الربا .. فقهيا واقتصاديا

الربا .. فقهيا واقتصاديا0%

الربا .. فقهيا واقتصاديا مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 464

الربا .. فقهيا واقتصاديا

مؤلف: حسن محمد تقي الجواهري
تصنيف:

الصفحات: 464
المشاهدات: 84016
تحميل: 8858

توضيحات:

الربا .. فقهيا واقتصاديا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 464 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84016 / تحميل: 8858
الحجم الحجم الحجم
الربا .. فقهيا واقتصاديا

الربا .. فقهيا واقتصاديا

مؤلف:
العربية

انما هو للكراهة لا للتحريم(١) . ولعله رأى ان الحاجة في هذا الزمان موجودة دائما لاباحة هذين النوعين من الربا، فحللهما نتيجة اخذه بسد الذرائع والا كيف يفهم من الروايات التي ذكروها الكراهة مع التصريح بالنهي ولفظ الربا وشدة ماورد من التهديد عليه بمالم يرد في مثله؟!.

وقد ذكر بعضهم فقال «فربا النسيئة هو المقصود بالتحريم والمنع لذاته، وهذا يقتضي تحريم معاملات اخرى ليست مقصودة بالتحريم لذاتها، وهي النساء والفضل، ولكن منع وقوع المقصود بالتحريم لذاته لايتم الا بمنعها وتحريمها في حالات تكون فيها المظنة قوية في امكان اتخاذها ذريعة اليه «وما يتم الواجب الا به فهو واجب» فيكون الامتناع منها مقصودا به وجوب الامتناع عن اتيان المحرم لذاته، فيكون هذا هو المحرم في الحقيقة وفي نهاية الامر...»(٢) .

وممن ذهب إلى هذا المذهب السنهوري بعد اعترافه بان تحريم الربا هو المبدأ العام الذي يتمشى في كل العصور وفي جميع الحضارات، الا انه ميز بين ربا الجاهلية من جهة وكل من ربا النسيئة (النساء) وربا الفضل، وقال ان هذا التمييز من الوضوح والخطر بحيث لاوجه للمنازعة فيه(٣) .

وقال آخر «واعلم ان الربا على وجهين: حقيقي ومحمول عليه. اما الحقيقي فهو الديون... والثاني ربا الفضل والاصل فيه الحديث... وهو مسمى بربا تغليظا وتشبيها له بالربا الحقيقي.. ثم كثر استعمال الربا في هذا المعنى حتى صار حقيقة شرعية فيه ايضا»(٤) .

____________________

(١) الربا والمعاملات في الاسلام ص٥٢ - ٧٥ وما بعدها. ونظرية الربا المحرم ص٢٤٠ ومابعدها.

(٢) نظرية الربا المحرم/ص١٤٩.

(٣) السنهوري مصادر الحق ٣/٢٣٧.

(٤) حجة الله البالغة ٢/٦٤٧.

٢١

واما الجهة الثانية:

وهي عبارة عن استعراض ادلة قاعدة ان ماحرم سدا للذرائع يباح عند الحاجة. وقبل ان نستعرض الادلة يحسن بنا ان نذكر تعريفها ومعناها، وقد اختلفوا في بيانها، فقد ذكر ابن القيم ان الذريعة «ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء»(١) . وقد اعترض عليه استاذنا بقوله «الا ان تعميم الشيء فيه يجعله غير مانع من الغير لدخول جميع الوسائل المفضية إلى غير الاحكام الشرعية، وهو مالايتصل بحثه بوظيفة الاصولي، فالنسب تعريفها ب-(الوسيلة المفضية إلى الاحكام الخمسة) ليشمل بحثها كل مايتصل بالذريعة واحكامها من ابحاث(٢) .

ولا ارى للاعتراض مجالا يرد فيه حيث ان كلام ابن القيم في سد الذرائع إلى المحرمات وفتحها إلى الواجبات، أي ان الكلام في كل مقدمة إلى فعل فان كان الفعل محرما فقد حرمت مقدمته مثلا وان كان الفعل واجبا فقد وجبت مقدمته، وليس الكلام في الاحكام الشرعية التي هي وجوب حرمة ترتبط بالشارع المقدس، فلاداعي لجعل الوسيلة مفضيلة إلى الاحكام الشرعية او الاحكام الخمسة الذي يجعل المقدمة مقدمة للوجوب وللحرمة لاللواجب والحرام فمن الافضل ان يبقى تعريف ابن القيم على وضعه وعمومه فنزى الشيء وحكمه ونعطي حكم وسيلته حكم نفس الشيء وهو مورد البحث.

وقد وضحت الذرائع بقول سلام «الذرائع اذا كانت تفضي إلى مقصد هو قربة وخير اخذت الوسيلة حكم المقاصد، واذا كانت تفضي إلى مقصد ممنوع هو مفسدة اخذت حكمه، ولذا فان الامام مالكا يرى انه يجب فتح الذرائع في

____________________

(١) اعلام الموقعين ٣/١٤٧.

(٢) الاصول العامة للفقه المقارن/للسيد محمد تقي الحكيم ص٤٠٨.

٢٢

الحالة الاولى لان المصلحة مطلوبة، وسدها في الحالة الثانية لان المفاسد ممنوعة»(١) وهنا خصصت الذرائع بحكم الوجوب والحرمة فقط. وعلى كل حال فان الذي ركز عليه الباحثون هو الذريعة المفضية إلى مفسدة. وكما اختلفوا في معناها اختلفوا في حكمها، فذهب بعض إلى ان الوسيلة تأخذ حكم ما تنتهي اليه كماذهب الىذلك ابن القيم، ولكن المالكية والحنابلة ركزوا في الحرمة على خصوص الوسيلة الموضوعة للامور المباحة ولكن يقصد فاعلها التوصل بها الى المفسدة(٢) .

الادلة على هذه القاعدة:

وقد ذكرت لهذه القاعدة ادلة من الكتاب والسنة والعقل. فقد ذكر ابن القيم ادلة كثيرة من الكتاب والسنة كان حكم الوسائل وما تفضي اليه واحدا. فخرج بنتيجة ان الشارع يعطي الوسائل دائما حكم ماتنهي اليه، منها قوله تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)(٣) وقوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم مايخفين من زينتهن)(٤) .

واورد عليه: بعدم وجود تصريح «بأن التحريم فيها جميعا انما كان من اجل كونها وسيلة إلى الغير لا لمفاسد في ذاتها توجب لها التحريم النفسي كضربهن بأرجلهن والنظر إلى الاجنبية»(٥) .

نعم قد يحتاط الشرع فيحرم مقدمات فعل قد اهتم به بدرجة كبيرة ولكن هذا

____________________

(١) الاصول العامة للفقه المقارن ص٤٠٧ عن المدخل للفقه الاسلامي ص٢٦٦.

(٢) نفس المصدر ص٤٠٩ عن المدخل للفقه الاسلامي ص٢٦٩.

(٣) الانعام/آية (١٠٨).

(٤) النور/آية (٣١).

(٥) الاصول العامة للفقه المقارن ص٤١٠.

٢٣

غير القاعدة في حركمة كل ما يؤدي إلى المحرم، وحينئذ فان كانت هناك قرينة تدل على ان التحريم للوسيلة لانها وسيلة إلى المحرم كما نرى ذلك ظاهرا في الايتين فهو، وان لم تكن هناك قرينة تدل على ذلك وشككنا في ان التحريم للمقدمة هل هو لمفسدة في ذاتها او لكونها وسيلة، فمقتضى الاطلاق ان التحريم لمفسدة ذاتية في الفعل، حيث ان التحريم اذا كان للوسيلة فانه يحتاج إلى بيان زائد، وهو غير موجود مع كون المولى في مقام البيان كما هو الفرض.

وخلاصة القول: انا لانمنع ان يكون الشارع مهتما ببعض احكامه، فيمنع بعض المقدمات الموصلة او التي تؤدي إلى المحرم رأسا، الا ان هذا لايجعلنا نستفيد قاعدة عامة تقول ان كل محرم تكون وسائله محرمة أيضا عند الشارع سواء كانت موصلة ام لا وسواء كانت تؤدي إلى المحرم رأسا ام لا، ويكفي عدم العموم او الاطلاق على القاعدة. وبعبارة اخرى: ان قاعدة «ان المصالح والمفاسد تابعة لمتعلقات الاحكام» مخصصة ببعض التحريمات التي تكون ذريعة ووسيلة للمحرم، فان ثبت الدليل المخصص خالفنا القاعدة والا فالاصل هو الالتزام به وهي تثبت ان التحريم لمفسدة في متعلق الحكم.

واما الدليل العقلي: فقد ذكر ابن القيم وغيره «اذا حرم الربّ تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي اليه، فانه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا ان يقرب حماه، ولو أباح الوسائل او الذرائع المفضية اليه، لكان ذلك نقضا للتحريم واغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الاباء»(١) .

وهذه الدعوى ان وجد ابن القيم لها بعض الامثلة، فيأتي فيها الكلام المتقدم من ان الوسيلة لعل فيها مفسدة مستقلة فحرمها، واما اذا افترضنا ان شيئا قد

____________________

(١) اعلام الموقعين٣/١٤٧.

٢٤

حرمه المولى نتيجة لوجود مفسدة فيه، واما وسيلته لم تكن فيها تلك المفسدة فتبعا للقاعدة القائلة ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فان المولى سوف يحرم ذلك الشيء فقط دون وسيلته. نعم نشترط ان لايكون حكم الوسيلة مضادا للتحريم مثلا لتعذر امتثالهما، وهذا هو الذي يفضي إلى نقض التحريم لا الاباحة التي ذكرها ابن القيم، فانها لاتفضي إلى نقض التحريم كما هو واضح.

اذن لا دليل على ان الشارع اذا حرم شيئا فيلزمه ان يحرم طرقه ووسائله المؤدية اليه، وبذلك تبطل قاعدة سد الذرائع وفتهحا. نعم لقد تطرق لقسم من هذه المسألة علماء الامامية تحت عنوان مقدمة الواجب، واختلفت اقوالهم فيها ايضا، ولكن الذي انتهى اليه المتأخرون هو عدم وجوب المقدمة شرعا، وقد استدل لهم شيخنا المظفر بقوله «وذلك لانه اذا كان الامر بذي المقدمة داعيا للمكلف إلى الاتيان بالمأمور به، فان دعوته هذه - لامحالة الحكم العقل - تحمله وتدعوه إلى الاتيان بكل ما يتوقف عليه المأمور به تحصيلا له، ومع فرض وجود هذا الداعي في نفس المكلف لاتبقى حاجة إلى داع اخر من قبل المولى من علم المولى - حسب الفرض - بوجود هذا الداعي، لان الامر المولوي - سواء كان نفسيا ام غيريا - انما يجعله المولى لغرض تحريك المكلف نحو فعل المأمور به، اذ يجعل الداعي في نفسه حيث لاداعي، بل يستحيل في هذا الفرض جعل الداعي الثاني من المولى لانه يكون من باب تحصيل الحاصل»(١) .

وبهذا نعرف ان الذريعة للواجب حكمها عقلي وهو لايستلزم حكما شرعيا دائما، ويكفي للشارع ان يعتمد على الحكم العقلي ولايجعل حكما شرعيا اذا لم يكن في الذريعة مايوجب جعل حكم الحرمة مثلا لعدم وجود مفسدة فيها.

وقد تطرق علماء الامامية لقسم آخر من هذه المسألة، وهو ذريعة الحرام

____________________

(١) اصول الفقه/للمظفر٢/٢٩٣.

٢٥

تحت عنوان مقدمة الحرام، ولكن لم ينتهوا إلى حرمة المقدمة للحرام، اذ بامكان المكلف أن يأتي بمقدمة الحرام ولم يأت بنفس الحرام. نعم اذا كانت مقدمة الحرام بمثابة العلة التامة التي لم يتمكن من عدم اتيان الحرام اذا جاء بها فحرمت ايضا. وبهذا نعرف ايضا ان ما يرد على لسان الشارع من ردع عن المقدمات التي هي علة تامة للمحرمات انما هو من قبيل الارشاد إلى حكم العقل. وبعد كل هذا يتضح لنا من هذه البحث امور:

١ - ان الذريعة (المقدمة) ليس لها حكم ما تؤدي اليه شرعا دائما.

٢ - ان الذريعة لها حكم عقلي وهو كاف عن ورود أي حكم شرعي. هذا في ذريعة الواجب، اما في ذريعة الحرام فهو كذلك اذا كانت ذريعة الحرام علة تامة للحرام.

٣ - بما ان الذريعة خالية عن الحكم الشرعي في بعض الموارد لعدم وجود مفسدة فيها، فهي لاتستدعي عقابا مستقلا عن العقاب على ما تؤدي اليه، لعدم وجود حكم واقعي على الذريعة(١) .

٤ - كل ما ورد من الاوامر الشرعية - في مسألة يكون العقل حاكما فيها - تكون ارشادية لحكم العقل.

٥ - ان هذه المسألة هي من صغريات حكم العقل الذي يحكم بوجود ملازمة بين الحكم على شيء والحكم على مقدمته (سواء كانت مقدمة الواجب او الحرام اذا كانت علة تامة للحرام)، لا انها اصل في مقابل بقية الاصول كما

____________________

(١) نعم يوجد استثناء لهذا الكلام، وخلاصته هو ان بعض الذرائع يستوجب مخالفتها العقاب، ولكن لا من باب مخالفة الحكم الواقعي الذي لاوجود له، وانما من باب التجرى كما في بعض الامور التي يبغضها الشارع بغضا شديدا لكثرة مفاسدها. وقد لايكون هذا الكلام مستثنى، لان كلامنا في العقاب على الفعل لو كان محرما. وهذا العقاب للتجرى لا على الفعل لو كان الفعل محرما.

٢٦

ذهب اليه بعض من العامة.

واما الجهة الثالثة:

ونتكلم فيها بنقطتين:

الاولى: ان تطبيق ماحرم سدا للذريعة على ربا الفضل والنساء تطبيق خاطىء.

الثانية: لو قلنا ان ربا الفضل والنساء حرم سدا للذريعة فلماذا يباح عند الحاجة؟.

اما النقطة الاولى : فلنا ان نتسائل اولا عن سر فهمهم بان ربا الفضل والنساء قد حرم من باب سد الذريعة، وقد يكون جوابهم هو ان الربا الجاهلي الذي حرم في القرآن قد عرفوا حكمته او علته، وهي دفع الظلم كما ذكر ذلك في الآية القرآنية، اما ربا الفضل او ربا الفضل والنساء عند بعضهم، فلم يعرفوا حكمة تحريمه، فذهبوا إلى ان تحريمه كان من باب سد الوصول إلى ربا الجاهلية.

ويرد على اصل هذا المسلك: اننا مهما تفكرنا في معرفة علة الحكم لايمكننا الوصول اليها اذا لم يبين الشارع لنا العلة بنفسه، نعم قد نصل إلى معرفة حكمة الحكم او بعض حكمته بتفكرنا، ولكن دفع الظلم الذي بينه القرآن الكريم هل هو علة او حكمة؟.

والجواب: انه من غير المعلوم انها علة يدور مداره الحكم وجودا وعدما، بل من غير المعلوم انه حكمة منحصرة حتى يتحتم علينا ان نبحث عن حكمة تحريم السنة لربا الفضل، ونضع انفسنا في ضيق من عدم معرفة الحكمة فنلتجلئ إلى التحريم من باب سد الذريعة. الا نحتمل ان السنة بينت حكما للربا لعلة وحكمة متميزة عما ذكر في القرآن الكريم؟ ثم اذا كان ربا الفضل او ربا الفضل والنساء انما حرم سدا للذريعة فلماذا ذكرت السنة بعض الاستثناءات فحكمت بحليتها؟.

٢٧

واما النقطة الثانية : فعلى فرض ان ربا الفضل قد حرم من باب سد الذريعة لربا الجاهلية، ولكن ماهو الداعي إلى القول باباحته عند الحاجة؟.

نقول: لم نجد دليلا لهم في كتبهم يستدل به على هذا عدا ما ذكر من ان حرمته اخف مما حرم لذاته او ان حرمته مجازية او بالتبع او غير ذلك مما لايمكن ان يعتبر دليلا.

وتحقيق الحال: اذا كان المراد من الحاجة هي الضرورة فحينئذ الاباحة صحيحة ولكنها ليست مختصه بما حرم سدا للذرائع، وانما كل حكم شرعي فهو يباح عند الضرورة للقاعدة القائلة «ان الضرورات تبيح المحضورات» الذي مستندها هو حكم عقلي وهو عبارة عن سقوط التكاليف غير المقدورة من المنجزية لعدم امكان الزجر عمالا يقدر المكلف عن الامتناع عنه، اذ كيف يمكن زجر من لايتمكن من الانزجار ولا قدرة عنده على الانزجار والامتناع؟.

واذا كان المراد من الحاجة شيئا آخر - كما هو المراد - اي ان المراد منها الحاجة العرفية فلا دليل على الاباحة لمجرد الحاجة وان كانت حرمته من باب سد الذريعة إلى الفساد، اذ ما دام الحكم الذي هو الحرمة مثلا فعليا، فمقدماته كلها فعلية منجزة يجب اجتنابها. ولا ادي لماذا الحق ابن القيم ربا النساء بالربا الجاهلي المحرم لذاته؟ وحتى احتمال ان الربا الذي يحصل نساء قد يكون في اخر الامر آيلا إلى ربا النسيئة حيث ان المدين قد لايتمكن من سداد دينه عند الاجل فتأتي جملة «اتقضي ام تربي» وبهذا يكون كربا الجاهلية لايسوغ ان يجعله ربا محرما لذاته لانه يكون حسب رأيه ذريعة إلى ربا الجاهلية، بالاضافة إلى غفلته من ان التحريم لربا النساء عام، وقد يتمكن في موارد من سداد دينه في الاجل، فلا تأتي جملة «اتقضي ام تربي» وحينئذ تكون حرمته عند ابن القيم - فيما ارى - من باب سداد الذرائع قطعا حسب منهجه في

٢٨

البحث، فتباح عند الحاجة. ثم هل يعقل ان يكون نوع واحد من الربا في بعض موارده محرما تحريم الذرائع وفي بعض آخر محرما تحريم المقاصد ؟!.

وقد تقدم منا القول بانهم انغمروا في هذا البحث لعدم معرفتهم علة او حكمة او تحريم ربا الفضل، وهل يجب ان نعرف حكمة اوعلة كل تحريم ورد على لسان الشارع المقدس؟! وما هو الدليل على هذه الدعوى؟! والم يكن عقل الانسان قاصرا عن ادراك علة كون صلاة الصبح ركعتين والظهر اربع؟.

ثم اذا تنزلنا وقلنا ان النصوص القرآنية بينت الحكمة من تحريم الربا وهي منع الظلم كما في قوله تعالى (لاتظلمون ولاتظلمون) والحث على التعاون والبر بالصدقة والقرض الحسن والحث على الاخذ بأسباب الكسب المشروع التي ليس فيها اكلا بالباطل اولايدخلها الربا وتنزلنا ايضا وقلنا ان الحكم يدو مدار حكمته او علته هذه، فيمكن القول ان نفس هذه الحكمة او العلة موجودة في ربا الفضل والنساء، فان الشارع يمنع منه كي لايكون ظلما للناس من حيث ان المساوي في مقابل المساوي في الكيل او الوزن، اما الزائد فلايكون في مقابله شيء فهو ظلم شرعا، او ان الشارع يريد حث الناس على التعاون والقرض الحسن، فمنع من التفاضل وبيع النساء. او على الاقل نقول: ان التفاضل او بيع النساء في الجنسين المتحدين او المختلفين هو ظلم عند الشارع وان لم يكن ظلما وجدانا وعرفا، وهذا هو معنى التوسعة في موضوع شيء الذي يسمى بالحكومة، كما اعتبر الشارع الطواف بالبيت صلاة مع انها وجدانا وعرفا ليست بصلاة، وبهذا تكون الحكمة موجودة في تحريم التفاضل كما هي موجودة في تحريم ربا الجاهلية.

واما ما ذكر دليلا لهم - من أن ربا الفضل حرم سدا للذرائع - كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «لاتبيعوا الدرهم بالدرهمين فاني

٢٩

أخاف عليكم الربا» فانه ليس بدليل على انه ليس فيه ربا وانما هو مقدمة للوصول اليه كما فهمه بعضهم، بل ان معناه ان الربا الذي نهي بتلك النواهي الشديدة يخاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على اصحابه من الوقوع فيه كما اذا قال احد «اني اخاف عليكم النار». هذا بالاضافة إلى ان كثيرا من الاحاديث التي ذكرت هذا المعنى من الربا لم تذكر جملة «فاني اخاف عليكم الربا، وكيف نفهم من هذه الجملة ما فهموا من انه مقدمة للربا مع التصريح بالاحاديث الكثيرة بان بيع حنطة بحنطة مع التفاضل يدا بيد ربا؟!.

هذا كله بالاضافة إلى ان اصل الدليل الذي يستندون اليه - في تحريم ربا الجاهلية تحريم المقاصد دون غيره - غير تام، اذ ان دليلهم هو الاية القرآنية (يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا الربا اضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون) حيث ادعوا ان المحرم من الربا هو ما كان اضعافا مضاعفة وهو ربا الجاهلية الذي تصير المائة آلافا مؤلفة وهو الربا الجاهلي. وهذا الاستنتاج غير صحيح وذلك «ان اضعافا مضاعفة وصف للربا لا لراس المال، واذا كان كذلك فينبغي ان لايحرم من الربا الا ما يبلغ ستمائة في المائة (٦٠٠ في المئة) وذلك لان كلمة اضعاف جمع، والضعف يكون بقدر الاصل مرتين، ومرتين في ثلاثة يساوي ستة، ولاقائل بذلك قط»(١) .

ولكن القائل بهذا كما يبدو قد استدل بمفهوم الوصف، اذ اعتبر ان اضعافا قيد للحكم وهو المنع، بينما ان اضعافا هي قيد للموضوع وهو الربا فلا يكون للوصف مفهوم. ولو سلمنا بوجود المفهوم للوصف وان كان الوصف قيدا للموضوع

____________________

(١) من هدى النجف / نحو تفسير على القرآن/احمد الوائلي/العدد٦/ص٤٠ عن الربا في القانون الاسلامي/... محمد عبد الله دراز مجلة الاسلام السنه ١٣/ ص٦٨ - ٧٣.

٣٠

- على خلاف ما نتبي - فهو فيما اذا لم تكن هناك قرينة على خلافه، وهنا القرينة موجودة وهي ان الربا ليس دائما هو «اضعافا مضاعفة» فجاءت الاية مورد الغالب لا الحصر. وبهذا انتهى الكلام في الفصل الاول والحمد لله اولا وآخرا.

الفصل الثاني.. «الربا في السنة»

ونتعرض في هذا الفصل لذكر الاحاديث التي وردت في الباب مع ذكر مدلولاتها، مع النظر إلى ما قد يدعى من التعارض والترجيح والتأويلات والنسخ.

اما الاحاديث: فهي على طائفتين:

١ - احاديث الاصناف الستة التي تنهي عن التعامل في اصناف معينة اذا لم تراع شروط قد عينتها.

٢ - احاديث «لا ربا الا في النسيئة» التي تنهي عن نوع معين من الربا، وظاهرها الحصر.

اما الطائفة الاولى:

فقد ذكرتها اكثر الكتب الفقهية مرفوعة عن عدد كبير من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون وغيرهم، واشهر هذه الروايات راوية ابي سعيد الخدري في صحيح مسلم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة،

٣١

والبر بالبر و الشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد فمن زاد او استزاد فقد اربى، الاخذ والمعطي فيه سواء» وفي لفظ آخر «لاتبيعوا الذهب بالذهب الا مثل بمثل، ولاتشفوا بعضها على بعض، ولاتبيعوا منها غائبا بناجز»(١) .

ونحن وان كنا نناقش في سند اكثرها، الا اننا نقطع بصدور بعضها من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحينئذ يكون ما تسالمت عليه الراويات حجة. وقد ذكر في معنى هذه الطائفة من الاحاديث بانها «تشترط في مبادلة هذه الاصناف «المماثلة والحلول» عند اتحاد البدلين، كقمح بقمح، وذهب بذهب، وتشترط الحلول فقط عند اختلاف جنس البدلين كقمح بتمر، وذهب بفضة، وينتج عن مخالفة شرط المماثلة مايسمى بربا الفضل، وينتج عن مخالفة شرط الحلول مايسمى بربا النسيئة»(٢) .

ونحن اذ نفهم من هذه الطائفة فهما مخالفا وهو ان الاحاديث ذكرت صورة اتحاد البدلين واشترطت في هذه الصورة ان يكون البدلان مثلا بمثل ويدا بيد فاذا اختل احد هذين الشرطين حصل الربا فضلا عن اختلافهما، فلو باع كيلو من الحنطة بكيلو ونصف منها نقدا، حصل ربا الفضل، واذا باع كيلو من الحنطة بكيلو من الحنطة نسيئة، فأيضا حصل الربا الذي يسمونه ربا النسيئة، وهو في الحقيقة «ربا فضل»، لان الفضل هنا حكمي وهو الاجل الذي له قسط من الثمن - كما سيأتي - ولم يكن في مقابله شيء.

اما الفهم المتقدم بالنسبة لما اذا اختلف البدلان كحنطة بتمر، فالروايات لاتذكر في هذه المعاملة أي شرط (لا التساوي ولا الحلول). واما جملة «لاتبيعوا منها غائبا بناجز» فان الضمير في منها يرجع إلى ماتقدم، وما تقدم هو صورة

____________________

(١) سبل السلام /للصنعاني٣/٣٧. ونيل الاوطار/للشوكاني ٥/٥٩٧.

(٢) نظرية الربا المحرم ص٨٩.

٣٢

كون البدلين من جنس واحد كذهب بذهب، فيكون معناها لاتبيعوا مثقالا من الذهب بمثقال منه نسيئة وهذا ربا لان المثقال في مقابل المثقال، اما الاجل فلم يكن في مقابله شيء فحصل الربا الذي فيه الزيادة الحكمية(١) .

نعم ان الحديث المشهور لعبادة بن الصامت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يقول: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلابمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فاذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم اذا كان يدا بيد»(٢) هوا لذي يحرم بيع النسيئة اذا اختلفت الاجناس وظاهره ايضا كذلك.

ونحن وان سلمنا ان عبادة هذا هو الانصاري الخزرجي المدني الثقة، لاعبادة المجهول الذي يقال عنه انه ابن اخ ابي ذر، وبهذا تكون الرواية من ناحية السند معتبرة، فان الجملة الشرطية التي تقول: «فاذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم اذا كان يدا بيد» يحتمل فيها معنيان متباينان على وجود المفهوم للجلمة الشرطية الذي تقول به في صورة وجود انحصار بين الشرط والجزء.

المعنى الاول : ان يكون موضوع الجملة هو «البدلان» والشرط اختلافهما وان يكون يدا بيد. وحينئذ يكون معناها اذا لم يختلف البدلان ولم يكونا يدا بيد فلاتبيعوا كيف شئتم، وهذا غير ماذكروه، لان هذا عبارة عن كون

____________________

(١) ان المدة المشترطة للمشتري لها مالية عند العقلاء للمشتري، ولذا اذا اراد شخص بيع شيء نسيئة فهو يزيد في الثمن عما لو اراد بيعة حالا، وقد عرفت هذه الحقيقة عند الفقهاء بقولهم «للاجل قسط من الثمن». نعم في بعض الاوقات توجد قرينة تدل على ان الاجل ليس فيه مالية للمشترى وقد يكون حقا للبائع كما اذا باع شيئا وهو بمكه فيشترط الاجل حتى يصل إلى بلدته ويستلم الثمن هناك، او كانا في صحراء يخافا السارق.

(٢) سبل السلام/ للصنعاني٣/ ٣٧. ونيل الاوطار/للشوكاني٥/٣٠٠.

٣٣

البدلين من جنس واحد ولم يكن البيع يدا بيد، فحصل ربا النسيئة أي الربا الذي تكون فيه الزيادة حكمية، اما ماادعوه «عبارة عن صورة اختلاف الجنسين، ولم يكن يدا بيد، فيكون البيع باطلا وحراما» فان هذا لم يذكر حكمه في الرواية.

المعنى الثاني : انه يكون موضوع الجملة هو «اختلاف الاصناف» والشرط هو يدا بيد، فيكون المفهوم اذا كانت الاصناف مختلفة ولم يكن البيع يدا بيد فلا تبيعوا كيف شئتم، وهذا ان كان يوافق ماقالوه الا انه خلاف ظاهر «اذا» التي هي ظاهرة في الشرطية، فيكون الاختلاف هو الشرط لا أنه هو جزء الموضوع.

ولكن الحق هو: ان كل جملة اذا كان فيها شرطان، كما اذا قلنا اذا جاءك الشيخ محمد وكان معمما فأكرمه، فان الشرط الاول الذي هو مجيء شيخ محمد يكون موضوعا والشرط هو كونه معمما، فهنا كذلك اذ ان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله «فاذا اختلفت الاصناف فبيعوا كيف شئتم اذا كانت يدا بيد» فان اختلاف الاصناف وان كان ظاهره الشرطي الا أن مجيء الشرط الثاني يخرجه عن الشرطية ويجعله موضعا، والشرط يكون هو الثاني فقط «وهو يدا بيدا»، فاذا لم يكن يدا بيد وكانت الاصناف مختلفة فلا يجوز البيع نسيئة، وحينئذ يتم ما استفاده القوم من المفهوم، الا ان هذا لايخرج عن دائرة الظهور.

ولو قلنا بالمعنىالثاني كما هو الظاهر، فان هذه الرواية تكون ظاهرة في انحصار علة صحة بين البدلين المختلفين اذا كان يدا بيد، وبهذا تعارض روايت وردت عن اهل البيتعليهم‌السلام (١) يدل منطوقها على عدم البأس في هذه الصورة

____________________

(١) وروايات اهل البيت يجب الاخذ بها حتى عند العامة، لان راوياتهم (ع) لم تكن رأيا شخصيا لهم حتى لايكون حجة على غيرهم، وانما يصرحون بأن اقوالهم هذه هي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحينئذ يلزم الباحث الفحص عن وثاقة هؤلاء الائمة فان ثبتت عندهم الوثاقة ووثاقة من روى عنهم فيلزمهم الاخذ برواياتهم، ولهذا اوردناها هنا لالزامهم -يراجع الوسائل ١٨/ باب ٨ من ابواب صفات القاضي، حديث٦٧ و٨٥ و٨٦/ ص٦٩ و٧٤. «عن جابر قال قلت لابي جعفر (ع) اذا حدثتني بحديث فاسنده لي، فقال: حدثني ابي عن جدي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبريل عن الله تبارك وتعالى، وكلما احدثك بهذا الاسناد».

٣٤

منها مارواه علي بن جعفر عن اخيه موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن رجل اشترى سمنا ففضل له فضل ايحل له ان يأخذ مكانه رطلا او رطلين زيت؟ قال: اذا اخلفا وتراضيا فلابأس»(١) .

ومنها موثقة سماعة، قال: سألته عن الطعام والتمر والزبيب، فقال: لايصلح شيء منه اثنان بواحد، الا ان يصرفه نوعا إلى آخر، فاذا صرفته فلا بأس اثنين بواحد واكثر من ذلك»(٢) .

ولكن هذين الروايتين مطلقتان لصورة النسيئة فيمكن تقييدها، ولكن ذكر فقهاء الامامية ان روايات بيع الطعام بالطعام سلفا التي هي صريحة ببيع النسيئة تجوز ذلك «كما سيأتي ذلك مفصلا عند بحث الربا عند الامامية». وحينئذ يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن الالزام الذي هو ظاهر من منطوق رواية عبادة بن الصامت، فيكون صحة بيع البدلين المختلفين اذا كان يدا بيد كما ذكرت رواية عبادة، واذا لم يكن يدا بيد كما قالوا بدلالة الروايات عن اهل البيت (ع)، ونلتزم بكراهة الصورة الثانية «اذا لم يكن يدا بيد» للروايات عن اهل البيت التي تعبر عن هذه المعاملة بأنه «يصلح» الذي استفيد منه الكراهة.

وفي الحقيقة انه يوجد تعارض ثلاثي الاطراف بين منطوق رواية عبادة ومفهومه

____________________

(١) وسائل الشيعة/ج١٢/ باب ١٣ من ابواب الربا/ حديث(١١) ص٤٤٥.

(٢) وسائل الشيعة/ج١٢/ باب ١٣ من ابواب الربا/ حديث(٥) ص٤٤٣.

٣٥

وروايات اهل البيت (ع)، فان منطوق رواية عبادة ظاهرها الالزام في بيع المتخالفين يدا بيد، والمفهوم ظاهره عدم جواز بيع المتخالفين نسيئة، وروايات اهل البيت (ع) تقول بجواز بيع المتخالفين نسيئة.

ونحن اذا لم ننكر مفهوم رواية عبادة فنحل التعارض - مع الاحتفاظ بوجود المفهوم - برفع الالزام الذي في منطوق رواية عبادة، وحينئذ يرتفع التعارض، اذ المنطوق يقول اذا اختلفت الاصناف فبيعوا كيف شئتم اذا كان يدا بيد من دون الالزام بهذه الصورة، والمفهوم يقول اذا اختلفت الاصناف فلا تبيعوا كيف شئتم اذا كان يدا بيد. وهذا المفهوم بقرينة روايات اهل البيت(ع) التي تجوز ذلك وتقول لايصلح نحمله على الكراهة وبهذا يحل التعارض.

ولكن نقول: ان التحقيق الذي انتهينا اليه في دراسة الربا عند الامامية انتهى بنا إلى عدم وجود ١ رواية صريحة تجوز بيع الطعام بالطعام نسيئة، بل وجود روايات عن اهل البيت تقيد البيع في المتخالفين بالنقد، وقد رأينا ان هذه الروايات لا معارض لها كما سيأتي البحث عن هذا في محله (الربا عن الامامية)، ولهذا انتهى بنا الامر إلى تحريم هذه الصورة.

ثم ان هذا النوع من الربا لم يكن معروفا في الجاهلية بأنه ربا، وانما اطلق الشرع عليه لفظ الربا، فهو حقيقة شرعية لاعرفية.

اما الطائفة الثانية:

وظاهرها حصر الربا في النسيئة، وأشهرها حديث اسامة والبراءة بن عازب:

١ - «حديث اسامة: عن ابي صالح الزيات انه سمع ابا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم، فقلت له فان ابن عباس لايقوله، فقال ابو سعيد سألته. فقلت سمعته من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله او وجدته في كتاب الله؟ فقال:

____________________

(١) يراجع الربا عند الامامية من هذا الكتاب.

٣٦

كل ذلك لاأقول، وانتم اعلم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مني، ولكن اخبرني اسامة بن زيد ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال «لا ربا في النسيئة» رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري(١) . وقد روي هذا الحديث في الصحاح بالفاظ اخرى هي «انما الربا في النسيئة» و«ان الربا في النسيئة» و«لا ربا فيما كان يدا بيد»(٢) .

٢ - حديث البراءة بن عازب: فقد روي بألفاظ ثلاثة، اثنان في الصحيحين وثالث في خارجهما. اللفظ الاول: روي البخاري من حديث ابن جريح عن عمرو بن دينار وعامر بن مصعب عن أبي المنهال قال: سألت البراءة بن عازب وزيد بن ارقم عن الصراف، فقال: كنا تاجرين على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسألنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصرف، فقال: «ان كان يدا بيد فلابأس، وان كان نساء فلايصلح».

اللفظ الثاني: روى مسلم عن محمد بن حاتم عن سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار عن أبي المنهال، قال: باع شريك لي ورقا نسيئة إلى الموسم او إلى الحج، فجاء الى فأخبرني فقلت: هذا لايصلح، قال: قد بعتنه في السوق فلم ينكر ذلك علي احد، فأتيت البراء بن عازب فسألته، قال: قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدنية ونحن نبيع هذا البيع فقال: «ماكان يدا بيد فلا بأس، وماكان نسيئا فهو ربا» وأتيت زيد بن ارقم فانه اعظم تجارة مني فأتيته، فسألته فقال مثل ذلك» ويوجد سند آخر لهذا الحديث رواه البخاري عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة.. الخ وثالث رواه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة... الخ.

اللفظ الثالث: رواه عبد الله بن الزبير الحميدي (صاحب الشافي وشيخ البخاري) عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابي المنهال، قال: باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل، فقلت: ما ارى هذا يصلح.

____________________

(١) نظرية الربا المحرم ص٨٧.

(٢) نفس المصدر عن تكملة (المجموع شرح المهذب للنووي) ١/٢٦ و٢٧ و٥٠.

٣٧

فقال لقد بعتها في السوق فما عاب ذلك علي احد، فأتيت البراءة بن عازب فسألته فقال قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة وتحادثنا هكذا وقال «ما كان يدا بيد فلابأس، وماكان نسيئا فلا خير فيه» وأئت زيد بن ارقم فانه كان اعظم تجارة مني، فأتيته فذكرت ذلك فقال: صدق البراء»(١) هذه هي الفاظ الحديثين.

فأما حديث البراء وزيد، فلا نتعب انفسنا في بيان معارضته لحديث الاصناف الستة، وبيان التأويلات التي ذكرت لها للجمع بينه وبين حديث الاصناف الستة، وذلك لان سنده غير معتبر، اذ ان زيد بن أرقم الانصاري الخزرجي ليس بممدوح ان لم يكن مذموما، واما البراء بن عازب ففيه مدح وذم، على ان في رجال السند لهذه الروايات عمرو بن دينار وهو مشترك بين الثقة والمجهول، واما اللفظ الاول الذي فيه بالاضافة إلى عمرو بن دينار عامر بن مصعب فهو لم يذكر في كتب الرجال التي وقعت بين يدي، هذا بالاضافة إلى جهالة آخرين في سلسلة الاسناد.

واما من ناحية المتن، فان الرواية باللفظ واردة في الصرف (ذهب بفضة) واما للفظ الثاني فان فيه بيع الورق نسيئة فهو ايضا في نطاق الصرف. واما اللفظ الثالث الذي روي خارج الصحيحين فهو خطأ كما ذكر ذلك البيهقي فقال بأن الصحيح هو بيع الورق بالذهب كما آخرجه مسلم(٢) . وحينئذ اذا كانت هذه الالفاظ واردة في بيع الصرف، فان للصرف احكاما مستقلة كمانعلم، أي ان الذهب والفضة لها احكام من ناحية الربا ولها احكام أخرى من ناحية بيع الصرف، فمن ناحية الربا في صورة كون البدلين من جنس واحد يشترط التماثل والحلول، وايهما لم

____________________

(١) نظرية الربا المحرم ص٨٨ عن تكملة المجموع شرح المهذب للنووي١/٥٠ و٥٦،

(٢) يراجع للتوسع: نظرية الربا المحرم ص٩٣ وما بعدها.

٣٨

يحصل حصل الربا، اما من ناحية الصرف ففي صورة اختلاف الجنسين (الذي يمكن حمل الرواية عليه) يشترط التقابض في المجلس، فان لم يتقابضا بل كان البيع نسيئة فيبطل البيع لعدم تحقق شرط بيع الصرف، وحينئذ لاتكون معارضة الروايات الاصناف الستة ابدا. وسوف تأتي لهذا الرأي الذي رايناه ادلة اخرى.

اذن لم يبق لدينا الاّ حاديث اسامة الذي يحصر الربا في النسيئة، فهو وان لم يبايع علياعليه‌السلام ولم يشهد معه شيئا من حروبه وتوجد اخبار بذمه، بالاضافة إلى وجود بعض المنافيات عنده كما ذكر ذلك اهل الرجال، الا ان تأميره على الجيش من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقول ابي جعفر (ع) في حقه «اسامة بن زيد قد رجع فلا تقولوا الا خيرا»(١) كل هذا يبين انه لم يكن كذوبا مذموما فتقبل روايته.

ولكن رواية اسامة اذا نظرنا اليها فنراها مطلقة تشمل كلا معنيي النسيئة، المعنى الاول: ربا النسيئة الذي هو عبارة عن الربا الجاهلي الذي يدعى انه قد حرمه القرآن الكريم وهو الزيادة في مقابل الاجل الثاني. المعنى الثاني: الربا النسيئة الذي ذكرته السنة، اي ذكره حديث الاصناف السنة، وهو عبارة عن حرمة بيع كيلو من الحنطة بكيلو من الحنطة نسيئة، وبيع مثقال من الذهب بمثقال من الذهب نسيئة.

واما رواية الاصناف الستة فهي تذكر نوعين من الربا أيضا:

النوع الاول: بيع كيلو من الحنطة بكيلو ونصف منها نقدا، فانه يسمى بربا الفضل، وايضا بيع مثقال من الذهب بمثقال ونصف نقدا.

النوع الثاني: بيع كيلو من الحنطة بكيلو منها نسيئة، فانه يسمى بربا النسيئة او النساء. وحينئذ يقع التعارض بين حديث اسامة وحديث الاصناف الستة في النوع الاول من حديث الاصناف الستة، فان بيع كيلو من الحنطة بكيلو ونصف نقدا (وكذلك الشعير والتمر والملح) يكون حراما نظرا إلى حديث الاصناف

____________________

(١) الظاهر انه رجع عن عدم مبايعته لعلي (ع).

٣٩

الستة، وحلالا بالنظر إلى حديث اسامة، لانه يحصر الربا في النسيئة فقط. ولكن الذي اراه ان ابن عباس والروايات التي تروى عنه كلها انما تحرم بيع النقد نسيئة، اما غير النقد (الطعام) من الاصناف الستة فلا، واليك الاحاديث:

١ - «سمعت ابا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم فقلت له: فان ابن عباس لايقوله... الخ».

٢ - «سمعت ابا أسيد الساعدي، وابن عباس يفتي الدينار بالدينارين، فقال له ابا أسيد الساعدي وغلظ له... الخ».

٣ - انه سأل ابن عباس عن بيع الذهب والفضة فقال «هو حلال بزيادة او نقصان اذا كان يدا بيد».

٤ - «سألت ابن عباس عن الصرف، فقال يدا بيد».

٥ - «سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا»(١) .

وعلى هذا فسوف نرى ان ابن عباس فهم من حديث لاربا الا في النسيئة حصر الربا في النقد بالنسيئة، اما في غير النقد فلم يفهم ذلك، وحينئذ تكون المعارضة في النقدين، اذ ان حديث الاصناف الستة يشترط عدم الزيادة والحلول نقدا بينما لاربا الا في النسيئة يشترط الحلول فقط وان كان متفاضلا، اما النسيئة فيحرمها سواء كانت من دون زيادة كبيع مثقال من الذهب بمثقال نسيئة، او مع الزيادة كبيع مثقال من الذهب بمثقال ونصف نسيئة، فان اللفظ مطلق فلاوجه لما قيل من انه يحرم النسيئة من دون زيادة كالربا الجاهلي الذي ادعوه.

وعلى هذا يمكن القول بان حديث لاربا الا في النسيئة انما جاء في الصرف (دراهم بدنانير) كما تصرح بذلك بعض الروايات عن ابن عباس، فهي تنظر

____________________

(١) نظرية الربا المحرم ص١٠١ عن تكملة المجموع شرح المهذب للنووي ١/٢٦ - ٣٢.

٤٠