الإمامة الإلهية الجزء ٢

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 592

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 592
المشاهدات: 133681
تحميل: 7973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133681 / تحميل: 7973
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ) (1) .

الأمر السادس: أنّ علمهم لدنيّ، علمٌ تالي لعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتابع للنبوّة؛ حيث إنّ ذلك العلم متعلّق ببيان كلّ الكتاب، كما في آية العنكبوت المتقدّمة، أو تأويل كلّ الكتاب، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (2) ، وهو تأويل الكتاب المنزّل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلمهم متأخر رتبة عمّا أُنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن ثمّ أُطلق على علمهم أنّه وراثة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليست هذه الوراثة هي الوراثة المعهودة بل هي وراثة نورانية، أي أنّ تلقّيها لدنيّ من اللَّه تعالى وبوساطة نبويّة.

ثالثاً: الذين يحيطون بالكتاب المبين

قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأرْضِ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (3) ، وقوله تعالى: ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (4) ، وقوله تعالى: ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (5) ، وقوله تعالى: ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.. ) (6) ، وقوله تعالى: ( يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (7) ، وقوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) (8) ، وقوله تعالى: ( كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

____________________

1) سورة لقمان: 12.

2) سورة آل عمران: 7.

3) سورة النمل: 75.

4) سورة سبأ: 3.

5) سورة الأنعام: 38.

6) سورة الأنعام: 59.

7) سورة الرعد: 39.

8) سورة الواقعة: 79 - 75.

٨١

وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (1) .

والآيات الأُولى الدالّة على أنّ كلّ شي‏ء في الخِلقة مذكور في الكتاب، فكلّ غائبة، وكلّ رَطْب، وكلّ يابس، لم يفرط في تدوينه في الكتاب، وكل ما يُمحى ويُثبت في عالم الخلقة في الكتاب. وقد وصف القرآن بالكتاب المبين - أي بأنّ القرآن هو ذلك الكتاب المبين -، كما في سورة الدخان في قوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) (2) .

وقوله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (3) .

وقوله تعالى: ( طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ) (4) .

وقوله تعالى: ( وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (5) .

وقوله تعالى: ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (6) . مع أنّ احتواء كلّ شي‏ء في الكتاب المبين صرّح به في إحدى الآيات: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (7) . وقوله تعالى: ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (8) .

وهذه الطائفة مع كونها دالّة بالاستقلال على الثقلين بضميمة قوله تعالى في سورة الرعد: ( كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (9) . فالحريّ بنا أن نُنقّح الحال في كون الآية مكّية؛ في قِبال القولين السابقين اللذين مرّا في الآية وأنّها

____________________

1) سورة الرعد: 43.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

3) سورة المائدة: 15.

4) سورة النمل: 1.

5) سورة البقرة: 97.

6) سورة يونس: 61.

7) سورة النمل: 75.

8) سورة هود: 6.

9) سورة الرعد: 43.

٨٢

مدنية.

وهذا القول يستلزم كون الآية مدنية؛ لأنّ هؤلاء - وهم عبد اللَّه بن سلام، أو سلمان الفارسي، أو تميم الداري - أسلموا بعد الهجرة، وكلا القولين بعيدين عن الحقيقة والصواب.

أمّا القول الأوّل ، فإنّ ما نُسب إلى ابن عبّاس فمع كون النسبة غير مسندة، فتكون القراءة شاذّة لا يجب التعويل عليها في قِبال المتواتر من قراءة الآية، أي أنّ (مَنْ) اسم موصول لا حرف جرّ.

أمّا القول الثاني ، فيردّه شواهد عديدة:

الأوّل: كون الآية مكّية؛ كما عن النحاس، عن ابن عبّاس. وممّن ذهب إلى أنّها مكّية: سعيد بن جُبير، والحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر بن زيد (1) .

الثاني: إنّ سياق السورة من أوّلها إلى آخرها سياق واحد في المحاججة مع الكفّار، مثل قوله تعالى: ( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (1) .

ومن الظاهر أنّ هذا اللحن لحن دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكّة مع كفّار قريش كبقية السور المكّية، لا أُسلوب المواجهة بالقوّة والتهديد بالقتال، وكذلك هو لحن الطرف الآخر - وهم الكفّار - لحن المطالبة بالمعجز أي الحِجاج المنطقي، وهي مرحلة متقدّمة في عهدٍ مكّيٍّ من الرسالة، تختلف عن العهد المدني؛ حيث أُسلوب المواجهة مع الرسول

____________________

1) فتح القدير، للشوكاني.

2) سورة الرعد: 5.

3) سورة الرعد: 6 - 7.

٨٣

القائد لدولته التي أنشأها في المدينة.

ثمّ إنّ السورة تتابع آياتها بنفس السياق والأُسلوب، كقوله تعالى:

( للَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ * وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (1) .

وكذلك الآيات اللاحقة: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) (2) .

وكذا قوله تعالى: ( كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ * وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً ) (3) .

وأجمع المفسّرون وأصحاب السِّيَر: أنّ الآية الأخيرة نزلت في مكّة لمطالبة قريش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الأُمور الخوارق، ومن الواضح أنّ السياق لا يمكن تفكيكه بل هو تابع مع مبتدأ السورة، فمن الغريب ما نُسب إلى بعضهم قوله أنّ السورة مكية وخصوص هذه الآية مدنية، مع أنّ هذه الآية - كما يلاحظ بالتدبّر - في السورة متّصلة النظم، وهي في مقام الجواب عن حُجج الكافرين، فكيف يصحّ إقحام هذه الآية المدنية بعد فرض كون الآيات السابقة جميعاً مكية؟

وهكذا في استرسال بقية الآيات كقوله تعالى: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) (4) ، والإمهال كان في مكّة، وقوله تعالى: ( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ... ) (5) ، وكذا قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا

____________________

1) سورة الرعد: 14 - 16.

2) سورة الرعد: 27.

3) سورة الرعد: 31.

4) سورة الرعد: 32.

5) سورة الرعد: 33.

٨٤

رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) (1) و: ( يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) و : ( وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ) (3) و: ( أَوَلَمْ يَرَوْا... ) (4) و: ( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) (5) و: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (6) .

فتجد أنّ مخاطبة الكفّار في هذه الآية الأخيرة هي عين مخاطبتهم السابقة وبنفس اللحن من الحِجاج المنطقي. بل إنّ مضمون هذه الآية الأخيرة ملخّص وحاصل لجميع الآيات السابقة. بل في هذه الآية تصريح وتعرّض لرفض مقترحات الكفّار والتي طلبت في الآيات السابقة، كما في قوله تعالى:

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) (7) ، ومقترحهم بتسيير جبال مكّة وتكليم الموتى رفض بقوله تعالى: ( قُلْ كَفَى... ) ، أي إنهاء للمحاجَجة، وقطع للحجّة بشهادة اللَّه وشهادة مَن عنده علم الكتاب، وهذا دلالة على مكّية الآية الأخيرة.

الثالث: لم يوصف علماء اليهود والنصارى والأحبار - عدا أنبيائهم ورسلهم وأوصيائهم - بهذه الصفة من العلم بالكتاب، فهم في قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً... ) (8) ، هو وصف لآصف بن برخيا، وصيّ سليمان، وقد بيّنت هذه الآية أنّ خاصّية علم

____________________

1) سورة الرعد: 38.

2) سورة الرعد: 39.

3) سورة الرعد: 40.

4) سورة الرعد: 41.

5) سورة الرعد: 42.

6) سورة الرعد: 43.

7) سورة الرعد: 27.

8) سورة النمل: 40.

٨٥

الكتاب هي القدرة التكوينية الخارقة، كالتي كانت حاصلة لدى آصف، وقد أشارت إليها سورة الرعد نفسها، في قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى... ) (1) ، ومن الواضح أنّ هذه الخاصّية والصفة إنّما تُعطى لذوي المناصب الإلهية كالأوصياء والرسل، ومن ثمّ وصف بعلم الكتاب أكثر أنبياء اللَّه.

كما أنّ آيات الثقل الأوّل في هذه الطائفة مبيّنة لاحتواء الكتاب على كلّ المشيئات الإلهية وبكلّ غائبة في السماوات والأرض وكلّ صغيرة وكبيرة ورطب ويابس، فالإحاطة بمثل هذا العلم لم يكن لدى من أسلم من اليهود والنصارى كما زُعِم، كعبد اللَّه بن سلام، وتميم الداري، وغيرهما، فمع خطورة هذا المقام وعظمة شأن هذه الصفة يمتنع أن يكون مِصداقها هؤلاء، وذلك دليل بيّن على كون نزولها في مكّة، وأنّ مِصداقها هو من يكون وصياً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الرابع: أنّ شهادة من عنده علم الكتاب أمر أُردف بشهادة اللَّه تعالى؛ للدلالة على أنّها تتلوها في السِنخ، وبعبارة أُخرى: إنّ إدلاء الشاهد بالشهادة يستلزم تحمّل الشاهد عياناً للأمر المشهود به، ممّا يعني أنّ الشاهد لديه إدراك حضوري عَياني لعملية إنباء النبيّ ونزول الوحي على قلبه الشريف، ونزول الوحي على قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر غيبي ليس من عالم الشهادة والحسّ، فلا يتيسّر للشاهد الشهادة إلاّ أن يشهد بقلبه كيفية نزول الوحي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف لا يتيسّر له ذلك وعنده علم الكتاب الذي استطرّ فيه كلّ شي‏ء.

وهذا ما يشير إليه قول علي عليه‌السلام في الخطبة المعروفة بالقاصعة: (... ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي

____________________

1) سورة الرعد: 31.

٨٦

والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حيث نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت: يا رسول اللَّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنك لست بنبيّ، ولكنّك لوزير وإنّك لعلى خير (2) .

ويشير إلى ذلك قوله تعالى: ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ) (3) ، فإّنه قد أثبت الرؤية لا الرأي، وقد وصف القرآن الذين أوتوا العلم بأنّ مجموع القرآن آيات بيّنات في صدورهم.

وأمّا قوله تعالى: ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) (4) ، وهذا وإن كان شهادة ممّن أسلم من بني إسرائيل على مثل القرآن من الكتب السابقة المنزّلة، إلاّ أنّه في الحقيقة ليس الاعتداد بشهادتهم الصادرة منهم من جهة أشخاصهم، وإنّما هي في الحقيقة شهادة الكتب السابقة على نبوّة النبيّ الخاتم وحقّانية القرآن المنزّل، فالشهادة إذن لصدق النبوّة وصدق القرآن هي بشاهد غيبي، وهو الكتب المنزّلة السابقة مسانخ ومن نمط المشهود له.

الخامس: إنّ لفظ (الكتاب) في الآية لم يُقيّد بقيد الدالّ على إرادة الكتب السابقة المنزّلة، مضافاً إلى أنّ)ال(إمّا جنسية أو عَهْدِيّة، والجنسية هو ما يراد به اللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب، وقد تقدّم أنّه لا يحيط به من أسلم في المدينة من أهل الكتاب، ولا ادَّعى ذلك ولا ادُّعي فيهم ذلك، وإنّما الذي ادّعى ذلك في الأُمّة الإسلامية هم خصوص عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمّا إن كانت عَهْدية، فالعهد الذهني، والعهد الذِكْري واللفظي في السورة إنّما هو القرآن الكريم، فالعالم بالكتاب المراد به العالم بتمام القرآن.

____________________

1) نهج البلاغة خطبة 192.

2) سورة سبأ: 6.

3) سورة الأحقاف: 10.

٨٧

فتحصّل حينئذٍ:

إنّ مَن عنده علم الكتاب - المقرونة شهادته بشهادة اللَّه تعالى - هو ممّن أسلم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكّة، وممّن قد زُوّد بعلم أُمّ الكتاب، أي ممّن له عِلماً لدنياً بتمام حقائق القرآن الكريم. ومن البيّن أنّ صلة الموصول في الآية دالّة على حجّية شهادته، وأنّ منشأ تلك الحجّية هو إحاطته بالكتاب المُسْتَطَرتُ فيه المغيّبات، إذ من يكون بهذه المنزلة هو الذي يتمكّن من تحمّل تلك الشهادة والإحاطة بصدق المشهود بها، وهذا وجه حجّية شهادته.

وحيث احتجّ اللَّه تعالى بشهادته فلابدّ من علم قريش ومعرفتهم لهذه الصفة التي فيه وإن جحدوا لساناً، سواء حصلت معرفتهم بذلك - وباتّصاف هذا الشاهد بهذه الصفة - سابقاً، أم بتوسّط نفس الاحتجاج، بأن يكون في وصف اللَّه أنّ الشاهد هو بتلك الصفة؛ تنبيهاً للكفّار على منشأ حجّية شهادته، وأنّ ذلك المنشأ وتلك الصفة بإمكانهم التحقّق من وجودها والفحص عن ثبوتها في الشاهد.

وهذا ما تشير إليه المصادر التاريخية من وقيعة قريش في بني هاشم؛ بأنّهم بيت سحر - والعياذ باللَّه - وأنّه طالما رُؤي منهم السحر. ووقيعتهم تلك كانت شاملة لعليّ عليه‌السلام ، ممّا يدلّل على مشاهدة قريش خوارق العادات من بني هاشم ومن عليّ عليه‌السلام ، إلاّ أنّهم يجحدوها بلسانهم ويصفوها بأنّها سحر.

ويشير إلى ذلك قول عليّ عليه‌السلام في الخطبة القاصعة عندما طلبت قريش من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يظهر لهم معجزة الشجرة في حركتها وتكلّمها، فأظهر لهم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك، فقال عليّ عليه‌السلام : (فقلت أنا: لا إله إلاّ اللَّه إنّي أوّل مؤمن بك يا رسول اللَّه، وأوّل من أقرّ أنّ الشجرة فعلت ما فعلت بإذن اللَّه تعالى تصديقاً بنبوّتك وإجلالاً لكلمتك، فقال القوم كلّهم: بل ساحر كذّاب، عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلاّ مِثلُ هذا - يعنونني - وإنّي لمن قومٍ لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، سيماهم سيماء

٨٨

الصدّيقين وكلامهم كلام الأبرار، عُمّار الليل ومَنار النهار، يتمسّكون بحبل القرآن، يُحْيون سنن اللَّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يضلّون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل) (1) .

وعدم استجابة قريش للأمر في القرآن بأنّ عليهم الاكتفاء بشهادة اللَّه وشهادة من عنده علم الكتاب، أي أنّهم لم يستشهدوا بمن عنده علم الكتاب، كما لم يستشهدوا بالقرآن على صدق نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فيتحصّل من هذه الطائفة أُمور:

الأوّل: اشتمال القرآن على لوح التشريع والتكوين، أي على تمامِ كلٍّ من اللوحين.

الثاني: إحاطة من عنده علم الكتاب، وهم المطهّرون الذين يمسُّون مكنون القرآن - كما سيأتي في الطوائف اللاحقة - وهم الراسخون في العلم - كما في الطائفة الأولى -، والذين يعلمون تأويله ومتشابهه، وهم الذين أوتوا العلم، فمجموع آيات القرآن بيّنات في صدورهم - كما في الطائفة الثانية -.

وإرادة الجمع من اسم الموصول ( َمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) متعارف في مثل الأسماء الموصولة، ولذلك فَسّره بالجمع أيضاً من زعم أنّ الآية مدنية، وطبّقها على مَنْ أسلم من اليهود والنصارى.

الثالث: مقتضى قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً ) (2) .

وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً ) (3) .

إنّ خاصّية علم الكتاب هو إقدار اللَّه تعالى لصاحب ذلك العلم على إحياء الموتى، والتصرّف

____________________

1) نهج البلاغة: خطبة 192.

2) سورة النمل 40.

3) سورة الرعد: 31.

٨٩

بخوارق العادات، مع أنّ آصف بن برخيا الذي أُشير إليه في الآية الأُولى كان عنده بعض علم الكتاب؛ لمكان (مِن) التبعيضية، لا سيما أنّ الآية الثانية في نفس سورة الرعد - ومورد نزولها هو اقتراح الكفار باتساع أرض مكّة بإزالة الجبال، وتسوية الأرض، وتكليم الموتى، من دون تقييدهم وقوع ذلك بالقرآن الكريم - تتضمّن جوابه تعالى بإمكان القدرة على ذلك بتوسّط القرآن، بياناً لعظمة القرآن التكوينية وشؤونه في الآفاق الخارجية، نظير قوله تعالى: ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1) .

الرابع: تتوضّح مفاد هذه الطائفة مع مفاد الطائفتين السابقتين بأمور مستنتجة، وذلك مثل: ضرورة وجود ثلّة عالمة بالكتاب وما فيه؛ وإلاّ لزم تعطيل الكتاب الذي جُمعت فيه حقائق الكون والتشريع، والذي فيه بيان كلّ شي‏ء، وأنّهم عليهم‌السلام في علمهم هذا بالكتاب تالين تابعين لرسول اللَّه؛ لأنّ علمهم متعلّق بما أُنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكذا تلازم وجود القرآن ووجودهم بأنّهم حينئذٍ الوسيلة للوصول إلى تمام حقائق القرآن التشريعية والتكوينية، وما به من هداية المكلّفين مما تضطرّهم إليه الحاجة.

رابعاً: المطهّرون، والكتاب المكنون، واللوح المحفوظ.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا

____________________

1) سورة الحشر: 21.

٩٠

الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) (1) .

وقوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) .

وقوله تعالى: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) (3) .

ومقتضى القسم في الآية كون المقسوم به جملة خبرية لا جملة إنشائية؛ إذ القسم لأجل توثيق الإخبار بالمقسوم به، كما أنّ القسم في الآية موصوف بالعظمة لبيان عظمة المخبر به، والمخبر به كرامة القرآن، وقد فُسرت كرامته باكتنانه في كتاب غيبي لا يصل إليه إلاّ المطهّرون من الذنوب ومن الضلال، وفي ذلك بيانٌ لعزّة القرآن وقداسته عن أن يكون مبتذلاً لغير المطهَّرين.

فمن الواضح - حينئذٍ - عدم إرادة القرآن في وجوده في رسم المصحف الشريف، بل المراد من الوجود وجوداً مكنوناً أسمى، محفوظاً في لوح غيبي، لا يناله ولا يصل إليه إلاّ مَن كان على ارتباط بذلك الغيب، واطّلاع بالمغيبات.

وهذا الوجود للقرآن ليس فيه متشابه؛ لأنّ المتشابه وصف للقرآن المنزّل، أي: في وجوده النازل على صورة آيات وسور، ومنه محكم؛ وإلاّ فهو في وجوده الغيبي كتاب كلّه مبيّن، كما تقدّم وصفه بذلك في الطائفة الرابعة آنفة الذكر. وهذا سبب كون القرآن بتمامه آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم حيث إنّهم مطهرون يطّلعون على الوجود الأرفع للقرآن - أي الغيبي - وهو معنى مسّهم للكتاب المكنون..

____________________

1) سورة الواقعة: 75 - 82.

2) سورة الأحزاب: 33.

3) سورة البروج: 19 - 22.

٩١

إذن، هناك تَشَاهُد جَلِي بين هذه الطائفة والطوائف المتقدّمة، كما إنّ للقرآن في وجوده النزولي أوصافاً كما في رسم المصحف الشريف، ففي وجوده المكنون أوصاف أُخرى، فبعض الأوصاف للوجود الأوّل، وبعض الأوصاف للوجود الثاني.

وهذا التعدّد في الأوصاف راجع إلى تعدّد مراتب وجود ونزول القرآن نفسه، وهو مقتضى التعبير المتكرّر في الآيات والسور بإنزال القرآن ونزوله، المستلزم لتواجد القرآن في رتبةٍ عالية ثمّ أُنزل إلى النشأة الأرضية.

كما أنّ الآية تحصر الواصل لحقيقة القرآن الغيبية بـ (المطهَّرين)، ولا تكون الطهارة إلاّ بعدم اقتراف الذنب، وهي المعبّر عنها بالعصمة، وهي شاملة للبعد عن الضلال، وقد وصِف الضلال، والشكّ والريب، بالرجس في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (1) ، وقوله تعالى: ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (2) .

بل قد أطلق القرآن الكريم الرجس على الجهل والجهالة، كما في قوله تعالى: ( ... وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) (3) . كما أطلق الرجس على المعاصي المُرتكبة بالجوارح، كما في قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (4) .

فيُعلم من ذلك: أنّ المطهرون هم الواجدون للطهارة عن جميع أنواع الرجس، فلا يرتابون، ولا يشكّون قطّ، كما أنّهم لا يجهلون، ولا يقعون في جهالة قطّ، فهم مستكملي العقل.

____________________

1) سورة التوبة: 125.

2) سورة الأنعام: 125.

3) سورة يونس: 100.

4) سورة المائدة: 90.

٩٢

فالطهارة قسمان: منها، عن الرذائل العَمَلِيّة، وأُخرى، عن رذائل الجَهالات. فهم على كمال في العلم، والعمل، بدرجة يتميزون بها، وتؤهّلهم للاتّصال بالغيب، والكتاب المكنون واللوح المحفوظ. فالآية دالّة على وجود هؤلاء المطهّرين في الأُمّة. ومن البيّن أنّ وجود هؤلاء المطهّرين لازم لبقاء القرآن؛ وإلاّ لَلَزِم تعطيل حقائق وأسرار القرآن، وقد عيّنتْ وشخّصتْ آية التطهير مصداق المطهّرين، وهم أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لقوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) ، ولا يخفى الفرق اللغوي بين المُطَهَّر والمُتَطَهِّر.

ويتحصّل ممّا مرّ أُمور:

الأوّل: معيّة الثقلين، وهم الكتاب والمطهّرون من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني: تصريح الآية باطّلاع الثقل الثاني على مكنون القرآن الغيبي الذي هو من أنماط العلم الغيبي، والذي يمتازون به دون الأُمّة.

الثالث: طهارتهم وعصمتهم عِلماً وعملاً، وأنّ ذلك سبب تأهّلهم للإحاطة بحقائق القرآن الغيبية.

الرابع: إنّ المطهّرين هم المجموعة المعصومة المعدودة من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الخامس: إنّ للقرآن حقائق غيبية تكوينية وراء وجود رسم المصحف.

خامساً: وراثة الكتاب والعصمة في التدبير

قوله تعالى: ( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ

____________________

1) سورة الأحزاب: 33.

٩٣

لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (1) .

وقوله تعالى: ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (2) .

وقوله تعالى: ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) (3) .

من الواضح أنّ الكتاب في الآية الثانية هو القرآن الكريم بحسب السياق، كما أنّ هذا التوريث المشار إليه في الآية ليس توريثاً مادّياً بالأسباب المتعارفة، نظير ما ورد في قوله تعالى: ( َخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى ) (4) ، و ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ) (5) ، وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) (6) ، فالتوريث هذا توريث إلهي من سنخ الملكوت والعلم اللدنّي؛ بقرينة تخصيص هذه الوراثة للكتاب بـ (المُصْطَفَين)، والاصطِفاء في الاصطلاح القرآني قد خُصّ بالأنبياء والرسل والملائكة، ونحوهم من المعصومين والمطهّرين.

وأمّا تقسيم الآية في الذيل: فمنهم ظالم، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق. فالضمير عائد إلى (عبادنا) أنّهم منقسمون إلى ثلاث فئات، بخلاف التوريث؛ فإنّه قد خُصّ بـ (المُصْطَفَين)، نعم قد عُرِّف المصطفَون بأنّهم بعض من عبادنا، و(من) للتبعيض هنا لا بيانية، ويدلُّ على كون التوريث من سنخ العلم اللدنّي الغيبي ذِكْر (السابق بالخيرات)، فإنّه عُرّف في سورة الواقعة بالمقرَّب، وعُرّف المقرَّب في سورة المطفّفين بأنّه يشهد الأعمال وكتاب الأبرار، وهو قوله تعالى: ( كَلاّ إِنَّ

____________________

1) سورة النساء: 83.

2) سورة فاطر: 31 - 32.

3) سورة النمل: 59.

4) سورة الأعراف: 169.

5) سورة الشورى: 14.

6) سورة غافر: 53.

٩٤

كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ، فالسابق هو المقرّب وهو الشاهد على أعمال الأبرار، فهو مهيمِن على مقام العلّيين الذي يُدوّن فيه كتاب الأبرار، وهو مقام غيبي، وهو الذي أُصطفيَ وَوُرِّث الكتاب بوراثة لدنيّة. وقد تقدّم في الطائفة الثالثة أنّ الذي عنده علم الكتاب يحيط بالكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي‏ء، ومنها أعمال الأبرار.

محصّل مفاد الآية (2) : إنّ السابق هو الذي اصطُفي من العباد، والعباد ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: ظالم، ومقتصد، وسابق بالخيرات.

أمّا الآية الأولى (3) ، فهي دالّة على أنّ المفْزَع والمصدر في الأُمور هو الرسول، وأُولي الأمر، وأنّ الواجب على المسلمين إذا انتابهم أمر يمسّ حياتهم الاجتماعية الرجوع والردّ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأولي الأمر، للبتّ في شأنه؛ وذلك لإحاطة تلك الثلّة باستنباط واستخراج ما هو الحقّ في تدبير ما ألَمَّ بهم من أمر.

فالآية دالّة على أنّ تدبير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأُولي الأمر، ليس اجتهادياً ولا ظنّياً، كما ذهب إليه أكثر أهل سنّة الجماعة، بل هو تدبير عن علم وإحاطة بالأُمور بأقدارٍ من اللَّه عزّ وجلّ.

فهذا الاستنباط هو استخراج صُراح الحقّ، كما هو أصل معنى الاستنباط لغةً، دون المعنى المصطلح عليه المتأخّر في العلوم الدينية. وليس إعمال للموازين الظاهرية التي قد تخطأ أو تصيب، كما لا مجال للخطأ في استخدام الموازين في تدبير الأُمور العامّة من قِبل الرسول، وأُولي الأمر.

نعم، قد يتوهم إسناده إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر، من ناحيتين:

____________________

1) سورة المطففين: 18 - 21.

2) وهي قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

3) سورة النساء: 83.

٩٥

الأُولى: أنّ الجهاز الحاكم في حكومة الرسول، وأُولي الأمر، غير معصوم، وقد يرتكب الأخطاء أو المعاصي، فينسب ذلك بعضهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر، على أنّ هذا الإسناد ليس في حقيقته متّصل بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يُنسب إلى أعضاء حكومته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظير ما صنعه خالد بن الوليد في فتح مكّة حيث غدر ببني الأجلح فتبرّأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من فعله بقوله: (اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد) (1) ، وكان معيّناً من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على إحدى الفرق العسكرية المرسلة، ثمّ انتَدَب رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام ليسترضيهم، ويعطي الديّة لمن قُتل منهم.

وكذا ما صنعه أُسامة بن زيد حينما قتل مَن أظهر الإسلام شبهةً وظنّاً منه أنّ إظهار الشهادتين لا يحقن الدم مع الريبة.

الثانية: أنّ الميزان الشرعي الموظّف العمل به ظاهري، وإنّ معنى أن يكون ظاهري: أي قد يخطئ وقد يصيب، نظير البيّنة والحلف في القضاء كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنما أقضي بينكم بالبيِّنات والأَيْمان، وبعضكم ألَحَنُ بحجّته من بعض، فأيّما رجل قَطَعْتُ له من مال أخيه شيئاً فكأنّما قطعت له قطعة من النار) (2) .

فتحصّل: أنّ تدبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُولي الأمر - كذلك - في الحكم بمقتضى مفاد الآية الشريفة هو العصمة عن الزلل والخطأ، وأنّه إن شوهد ما يوهم ذلك في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ ذلك عند التدبّر راجع إلى أعضاء جهازه الحكومي من ولاة وغيرهم، أو إلى كون الميزان الشرعي الموظّف في التدبير حيث إنّه ظاهري، فقد لا يصيب الواقع في بعض الموارد. ولكن جملة تدبير الرسول وتدبير أُولي الأمر في النظام السياسي قائم على استخراج الحقيقة والواقع، كما هو مفاد هذه الآية.

____________________

1) المسترشد لمحمد بن جرير الطبري: 492.

2) الوسائل، ج27، ص232، نشر مؤسسة آل البيت.

٩٦

ثمّ إنّ هذه الآية (1) دالّة على وجود ثلّة هم ولاة الأمر مقرونة ولايتهم بولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ لهم عصمة في التدبير وهي متقوّمة بالعصمة العلمية والعملية، وأنّ هذه الثلّة باقية ما بقيت الأُمّة وما بقي القرآن الكريم؛ لأنّ هذه الآية خطابٌ إلى كلّ المكلّفين إلى يوم القيامة، وأنّ الواجب عليهم ردّ وإيكال ما يعتريهم في أُمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك، بإيكاله وردّه إلى أُولي الأمر العالمين بحكمه من خلال قدرتهم على استنباط واستخراج الحقّ والواقع فيه.

ومن البيّن أنّ هذا الاستنباط الموصّل إلى العلم بحقائق الأُمور، مستقى من الكتاب الكريم لا بلِحاظ ما فيه من تشريع فقط؛ فإنّ ذلك لا يؤمِّن بمفرده العصمة في التطبيق والتدبير، بالإضافة إلى ذلك ما في الكتاب من احتواءه على كلّ شي‏ء، من غائبة في الأرض أو في السماء، أو رطب أو يابس، في رتبة حقائقه العالية من الكتاب المكنون، الذي هو الكتاب المبين، والذي لا يمسّه إلاّ المطهّرون، وهو وصف أُولي الأمر المعصومين.

الأمر الذي يتنزّل عليهم في ليلة القدر بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا الأمر الذي فيه يفرق ويقدّر كلّ شي‏ء إلى العام القابل، ويفصّل فيه مقادير جميع الأشياء، ومن ثمّ يحيط أُولي الأمر وأصحاب الأمر المتنزّل في ليلة القدر بكلّ الحوادث الخارجية وملابساتها ويحكمون تدبيرها وإصلاحها.

وسيتحصل من هذه الطائفة أُمور:

الأوّل: أنّ توريث الكتاب بالاصطفاء ليس من نمط الوراثة البشرية المعتادة، وإنّما هو عبر اصطفاء الشخص المورّث للمقام الغيبي والمنصب الإلهي اللدنّي، أي أن الوراثة من سنخ ملكوتي، لا تمليكي مادّي، نظير ما تشير إليه الطوائف السابقة

____________________

1) وهو قوله تعالى: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ... ) .

٩٧

من كون آيات الكتاب كلّها بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم وهو علم الكتاب، وهم الراسخون الذين يعلمون تأويل متشابهه الذين يمسّون الكتاب المكنون.

ويشير إلى ذلك قوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) (1) ، فإنّه كالعطف التفسيري لبيان أنّ هذه الوراثة لَدُنيّة وهْبِيّة إلهية، كما هو الحال في علم منطق الطير، وأسباب القدرة التي أوتيت لداود وسليمان، وإن لم تنحصر الوراثة في الآية بالوراثة التكوينية وشملت الوراثة الاعتبارية القانونية، أو أنّ شمولها للاعتبارية بالأولوية القطعية، ولذلك أحتجّت بالآيةِ الصدّيقةُ الزهراء عليها‌السلام للمطالبة بإرثها من فَدَك، ويتم احتجاجها عليها‌السلام على كلا المعنيين كما يتبين بالتدبّر.

الثاني: أنّ تدبير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للحكم، وشؤونه السياسية والعسكرية، وغيرها - وأُولي الأمر الذين تقدّم وصفهم في الأمر الأوّل - هو تدبير بعلمٍ معصوم عن الخطأ، وهذا يخالف ما ذهب إليه أهل سنّة الجماعة من حصر عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغه الأحكام.

الثالث: الآية دالّة على أن لا اعتصام للمسلمين - في نظامهم الاجتماعي والسياسي - عن الخطأ، والزلل، والضعف، والوهن إلاّ بردّ شؤونهم العامّة إلى الرسول وأُولي الأمر، والتمسّك بذيلهم من أجل الاعتصام بحبل اللَّه الممدود لهم.

الرابع: أنّ هذه الطائفة دالّة على أنّه ما دام للمسلمين حوزة واجتماع، وما داموا مكلّفين بكتاب اللَّه وأحكامه، فإنّ هناك ثلّة مصطفاة في الأُمّة الإسلامية باقية وهم ولاة الأمر، ولهم وراثة الكتاب اللدُنيّة، وأنّهم معصومون علماً وعملاً، ومن ثمّ كان تدبيرهم للحكم بصواب وعلم لا يخالطه جهل؛ إذ لو كان استنباطهم للأمر

____________________

1) سورة النمل: 16.

٩٨

في التدبير العام بموازين ظنّية، لَمَا صدق إطلاق الجزاء (لَعَلِمَه) بإطلاق الشرط (لو رَدُّوه) في الجملة الشرطية لمخالطة الجهل.

فهذه الطائفة دالّة على أنّ هناك اصطفاء لثلّة من الأُمّة الإسلامية، كما أنّ الطوائف السابقة دالّة على أنّ هناك ثلّة مطهّرة في المسلمين.

وقد استُخدم لفظ الاصطفاء والتطهير في آيات الكتاب العزيز في الأنبياء وأولياء اللَّه الحُجَج، كقوله تعالى: ( إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) (1) ، فمن هذه الأُمّة الإسلامية من يجتبيه اللَّه عزّ وجلّ ويطهّره من النقائص العِلْميّة والعملية، وهي المعبّر عنها بالعصمة، فقد وقع الاصطفاء من بين هذه الأُمّة كما قد وقع التطهير، ووقع إيتاء العلم - علم الكتاب - لأُولئك المعنيين من بين هذه الأُمّة.

الخامسة: أنّ في ذيل هذه الآيات وصف توريث الكتاب للمصطفين وسبقهم للخيرات بإذن اللَّه، إنّه فضل كبير كما يصفه تعالى، ليس بلحاظ النعم والعطاءات في دار الدنيا، بل مطلقاً، أي أخروياً أيضاً؛ إذ لم يصف اللَّه بهذا الوصف إلاّ في حقّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كقوله تعالى: ( وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ) (2) ، فقد وصف اللَّه تعالى إنزال الكتاب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإيتاءه الحكمة والعلم اللدنّي بالفضل العظيم، وهو موافق لإطلاق الفضل الكبير على توريث الكتاب المصطفين، وسبقهم للخيرات.

وكذا قوله تعالى: ( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ) (3) ، حيث أطلق الفضل الكبير

____________________

1) سورة آل عمران: 33 - 34.

2) سورة النساء: 113.

3) سورة الإسراء: 86 - 87.

٩٩

على وحي الكتاب بتمام حقائقه ومعرفة بُطونه، وقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (1) ، فهو إطلاق على عطاء دار الآخرة لا عطاء دار الدنيا، مضافاً إلى أنّ السياق يشهد بإرادة ذوي القربى.

وفي مقابل ذلك لم ينصّ القرآن على إعطاء فضل كبير وعظيم لأحدٍ من الأنبياء غير الرسل، كقوله تعالى حكاية عن سليمان: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) (2) ، فأطلق عليه أنّه فضل مبيّن، أي ظاهر غير خفي، ولم يصفه بالعظمة وكونه كبيراً.

وكذا قوله تعالى: ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ) (3) ، وقوله تعالى: ( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) (4) ، وقوله تعالى على لسان داود وسليمان عليهما‌السلام : ( وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) (5) ، وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ) (6) .

ذكر اللَّه تعالى الفضل بصورة التنكير؛ للدلالة على أنّه نوعٌ من الفضل، ولم يوصف بالعظمة والكِبر. فمجموع هذه الشواهد دالّ على أنّ توريث الكتاب للمصطفين من هذه الأُمّة هو توريث من سنخ الوحي بالقرآن، أي: لَدُنِيّاً، وإن لم يكن نبوّة، وأنّ هذا الفضل قد خصّ بصيغة الكِبر والعظمة بخلاف الفضل الذي

____________________

1) سورة الشورى: 23.

2) سورة النمل: 16.

3) سورة الإسراء: 55.

4) سورة الأنعام: 86.

5) سورة النمل: 15.

6) سورة سبأ: 10.

١٠٠