الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133671
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133671 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قاعدةٌ آلية أُخرى

وهي معرفتهم بالخِلْقَة النوريّة

وهي أنّه تعالى أوّل ما بدأ بخلْق نورهم، ثمّ خَلَق جميع الأشياء بعد ذلك. وهذه القاعدة في المعرفة متطابقة المعنى مع الإطار السابق: نزلونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم . من الكرامة الوجودية التي حَبَاها اللَّه تعالى لهم، ولن تبلغوا كنه ذلك. وبسبب تطابق المعنى بين الإطارين فهما قاعدة واحدة، ذُكِرا في الرواية الخامسة - المتقدّمة - في لسان الإطار الأوّل.

وقد عقدت أكثر المجامع الحديثية، من الفريقين، باباً لذكر روايات الإطار الثاني، وهي أنّ بدأ الخلقة كان نور النبيّ، ثمّ أنوار أهل بيته، ومن ثمّ بقية الخلق، من العرش، والكرسي، واللوح، والقلم، والجنّة، والسماوات، والأرضين، وعالم الأرواح، وعالم الأجسام....

وقد تعدّدت ألفاظ الحديث بسطاً واختصاراً، واللفظ الجامع لها. ثمّ نعقّبه بالمصادر من الفريقين، ثمّ إشارة مقتضبة لمفاد الحديث وأُمومته لبقية أبواب المعارف.

فأمّا لفظ الحديث من بعض طرقنا، ما روي في الكافي:

( أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد اللَّه، عن محمّد بن عيسى ومحمّد بن عبد اللَّه، عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال ، قال اللَّه تبارك وتعالى: يا محمّد، إنّي خلقتك وعليّاً نوراً، يعني روحاً بلا بدن، قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري، فلم تزل تهلِّلُني وتمجِّدني، ثمّ جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة، فكانت

٤١

تمجّدني وتقدّسني وتهلِّلُني، ثمّ قسّمتها ثنتين، وقسّمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة: محمّد واحد، وعليّ واحد، والحسن والحسين ثنتان، ثمّ خلق اللَّه فاطمة من نور ابتدأها روحاً بلا بدن، ثمّ مَسَحَنا بيمينه فأفضى نوره فينا) (1) .

وكذلك ما رواه الكافي في نفس الباب:

( الحسين بن محمّد الأشعري، عن معلى بن محمّد، عن أبي الفضل عبد اللَّه بن إدريس، عن محمّد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يزل متفرّداً بوحدانيته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة، فمكثوا ألْف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤون، ويحرّمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلاّ أن يشاء اللَّه تبارك وتعالى.

ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ومن تخلّف عنها محق ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد) (2) .

____________________

1) الكافي، ج1، ص 440، كتاب ‏الحجّة ح3. وكذلك في ‏البحار، ج 15، ح18. وأورد كذلك في ج54، ص193 ح14. ونقلها الصدوق في كتابه التوحيد، باب 15، تفسير آية النور، ص 155.

2) الكافي، ج 1، ص 441، كتاب الحجة، ح 5. وقد ورد مضمون هذا الحديث بألفاظ مختلفة، متواتراً، ومستفيضاً.

وإليك جملة من المصادر:

منها ما روي في الكافي، ج 1، ص 389، باب خلقة أبدان الأئمّة وأرواحهم، وكذلك في نفس الجلد، ص 194، وفيه باب أنّ الأئمّة ( عليهم‌السلام ) نور اللَّه عزّ وجلّ، وكذلك، ج1، ص 442، باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته.

وكتاب (ترتيب الأمالي للصدوق والمفيد والطوسي)، كتاب النبوّة، ج 1، باب تاريخ نبينا سيّد المرسلين، باب 1، بدء الخلق، وفيه 12 حديثاً. وكتاب توحيد الصدوق، باب 15، تفسير آية النور، ص 155. وفي الخصال، الخصلة ألف. ومعاني الأخبار ص 306 وعلل الشرائع، ج1، ص 198. وإكمال الدين للصدوق، ص 193 - 184. ومنتخب بصائر الدرجات. وكذلك في كتاب الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر - للخزاز القمّي. وكذلك في البحار، ج 1، ص 103، أبواب تاريخ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الباب 1، بدء خلقه وما جرى له في الميثاق، وبدء نوره، =

٤٢

وذكر المجلسي في ضمن شرحه للرواية: فأشهدهم خلقها، أي: خَلَقها بحضرتهم وبعلْمِهم، وهم كانوا مطّلعين على أطوار الخلق وأسراره، فلذا صاروا مستحقّين للإمامة؛ لعلمهم الكامل بالشرائع والأحكام، وعلل الخلق وأسرار الغيوب. وأئمّة الإمامية كلّهم موصوفون بتلك الصفات دون سائر الفرق فيه.

ولا ينافي هذا قوله تعالى: ( مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) (1) ، بل يؤيّده؛ فإنّ الضمير في (ما أشهدتهم) راجع إلى الشيطان وذرّيته، أو إلى المشركين؛ بدليل قوله تعالى سابقاً: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي ) (2) وقوله بعد ذلك: ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (3) ، فلا ينافي إشهاد الهادين للخلق.

قال الطبرسي (رحمه الله): قيل، معنى الآية أنّكم اتّبعتم الشياطين كما يُتّبع من يكون عنده علم لا يُنال إلاّ من جهته، وأنا ما أطْلَعتهم على خلق السماوات والأرض، ولا على خلق أنفسهم، ولم أعطهم العلم بأنّه كيف يُخلق الأشياء، فمن أين يتبعونهم؟ انتهى.

وأجرى طاعتهم عليها: أي أوجب، وألزم على جميع الأشياء طاعتهم، حتّى الجمادات من السماويات والأرضيات، كشقّ القمر، وإقبال الشجر، وتسبيح

____________________

= وكذلك في، ج 15، ص 19 و141. وفي: ج 57، ص 65، حديث 43. وفي مجلد 35، تاريخ أمير المؤمنين، حديث 1. وفي مجلد 54، ص 195، ص 141. وفي مجلد 25، ص 340، ص 24. وفي البحار أيضاً، مجلد 57، كتاب السماء والعالم.

وهناك مصادر كثيرة أُخرى في كتب المتقدمين، كالكليني، والصدوق، وغيرهما. والمتأخرين، كصاحب البحار، والسيد هاشم البحراني، وغيرهما. وكذلك نقل النمازي - صاحب مستدرك سفينة البحار، ج 10، ص 163 - روايات أُخرى في مادة: (ن و ر). وفي مجمع البيان للطبرسي، في ذيل تفسير آية النور. وكذلك في تفسير البرهان.

1) سورة الكهف: 51.

2) سورة الكهف: 50.

3) سورة الكهف: 51.

٤٣

الحصى، وأمثالها ممّا لا يحصى، وفوّض أُمورها إليهم من التحليل، والتحريم، والعطاء، والمنع. وإن كان ظاهرها تفويض تدبيرها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤون، ظاهره تفويض الأحكام كما سيأتي تحقيقه... إلخ (4) .

وكذلك ذكر (قدس سره) في ذيل روايات: أوّل ما خلق من الروحانيين العقل. وذكر له ستّة تفاسير، وقال عقب تفسير الفلاسفة:

فاعلم أنّ أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام في أخبارنا المتواترة على وجه آخر، فإنّهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدّم في الخلق لأرواحهم، إمّا على جميع المخلوقات، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة. وأيضاً، أثبتوا لها التوسّط في الإيجاد، أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الأخبار كونهم عليهم‌السلام علّة غائية لجميع المخلوقات، وأنّه لولاهم لما خلق اللَّه الأفلاك وغيرها. وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح، وقد ثبت في الأخبار أنّ جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسّطهم تفيض على سائر الخلق، حتّى الملائكة والأنبياء.

والحاصل، إنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليهم‌السلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات، والعلوم، والكمالات، على جميع الخلق. فكلّما يكون التوسّل بهم والإذعان بفضلهم أكثر، كان فيضان الكمالات من اللَّه أكثر... فعلى قياس ما قالوا، يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي انشعبت منه أنوار الأئمّة عليهم‌السلام ، وحمل استنطاقه على الحقيقة. أو بجعله محلاً للمعارف غير المتناهية.

والمراد بالأمر بالإقبال: ترقّيه على مراتب الكمال، وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوِصال. وبإدباره: إمّا إنزاله إلى البدن أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال،

____________________

1) البحار، ج 25، ص 343، باب نفي الغلوّ في النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام .

٤٤

فإنّه يلزمه التنزّل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق، ويشير إليه قوله تعالى: ( قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً ) (1) ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة. ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال: الإقبال إلى الخلق، وبالإدبار: الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ؛ ويؤيّده ما في بعض الأخبار من تقديم الإدبار على الإقبال وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى (ولا أكْمِلك) يمكن أن يكون المراد ولا أكمِل محبّتك والارتباط بك وكونك واسطة بينه وبيني، إلّا فيمن أحبّه، أو يكون الخطاب مع روحهم ونورهم عليهم‌السلام ، والمراد بالإكمال إكماله في أبدانهم الشريفة، أي هذا النور بعد تشعّبه بأي بدن تعلّق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحبّ الخلق إلى اللَّه تعالى. انتهى (2) .

وأمّا في طرق العامّة، فقد ذكر صاحب عبقات الأنوار، السيّد حامد حسين اللكهنوي، عن حديث النور، قال:

الحديث الثامن: ما رووا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، ولمّا خلق اللَّه آدم، قسّم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب...) الحديث.

قال صاحب العبقات: لقد نسب الدهلوي - صاحب التحفة الاثني عشرية - رواية حديث النور إلى الإمامية فقط، وادّعى إجماع أهل السنّة على كونه موضوعاً، ونحن نكشف عن كذب هذه الدعاوى، وعن مدى تعصّب صاحبها وعناده للحق وأهله، بذكر رواة الحديث من الصحابة، والتابعين، وكبار علماء أهل السنّة. ثمّ ذكر أسماء رواة حديث النور من الصحابة وعدّتهم ثمانية، كما ذكر رواة حديث النور من التابعين وعدّتهم ثمانية أيضاً،

____________________

81) سورة الطلاق: 10 - 11.

82) البحار، ج 1، ص 103 - 104.

٤٥

وذكر العلماء والمحدّثين والحفّاظ الذين رَوَوا الحديث في مجاميعهم، وعدّتهم واحد وأربعون، بطرقهم المختلفة. منهم: ابن حنبل، وابنه عبد اللَّه، وابن مرْدَويه، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن عبد البرّ القرطبي، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي المكّي، وابن عساكر الدمشقي، والمحبّ الطبري، والحمويني، والگنجي الشافعي، والخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.

ثمّ أخذ (رضوان اللَّه عليه) في إثبات تواتر الحديث، ثمّ ذكر مصادر الحديث واحداً واحداً، وذكر صحّة أسانيد الحديث لديهم، ثمّ ذكر كلام الشيخ ابن عربي في تفسير الحديث، بأنّه: لم يكن أقرب إلى اللَّه تعالى في عالم الهباء - وهو عالم النور - من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأقرب الناس إليه عليّ بن أبي طالب، إمام العالَم بأسره، والجامع لأسرار الأنبياء أجمعين.

ثمّ نَقَل عن ابن عربي في الفتوحات: إنّ جميع الأنبياء يأتيهم الإمداد من تلك الروح الطاهرة لسيّد الأنبياء، في ما يظهرون فيه من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رُسُلاً، وتشريعهم الشرائع.

ونَقَل عنه قوله أيضا ً: إنّ اللَّه لمّا جعل منزِل محمّد (صلّى الله عليه وسلم) السيادة فكان سيداً ومن سواه سوقة، علمنا أنّه لا يُقاوَم؛ فإنّ السَوَقة لا تقاوم ملوكها، فله منزل خاصّ، وللسوقة منزل، ولمّا أُعطي هذه المنزلة وآدم بين الماء والطين، عَلِمنا أنّه الممدّ لكلّ إنسان مبعوث بناموس إلهي أو حكمي، وأوّل ما ظهر من ذلك في آدم؛ حيث جعله اللَّه خليفة عن محمّد (صلّى الله عليه وسلم)، فأمدّه بالأسماء كلّها من مقام جامع الكلم التي لمحمّد (صلّى الله عليه وسلم) (1) .

ثمّ نَقَل كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني، من كتابه اليواقيت والجواهر، وتقريره

____________________

1) الفتوحات المكّية الباب السادس في بدء الخلق.

٤٦

لكلام ابن عربي. ثمّ نَقَل كلام شمس الدين القناري وتقريره لكلام ابن عربي في مصباح الأنس (1) .

ثمّ نَقَل مصادر حديث النور عند الإمامية، فذكر جملة من الروايات عن الكُليني في الكافي، وعن الصدوق في جملة من كتبه، وعن الشيخ المفيد في الاختصاص، والشيخ الطوسي في الأمالي، والراوندي في الخرائج والجرائح، والعلاّمة الحلّي في كشف اليقين، وتفسير فرات الكوفي، وجملة غفيرة أُخرى من علماء الإمامية (2) .

هذا، وقد روي بألفاظ متعدّدة أيضاً، فمنها: ما رواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنّفه، كما حكاه عنه صاحب كشف الخفاء (3) ، بسنده، عن جابر بن عبد اللَّه، قال:

(قلت: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأُمّي، أخبرني عن أوّل شي‏ء خلقه اللَّه قبل الأشياء؟ قال: يا جابر، إنّ اللَّه تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيِّك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء اللَّه، ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ ولا قلمٌ، ولا جنّة ولا نار، ولا مَلَك ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جنّي ولا إنسي، فلمّا أراد اللَّه أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأوّل القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأوّل حَمَلَة العرش، ومن الثاني الكُرسي، ومن الثالث باقي الملائكة.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأوّل السموات، ومن الثاني الأرضين،

____________________

1) مصباح الأُنس، ص 175.

2) عبقات الأنوار، ج 4، ولاحظ الجزء 5؛ فإنّه أطنب في ذلك أيضاً.

3) كشف الخفاء، لإسماعيل بن محمّد العجلوتي الجراحي، المتوفّى سنة 1162، ج 1، ص 311 و 312، مؤسّسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1405هـ.

٤٧

ومن الثالث الجنّة والنار. ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأوّل نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم، وهي المعرفة باللَّه، ومن الثالث نورانيتهم، وهو التوحيد لا إله إلاّ اللَّه محمّد رسول اللَّه) الحديث.

كذا في المواهب، وقال فيها أيضاً: واختُلف، هل القلم أوّل المخلوقات بعد النور المحمّدي أم لا؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصحّ أنّ العرش قبل القلم؛ لِمَا ثبت في الصحيح عن ابن عمر، قال: (قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم): قدّر اللَّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء). فهذا صريح في أنّ التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أوّل خلق القلم، فحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: (أوّل ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب. فقال: ربّ، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلّ شي‏ء)، رواه أحمد والترمذي وصحّحه.

وروى أحمد والترمذي، وصحّحه أيضاً من حديث أبي رزين مرفوعاً: (إنّ الماء خُلق قبل العرش). وروى السدِّي بأسانيد متعدّدة: (أنّ اللَّه لم يخلق شيئاً ممّا خلق قبل الماء). فيجمع بينه وبين ما قبله؛ بأنّ أوّلية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبوّي المحمديّ، والماء، والعرش. انتهى.

وقيل: الأوّلية في كلّ شي‏ء بالإضافة إلى جنسه، أي أوّل ما خلق اللَّه من الأنوار نوري، وكذا باقيها.

وروي في كشف الخفاء - أيضاً - عن كتاب الأحكام لابن القطّان، فيما ذكره ابن مرزوق، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه: (أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وسلم) قال: كنت نوراً بين يدي ربّي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام). انتهى ما في المواهب.

ونبّه الشبراملسي قائلاً: ليس المراد بقوله من نوره ظاهره، من أنّ اللَّه تعالى له نور قائم

٤٨

بذاته؛ لاستحالته عليه تعالى، لأنّ النور لا يقوم إلاّ بالأجسام، بل المراد خُلِق من نورٍ مخلوقٍ له، قبل نور محمّد، وأضافه إليه تعالى لكونه تولّى خَلْقه. ثمّ قال: ويحتمل أنّ الإضافة بيانية، أي خَلَق نورَ نبيّه من نورٍ هو ذاته تعالى، لكن، لا بمعنى أنّها مادّةٌ خَلَق نور نبيّه منها، بل بمعنى أنّه تعالى تعلّقت إرادته بإيجاد نورٍ بلا توسّط شي‏ء في وجوده. قال: هذا أولى الأجوبة، نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) (1) ، حيث قال: أضافه إلى نفسه تشريفاً، وإشعاراً بأنّه خلقٌ عجيب، وأنّ له مناسبة إلى حضرة الربوبية. انتهى ملخّصاً (2) .

وكذا ما رواه أحمد بن حنبل (3) بسنده عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وروى سبط ابن الجوزي: (قال أحمد في الفضائل: حدّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، قال: قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم): كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه تعالى قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، فلما خُلق آدم قُسّم ذلك النور جزئين: فجزء أنا، وجزءٌ عليّ) (4)

وروى العاصمي: (أخبرنا الحسين بن محمّد، حدّثنا عبد اللَّه بن أبي منصور، حدّثنا محمّد بن بشر، حدّثنا محمّد بن إدريس الرازي، حدّثنا محمّد ابن عبد اللَّه بن المثنى، حدّثنا حمدي الطويل، عن أنس بن مالك، قال، قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم): خُلقت وعليّ بن أبي طالب من نور واحد يسبّح اللَّه عزّ وجلّ في يمنة العرش قبل خلق الدنيا) (5) .

وروى القطيعي: (حدّثنا الحسن، حدّثنا أحمد بن المقدام العجلي، حدّثنا الفضيل بن عياض، حدّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، قال: سمعت

____________________

1) سورة السجدة: 9.

2) نفس المصدر، الرواية المتقدّمة.

3) كما رواه في البحار، ج 15، ص 24، تاريخ النبيّ باب بدء خلقه، أخرجه عن كتاب رياض الجنان لفضل اللَّه بن محمود الفارسي، والظاهر أنّه رواه عن فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل.

4) تذكرة الخواص، ص 46.

5) تهذيب زين الفتى، ص 133، ح 38.

٤٩

حبيبي رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه عزّ وجلّ قبل أن يخلق اللَّه آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللَّه آدم قسّم ذلك النور جزئين: فجزءٌ أنا، وجزءٌ عليّ) (1) .

وروى الخوارزمي: (بسند متّصل إلى زياد بن المنذر، عن محمّد بن علي ابن الحسين، عن أبيه، عن جدّه، قال، قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم): كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه تعالى قبل أن يُخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة) (2) .

وروى الكنجي الشافعي: (أخبرنا إبراهيم بن بركات الخشوعي... عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): خلق اللَّه قضيباً من نور قبل أن يخلق الدنيا بأربعين ألف عام، فجعله أمام العرش، حتّى كان أوّل مبعثي، فشقّ منه نصفاً فخلق منه نبيّكم، والنصف الآخر عليّ بن أبي طالب) (3) .

وروى ابن المغازلي: (أخبرنا أبو طالب محمّد بن أحمد بن عثمان...، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي ذرّ، قال: سمعت رسول اللَّه (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: كنت أنا وعليّ نوراً عن يمين العرش، يسبّح اللَّهَ ذلك النور ويقدّسه قبل أن يخلق اللَّه آدم بأربعة عشر ألف عام، فلم أزل أنا وعليّ في شي‏ء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطّلب) (4) .

وروى ابن المغازلي: (أخبرنا أبو غالب محمّد بن أحمد بن سهل النحوي... عن سعيد بن عبد العزيز، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، قال: إنّ اللَّه عزّ وجلّ أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم، فساقها حتّى قسّمها جزئين: جزءً في صلب عبد اللَّه وجزءً في صلب أبي طالب، فأخرجني نبيّاً، وأخرج عليّاً وصيّاً) (5) .

وروى الحمويني: (أخبرني الشيخ الصالح جمال الدين أحمد... عن العلاء بن عبد

____________________

1) فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل، ج 2، ص 662، ح 1130.

2) المناقب، ص 88.

3) كفاية الطالب، ص 324.

4) المناقب، ص 87.

5) المصدر السابق.

٥٠

الرحمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: لمّا خلق اللَّه تعالى أبا البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش، فإذا في النور خمسة أشباح سجّداً وركّعاً، قال آدم: هل خلقت أحداً من طين قبلي؟ قال: لا يا آدم، قال: فمن هؤلاء الخمسة الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك، لولاهم لما خلقتك...) (1) .

والحاصل: إنّ مضمون هذه القاعدة - وهي خلقتهم النورانية وإبداعها قبل كلّ الخلائق - مروية بألفاظ مختلفة عند الفريقين، وبطرق متعدّدة في المصادر الكثيرة، ويدلُّ على مضمون هذه القاعدة من الآيات قوله تعالى:

( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَة وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) .

فنورهُ تعالى المضاف إليه بالإضافة التشريفية هو نور السماوات والأرض، اشتقّ منه وجودها - كما ورد في أحاديث الفريقين، في أنّه أوّل ما خلق اللَّه نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - وهذا النور مرتبط في تركيب الآيات بجملة ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) ، وهذه البيوت هي رجالٌ عُصِموا عن اللهو بالتجارة والبيع، لا يفترون عن ذكر اللَّه، وإقام الصلاة وإيتاء

____________________

1) فرائد السمطين، ج 1، ص 36. ورواه أحمد في المسند أيضاً، وصاحب كتاب الفردوس الديلمي، والرياض النضرة، ج 2، ص 164، ولسان الميزان، ج 2، ص 229، وميزان الاعتدال، ج 1، ص 507، عن تاريخ ابن عساكر، ومناقب الخوارزمي، ص 46، وينابيع المودّة، ص 256، و ص 10، ومناقب المغازلي، ص 89، وكفاية الطالب، ص 314، و ص 315، ومنتخب كنز العمّال، في هامش مسند أحمد، ج 5، ص 32، وشرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 2، ص 430.

٥١

الزكاة، فهذا النور مرتبط بأرواحهم، فحقيقة معرفة هؤلاء الرجال هو معرفتهم بمبدأ خلقتهم وهو النور.

وبعبارة أُخرى: إنّ في صدر آيات النور ذكر مبتدأ، وهو قوله: ( مَثَلُ نُورِهِ ) ، أي النور المضاف إلى اللَّه تعالى بالإضافة الخلقية، ثمّ بعد ذلك أخبر عنه بأخبار متعدّدة تباعاً، فأخبر عن ذلك النور:

أوّلاً: بتشبيهه بخمسة أُمور ( كَمِشْكَاةٍ... ) .

ثانياً: تعاقب هذا النور بعد الخمسة وتعدده ( نُّورٌ عَلَى نُورٍ ) .

ثالثاً: هداية اللَّه لنوره من يشاء ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) .

رابعاً: كون هذا النور في بيوت معظَّمة مبجَّلة، رفعها اللَّه بإذنه، ووصف هذه البيوت التي فيها النور بعدّة أوصاف، وإنّ تلك البيوت رجالٌ لا بيوت حَجَرٍ ومدر: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ... ) .

ويتحصّل من هذه الأخبار المتعدّدة عن نور اللَّه، أنّ هذا النور المخلوق للَّه المشرَّف بالإضافة التشريفية والتكريم إلى الذات المقدّسة، هو في رجالٍ معصومين عن اللهو، لا يفترون عن ذكر اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، أي إنَّهم دائماً في مقام العبودية والطاعة.

وكون هذا النور فيهم يعني أنّه أعلى مرتبة في أرواحهم، كما أنّ هذا النور، بمقتضى الخبر الأوّل، مبتدأه وفي بدوه خمسة أنوار؛ لأنّ التشبيه وقع على خمسة أشياء، أي بكلّ من المصباح، والزجاجة، والمشكاة، والكوكب الدريّ، والشجرة.

كما أنّ مقتضى الخبر الثاني: تعاقب الأنوار بعد الأنوار الخمسة، وهذا المفاد لظهور الآيات متطابق مع ما ورد في روايات الفريقين في الخلقة النورانية، من أنّ الخمسة - أصحاب الكساء - هم مبتدأ خلق النور ومن ثمّ بقية العترة، ولا ريب أنّ أحد الخمسة وسيّدهم هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تكتمل عدّة الخمسة الذين فيهم

٥٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ بالخمسة الذين وقعت بهم المُباهلة، وهم أصحاب الكساء الذين نزلت في حقّهم آية التطهير بنصّ روايات الفريقين.

والعمدة التفطّن إلى أنّ تعدّد التشبيه في الآية إلى خمسة ليس جزافاً وزخرفاً في الكلام، بل المغزى منه الإشارة إلى أنّ هناك خمسة مشبّهين بخمسة أُمور مشبّهٌ بها، وأنّ لكلّ مشبّهٍ وجه شبهٍ في المشبّه به الموازي له، وقد ورد في نصوص الفريقين مسائلة النبي عن تلك البيوت، وأنّ بيت عليّ وفاطمة منها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (نعم، من أفاضلها) (1) .

ونصّ الحديث في السيوطي، وأخرجه عن ابن مردويه، عن أنس بن مالك وبريد: (قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ) ، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها، بيت عليّ وفاطمة؟ قال: نعم، من أفاضلها).

ولا يخفى أنّ هذه الرواية فيها دلالة على أنّ أبا بكر قد اختلج في نفسه أنّ بيت عليّ وفاطمة، ومقام عليّ وفاطمة، عند اللَّه في الحجّية والاصطفاء والطهارة لا يقصر عن مقام الأنبياء، ومقتضى جواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إثبات هذا المعنى، بل مقتضى الجواب علوّ مقامهما وأرفعيته وأنّه أعلى.

وممّا ورد في كون هذه البيوت منطبقة على المساجد أيضاً، في الآية الكريمة وبضميمة مفاد هذه الرواية، تبيّن أنّ مراقدهم عليهم‌السلام هي بيوت لهم أيضاً، وهي أفضل شرفاً وعظمة من المساجد، ولذلك نقل السمهودي في وفاء الوفاء: إجماع أهل سنّة الخلافة بأنّ ما ضم الأعضاء الشريفة له صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم فضلاً من مكّة

____________________

1) رواه السيوطي في الدرّ المنثور في ذيل الآية، والثعلبي في الكشف والبيان، وابن حسنويه في بحر المناقب، ص 18، والبغدادي في عوارف المعارف، ص 261، والأمرتسري في أرجح المطالب، ص 75، روى الحديث عن طريق ابن مردويه.

٥٣

المكرّمة. وحُكي هذا الإجماع عن القاضي عياض، والقاضي أبو وليد الباجي، وأبو اليمن بن عساكر، بل نُقل عن التاج السبكي، عن ابن عقيل الحنبلي: أنّ تلك البقعة هي أعظم من العرش (1) .

وتوهّم بعض الرواة أنّ المراد من البيوت هو البيت الطيني الذي يحلّ فيه أهل البيت، مع أنّ المراد - بحسب ظهور الآية - من البيوت هو نفس الرجال المطهرون، كما هو مفاد قول الإمام الباقر عليه‌السلام في ذيل الآية الكريمة.

ويعضد مفاد الخلقة النورية لهم عليهم‌السلام ، المستفادة من آيات سورة النور، ما في قوله تعالى في سورة البقرة: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) (2) .

ومقتضى مفاد هذه الآيات أنّ السبب في تأهّل آدم للخلافة الإلهية هو معرفته بعلم الأسماء الجمعي، وبه تشرّف لمقامِ سجودِ وطاعةِ وتبعية الملائكة له، ولم يكن جميع الملائكة عالمين بتلك الأسماء. ويستفاد من هذا الاستعراض القرآني لهذه الواقعة أُمور:

الأوّل: إنّ تلك الأسماء موصوفة بغيب السماوات والأرض، وفي الآية التالية من تلك الآيات نرى أنّ الملائكة لم تكن تعلم بتلك الأسماء، مع أنّ الملائكة تملأ السموات والأرض، فلو كانت كينونة تلك الأسماء في السموات أو في الأرض لعلمتها الملائكة ولأحاطت بها خُبراً، بل إنّ تنبّه الملائكة لها - بعد عرضها

____________________

1) وفاء الوفاء بأخيار دار المصطفى للسمهودي، ج 1، ص 28.

2) سورة البقرة: 31 - 33.

٥٤

عليهم - ليس علم إحاطة بالأسماء، وإنّما هو علم إنبائي، لا كعلم آدم علم لدنّي، والعلم اللدنّي منه ما يكون عَياني، بخلاف الإنبائي فإنّه حصولي.

الثاني: إنّ هذه الأسماء ليست أصوات متموّجة وكلمات لسانية، بل هي موجودات حيّة شاعرة عاقلة؛ لقوله تعالى: ( عَرَضَهُمْ ) حيث إنّ الضمير (هم) لا يُستعمل إلاّ في ذلك؛ ولقوله تعالى: ( بِأَسْمَاء هَؤُلاء ) فإنّ اسم الإشارة (هؤلاء) لا يُستعمل إلاّ في ذلك أيضاً؛ ولقوله تعالى: ( ... فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ) فيُعلم أنّ هذه الموجودات الحيّة الشاعرة العاقلة، هي سنخ موجودات كينونتها في الغيب، الذي هو باطن السماوات، أي في نشأة ما وراء السماوات وما وراء نشأة الملائكة، وهذا ينطبق على المخلوقات النورية، ولا ريب في كون نور النبيّ هو أحدها، لأنّه سيّد الكائنات والمخلوقات، كما في قوله تعالى: ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (2) .

فتحصّل من هاتين الطائفتين، الإشارة الواضحة إلى الخلقة النورية المتقدّمة على خلق السماوات والأرض؛ باعتبار وصفها غيب السماوات والأرض.

وهناك آيات أُخرى تتعرّض لخلقتهم النورانية، لسنا في صَدد بسط الدلالة حولها، ونكتفي بالإشارة في الموضع المناسب لها، نظير قوله تعالى: ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (3) ، وقوله تعالى: ( َالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (4) .

____________________

1) سورة النجم: 8 - 9.

2) سورة الأنبياء: 107.

3) سورة التوبة: 32.

4) سورة الأعراف: 157.

٥٥

والمهم الالتفات إلى أهميّة هذه القاعدة في الاعتقادات والمعرفة الدينية؛ حيث إنّ لها موقع الأُمومة والأصل لكثير من المعارف والقواعد والمسائل الاعتقادية، وقد مرّ نماذج من ذلك في الروايات، حيث إنّهم عليهم‌السلام يستدلُّون على بقية مقاماتهم بذكر هذا الأصل المعرفي.

وهذه الأُمور لهذه القاعدة تقتضيها القواعد الحَكَمِية والعقلية؛ إذ للصادر الأوّل والصوادر الأُولى في الإبداعِ الوجودُ الأشرف، بالقياس إلى سائر أقسام الخلقة، فلابدَّ من توفّرها على سائر الكمالات التي تكون فيما دونها من الخلقة، فإذا تقرّر أنّ النور المُبدَع له الأسبقية، في الخلقة فلا بدَّ أن تكون له كلّ كمالات ما دونه وزيادة، كما لا بدّ أن يكون له الإشراف والهيمنة على ما دونه، بإذن وإقدار اللَّه تعالى.

وعلى هذا التقرير لمعرفتهم بالخلقة النورانية - معرفتهم بالنورانية - يتّضح تطابق هذه القاعدة مع القاعدة المتقدّمة: نزّلونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم، فلن تبلغوا كنه ما جعله اللَّه لنا.

٥٦

الفصل الخامس

فهرست المناهج

التي اعتمدها الإمامية

٥٧

٥٨

فهرست المناهج

التي اعتمدها الإمامية

المنهج الأوّل: عبارة عن إثبات كبرى الإمامة بالأدلّة النقلية، ثمّ إثبات المصداق، بمعنى تشخيصه لا أصل وجوده؛ وإلاّ فأصل وجوده قد دُلّ عليه بنفس الكبرى. وهذه الكبرى إمّا قرآنية، أو روائية، أو عقلية، أو شُهُوديةٌ قلبية.

المنهج الثاني: إثبات النصوص الخاصّة الواردة بأسمائهم عليهم‌السلام ، وهي على أنحاء: تارة بأسماء كلّ واحدٍ منهم، وأُخرى في خصوص عليّ والحسن والحسين، وذرّية الحسين عليهم‌السلام . وغير ذلك من أنحاء التسمية.

المنهج الثالث: إثبات الأدلّة العقلية على الكبرى، وهي ضرورة وجود المعصوم عليه‌السلام ، وهذه الأدلّة تُثبّت تارةً: بالعقل العملي، وأُخرى: بالعقل النظري.

المنهج الرابع: إثبات إمامتهم عليه‌السلام عبر معاجزهم العلمية، ببسط البيان في موارد انعطاف الأُمّة الإسلامية إلى انحرافات هدّامة لولا الهداية العلمية التي قام بها آل البيت عليهم‌السلام . أو ببيان دقائق أسرارهم في العلوم والمعارف التي بثّوها والتي تتحدّى المضمار العلمي إلى يومنا في العصر الحديث، مع ما كانت عليه الجزيرة العربية من البداوة وندرة العلوم، وإحاطتهم باختلاف المذاهب، وتعدّد شؤون علومهم الروحية والحَكَمية والمادّية، وكذلك لجوء المخالفين بالرجوع إلى أهل

٥٩

البيت عليهم‌السلام (1) ، وتراثهم العلمي في شتّى العلوم ماثل بين يدي البشرية يفوق ويتحدّى في الحلبة العلمية علم أيّ عالم وأيّ حاضرة علمية، كيف لا؟! وهم أعدال الكتاب الذي له هذه الصفة أيضاً!

المنهج الخامس: مقارعة الدول المعاصرة لهم بكلّ طاقاتها وقواها، واستعانتها ببقية الدول البشرية على ذلك، مع ما كان يدّعيه آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكمال وعدم الإعياء في العلم ممّا يثير نائرة التحدّي معهم، فقد تحدّوهم في ‏العلوم والفنون ومختلف المهارات، حتّى في الفروسية والطبّ وعلوم الشعبذة، وغيرها.

المنهج السادس: إثبات خصوص إمامة عليّ عليه‌السلام أو الحسنين، أو إمامة المهدي (عجل الله فرجه)، أو هم جميعاً مع ضمّ ضمائم أُخرى، من قبيل تنصيص عليّ عليه‌السلام على من بعده، أو استلزام إمامة الثاني عشر عليه‌السلام لإمامة مَن قبله.

المنهج السابع: ريادتهم وسبقهم جميع البشر - ممّن عاصرهم ومن لم يعاصرهم - في تمام الكمالات والفضائل، وفي شتّى الصفات الفضيلية، والكمالية الروحية والعقلية، والنفسية، والبدنية.

المنهج الثامن: الآيات البينة، التي هي معاجز غير المعاجز العلمية، مثل قلع باب خيبر، وتكلّمهم بكلّ لسان، وعلمهم بلغات الحيوانات.

المنهج التاسع: الملاحم الإخبارية التي أنبأوا بها، كخطبة البيان وأخبار آخر الزمان، وما أخبروا عن أحوال معاصريهم. وقد دوّن الفريقان فصولاً في كتبهم التاريخية وكتب السِيَر ونحوها من إخبارات عليّ عليه‌السلام عن الملاحم.

المنهج العاشر: تنصيص الكتب السماوية السابقة عليهم.

____________________

1) راجع: إحقاق الحقّ.

٦٠