوّة ومقاماتها الإلهية وكراماتها من اللَّه تعالى.

____________________

١) سورة الزخرف: ٦٣.

٥٧٢

القائمة الثالثة

معجزات الأنبياء

إنّ الهدف من المعجزات هو التصديق والإذعان والإخبات لنبوّة النبيّ الذي يأتي بالمعجزة. فإتيان موسى عليه‌السلام بتسع آيات، أي: معجزات، فكلّما أتى بمعجزة ورأوا العذاب قد حلّ بساحتهم، سألوا موسى أن يرفع اللَّه عنهم ما أصابهم حتّى يؤمنوا لمّا شاهدوا من الحقّ، فإذا رُفع عنهم العذاب رجعوا إلى ما هم عليه من التكذيب والبهتان.

وهكذا تستمر المعجزة باستمرار الحاجة في التصديق وإلقاء الحجّة على القوم الذين يأتيهم إنذار من اللَّه تعالى. والمعجزة من سنخ الهداية الإيصالية لا الإرائية المحضة.

وهكذا في جميع الأنبياء تُلاحظ حالات الإعجاز المتواترة المستمرّة، كما أنّ المعجزة ليست إلاّ ما عجزت جميع البشرية عن إتيان مثلها، فتحدّي صالح عليه‌السلام قومه بإتيان ناقة من الجبل لا يعني تحدّ لقوم صالح وحدهم، بل إنّ التحدّي هذا مستمرّ على مدى استمرار البشرية قاطبة وإلى أبد الآبدين.

فالخطاب والتحدّي عام شامل، فالمعجزة هو التحدّي لإقرار ادّعاء منصب إلهي.

كما أنّ المعجزة شرطها مقام التحدّي فضلاً عن كونها حَبوة، إلاّ أنّ الإعجاز استمراره قائم إلى اليوم، وسرّ ذلك أنّ آيات اللَّه باقية حتّى اليوم والكلام في المقام

٥٧٣

هو كون البينات والآيات المتولّدة من المعجزة سواء كانت علمية أو تكوينية استمرارها وقابلية تحدّيها إلى اليوم. وخصائص القرآن الإعجازية أنّه علمي، أي أنّ المعجزة القرآنية في عين أنّه علم فهو قدرة إعجازية غيبية. ثمّ هل أنّ التصديق من سنخ الهداية الإيصالية أم الهداية الإراءية؟

والهداية الإراءية: معرفة المطلب وتشخيصه والتنجيز وإقامة الحجّة، أما الإيصالية فهي: الإيصال إلى الهدف. والإمامة هي هداية إيصالية، والذي يدلّل على أنّ الأنبياء المرسلين كلّهم اشتملوا على مقام آخر وهو كونهم أئمّة هداة: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (١) ، هو إتيان الأنبياء للمعاجز، إذ هو دالّ على أنّ هناك غرض إلهي وهو الهداية الإيصالية، فالهداية الإيصالية هي محطّ غرض إلهي وهي الإمامة، وحينئذٍ فإنّ هذه المعاجز هي في صدد الهداية الإيصالية.

وبمعنى آخر: فإنّ المعاجز لا يقتصر غرضها على الإرادة والهداية الإراءية وإقامة الحجّة فقط، كما اشتهر عند المتكلّمين. بل إنّ غرضها هو الهداية الإيصالية، كذلك هي الإمامة.

وممّا يعزّز ذلك ما أشرنا إليه في مواضع متعدّدة من أنّ المعجزة ليست مجرّد برهان من العلم الحصولي كما اشتهر عند المتكلّمين، بل هي برهان عياني من العلم الحضوري؛ إذ في المعجزة يدرك ويلمس من يُحتجّ عليه بها لمعان الغيب ويشهد رفع الستار عن وجه من القدرة الغيبية، ومن ثمّ صحّ ممّن احتجّ عليه بالمعجزة أن يشهد ويتشهّد بمؤدّى المعجزة، أي بالأمر الذي أُريد إثباته بالمعجزة، كما يتشهّد المؤمن بالشهادتين وبالشهادة الثالثة، حيث إنّ ذلك التشهّد ليس استعمالاً مجازياً

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٣.

٥٧٤

ولا إقراراً لسانياً كلقلقة محظة، بل هو إخبار قطعي وإنباء عمّا أدركه شهوداً.

ولا سبيل للمؤمن لشهود التوحيد، والنبوّة، والإمامة، والمعاد، إلاّ بعيان الأدلّة الإعجازية، سواء العلمية أو الآيات الخارجية: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان) (١) . ومن ثمّ أجاز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شهادة خزيمة بن ثابت فسُميّ بذي الشهادتين.

وعلى ضوء ذلك فإنّ من شأن المعجزة الجذب والهداية الموصلة إلى المطلوب من دون إلجاء، فدور النبوّة هو الاحتجاج بتوسّط التعريف بالغرض والغاية، في حين أنّ الإمامة هي إيصال للغرض، كما في قوله تعالى: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٢) ، فالمنذر هو معرّف للغرض، والهادي هو الموصل بالهداية الإيصالية إلى الغرض.

ومعنى ذلك: أنّ الإراءة والبيان من صنع اللَّه تعالى، أمّا الإيمان - أي التصديق - فهو من فعل البشر، فالنبيّ الباطن هو العقل النظري، إلاّ أنّ العامّة ترى أنّ النبوّة هي مجرّد إراءة وبيان وليس أكثر من ذلك.

فالمعاجز دالّة على أنّ أصحابها لهم مقام الإمامة والتي هي هداية إيصالية دائمة متواجدة، وكونها أحد الأغراض الإلهية الهامّة في بعثة الأنبياء.

____________________

١) نهج البلاغة، الخطبة ١٧٩.

٢) سورة الرعد: ٧.

٥٧٥

٥٧٦

القائمة الرابعة

مؤدّى السنّة الإلهية في معاجلة العذاب للأمم

وهو مسلسل العذاب والعقوبات التي تطال الأُمم في دار الدنيا، وهذا المسلسل يطالعنا فيه القرآن الكريم في موارد عدّة، مثل قوم لوط وعاد وقوم ثمود وصالح وموسى.

ومسلسل هذا العذاب في صوره العديدة التي يحكيها القرآن الكريم قد رُفِع عن أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء كان المسخ أو غيره، إلاّ أنّ بعض صوره الأُخرى تراودها وتعاقب بها، من قبيل الأمراض والفتن وغيرها، فضلاً عن الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل وغيرها.

وإنّ الإرادة التشريعية الإلهية للأُمم لم يكتفِ اللَّه تعالى بتنظيرها اعتباراً، بل أراد تحقّقها في النشأة الدنيوية، واللَّه تعالى يعالج بعضهم بالعذاب والغرض منه إنجاز الهداية الإيصالية، والقرآن يصرّح في سورة الفجر بهذه الحقيقة بقوله تعالى:

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (١) ، أي أنّ استمرار المراقبة والرقابة الإلهية المستمرّة لمنع الفساد والطغيان في الأرض.

____________________

١) سورة الفجر: ٦ - ١٤.

٥٧٧

وكذا في سورة الحشر في إجلاء أهل الكتاب: ( وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (١) ، فعلّل معاجلة العذاب لهم في الدنيا بمشاققتهم للَّه ولرسوله، وأنّ هذا سنّة إلهية، وهذا نظير اعتراض الملائكة على اللَّه تعالى عند خلق الإنسان: بأنّه يريد هلاك الحرث والنسل وسفك الدماء، ولكن الباري عزّ وجلّ أنبأهم بالواقع، وبخلاف ما ظنّوه، وخلاف ما اعتقدوه؛ إذ من هذا البشر سيكون أولياء وأنبياء وصلحاء، يهدون إلى الخير والوصول إلى الهداية الإيصالية فضلاً عن الهداية التشريعية.

وإنّ الهداية الإيصالية هي من غايات الهداية التشريعية، وأن يكون المجتمع البشري مجتمعاً فاضلاً تكاملياً وإصلاحياً لجميع البشر، والوصول إلى الحقيقة وهي العبودية الخالصة للَّه عزّ وجلّ والوصول إلى الأهداف والأغراض المطلوبة، هذا مضافاً إلى أنّ فريضة الإيمان بالمعاد الغرض منها هو التحرّك والحركة إلى الهداية الإيصالية، فإنّ الإيمان بالمعاد هو لغرض الوصول إلى الغاية الحقيقية وهو الهداية الإيصالية، فكون المعاد ضرورة، بمعنى: أنّ الأُمور ليست من دون علّة غائية وغرض نهائي.

____________________

١) سورة الحشر: ٣ - ٤.

٥٧٨

القائمة الخامسة

مسلسل سيرة حكومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن

إنّ هذا المسلسل في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله - خصوصاً في السور المدنية حيث نلاحظ سلوكياته وتصرّفاته السياسية والاجتماعية وغيرها - هي من نمط الهداية الإيصالية، التي هي من نمط الإمامة.

فجانب منها في القضاء، كما في قوله تعالى: ( وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) (١) . وقوله تعالى: ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٢) .

وجانب آخر في تدبيره للأموال العامّة ، كقوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٣) . وقوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٤) .

أمّا الجانب السياسي والتنظيم الحربي فلقوله تعالى: ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ) (٥) ، وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) (٦) ، وقوله تعالى: ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ

____________________

١) سورة النور: ٤٨.

٢) سورة النور: ٥١.

٣) سورة الأنفال: ١.

٤) سورة الأنفال: ٤١.

٥) سورة الأنفال: ٥٨.

٦) سورة التوبة: ١٢٣.

٥٧٩

لَهَا ) (١) .

وقوله تعالى: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) (٢) .

وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ ) (٣) .

وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٤) .

وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) (٥) .

وقوله تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) (٦) .

أمّا الجانب الاجتماعي والتقنين الأُسري ، فلقوله تعالى: ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ) (٧) .

وفي الجانب الأمني ، قوله تعالى: ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) (٨) .

فضلاً عن الآيات التي تحدّثت عن إقامة أحكام الحدود مثل الزنا والسرقة وغيرها.

كما أنّ الولاية العامّة وغيرها ليست مرتبطة بالنبوّة، بل بإمامته وولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لقوله تعالى: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (٩) ، بيان صلاحيته صلى‌الله‌عليه‌وآله في إقامة المعاهدات مع أهل الكتاب أو قتالهم وحقوق المسلمين وما يتعلّق بشؤونهم.

إذن فالموارد التي مارسها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقام في حكومته بإجراءاتها وتنفيذ الإرادة الإلهية فيها، أشار إليها القرآن بذكر بعض تفاصيلها فضلاً عن الإشارة إلى أحكامها.

وإنّ أوامر اللَّه تعالى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي وردت في القرآن الكريم كانت بمستوى

____________________

١) سورة الأنفال: ٦١.

٢) سورة الأنفال: ٦٧.

٣) سورة الأنفال: ٧٠.

٤) سورة النساء: ١٤٤.

٥) سورة الممتحنة: ١.

٦) سورة التوبة: ٤٣.

٧) سورة الأحزاب: ٣٧.

٨) سورة التوبة: ١٠٨.

٩) سورة الأحزاب: ٦.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592