الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية6%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141494 / تحميل: 8975
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (2) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (3) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (4) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (5) .

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) الكليني، الكافي، ج4، ص549.

(3) المصدر، ص550.

(4) المصدر، ص549.

(5) المصدر، ج1، ص392.

١٠١

6 - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (3) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (4) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (5) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(1) طه: 82.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الأنبياء: 72 - 73.

(4) السجدة: 24.

(5) القصص: 41.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (1) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(1) طه: 79.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (1) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (2) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (4) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(1) الحمد: 2 - 3.

(2) الحمد: 4.

(3) الحمد: 5.

(4) الحمد: 6 - 7.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (1) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (2) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (5) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (6) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (7) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(1) سورة الحشر: 7.

(2) سورة الأنفال: 41.

(3) سورة الأحزاب: 33.

(4) سورة الشورى: 23.

(5) سورة المائدة: 55.

(6) سورة الواقعة: 77 - 79.

(7) الأحزاب: 33.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (2) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(1) طه: 82.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 393.

(3) الحج: 26 - 27.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(1) إبراهيم: 37.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (1) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (2) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

8 - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (3) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، ص172.

(2) الصدوق، المقنع، ص255.

(3) مريم: 31.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (1) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9 - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (4) .

____________________

(1) ق: 9.

(2) طه: 9 - 12.

(3) النازعات: 15 - 16.

(4) مريم: 51 - 52.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (3) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (4) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(1) القصص:29 - 30.

(2) التين: 1 - 3.

(3) الصدوق، الخصال، ص225، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص405.

(4) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص275.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (1) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (3) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

(2) طه: 12.

(3) تفسير القرطبي، ج11، ص175.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(1) النور: 35 -37.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (1) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(1) سورة البقرة: 31 - 33.

(2) بصائر الدرجات، ص89، الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص44.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (1) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (2) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص50.

(2) الكافي، ج8، ص331، ح510.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (1) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(1) تفسير القمي: ج2 ص79.

(2) المستدرك، ج 2، ص 671 و 672

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (1) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (2) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (3) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص158، ح4.

(2) المصدر، ص157، ح3.

(3) مناقب ابن المغازلي، ص263، ح361.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (1) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(1) الكافي، ج6، ص256، ح1.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (2) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (3) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(1) الكافي، ج1، ص182، ح6.

(2) الطوسي، لاحظ التبيان، ج7، ص439، وابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص364.

(3) الجمعة: 11.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (1) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (2) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(1) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج28، ص132.

(2) شرف الدين، تأويل الآيات، ج2، ص693.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

أنت أو رجل منك)، وهذه سنّة إلهية ثابتة.

فالاختيار والاصطفاء إذن من اللَّه تعالى، فلو كان مع موسى غير سفهاء لكانوا مؤهّلين لسماع الوحي مع أنّهم غير أنبياء، فما تعتقده الإمامية من أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام استمع الوحي ورآه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

(يا عليّ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى) (١) ، سنّة قرآنية أصيلة، ومن ثمّ أمر اللَّه نبيّه في آية المباهلة انتداب عليّ لشهوده الوحي ومسؤوليته لهذه الشهادة، هو وزوجه البتول وشبليه سيدا شباب أهل الجنّة، حيث كانوا أصحاب الكساء يشاهدون الوحي عياناً، فحمّلهم اللَّه تعالى مسؤولية الشهادة في المباهلة كشركاء تابعين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحجّة الإلهية.

كما في قوله تعالى: ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) ، وهو الوحي النازل، ( وَيَتْلُوهُ ) أي يتبعه وتابع له، ( شَاهِدٌ ) أي يشهد الوحي عياناً ويشهد البينة من الربّ، ( مِنْهُ ) أي من أهله وبمنزلة نفسه كما في ( أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) .

وقد يُعترض: بأنّ كلّ مؤمن يشهد بوحدانية اللَّه وبرسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا خصوص الأمر الإلهي في آية المباهلة بأهل البيت عليهم‌السلام بأن يشهدوا للنبيّ والرسالة دون غيرهم؟ أليس قد شهد خُزيمة بن ثابت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما لم يره عندما نازع الأعرابي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عين مال، فأمضى النبيّ شهادته عن بينة بمنزلة شهادة رجلين؟ وذلك ليقين خزيمة بصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وللإجابة عن هذا الاستفسار: أنّ شهادة المؤمن حيث كانت تستند إلى إدراك المعجزة الإلهية على نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي إخبار قطعي لا ظنّي، بل هي إخبار عن عيان؛ لأنّ المعجزة كما هو الصحيح عندنا عيان للقدرة للغيبة يتكشّف شي‏ء من ستار الغيب، فإدراك المعجزة عيان لبروز القدرة الغيبية الإلهية.

____________________

١) نهج البلاغة الخطبة القاصعة.

٥٦١

لا كما عرفها المتكلّمون من أنّها برهان فكري في الاستنتاج الذهني ومن نمط العلم الحصولي، بل هي علم حضوري في الأساس، وإن كانت معجزة علمية أو تكوينية تستند إلى الحسّ في مقدّماتها وإلى المعاني الذهنية، إلاّ أنّ أبصار الإعجاز المترتّب عليها هو عيان وجداني للقدرة الخارقة الغيبية، ومن ثمّ تكون مسؤولية المؤمن الإقرار والشهادة والإخبار القطعي بما أدركه عياناً، إلاّ أنّ هذا الإدراك لمّا كان محدوداً وبنحو إجمالي كانت المسؤولية الملقاة على كاهل المؤمن هي متناسبة بقدر ذلك من افتراض الإيمان عليه والتسليم والطاعة، بل والقيام في الواجبات في الشريعة.

وهذا بخلاف من يحتمل أن يكون قوله وشهادته سنداً بنفسه يقينياً قطعياً لحجّية نفس الرسالة والنبوّة ليضاهي قوله وشهادته المعجزة في إثبات الرسالة، فإنّ مثل ذلك الشخص والأشخاص لا ريب ولابدّ أنّهم يتمتّعون بعيان حضوري لكلّ تفاصيل الوحي، ويشاكلون ويشاركون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع تبعيتهم له في العلم والعيان؛ لِما ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن ثمّ خُصّوا بهذه المسؤولية دون غيرهم، وكانت لهم أهلية ذلك دون بقية كبار الصحابة ودون زوجات النبيّ، كما تقدّم في اختصاص عليّ بتبليغ سورة براءة دون أبي بكر؛ بأمر اللَّه النازل: (لا يبلّغ عنك إلاّ أنت أو رجل منك)، فكانوا على درجة من الصفات توجب اليقين من شهادتهم على حذو اليقين الحاصل من المعجزة.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ) (١) ، فالوزارة للنبوّة جعل إلهي، لذا فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى)، بمعنى الخلافة والوزارة والإمامة، وكون هارون وزيراً غير كونه نبيّاً.

____________________

١) سورة الفرقان: ٣٥.

٥٦٢

النموذج السادس: سليمان وداود عليهما‌السلام

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ) (١) ، فهذه المقامات المذكورة والنعم الموصوفة هي غير مقامات النبوّة، بل هي مقامات إمامة وولاية.

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ، وهي كسابقتها من الآيات؛ إذ الأعطيات التي استوجبت الحمد من قبل داود وسليمان لمكان الحبوة التي حَظيا بها من اللَّه تعالى، لا لمقام النبوّة منهما، بل لحجّيتهما وإمامتهما.

قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (٣) ، فقد وصف اللَّه تعالى داود أنّه عبد في هذه الآية والمقام ولم يذكر وصف النبوّة، ممّا يدلّل - بمقتضى أنّ الوصف مشعر بالعلّية - على أنّ هذه الحبوات إنّما أُعطيت له بمقتضى درجة العبودية التي وصل إليها، والتي هي معنى الولاية كما في الخضر حيث قال تعالى: ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) (٤) .

فبيّنت الآية أنّ العلم اللدنّي والرحمة الخاصّة التي هي من مقامات الولاية وأُعطيت للخضر استحقّها بالعبودية بدرجة خاصّة، فهذه المقامات أُعطيت لداود بسبب مقاماته في العبودية، وهي الولاية؛ لأنّ العبودية هي الجانب الذي يلي من العبد تجاه مولاه، لا بما لداود من مقام النبوّة.

____________________

١) سورة سبأ: ١٠ - ١٢.

٢) سورة النمل: ١٥.

٣) سورة ص: ١٧.

٤) سورة الكهف: ٦٥.

٥٦٣

فالآيات المتقدّمة تشير إلى حقيقة مهمّة، وهي أنّ الحبوات التي حصل عليها الأنبياء لا لمجرّد كونهم أنبياء بل لكونهم حججاً أولياء وأئمّة، فالنبوّة وإن كانت تحتاج إلى المعجزة، إلاّ أنّ المعجزة لا ضرورة لدوامها واستمرارها بنحو ممتدّ، بل يكفي وقوعها وحدوثها لإيجابها واستلزامها الثبات على نحو الدوام، أي أنّ وجودها وإن كان دفعياً إلاّ أنّ حجّيتها ووصف الحجّية لها مستمرّ؛ إذ هي في حدود تصديق نبوّة النبيّ.

فإذا تمّ الغرض انتفت الضرورة لاستمرار وجودها، وإن كان بعض المعاجز - كالقرآن الكريم - معاجز مستمرّة الوجود، بينما هذه الحبوات والمقامات ثابتة لحجج اللَّه تعالى وأوليائه، وهو ما حدث وما يحدث لأئمّة آل البيت عليهم‌السلام من الحظوة بالمقامات الإلهية التي حازوا عليها وأكرمهم اللَّه تعالى بحبواته، فلا مجال إذن لإنكار هذه الحقيقة المعرفية القرآنية تحت ذريعة وغطاء التفويض والغلوّ، كما توهّم البعض. فإيتاء الملك لداود هي الإمامة.

قوله تعالى: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) ، إشارة إلى التدبير الاجتماعي الذي يديره داود في بني إسرائيل، فإيتاء الملك يختلف عن إيتاء النبوّة، فهو منصب خاصّ من قبل اللَّه تعالى، فالإمامة أهلية خاصّة غير أهلية النبوّة.

قوله تعالى: ( أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (١) ، فتوريث الأرض للعباد الصالحين لا لكونهم أنبياء، بل لكونهم عباداً صالحين، وهذا وعد إلهي.

إنّ أحد حدود الإمامة هي العبودية بدرجة فائقة للَّه تعالى وهي ولاية ولي اللَّه الإمام وتولّيه لربّه تعالى، وقد روى هارون بن الفضل، قال: (رأيت أبا الحسن عليّ

____________________

١) سورة الأنبياء: ١٠٥.

٥٦٤

بن محمّد في اليوم الذي توفّي فيه أبو جعفر عليه‌السلام فقال: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون، مضى أبو جعفر عليه‌السلام . فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنّه تداخلني ذلّة للَّه لم أكن أعرفه) (١) .

وفي رواية أُخرى أنّه عليه‌السلام سُئل عن كيفية علمه بوفاة أبيه، قال: (قد دخلني من إجلال اللَّه ما لم أكن أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنّه قد مضى) (٢) .

فالإمامة ولاية ملكوتية غيبية وليست ولاية ملك مادّي فقط، بل ولاية عبودية للَّه تعالى. والولاية أعلى رتبة من النبوّة، وذلك أنّ الولاية هي جهة القرب والارتباط باللَّه تعالى، فولاية كلّ نبيّ هي أعلى وأشرف من نبوّته؛ لأنّها جهة عبودية النبيّ للربّ تعالى، فلذلك الولاية أعظم من النبوّة، أي ولاية ولي اللَّه الإمام وتولّيه لربّه.

قوله تعالى: ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٣) ، إنّ غواية إبليس وإضلاله لا تشمل المخلَصين - بالفتح - فهم معصومون عن غواية إبليس على صعيد العمل وعلى صعيد العلم.

وإنّ سورة الصافات في أربع مواضع ذكرت (عباد اللَّه المخلَصين ) .

١ - قوله تعالى: ( وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٤) .

٢ - قوله تعالى: ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٥) .

٣ - قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٦) .

٤ - قوله تعالى: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٧) .

____________________

١) أصول الكافي، ج١، ص٣٨١.

٢) بحار الأنوار، ج٢٧، ص٢٩٣، عن بصائر الدرجات.

٣) سورة ص: ٨٢ - ٨٣.

٤) سورة الصافات: ٣٩ - ٤٠.

٥) سورة الصافات: ٧٣ - ٧٤.

٦) سورة الصافات: ١٢٧ - ١٢٨.

٧) سورة الصافات: ١٥٩ - ١٦٠.

٥٦٥

فوصف اللَّه تعالى هؤلاء العباد بأنّهم مخلَصين لا تقع منهم معصية ولا يراودهم شكّ أو شبهة، فهم مخلِصين للَّه في عبادتهم، ومخلَصين من أي ذنب أو قبيح.

لذا فإن قوله تعالى: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) ، حيث نزّه اللَّه تعالى عن كلّ وصف إلاّ توصيف عباد اللَّه المخلَصين، وهي أعلى مقامات المخلَصين التي تعني المعرفة الحقّة له تعالى.

فالصلاح الذاتي وما يترتّب عليه من صفات لم يكن كسبياً، بل هو منصب إلهي اصطفائي جعلي؛ وذلك لقوله تعالى: ( وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (١) .

ومثله الرشد الذاتي اللدنّي حيث لم يكن عادياً كسبياً، بل هو إلهي جعلي يمنّ على خاصّة عباده؛ لقوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ ) (٢) .

المشاركة في الحجية:

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ) (٣) ، فهذه مشاركة بين موسى وهارون في الحجّية، فنزول الفرقان لم يختصّ به موسى، بل شاركه هارون كذلك. وهذا مفاد حديث المنزلة، إذ كونه عليه‌السلام من النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة هارون من موسى، يشير إلى جَنْبة مشاركة ما ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شِرْكَة تابعٍ له، كما في قوله تعالى: ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ) (٤) .

أي يتلو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويشهد الوحي عياناً وهو البينة من الربّ وهو رجل من النبيّ من نفسه.

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٢.

٢) سورة الأنبياء: ٥١.

٣) سورة الأنبياء: ٤٨.

٤) سورة هود: ١٧.

٥٦٦

فقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنا مدينة العلم وعليّ بابه) (١) ، وغيرها من الموارد التي تشير إلى المشاركة، كآية المباهلة وآية التطهير.

النموذج السابع: عيسى عليه‌السلام .

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِي‏ءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ ) (٢) .

فهذه المناصب بعضها لا ربط لها بالنبوّة بما هي نبوّة، وكونه رسولاً هو أحد مناصبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوله ( أَخْلُقُ لَكُمْ... ) بمعنى الخلقة والتكوين وليس هو تشكيل الطين على هيئة الطير فقط.

إنّ شبهة كون الخلقة التي يتولاّها عيسى عليه‌السلام هو تشكيل فقط دخلت على العامّة، محتجّين بها على كون الخلق لا يمكن أن يقوم به غير اللَّه تعالى، في حين نقول إنّ الخلقة بأمر اللَّه تعالى ولا مانع من أن يقوم بها أحد عباده المصطفين الذين اصطفاهم اللَّه لهذه المهمّة.

وإنّ تشكيل المادّة لا يقال لها خلقة، بل الخلقة هي حالة إيجاد وتكوين بأقدار اللَّه تعالى وإرادته، مع إمكان تفويض ذلك إلى خاصّة عباده كما هو الحال في عيسى عليه‌السلام ، تفويضاً غير عزلي، أي من دون أن يكون الباري تعالى معزولاً ولا النبيّ

____________________

١) خلاصة عبقات الأنوار، للسيد حامد حسين اللكهنوي، ج ١٠، فقد عقد مجلّداً خاصّاً في بيان تواتر الحديث الشريف.

٢) سورة المائدة: ١١٠.

٥٦٧

عيسى عليه‌السلام ونحوه من الأولياء مستقلاً في فعله كما هو الحال في غير ذلك من الأفعال، لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. ويُستدلّ على ذلك بقوله تعالى: ( فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا ) (١) ، فالنفخ هنا خلق كما في نفخ الصور، فالنفخ هنا ليس تشكيل، إذ الخلق للطير متفرّع على نفخ عيسى عليه‌السلام . ثمّ إحياء الموتى ليس هو كخلق الطير، بل إحياء الموتى هو تزويج الروح بالبدن.

وقوله تعالى: ( وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، فالإبراء وإن كان إحياء وخلق لكن خلق حال وليس إعادة لحياة الذات، وهذا ما يمكن تصوّره في أولياء اللَّه المصطفين كالأئمّة عليهم‌السلام ؛ إذ إمكان إعطائهم هذه الحَبوة كما أُعطيت لعيسى ليس تفويضاً عَزْلياً باطلاً - تعزل فيه قدرة اللَّه تعالى وهيمنته وقاهريته وقيّوميّته - كما هو الحال في أفعال الإنسان: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.

ولا فرق في تمكين وإقدار الباري للمخلوق على الفعل بين فعل النملة وفعل عزرائيل وميكائيل وأعاظم الملائكة والأرواح؛ فإنّه بقانون واحد: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. ومن لا يميز بين التفويض العزلي الباطل وبين التفويض بمعنى الإقدار والتمكين في حين قدرته تعالى، من انحسار لقدرته فيما أقدرهم عليه، يحصل لديه الخلط بينهما، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة.

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) ، إنّ أُصول الدين لا تُنسخ، بل النسخ يكون في الفروع، كما أنّ أركان الفروع غير منسوخة، فأُصول المحرّمات هي واحدة في كلّ الشرائع كحرمة الزنا

____________________

١) سورة آل عمران: ٤٩.

٢) سورة آل عمران: ٥٥.

٥٦٨

والكذب والغشّ وغيرها، وكذلك أُصول الواجبات.

فالنسخ لا يكون في المعارف ولا إلغاءً لها، بل الحال فيها حالات تكامل وتوسّع وتعمّق، وكذلك الكتب الإلهية في نسخها الأصلية غير المحرّفة والتي هي عند الإمام المهدي (عج)؛ لكونه وارث الأنبياء والمرسلين كذلك، وشرائعها السابقة لها قدسيتها في القرآن الكريم وفي كلام أهل البيت عليهم‌السلام .

فمع أنّ عيسى عليه‌السلام قد نسخت شريعته، فهو مع ذلك سيكون له دور مهمّ في شريعة الإسلام، إذ سيؤدّي دوره المقدّر من قبل اللَّه تعالى حيث نزوله من السماء والتحاقه بالإمام المهدي المنتظر (عج).

على أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ غيبة الإمام (عج) لا تعني أكثر من خفاء هوية وليس تغييباً لوجوده ولا إبعاده عن مسرح الأحداث ولا مزايلة عن تدبير الأوضاع البشرية، ولذلك الاعتقادِ أدلّة قائمة قد مرّ الإشارة إليها. وظهور الإمام (عج) يعني ظهور هويته المغيبة، أي المخفية المستترة، وليس بداية لحضور وجوده الشريف، بل وجوده حاضر بيننا نعيشه بوجداننا وأعماقنا.

وكلمة: ( مُتَوَفِّيكَ ) ، أي: قابضك، فهو قبض له حتّى يبعثه اللَّه، إلى حيث يوجّهه لمناصرة وليه الإمام المهدي (عج) ومؤازرته.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (١) ، فروح القدس حبوة إلهية لعيسى عليه‌السلام ، وهي ليست من خصائص النبوّة، كما أنّ روح القدس قد تقدّم الحديث عنه مبسوطاً في الفصل السابع في مباحث ليلة القدر، وهو نور كما فُسّر بلحاظ الهيمنة العلمية، فهو مع الأئمّة عليهم‌السلام ، وهو بلحاظ المناصب الأُخرى غير النبوّة.

____________________

١) سورة البقرة: ٨٧.

٥٦٩

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (١) ، ومضافاً إلى كون عيسى عليه‌السلام رسول اللَّه فقد وُصِف أيضاً بأنّه كلمته وأنّه روح اللَّه.

والكلمة هي الشي‏ء التكويني الدالّ على معنى بدلالة تكوينية لا فرضٌ اعتباري أدبي، وهذا المعنى هو الأصل في معنى ومصداق الكلمة حقيقةً، وأمّا الكلمة التي تتداول في الكلام المحاوري فهي اعتبارية يعتبرها ويفترضها المتكلّم والمخاطب فيما بينهم، فعيسى هو كلمة اللَّه وهو اسمه أيضاً؛ لأنّ الاسم في اللغة يعني السِّمة والعلامة، وهو نفس معنى كلمته وهو آية من آيات ربوبيته، كما قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (٢) ، وقال تعالى: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) (٣) ، والآية في اللغة العلامة والسِّمة أيضاً، وعليه تكون الآية والكلمة والاسم بمعنى واحد، أو مشتركة في أصل معناها.

وكونه روح اللَّه يعني بوجوده وولادته وحالاته الملكوتية خروجه من الغيب مقاماً، فأضيفت إلى الذات الإلهية تشريفاً لمقامها.

وقد قام الدليل على أنّ الأئمّة كلمات اللَّه، كما في قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (٤) ، ولعلّ الإشارة في كلمات الصدق، وتمامية الكلمات صدقاً، هو للمرسلين، وتمامية الكلمة عدلاً هو لجعل اللَّه تعالى للأئمّة الهادين بأمره الذين يوحي إليهم فعل الخيرات وإقامة العدل، ولا ريب أنّ من كلمات اللَّه في عموم هذه الآية هو النبيّ عيسى عليه‌السلام ، فالمراد من الكلمات هم الحجج المصطفين.

وقد ورد من طريق الفريقين في قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ

____________________

١) سورة النساء: ١٧١.

٢) سورة المؤمنون: ٥٠.

٣) سورة مريم: ٢١.

٤) سورة الأنعام: ١١٥.

٥٧٠

فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) ، فقد روى الحاكم في مستدركه: (أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة قال: يا ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي. فقال: يا آدم كيف عرفت؟ قال: لأنّك لمّا خلقتني نظرت إلى العرش فوجدتُ مكتوباً فيه: لا إله إلاّ اللَّه محمّد رسول اللَّه فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك فعرفته أحبّ الخلق إليك) (٢) .

وقد تقدّمت الإشارة في قوله تعالى حول مريم: ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) (٣) ، أنّ مقتضى المقابلة بين الكلمات والكتب قرينة على إرادت الحُجج المصطفين الذين منهم النبيّ عيسى عليه‌السلام ، كما ورد عين هذا التعبير في قوله تعالى لزكريا: ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ) (٤) ، أي مصدّقاً بالنبيّ عيسى، نظير التعبير عن مريم: ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ) ، فكلمات اللَّه وكلمة الربّ تطلق على كلّ من اصطفاه اللَّه من أولياءه الحجج، سواء جعله نبيّاً رسولاً أو جعله إماماً للناس خليفة له في أرضه، فلا مجال للإنكار ولا للتنكّر عن هذه المعارف القرآنية؛ إذ عيسى حُبي بهذه الحبوة وهو كونه كلمة، وهذه الحبوة ليست من مناصب خصوص النبوّة ولا من حالاتها، وإنّما هي من شؤون عموم الاصطفاء والجعل الإلهي.

قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا ِلأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٥) ، طلب عيسى من اللَّه سبحانه أن يُنزّل مائدةً من السماء اطمئناناً

____________________

١) سورة البقرة: ٣٧.

٢) مستدرك الحاكم، ج٢، ص٦١٥.

٣) سورة التحريم: ١٢.

٤) سورة آل عمران: ٣٩.

٥) سورة المائدة: ١١٢ - ١١٤.

٥٧١

لقلوب الحواريين وقد استجاب اللَّه لسؤاله وأكرمه بنزول المائدة، فكانت تلك المائدة كرامةً لعيسى بن مريم عليه‌السلام ، علماً أنّ هذه الكرامة ليس لخصوص منصب كونه نبيّاً ورسول اللَّه، بل لكونه حجّة إلهية، وبذلك فقد ألقى اللَّه حجّته على الحواريين بحجّية عيسى بن مريم، على أنّ الحجّية كلّما اشتدّت كلّما اشتدّت العقوبة واشتدّ تنجيزها.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (١) ، قد تفسّر البينات بالمعجزة، إلاّ أنّ المعجزة مشتركة مع جميع الأنبياء، فلا يبعد أن تكون البينات منزلة إلهية غير أصل معجزة النبوّة، والقرينة على ذلك هو مجيئه بالحكمة، فهو إشارة إلى خصوصية اختصّ بها عيسى إضافة لنبوّته.

والعامّة لا يثبّتون للنبيّ من وراء نبوّته مقاماً آخر، وهذه مشكلة تُضاف إلى الأذهان لتتبلّد عن معرفة النبوّة ومقاماتها الإلهية وكراماتها من اللَّه تعالى.

____________________

١) سورة الزخرف: ٦٣.

٥٧٢

القائمة الثالثة

معجزات الأنبياء

إنّ الهدف من المعجزات هو التصديق والإذعان والإخبات لنبوّة النبيّ الذي يأتي بالمعجزة. فإتيان موسى عليه‌السلام بتسع آيات، أي: معجزات، فكلّما أتى بمعجزة ورأوا العذاب قد حلّ بساحتهم، سألوا موسى أن يرفع اللَّه عنهم ما أصابهم حتّى يؤمنوا لمّا شاهدوا من الحقّ، فإذا رُفع عنهم العذاب رجعوا إلى ما هم عليه من التكذيب والبهتان.

وهكذا تستمر المعجزة باستمرار الحاجة في التصديق وإلقاء الحجّة على القوم الذين يأتيهم إنذار من اللَّه تعالى. والمعجزة من سنخ الهداية الإيصالية لا الإرائية المحضة.

وهكذا في جميع الأنبياء تُلاحظ حالات الإعجاز المتواترة المستمرّة، كما أنّ المعجزة ليست إلاّ ما عجزت جميع البشرية عن إتيان مثلها، فتحدّي صالح عليه‌السلام قومه بإتيان ناقة من الجبل لا يعني تحدّ لقوم صالح وحدهم، بل إنّ التحدّي هذا مستمرّ على مدى استمرار البشرية قاطبة وإلى أبد الآبدين.

فالخطاب والتحدّي عام شامل، فالمعجزة هو التحدّي لإقرار ادّعاء منصب إلهي.

كما أنّ المعجزة شرطها مقام التحدّي فضلاً عن كونها حَبوة، إلاّ أنّ الإعجاز استمراره قائم إلى اليوم، وسرّ ذلك أنّ آيات اللَّه باقية حتّى اليوم والكلام في المقام

٥٧٣

هو كون البينات والآيات المتولّدة من المعجزة سواء كانت علمية أو تكوينية استمرارها وقابلية تحدّيها إلى اليوم. وخصائص القرآن الإعجازية أنّه علمي، أي أنّ المعجزة القرآنية في عين أنّه علم فهو قدرة إعجازية غيبية. ثمّ هل أنّ التصديق من سنخ الهداية الإيصالية أم الهداية الإراءية؟

والهداية الإراءية: معرفة المطلب وتشخيصه والتنجيز وإقامة الحجّة، أما الإيصالية فهي: الإيصال إلى الهدف. والإمامة هي هداية إيصالية، والذي يدلّل على أنّ الأنبياء المرسلين كلّهم اشتملوا على مقام آخر وهو كونهم أئمّة هداة: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (١) ، هو إتيان الأنبياء للمعاجز، إذ هو دالّ على أنّ هناك غرض إلهي وهو الهداية الإيصالية، فالهداية الإيصالية هي محطّ غرض إلهي وهي الإمامة، وحينئذٍ فإنّ هذه المعاجز هي في صدد الهداية الإيصالية.

وبمعنى آخر: فإنّ المعاجز لا يقتصر غرضها على الإرادة والهداية الإراءية وإقامة الحجّة فقط، كما اشتهر عند المتكلّمين. بل إنّ غرضها هو الهداية الإيصالية، كذلك هي الإمامة.

وممّا يعزّز ذلك ما أشرنا إليه في مواضع متعدّدة من أنّ المعجزة ليست مجرّد برهان من العلم الحصولي كما اشتهر عند المتكلّمين، بل هي برهان عياني من العلم الحضوري؛ إذ في المعجزة يدرك ويلمس من يُحتجّ عليه بها لمعان الغيب ويشهد رفع الستار عن وجه من القدرة الغيبية، ومن ثمّ صحّ ممّن احتجّ عليه بالمعجزة أن يشهد ويتشهّد بمؤدّى المعجزة، أي بالأمر الذي أُريد إثباته بالمعجزة، كما يتشهّد المؤمن بالشهادتين وبالشهادة الثالثة، حيث إنّ ذلك التشهّد ليس استعمالاً مجازياً

____________________

١) سورة الأنبياء: ٧٣.

٥٧٤

ولا إقراراً لسانياً كلقلقة محظة، بل هو إخبار قطعي وإنباء عمّا أدركه شهوداً.

ولا سبيل للمؤمن لشهود التوحيد، والنبوّة، والإمامة، والمعاد، إلاّ بعيان الأدلّة الإعجازية، سواء العلمية أو الآيات الخارجية: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان) (١) . ومن ثمّ أجاز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شهادة خزيمة بن ثابت فسُميّ بذي الشهادتين.

وعلى ضوء ذلك فإنّ من شأن المعجزة الجذب والهداية الموصلة إلى المطلوب من دون إلجاء، فدور النبوّة هو الاحتجاج بتوسّط التعريف بالغرض والغاية، في حين أنّ الإمامة هي إيصال للغرض، كما في قوله تعالى: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٢) ، فالمنذر هو معرّف للغرض، والهادي هو الموصل بالهداية الإيصالية إلى الغرض.

ومعنى ذلك: أنّ الإراءة والبيان من صنع اللَّه تعالى، أمّا الإيمان - أي التصديق - فهو من فعل البشر، فالنبيّ الباطن هو العقل النظري، إلاّ أنّ العامّة ترى أنّ النبوّة هي مجرّد إراءة وبيان وليس أكثر من ذلك.

فالمعاجز دالّة على أنّ أصحابها لهم مقام الإمامة والتي هي هداية إيصالية دائمة متواجدة، وكونها أحد الأغراض الإلهية الهامّة في بعثة الأنبياء.

____________________

١) نهج البلاغة، الخطبة ١٧٩.

٢) سورة الرعد: ٧.

٥٧٥

٥٧٦

القائمة الرابعة

مؤدّى السنّة الإلهية في معاجلة العذاب للأمم

وهو مسلسل العذاب والعقوبات التي تطال الأُمم في دار الدنيا، وهذا المسلسل يطالعنا فيه القرآن الكريم في موارد عدّة، مثل قوم لوط وعاد وقوم ثمود وصالح وموسى.

ومسلسل هذا العذاب في صوره العديدة التي يحكيها القرآن الكريم قد رُفِع عن أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء كان المسخ أو غيره، إلاّ أنّ بعض صوره الأُخرى تراودها وتعاقب بها، من قبيل الأمراض والفتن وغيرها، فضلاً عن الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل وغيرها.

وإنّ الإرادة التشريعية الإلهية للأُمم لم يكتفِ اللَّه تعالى بتنظيرها اعتباراً، بل أراد تحقّقها في النشأة الدنيوية، واللَّه تعالى يعالج بعضهم بالعذاب والغرض منه إنجاز الهداية الإيصالية، والقرآن يصرّح في سورة الفجر بهذه الحقيقة بقوله تعالى:

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (١) ، أي أنّ استمرار المراقبة والرقابة الإلهية المستمرّة لمنع الفساد والطغيان في الأرض.

____________________

١) سورة الفجر: ٦ - ١٤.

٥٧٧

وكذا في سورة الحشر في إجلاء أهل الكتاب: ( وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (١) ، فعلّل معاجلة العذاب لهم في الدنيا بمشاققتهم للَّه ولرسوله، وأنّ هذا سنّة إلهية، وهذا نظير اعتراض الملائكة على اللَّه تعالى عند خلق الإنسان: بأنّه يريد هلاك الحرث والنسل وسفك الدماء، ولكن الباري عزّ وجلّ أنبأهم بالواقع، وبخلاف ما ظنّوه، وخلاف ما اعتقدوه؛ إذ من هذا البشر سيكون أولياء وأنبياء وصلحاء، يهدون إلى الخير والوصول إلى الهداية الإيصالية فضلاً عن الهداية التشريعية.

وإنّ الهداية الإيصالية هي من غايات الهداية التشريعية، وأن يكون المجتمع البشري مجتمعاً فاضلاً تكاملياً وإصلاحياً لجميع البشر، والوصول إلى الحقيقة وهي العبودية الخالصة للَّه عزّ وجلّ والوصول إلى الأهداف والأغراض المطلوبة، هذا مضافاً إلى أنّ فريضة الإيمان بالمعاد الغرض منها هو التحرّك والحركة إلى الهداية الإيصالية، فإنّ الإيمان بالمعاد هو لغرض الوصول إلى الغاية الحقيقية وهو الهداية الإيصالية، فكون المعاد ضرورة، بمعنى: أنّ الأُمور ليست من دون علّة غائية وغرض نهائي.

____________________

١) سورة الحشر: ٣ - ٤.

٥٧٨

القائمة الخامسة

مسلسل سيرة حكومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن

إنّ هذا المسلسل في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله - خصوصاً في السور المدنية حيث نلاحظ سلوكياته وتصرّفاته السياسية والاجتماعية وغيرها - هي من نمط الهداية الإيصالية، التي هي من نمط الإمامة.

فجانب منها في القضاء، كما في قوله تعالى: ( وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) (١) . وقوله تعالى: ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٢) .

وجانب آخر في تدبيره للأموال العامّة ، كقوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٣) . وقوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٤) .

أمّا الجانب السياسي والتنظيم الحربي فلقوله تعالى: ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ) (٥) ، وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) (٦) ، وقوله تعالى: ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ

____________________

١) سورة النور: ٤٨.

٢) سورة النور: ٥١.

٣) سورة الأنفال: ١.

٤) سورة الأنفال: ٤١.

٥) سورة الأنفال: ٥٨.

٦) سورة التوبة: ١٢٣.

٥٧٩

لَهَا ) (١) .

وقوله تعالى: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) (٢) .

وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ ) (٣) .

وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٤) .

وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) (٥) .

وقوله تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) (٦) .

أمّا الجانب الاجتماعي والتقنين الأُسري ، فلقوله تعالى: ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ) (٧) .

وفي الجانب الأمني ، قوله تعالى: ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) (٨) .

فضلاً عن الآيات التي تحدّثت عن إقامة أحكام الحدود مثل الزنا والسرقة وغيرها.

كما أنّ الولاية العامّة وغيرها ليست مرتبطة بالنبوّة، بل بإمامته وولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لقوله تعالى: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (٩) ، بيان صلاحيته صلى‌الله‌عليه‌وآله في إقامة المعاهدات مع أهل الكتاب أو قتالهم وحقوق المسلمين وما يتعلّق بشؤونهم.

إذن فالموارد التي مارسها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقام في حكومته بإجراءاتها وتنفيذ الإرادة الإلهية فيها، أشار إليها القرآن بذكر بعض تفاصيلها فضلاً عن الإشارة إلى أحكامها.

وإنّ أوامر اللَّه تعالى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي وردت في القرآن الكريم كانت بمستوى

____________________

١) سورة الأنفال: ٦١.

٢) سورة الأنفال: ٦٧.

٣) سورة الأنفال: ٧٠.

٤) سورة النساء: ١٤٤.

٥) سورة الممتحنة: ١.

٦) سورة التوبة: ٤٣.

٧) سورة الأحزاب: ٣٧.

٨) سورة التوبة: ١٠٨.

٩) سورة الأحزاب: ٦.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592