الربا .. فقهيا واقتصاديا

الربا .. فقهيا واقتصاديا0%

الربا .. فقهيا واقتصاديا مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 464

الربا .. فقهيا واقتصاديا

مؤلف: حسن محمد تقي الجواهري
تصنيف:

الصفحات: 464
المشاهدات: 84107
تحميل: 8865

توضيحات:

الربا .. فقهيا واقتصاديا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 464 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84107 / تحميل: 8865
الحجم الحجم الحجم
الربا .. فقهيا واقتصاديا

الربا .. فقهيا واقتصاديا

مؤلف:
العربية

ويمكن تبيين هذا الموقف الشائق من ملاحظات (باكون) التالية «مادام احتياج الناس الى اعطاء المال واخذه كقروض، وماداموا على كل ذلك القدر من غلظة القلب، حتى انهم لايقرضونها مالم يحصلوا على شيء في مقابل ذلك، فينبغي اذن ان يسمح بالفائدة»(١) .

لكن كلام (باكون) غير علمي بتقريب انه اباح الفائدة للاعتبارت هزيلة اذ ان تعاليم الشرع غير تابعة للاعراف مادام الشرع قد نص عليها بالحرمة، ومع انهيار سلطان الكنيسة وفصل الدين والفلسفة عن الاقتصاد، واباحة الفائدة بصفة عامة في مختلف التشريعات الوضعية وزحف الرأسمالية الاستعمارية وطغيانها، ومع ذلك كله فان النفوس ماتزال متأثرة بتقبيح الربا ومافيه من استغلال، بالاضافة الى ان هذه التشريعات الوضعية التي اباحت الفائدة بصورة عامة قد حرمتها في نطاق معين وجعلت سعر الفائدة محدودا لاتجيز التجاوز عليه، وقد صدر قانون في فرنسا سنة (١٩٣٥) يجعل من يقترض بسعر للفائدة أعلى من السعر المعتاد مرتكبا لجريمة (الربا الفاحش). وهكذا القوانين الوضعية حددت الفائدة وحرمت الربا المسمى بالربا الفاحش (ولقد كان المبرزون من رجالات هذا العصر مثل فرنسيس باكون، وسيرجورياتشايلدورسير توماس كلابير، اشد معارضة لتقاضي معدل فائدة مرتفع من معارضتهم لدفع الفائدة في ذاتها)(٢) .

٣ - الربا عند العرب قبل الاسلام:

أ - الربا في الطائف.

ب - الربا في مكة.

ج - الربا في المدينة.

أ - الربا في الطائف: كانت بعض القبائل وهم بنوثقيف يقدمون القروض

____________________

(١) الاسلام والربا د. انور اقبال قرشي ص٣٣ عن باكون بحث في الربا.

(٢) نفس المصدر والصفحة عن هاني، تاريخ الفكر الاقتصادي.

٣٢١

إلى القبائل الاخرى وهم بنو المغيرة، وحين يحل موعد السداد كان المدينون يبدون الرغبة في أن يدفعوا مبلغا اضافيا (وهو الربا) اذا رضوا أن يمهلوهم(١) .

والمدين اما أن يدفع دينه ان كان معه مال او أن يستمهله فتكون النتجية انه لو كان مستحقا عليه مائة دينار يصبح مطلوبا منه أن يقدم مائتي دينار وهكذا تزداد.

ب - الربا في مكة: كانت في مكة تجارة رائجة قبل الاسلام تقوم على التعامل بالربا وكانت الطريقة التي يؤخذ بها الربا في مكة ابان الجاهلية مماثلة تماما للطريقة السائدة في الطائف فقد كان الدائن حين يحل الموعد المحدد لسداد الدين يسأل عما اذا كان المدين مستعدا لسداد دينه أم انه علىاستعداد لان يدفع (المبلغ الاضافي) فلو كان لدى المدين القدرة على السداد فانه يدفع توا والا فقد كان عليه أن يلتمس منحة (مهلة تيسير) لمدة عام آخر ليسدد الدين)(٢) . فكانت الطريقة لاخذ الربا مشابهة للطريقة السائدة في الطائف.

ج - الربا في المدينة: يقول الخضري «كان الرجل منهم يربي الى أجل، ثم يزيد فيه زيادة اخرى حتى ليستغرق بالشيء الطفيف مال المديون». وذكر الرازي «كان الذي يقرض مبلغا معينا الى شخص آخر لمدة مقررة يذهب الى مدينه حين يحل موعد السداد فلو كان المدين قد تقطعت به الاسباب لسداد دينه فانه يطلب امهاله زمنا على أن يدفع (زيادة) معينة، فيوافق الدائن وهذا ما نسميه بالفائدة المركبة وهو محرم تحريما قاطعا في الاسلام»(٣) .

٤ - الاسلام والربا:

والاسلام حارب الربا محاربة جذرية، فجاء بالتحريم البات القاطع

____________________

(١) نفس المصدر ص٨٩ عن جامع البيان (تفسير الطبري) ٤/٥٥ طبعة القاهرة.

(٢) نفس المصدر ص٩٣.

(٣) نفس المصدر السابق ص٩٦ - ٩٧ عن تفسير البيضاوي١/١٥٤.

٣٢٢

الذي لايترك مجالا لاي لبس او تحايل على احكامه لقوله تعالى (وحرم الربا) بالاضافة الى الاحاديث الكثيرة عن الطريقين (وقد عقدنا بابا للنظر في الربا عند السنة وبابا للنظر في الربا عند الشيعة فليراجع).

وفي القرآن الكريم آيات لها أهمية خاصة في الربا نوردها هنا وهي تكشف عن رأي الاسلام في الربا: (والذين يأكلون الربا لايقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف وأمره الى الله ومن عاد فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون...).

ويظهر من تفسير هذه الاية ان الذي يقول لافرق بينالزيادة في اول البيع وهو الربح وبين ان تكون الزيادة عند المحل لاجل التأخير، أي يقول انما البيع مثل الربا، فالله سبحانه وتعالى يقول له: لافرق بين القيام من القبر هادئا وبين القيام من القبر مصروعا، لانكم لم تفرقوا بين الزيادة الطبيعية كما في البيع والزيادة غير الطبيعية كما في الربا فكذلك لافرق بين القيام الطبيعي والقيام غير الطبيعي كقيام المصروع، فيؤخذ المرابي بالقيام غير الطبيعي كما كان يفعل في الربا الذي هو غير طبيعي.

وقال تعالى (.... يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لايحب كل كفار اثيم، ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا ان كنتم مؤمنين. فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لاتظلمون ولاتظلمون. وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم ان كنتم تعلمون. واتقوا يوما ترجعون فيه

٣٢٣

الى الله ثم توفي كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون)(١) (يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا الربا اضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون. واتقوا النار التي اعدت للكافرين)(٢) (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين عذابا أليم)(٣) . (وما آتيتم من ربا ليربوا في اموال الناس فلايربو عند الله وماآتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون)(٤) .

وبعد ذكر الايات القرآنية التي تدل على الحرمة الشرعية نتكلم في حرمة الربا من الناحية الاقتصادية. فقد ذكرت الروايات عن أهل البيتعليهم‌السلام بأن حرمة الربا «لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف» وأن «الربا لو كان حلالا لترك الناس التجارات وما يحتاجون اليه فحرم الله الربا لتنفر الناس من الحرام الى الحلال والى التجارات من البيع والشراء» «وعلة تحريم الربا... لما فيه من فساد الاموال لان الانسان اذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما وثمن الاخر باطلا... وعلة تحريم الربا بالنسيئة لعلة ذهاب المعروف ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الاموال»(٥) .

وذكر فخر الدين الرازي في مؤلفه التفسير الكبير فقال:

١ - ان التعامل بالربا (يستوجب ابتزاز ثروة شخص آخر دون مقابل او

____________________

(١) الايات السابقة واللاحقة من سورة البقرة ٢٧٦ - ٢٨٢.

(٢) الايتان من سورة آل عمران ١٣٠ - ١٣١.

(٣) الايتان من سورة النساء ١٦١ - ١٦٢.

(٤) الاية ٤٠ من سورة الروم.

(٥)الوسائل ج١٢ باب ١ من ابواب الربا ٤٢٣ - ٤٢٦.

٣٢٤

اعتبار شرعي، فالشخص الذي يغتصب هذا انما يفعل ذلك دون مقابل يقدمه. ويصل هذا الى الاستغلال ويفضي بالمدين الى الفقر وهذا ظلم بين ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في معنى حديث: ان مال الانسان محرم على غيره تحريم دمه عليه. وعلى هذا فان ابتزاز الثروة دون اعتبار شرعي محرم)(١) .

وقد يقال: ان هذا المال الذي يقدمه الدائن الى المدين يستطيع أن يستفيد منه باستثماره في عمل، فلاوجه لتحريم هذا المال الاضافي.

ويرد على هذا: ان الدائن لو استغل ماله في عمل مابدلا من اقراضه فليس من الضروري أن يستلخص منه ربحا دائما، ومحتمل جدا أن يكابد خسارة من وراء عمله فيخسر ماله وعمله الذي بذله معه، على ان الدائن اذا استثمر امواله في العمل فانه يعمل على ايجاد الربح فيكون الربح في مقابل عمله، بخلاف عملية الربا فليس هناك عمل يذكر ابدا. على أن حصول الدائن على ربح من الاستثمار ليس مؤكدا في حين ان الربا (وهو المبلغ الاضافي) الذي يحصل عليه الدائن من المدين مؤكد.

٢ - ان الدائن اذا اخذ الفوائد واصبح ايراده من هذا الطريق فانه يمتنع من القيام بأي عمل او مهنة، فانه يفضل أخذ الفائدة على القروض المالية والمؤجلة من ان يعمل بتجارة ما اوحرفة تجره الى العمل. وهذا بطبيعة الحال يضر بالمصلحة العامة، لان من الحقائق المقبولة أن الدولة لاتستطيع ان تحقق تقدما بدون اعمال أو تجارة أو فنون.

٣ - لو اعلن أن الفائدة مباحة، فان الناس لكثرة احتياجاتهم يقترضون باي معدل كانت الفائدة، والقرض بفائدة يكون سببا لوضع نهاية للتعاطف وسلب التراحم والترابط.

____________________

(١) الاسلام والربا ص٨٠.

٣٢٥

٤ - كذلك يحتمل ان يربح المدين ويفتقر الدائن، فلو كان الربا امرا مشروعا لجد الغني في طلب مال الفقراء.

٥ - ان نواه القرآن الكريم لالبس فيها، فلانقدم المبررات للنواه القرآنية فان عقل الانسان قاصر عن ادراك علل الاحكام الشرعية، والاشياء التي يدركها عقل الانسان لاتعدو أن تكون حكمة الحكم اوجزء الحكمة، فالتبريرات العقلية ليست صحيحة لعدم ادراك العقل علة الحكم. نعم من الاحكام ما بينت العلة فيها فيمكن ان نعمل على ضوء العلة المذكورة. وهذه النقطة الخامسة مرتبطة بالتحريم الشرعي لا الاقتصادي.

٥ - الربا في العصر التجاري: ١٥٠٠ - ١٧٠٠

كانت سياسة الدول توجه الى جمع الذهب والفضة، وقد عرف التجاريون المال برأس المال فهو «عامل انتاج يقف على قدم المساواة مع الاراضي ويعتبر في بعض الاحيان ثروة مصنوعة تختلف عن الثروة الطبيعية وأن الفائدة عن رأس المال كانت ثمنا لتأجير المال كتأجير الارض تماما»(١)

وقد كان التجار الاولون يدافعون عن معدل الفائدة المنخفض لاجل تشجيع التجارة (فكتب سير توماس كليبر، معارضا آراء (مان) مقالين ايد فيهما وضع معدلات اقل للفائدة، وقد نشر ابنه بحثا هاجم فيه (الربا) وكتب السير جوزيا تشايلد «فقد اثبت ان معدل الفائدة المنخفض هو بمثابة الام الطبيعية للاقتصاد المعتدل والصناعة....»(٢) فالفائدة في هذا العصر التجاري قد ابيحت ولكن الاختلاف وقع في سعر الفائدة، فنرى جماعة يدافعون عن سعر الفائدة المنخفض وجماعة يريدون ارتفاع سعرها، ولكن صدور قانون بتخفيض معدل الفائدة لايكون

____________________

(١) الاسلام والربا ص٣٤ عن ا. ف. هنشنر: الاسلوب التجاري المجلد الثاني ص٢٠٠.

(٢) نفس المصدر ص٣٥.

٣٢٦

ذا أثر اذ أن الذي له اثر واضح هو تحريم الفائدة تماما، اما مع اباحتها فلا جدوى في اتخاذ أية وسيلة لاتزان الاقتصاد.

٦ - الربا او الفائدة والنظرية الاتباعية (الكلاسيكية):

ان الفائدة حسب رأي (سميث وريكاردو) هي التعويض الذي يدفعه المقترض عن الربح الذي كان يمكن أن يحققه باستثمار ماله. فالفائدة حسب رأي هذين هي المكافأة او الاغراء الذي يدفع عن المدخرات. وعبر بعض الاقتصاديين الانجليز (ناسوسينيور) عن سبب الفائدة (بالزهد)، ولكن (مارشال) استبدل بكلمة الزهد كلمة (الانتظار) نتيجة الاعتراضات ضدها.

وخلاصة النظرية الاتباعية للفائدة: كما فسرها (مارشال) «ان معدل الفائدة يتحدد عند نقطة تقاطع الطلب مع خطوط عرض المدخرات، فان كان عرض المدخرات اكبر من طلب المدخرات بغرض الاستثمار يهبط معدل الفائدة ويزداد الاستثمار الى ان يتم الوصول الى توازن بين المدخرات والاستثمار، وكذلك ان كان طلب المدخرات اكبر من المعروض منها، فان معدل الفائدة يرتفع ويقل الاستثمار الى أن يتم اعادة التوازن بين الاثنين»(١) .

وهناك عدة اعتراضات للنظرية الاتباعية نذكرها فيما بعد في فصل آخر ان شاء الله مع مناقشات لها.

٧ - الربا في النمسا (نظرية الفائدة النمساوية):

تعرف نظرية الفائدة النمساوية بنظرية (آجيو) او نظرية اختيار الزمن وهي من وضع (يوم بافرك): والفائدة عنده تعتبر ظاهرة مقايضة، اذ أنه يجد سبب

____________________

(١) نفس المصدر ص٤٠.

٣٢٧

الفائدة في الحقيقة هو كون البشر يفضلون السلع الموجودة حاليا على السلع التي تماثلها نوعا وعددا في المستقبل وفرق السعر بين السلع الحالية وسلع المستقبل يعرفه بكلمة (آجيو) ونضرب لذلك مثلا: يقترض شخص (١٠٠) دينار الان على أن يعيدها (١٠٥) دنانير بعد سنة، فهو مقايضة مال حالي بمال مستقبل، اذ أن (١٠٥) دنانير التي يعيدها بعد سنة تعادل (١٠٠) دينار التي اقترضها حالا. ويقدم (بوم بافرك) ثلاثة اسباب لتفضيل الناس السلع الحالية على السلع المستقبلة:

١ - بخس قيمة المستقبل ويرجع هذا الى : أ- انعدام التصور، ب - ضعف الارادة، ج٢ عدم الاطمئنان الى الحياة... الخ.

٢ - المحتاجون حاليا يفضلون الثروة الحالية على ثروة المسقتبل.

٣ - (التفوق الفني للسلع الحالية، وهذه السلع قد تستخدم توا لانتاج مزيد من الثروة. وبوسعنا فنيا ان نقول ان الانتاجية الهامشية للسلع الحالية اعظم من الانتاجية الهامشية لسلع المستقبل، ومن هنا يعتبر (بوم بافرك) الفائدة ضرورية اقتصادية)(١) .

وقال المودودي في هذا الشأن لتوضيح الشبهة «ان المال الذي يحصل اليوم نافع قابل للاستعمال فعلا فهو من جهة فوق المال الذي سيحصل يوما في المستقبل»(٢) .

وسنناقش هذه الشبهة في فصل قادم انشاء الله حيث اننا جعلنا هذا الفصل تمهيدا للبحث فعرضنا فيه عرضا تأريخيا للفائدة.

٨ - الربا عند كينز:

يصل كينز بعد ان يناقش طويلا الى نتيجة مهمة هي «أن معدل الفائدة ظاهرة

____________________

(١) نفس المصدر ص٥٢.

(٢) الربا المودودي ص١٩.

٣٢٨

نفسية الى حد كبير» الا انه بعد ذلك بصفحة يقول فيها «لعله من الجائز أن يكون اكثر دقةلو قال ان معدل الفائدة تقليدي الى حد كبير اكثر من كونه ظاهرة نفسية الى حد كبير لان قيمة الفعلية يتحكم فيها الرأي السائد عن ماهية قيمته بدرجة كبيرة»(١) .

فكينز يرى أن الفائدة ليست ظاهرة نفسية وانما هي تقليدية، فاذا قال الاقتصاديون او علماء الدين ان الفائدة محرمة أصبحت محرمة عندهم واذا قالوا مثلا انها محللة ومن ضروريات الحياة اصبحت محللة عندهم ومتعارفة فهي تقليدية لاظاهرة طبيعية خاضعة للحجج والاقناع، فاذا اقتنع الناس أنها غير مرغوب فيها كانت محرمة واذا اقتنعوا انها ضرورة في التجارة او الحياة اصبحت متعارفة عندهم.

وفي منتصف كتاب كينز تحت عنوان «ملاحظات على طبيعة رأس المال» نراه يقترب من وجهة النظر الاسلامية فيسلم بأن معدل الفائدة في مجتمع حسن الادارة قد يكون صفرا وفي وسع الناس ان يكتسبوا المال من العمل فيقول «ان مجتمعا حسن الادارة مزودا بالموارد التكنيكية الحديثة لايتزايد فيه السكان بسرعة ينبغي ان يكون قادرا على خفض الكفاءة الهامشية لرأس المال في توازن الى مستوى الصفر تقريبا خلال جيل واحد حتى يمكننا ان نصل الى ظروف مجتمع شبه مستقر حيث لايكون التقدم والتغير الاّ نتيجة للتغيرات الفنية (التكنيكية) و الذوقية والسكانية والمذهبية مع بيع منتجات رأس المال بسعر يتناسب مع العمل»(٢) .

وفي النظرية العامة لكينز ترجمة (نهاد رضا) عبارة مشابهة للعبارة المتقدمة وهي «تستطيع الجماعة المحكومة حكما صحيحا والمجهزة بالموارد التقنية الحديثة، والتي لايزداد عدد افرادها بسرعة تستطيع خلال جيل واحد ان تخفض

____________________

(١) الاسلام والربا ص٦٣ عن كينز.

(٢) المصدر السابق ص٦٥ عن النظرية العامة ص٢٢١.

٣٢٩

فعالية الرأسمال الحدية الى مستوى توازن قريب من الصفر، وعليه تتحقق الشروط التي تميز الاقتصاد المستقر تقريبا»(١) .

فكينز هنا قد اقترب كثيرا من الوجهة الاسلامية لانه قال ينبغي أن يكون المجتمع قد خفض مستوى الفائدة الى الصفر وهي الوجهة الاسلامية حتى نصل الى ظروف مجتمع شبه مستقر الا انه قال هذه مع شروط اشترطها، ويمكن أن نقولها من دون وجود لهذه الشروط اعتمادا على التحريم القاطع الذي ذكره القرآن الكريم، فاننا لانعرف علة التحريم في القرآن الكريم لان العقل البشري قاصر عن ادراك علة الحكم.

٩ - رأي ماركس في الفائدة:

ويمكن أن نعرف رأي ماركس في الفائدة من نظريته العامة في القيمة، ولابأس باستعراض ملخصها: ان (الريكاردو) نظريته التي اشادها قبل ماركس واقام صرحها وهي القائلة: ان العمل البشري هو جوهر القيمة، فالقيمة تقدر على اساس كمية العمل المتجسد فيه، وتتفاوت قيم الاشياء بتفاوت العمل المبذول في ايجادها. وقد نوه عن هذه النظرية عدد من الاقتصاديين كالفيلسوف الانجليزي (جون لوك) وأخذ بها(ادم سميث) في حدود ضيقة أي في مجال الجماعات البدائية فقط.

ثم جاء (ماركس) بعد (ريكاردو) وصاغ النظرية المتقدمة في اطار فكري خاص، وكلاهما ادركا ان العمل في بعض الجوانب لايحدد القيمة كما في حالات الاحتكار التي تنعدم فيها المنافسة فتتضاعف قيم السلع وفقا لقوانين العرض والطلب في حين أن العمل المنفق عليها لايتغير. بالاضافة الى انهما وجدا أن

____________________

(١) النظرية العامة في الاقتصاد/جون. م. كينز ترجمة (نهاد رضا) ص٢٠٣.

٣٣٠

العمل البشري يتفاوت في الكفاية فعمل العامل الذكي النشيط لايمكن ان يساوي عمل العامل البليد البطيء، فجعلا لنظريتهما استثنائين:

١ - أن تكون المنافسة شرطا اساسيا للنظرية.

٢ - أن يكون العمل ضرورة اجتماعية.

(وريكاردو) بعد أن وضع نظريته كان مضطرا الى ابعاد الارض ورأس المال عن عملية تكوين القيمة، لان الارض ورأس المال ليسا بعمل حتى يكونا القيمة. وكان الاقتصاديون قبل (ريكاردو) يفسرون (ربع الارض بأنه هبة من الطبيعة تنشأ من اشتراك الارض مع الجهود الانسانية في الانتاج الزراعي وبالتالي في تكوين القيمة التبادلية المنتجة)(١) . وهذا يدل على أن العمل ليس الاساس الوحيد للقيمة.

أما (ريكاردو) فقد رفض هذا الفسير للريع لانه لاينسجم مع نظريته القائلة بأن العمل اساس القيمة «فقرر أن الربح نتيجة للاحتكار فالاشخاص الذين سيطروا على الجزء الاكثر خصبا من الارض يحصلون على ريع نتيجة لاحتكارهم واضطرار الاخرين الى استثمار الاراضي الاقل خصبا»(٢) . أما رأس المال فذكر أنه ليس الا عملا متجمعا لينفق من جديد في سبيل الانتاج. الا أنه اعتبر (من المنطقي أن تباع السلعة بسعر يعود بعائد صاف لمن يملك رأس المال، وفسر ذلك بفترة الوقت التي تمضي بين الاستثمار وظهور المنتجات للبيع) فقد اعترف بأن الزمن عامل آخر لتكوين القيمة التبادلية الا ان هذا يعتبر من (ريكاردو) تراجعا عن نظريته القائلة بأن العمل اساس القيمة.

أما ماركس عند معالجته لعناصر الانتاج المشتركة مع العمل في الانتاج فأقر الريع العقاري حسب تفسير ريكاردو له، الا أنه هاجم ريكاردو بمنطقية

____________________

(١ - ٢) اقتصادنا للسيد الشهيد الصدر ص١٥٣ - ١٥٤.

٣٣١

الربح الرأسمالي على اساس نظرية القيمة الفائضة.

فماركس : أخذ يدلل على جوهر القيمة، فقد فرق بين القيمة الاستعمالية، والقيمة التبادلية وذكر أن السرير والثوب من السلع، فيهما قيمة استعمالية معينة تختلف حسب اختلافها في نوعية المنفعة التي يجنيها الانسان منها. «ولكل واحدة من تلك السلع قيمة من نوع آخر، فان السرير الخشبي الذي ينتجه الصانع كما يمكن ان ينام عليه - وهذا مايحدد قيمته الاستعمالية - كذلك يمكنه أن يستبدله بثوب يلبسه. وهذا يعبر عن القيمة التبادلية، فالثوب والسرير بينما كانا متناقضين في منافعهما وقيمتهما الاستعمالية نجد أنهما يشتركان في قيمة تبادلية واحدة»(١) والمعادلة هذه تعني انه يوجد (في شيئين مختلفين: السرير والثوب، شيء مشترك بالرغم من اختلاف منافعهما وموادهما. فالشيئان هما اذن مساويان لشيء ثالث ليس في ذاته سريرا ولاثوبا، وهذا الشيء الثالث لايمكن ان يكون خاصة طبيعية او هندسية للبضائع لان خصائصها الطبيعية لا تدخل في الحساب الا بقدر ماتمنحها من منفعة استعمالية، ولما كانت القيم والمنافع الاستعمالية في الثوب والسرير مختلفة، فيجب أن يكون الشيء الثالث المشترك بينهما امرا غير القيم الاستعمالية ومقوماتها الطبيعية، فاذا اسقطنا من الحساب هذه القيم وطرحنا جميع الخصائص الطبيعية للثوب والسرير لايبقى بين ايدينا الا الصفة الوحيدة التي تشترك فيها السلعتان وهي العمل البشري)(٢) .

وهكذا ينتهي تحليل عملية التبادل الى ان العمل هو جوهر القيمة التبادلية. وتنتقد هذه النظرية من جوانب شتى:

١ - (ان الثمن السوقي لايطابق مع القيمة التبادلية الطبيعية التي يحددها

____________________

(١) اقتصادنا ص١٥٥.

(٢) اقتصادنا ص١٥٥ عن راس المال ج١ ق ١ ف١٠ ص٤٤ - ٤٩.

٣٣٢

القانون الانف الذكر الا في حالة معادلة العرض والطلب)(١) ولكن اذا اختل قانون العرض والطلب وسمحت للسلعة أن يزيد ثمنها عن قيمتها بسبب قلة العرض وزيادة الطلب، فقوانين العرض والطلب تستطيع أن ترفع الثمن او تخفضه، وبكلمة اخرى تجعله مناقضا للقيمة الطبيعية، الا أنها لاتسمح لهذا الارتفاع أن يتزايد بشكل غير محدود كما في الجوراب فمهما تحكمت فيه قوانين العرض والطلب لاتتمكن من رفع ثمنه الى ثمن السيارة. وكذلك لاتنطبق النظرية على حالات الاحتكار، لان القيمة تحدد وفقا لقوانين العرض والطلب التي يتحكم فيها المحتكرون، وكذلك لاتنطبق على بعض الوان الانتاج الفني كاللوحة بريشة الفنان المبدع فيكون ثمنها مرتفعا رغم الظآلة النسبية لكمية العمل فيها. فنرى أن قانون القيمة القائم على اساس العمل يتوقف على المنافسة وعلى كون السلعة نتاجا اجتماعيا لانتاجا فرديا كاللوحة الفنية.

٢ - (ان الحقائق الواضحة عن الحياة الاقتصادية تعبر دائما عن ظواهر تناقض تماما النتائج التي تؤدي اليها النظرية الماركسية، فان من نتيجة هذه النظرية: أن الارباح المكتسبة تختلف من مشروع الى آخر تبعا لاختلاف كمية العمل المأجور المنفق خلال الانتاج، دون أن يكون لكمية الآلات والادوات أثر في ذلك، لانها لاتضفي على النتائج أية قيمة اكثر مما تفقده)(٢) فلم توجد أمثلة حتى يبرهن ماركس على صحة نظريته فحاول أن يبرهن عليها بصورة تجريدية، فلما جاء الى نتائج الواقع المقلوبة ضد نظريته فقرر أن النتائج (لم توجد مقلوبة نتيجة لخطأ النظرية التي يؤمن بها وانما هي مظهر من مظاهر المجتمع الرأسمالي

____________________

(١) اقتصادنا ص١٥٦.

(٢) اقتصادنا ص١٥٧.

٣٣٣

الذي يضطر المجتمع الى الانحراف عن قانون القيمة الطبيعية)(١) .

٣ - ماذا تقول الماركسية عن الامر المشترك بين انتاج جماعي وانتاج فردي مثل الخط الاثري للفرد مع نسخة مطبوعة من كتاب كبير مثلا، فهل يمكن أن يكون الامر المشترك هو كمية العمل المنفقة فيها؟ كلا لا نعلم ان العمل المتجسد في الخط الاثري أقل بكثير من العمل المتجسد في نسخة مطبوعة لكتاب كبير، وقد استثنت الماركسية السلع الاثرية والفنية من قانون القيمة الا أننا نطالبها بتفسير الامر المشترك بينهما كما في السرير والثوب.

ومن هنا نبرهن (أن هناك امرا مشتركا بين السلع التي يجري بينها التبادل في السوق غير العمل المتجسد فيها، وأن هذا الامر المشترك موجود في السلع المنتجة انتاجا فرديا، كما يوجد في السلع التي تحمل طابع الانتاج الاجتماعي)(٢) فلماذا لايكون هو المصدر الاساسي للقيمة التبادلية.

٤ - (تناقض القانون مع الواقع الطبيعي الذي يعيشه الناس، فان الكمية الواحدة من العمل الزراعي قد تنتج قيمتين مختلفتين تبعا للطريقة المتبعة في تقسيمها على الاراضي المتنوعة)(٣) ، فان الطاقة لاتتغير، وانما القيمة المضاعفة مدينة للدور الايجابي الذي تلعبه الارض نفسها في تنمية الانتاج وتحسينه.

٥ - ان انخفاض القيمة التبادلية للسلعة تبعا لانخفاض الرغبة الاجتماعية، فهي تفقد جزءا من قيمتها التبادلية بالرغم من احتفاظها بنفس الكمية من العمل الاجتماعي. وهذا أقل مايمكن أن يقال في النظرية.

ويظهر مما تقدم رأي ماركس في الربا من نظريته القائلة بأن العمل اساس

____________________

(١) اقتصادنا ص١٥٧.

(٢) اقتصادنا ص١٥٩، ١٦٠.

(٣) اقتصادنا ١٥٩، ١٦٠.

٣٣٤

القيمة، فانه لايرى لغير العمل قيمة تذكر، فلابد أن يقول بتحريم الفائدة، لان المال حينئذ ليست له قيمة في مقابله وانما القيمة في مقابل العمل المبذول لا المال، فيرى أن الفائدة غير صحيحة لانها تكون في مقابل المال، وهو لايقر هذا.

والفرق بين الاسلام ورأي ماركس:

ان الاسلام يرى للمال كمية من الربح، لان صاحب المال هو مالك السلعة التي اتّجر بها هذا العامل، فان هذه السلعة وان ازدادت قيمتها بعمل العامل كالاعداد بين ايدي المستهلكين والنقل وماشاكل ذلك الا أنها تبقى ملكا لصاحب المال (لان كل مادة لاتخرج عن ملكيتها لصاحبها بتطوير شخص آخر لها)(١) . فالاسلام يرى أن للمال ربحا اذا شارك العمل كما في عقد المضاربة الذي شرعه الاسلام.

ويختلف الاسلام عن الرأسماية بتبريرها الفائدة نتيجة للمخاطرة او للتعويض عن المخاطرة او مكافأة لصاحب المال على مقاومته لمخاوفه من دون بذل عمل الى جانب المال، فالاسلام لايجيز الفوائد من دون بذل عمل كما في الربا، ويجيز الفوائد أي الربح مع بذل عمل معه. بينما ماركس لايعترف حتى بهذه الحصيلة، لانه لايرى للمال أية قيمة ذاتية وأن العمل هو اساس القيمة التبادلية.

كيف نشأت المصارف الربوية؟ ام كيف نشا الربا؟

نستعرض هنا سير الربا في ظل النظام القائم لنرى كيف نشأ الربا حتى انتهى الى ما عليه الان، فالربا قد مر بمراحل عديدة هي:

- أن المصارف القائمة الان على العمليات الربوية كان عملها منذ البدء هو قضاء حاجة الناس في تبديل عملة بعملة أخرى، والارتزاق عن هذا الطريق فكان لابد لهم من ادخار مقدار من النقود بعملات مختلفة، وهذا يحتاج بالطبع

____________________

(١) اقتصادنا ١٥٩، ١٦٠.

٣٣٥

إلى صناديق حديدية واقفال محكمة تدخر فيها الاموال لكي تسلم من السرقة. (وفي عهد الاغريق كانت المعابد هي المصارف التي يودع فيها الافراد او الدويلات الاغريقية اموالهم سواء كانت من الذهب او الفضة لتكون بمأمن من السرقة او الضياع. ولم تكن تعطي هذه المعابد فوائد للنقود المودعة لديها)(١)

٢ - وعندما وجدت الصناديق الحديدية والاقفال المحكمة عند هؤلاء الذين يبدلون عملة بعملة اخرى، أخذ الاقطاعيون واصحاب الاموال يفكرون في توديع اموالهم عند هؤلاء الصيارفة، لانهم يملكون مكانا مأمونا لحفظ هذه الاموال، فبدأوا يودعون الاموال عندهم لكي تحفظ في صناديقهم بدلا عما كان يصنع فيما سبق من دفن الاموال في جوف الارض او الحائط، وكان هؤلاء الصيارفة يأخذون الاجرة على هذا الحفظ تختلف قلة وكثرة حسب اختلاف المال المستودع، وكان هذا الصيرفي يكتب ويعطي كل من يودع عنده شيئا من المال سندا يصرح فيه أن من يحمل هذا السند له كذا وكذا من المال وديعة عنده، ثم أخذت هذه السندات تقوم مقام الذهب نفسه، فالتعامل بالسندات أسهل على الناس من استرداد الذهب نفسه.

٣ - ثم رأى هذا الصيرفي بحسب تجارته ان ما يودع عنده لايسترجع منه أزيد من العشر عادة، وتبقى تسعة اعشار المال رابظة في خزائنه، بل قد يكون مايسترجع اقل من ذلك الى أن يصل الى نسبة واحدة من مائة، وذلك عندما لاتوجد الحروب بين الاقطاعيين التي تكلفهم سحب شيء من اموالهم وصرفها فأخذ الصيارفة يقرضون تسعة اعشار الودائع الى التجار مع أخذ الفائدة على القرض نفسه، بالرغم من أنه لايملك هذه الاموال (بل كان هؤلاء الصيارفة يتقاضون اصحابها الاجرة لحفظها في جانب، ويعطون غيرهم قروضا بالربا في

____________________

(١) النقود والبنوك في البلاد العربية فؤاد مرسي ص٣٠.

٣٣٦

الجانب الاخر)(١) . وكانت هذه العملية تتم من دون أن يعلم صاحب المال أن ماله قد تصرف فيه من قبل الصيرفي، وهذه مخالفة بالاضافة الى ان صاحب المال لايرضى بهذا العمل الذي يتم على ماله وهي مخالفة أخرى.

واكثر من ذلك فان الصيارفة بدأوا يقرضون الناس ماكانوا يخلقون على قوة الذهب الموجود عندهم من سندات ورقية بدل اقراض الذهب نفسه، لان السندات تقوم مقام الذهب في المعاملات ولايسحبون الا نادرا حيث يحتاجون الى استهلاك عين المال لمصرف الزواج ونحوه. فهم لايخلقون مقابل قوة الذهب سندات فحسب، بل خلقوا مقابل قوتها تسعين سندا ورقيا مزورا. وسعر الفائدة يختلف حسب قانون العرض والطلب كما هو الحال في سائر السلع.

ان هذه الاعمال التي يعملها الصيارفة لاشك في أنها خداع سافر، وبهذا الخداع والتزوير خلق الصيارفة (٩٠ في المائة) من المال لانفسهم بصورة عملة لم يكن لها شيء من الاساس اصلا واصبحوا اصحابها، وبدأوا يفرضونها على المجتمع بصورة الديون ويتقاضون عليها الربا بسعر١٠ في المائة و١٢ في المائة او أقل من ذلك. بالاضافة الى أنهم ماكسبوا هذا المال بجدهم او نالوا عليه حقوق الملكية بالطرق المشروعة (بل لم يكن هو مالا في حقيقة الامر حتى يسوغ لهم بموجب أي مبدأ من مبادى الاخلاق او الاقتصاد والقانون أن يروجوه في السوق ادارة للتبادل وينالوا به المرافق والخدمات من الجمهور)(٢) .

والمستغرب من رجال الفلاسفة والادب والفن والحكومات كانت تشن الغارات على من يتساءل عن مصدر ثروة أي صيرفي، بل واكثر من ذلك جاء القانون بنفسه يعترف بمشروعية اموالهم وجاءت الحكومات فاعترفت بأن

____________________

(١) الربا المودودي ص٦٤.

(٢) الربا المودودي ص٦٦ للتوسع ومابعدها.

٣٣٧

لهؤلاء الصيارفة حقا في اصدار الاوراق المالية حتى اصبحت أوراقهم التي يصدرونها تجري في التجارة والصناعة بصفتها اوراقا نقدية واداة للتبادل مشروعة(١) . ولكن مع هذا «كان هؤلاء الصيارفة موضع ازدراء الكافة، وكان مأواهم في كل مدينة في الحي اليهودي المنعزل عن المجتمع»(٢) .

٤ - ثم جاء دور الصناعات الكبيرة والمشروعات الضخمة من قبيل استخراج النفط ونحو ذلك واحتاج اصحابها الى اموال هائلة لانجاز المشروع ولايمكنهم جمع المال من الناس بسلطتهم جبرا وقهرا عليهم، لان ذلك خلف منطق الراسمالية والحرية المفروضة كما لايمكنهم جمعها عن طريق التبرعات اذ الناس قد تربوا على عقلية المصلحة الخاصة، وكل واحد انما تعاون واشترك في امضاء قوانين الرأسمالية وانجازها بدافع من مصلحته هو فمتى يسوغ لهم بذل المال في مشروع مجانا بداع التبرع مثلا؟ فتقدم الصيرفي في هذه المرحلة واستطاع ان يجمع فاضل اموال الناس ففتح باب أخذ المال من الناس بعنوان الاقتراض مع اعطاء الفائدة بدلا عما كان يصنعه سابقا من أخذ الودائع مع تقاضي الاجرة على حفظ المال، فأخذ الناس يدفعون اليه فاضل اموالهم بل أخذوا يحبذون الضغط على انفسهم في المعيشة حرصا على أخذ الفائدة، وهذا الصيرفي أخذ يقتصر في اعطاء الفائدة على قدر ممكن من الفائدة التي تفي بجلب اموال الناس، ثم يعطي هذه الاموال الهائلة الى اصحاب تلك المشروعات مع أخذ الربا.

وهكذا استطاع المرابي سحب ثروة البلاد الى جيبه واعطى فوائد عليها فتحكم بثروة البلاد وحفظ مستواه الاقتصادي بأموال غيره، لان الاموال قد انهالت

____________________

(١) الربا المودودي ص ٦٦ ومابعدها.

(٢) المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الاسلامية د. محمد عبد الله العربي ص٩٢.

٣٣٨

عليه بدلا من أن تتجه الى اعمال الاقتصاد وشؤون المدنية، فيأخذ المال بفائدة قليلة ويقرضه بفائدة كبيرة. (وهذه الواسطة بين الاموال وبين الاستثمار تبطيء من عملية النشاط الاقتصادي) فلو تمكنا من ازالة هذه الواسطة وجعلنا الاتصال بين اصحاب الاموال واصحاب المشروعات مباشرة لساعد هذا على تنشيط الاقتصاد، اذ يقلل من العمليات المبطئة للنشاط كتوفر المال عند المرابي وعدم اقدام صاحب المشروع اليه لزيادة الفائدة، او عدم اعطاء اصحاب الاموال اموالهم الى المرابي وارتباط أصحاب المشروعات به لقلة الفائدة. فالاولى ازالة المرحلة المتوسطة.

واذا بقيت هذه المرحلة المتوسطة فطبيعي مالهذا الوضع الغريب من تفريق بين الناس، وقد وزعوا الى جانبين، الجانب الاولى: وفيه جميع اولئك الاهالي الذين يعملون في مزارع الاقتصاد ولايتوقف انتاج البلاد الثقافي والاقتصادي الا على جهودهم ومساعيهم.

والجانب الثاني: اولئك القليلون المتوقف على مائهم - وهو المال - ري المزارع كلها. ولكن اصحاب الماء أبو التعاون مع العاملين في المزارع بالرفق والعدل، بل على العكس تعاونوا معهم على سلب بقية اموالهم عن طريق الربا.

ونذكر هنا فقرة للمودودي في تصوير منصب الرأسمالي لننتفع بها اولا ولنتفكه بها ثانيا يقول: «ان الوضع الجديد قد طوى عصر حكم كل من القلم والسيف، والقى بمقاليد الحكم كلها الى (ديوان حسابات الرأسمالي) وجعل في أنف الجميع - بما فيهم الفلاحون والعمال ومؤسسات التجارة والصناعة الكبيرة والدول والحكومات القومية - خطاما غير مرئي قبض الراسمالي على

٣٣٩

جانبه وبدأ يقودهم به حيث يشاء»(١) .

وقد رأينا مالهذا الدور من مساواة غريبة بين الناس، ولو أننا طبقنا في مكان آخر قانون الشركة في التجارة بدلا من الودائع الربوية وذلك بأن يكون نفس اصحاب الاموال يشتركون في ذلك المشروع او تلك الصناعة او المؤسسة، لهم مالصاحب المشروع من منافع وعليهم ماعليه من خسائر لحصلت نفس الفوائد وتقدم المشروع، ولم تحصل تلك الاضرار الهائلة.

والخلاصة:

ان المرابين بالرغم من أنهم طفيليون على مائدة اموال الناس والمترقب أن يكون حظهم اقل من حظ اصحاب الموائد أنفسهم، اصبح حظهم اكثر وذلك لان نفعهم مضمون سواء ربحت التجارة او خسرت، فكأن المال تلقائيا ينمو بمضي الزمن عليه في ذمة الناس بلا حاجة الى أي عمل من قبل صاحب المال!!.

وقد ذكروا ان هناك كتابا اصدره احد العلماء الفرنسيين الاحرار «كتاب لم يكد يخرج من المطابع سنة (١٩٥٥) حتى استولى عليه هذا الاخطبوط (اصحاب المصارف الربوية) فأباد جميع نسخه الا عددا قليلا أفلت من قبضته»(٢) وعنوان هذا الكتاب «ألماليون وكيف يحكمون العالم ويقودونه الى الهاوية» ذكروا ان فيه ادلة كثيرة ووثائق ثابتة تثبت بالبرهان أن كل المحن والكوارث هي من صنع اصحاب المصارف المرابين.

ويشير الكتاب نفسه في مقدمته الى كتاب آخر يقول عنه الدكتور محمد

____________________

(١) الربا للمودودي ص٧٠ - ٧١.

(٢) المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الاسلامية د. محمد عبد الله العربي ص٩٢.

٣٤٠