الربا .. فقهيا واقتصاديا

الربا .. فقهيا واقتصاديا8%

الربا .. فقهيا واقتصاديا مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 464

الربا .. فقهيا واقتصاديا
  • البداية
  • السابق
  • 464 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86616 / تحميل: 9574
الحجم الحجم الحجم
الربا .. فقهيا واقتصاديا

الربا .. فقهيا واقتصاديا

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

واما المذهب الشافعي: فكذلك يجري ربا النسيئة بوجود احد شطري العلة عند الشافعية وهي الطعام او الثمن، اتحد الجنس او اختلف، فلاتجوز النسيئة في التمر بالتمر، ولا التمر في القمح، ولاتجوز النسيئة في الذهب بالذهب ولا في الذهب بالفضة، ولاتجوز النسيئة في بيع مطعوم كالقمح في الحديد وفي غير المطعوم بغير المطعوم كالجص في الجص او الجص بغيره. وتجوز النسيئة في بيع المثمن بالمثمن مطعوما او غير مطعوم كالارز في الفضة(١) . وكذلك يختلف المذهبان في تطبيقات ربا النسيئة كما اختلفا في تطبيقات ربا الفضل(٢) .

واما المذهب المالكي: فأيضا يتحقق ربا النسيئة عندهم كالشافعية في النقدين وفي التمر بالتمر والتمر بالسكر لانهما طعام للادمي قابلان للاقتيات والادخار.

موارد الاختلاف بين المذاهب

توجد موارد اختلفت فيها المذاهب من ناحية الربا وعدمه لاختلاف المبنى عندهم فمنها: ان بيع النحاس بالنحاس مثلا او الجص بالجص مع التفاضل لايجوز عند الاحناف والحنابله لوجود علة ربا الفضل وهي الكيل او الوزن مع اتحاد الجنس عند الاحناف، وهي الكيل او الوزن عند الحنابلة مع اعتبارهم اتحاد الجنس شرطا، ولكن هذه المعاملات كلها جائزة عند الشافعية والمالكية لانها ليست بربوية لعدم وجود الطعم عند الشافعية ولا الاقتيات والادخار عند المالكية، ولعدم وجود الثمنية عندهما معا.

ولكن اذا بيع البطيخ بالبطيخ او البيض بالبيض نقدا مع التفاضل، فانه لايجوز عند الشافعية لوجود الطعام الذي هو العلة في الربا بينما يجوز ذلك عند الماكية لعدم قابليتهما للاقتيات وللادخار، وكذلك يجوز عند الاحناف والحنابلة لعدم

____________________

(١،٢) نفس المصدر ص١٩١ - ١٩٢ يراجع للتوسع

٦١

القدر(١) .

وفي ربا النسيئة: فان المكيلات والموزونات غير المطعومة وغير الاثمان تحرم فيها النسيئة عند الاحناف والحنابلة لوجود القدر، اما عند الشافعية فانها لاتحرم وكذلك المالكية لعدم الطعم عند الاول والادخار عند الثاني وعلى العكس من ذلك تحرم النسيئة عند المالكية والشافعية فيما هو غير مقدر ولكنه مطعوم قابل للادخار، ولايحرم عند الحنفية والحنابلة لعدم وجود القدر(٢) .

واما مالا يتحقق فيه القدر والطعم او الثمنية او الادخار كالحيوان بالحيوان فانه يجوز بيعه نسيئة عند الشافعية والمالكية لعدم الطعام او الادخار، ولايجوز ذلك عند الاحناف لوجود اتحاد الجنس الذي هو علة كاملة لربا النسيئة. وعلى العكس من ذلك الحديد فانه لايجوز نيسئة عند الاحناف والحنابلة لانه مقدر ويجوز عند الشافعية والمالكية لانه ليس طعاما ولا قابل للاقتيات والادخار.

تنبيه: ان هذه الامثلة التي ذكرت، وذكر اختلاف المذاهب الاربعة فيها من ناحية كونها ربوية ام لا، انما تصح في بعض الاماكن وفي بعض الاوقات، باعتبار ان البطيخ والبيض مثلا عد عندهم غير موزون ولامكيل، بينما يمكن ان يكون مكيلا او موزونا في مكان آخر أو في نفس المكان ولكن في وقت اخر، وحينئذ تختلف الفتوى حسب اختلاف العادة. وكذلك بالنسبة لبعض امثلة مالايمكن ادخاره في وقت، ويمكن ادخاره في وقت اخر كما في زماننا الذي يمكن فيه ادخار اكثر المطعومات كالبيض مثلا فبما

____________________

(١) أي في ذلك الزمان لم يكن البطيخ موزونا وكذلك البيض، اما في زماننا فبما انهما موزونان فيجري فيهما الربا على مسلك الاحناف.

(٢) نظرية الربا المحرم ص١٧٢ - ١٧٤.

٦٢

قابل للادخار بواسطة الالات الكهربائية.

وربما يعترض على هذا الكلام فيقال: بأننا لانعرف كيف كان يباع كل صنف على عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله «فان رجعوا إلى ان يجعلوا لاهل كل بلد عادته حصل في الدين لعبا اذا شاء اهل بلد ان يستحلوا الحرام ردوا كل ما كانوا يبيعونه بكيل إلى الوزن وما كانوا يبيعونه بوزن إلى كيل»(١) .

وهذا الاعتراض وان كان على اصل اعتبار الكيل والوزن الا انه يمكن ان يكون اعتراضا على اختلاف الاوزان والمكاييل من مكان إلى اخر ومن زمان لاخر، ولا أدري كيف يكون هذا اشكالا اذ من يقول باعتبارهما لايفرق بين ان تكون الحنطة او غيرها مكيلة او موزمونة فانها مادة ربوية. نعم لو اعترض بارجاع المكيل إلى المعدود لاخراجه عن الربا فله وجه، ولكن جوابه بان المتبع هو عادة اهل البلد لا ان كل انسان يتبع عمله الشخصي.

ومع هذا كله فان عندها روايات تدل على اعتبار الكيل والوزن عند المتبايعين ففي صحيحة الحلبي «في رجل اشترى من رجل طعاما عدلا بكيل معلوم ثم ان صاحبه قال للمشتري ابتع مني هذا العدل الأخير بغير كيل فان فيه مثل ما في الاخر الذي ابتعته. قال: لا يصلح الا بكيل. قال: وما كان عن طعام سميت فيه كيلا فانه لايصلح مجازفه هذا مما يكره في بيع الطعام»(٢) . وهي ظاهرة في اعتبار المكيال عند المخاطب وفي عرفه وان لم يكن كذلك في عرف الشارع، باعتبار ان الكراهة هنا بمعنى المبغوضية التي تستوجب التحريم. وعلى هذه الرواية - وهي دليل شرعي حجة - لايلتفت إلى كلام المعترض لا اجتهاد - لو صح

____________________

(١) المحلى ٨/٤٨٤.

(٢) المكاسب/ لشيخنا الانصاري١/١٩٠. والصحيحة عبارة عن كون سلسلة السند كلهم من الثقات العدول الامامية، فهي حجة في اعلى مراتب الحجية عند الامامية.

٦٣

تعبيرنا - في مقابل النص.

اذن صح تنبيهنا على ان الامثلة التي ذكرت انما تصح في بعض الاوقات وفي بعض البلدان حسب اختلاف العادة، والمعتبر لثبوت الحكم هو وجود موضوعه عند العرف وعند المتبايعين، فلو انتفى الموضوع فلا يأت الحكم لانتفاء موضوعه، وقد عرفنا ان الموضوع هو كونه موزونا او مكيلا او مدخرا او مطعوما او قوتا او غير ذلك عند العرف وعنود المتبايعين.

القسم الثاني: ربا القرض

وقد اختلفوا في حرمته، واستدل البعض على حرمته بأمور:

١ - القياس، فانهم قاسوه على الربا المنصوص علته.

٢ - حديث سوار: «كل قرض جر نفعا فهو ربا» او «فهو باب من ابواب الربا».

٣ - قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «القرض صدقة» فلا ينبغي لك ان تأخذ من صاحبك منفعة، حيث ان القرض عبادة وصدقة، فحكم الانتفاع عليه كحكم الاستئجار على سائر امور الدين من الافتاء والوعظ... الخ(١) .

والمقصود من ربا القرض هو ان يشترط في القرض نفع للمقرض، اما اذا لم تكن المنفعة مشروطة في القرض بل جاءت تطوعا من المستقرض، فلا بأس بها لانه قرض لم يجر منفعة، ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله «فان خياركم احسنكم قضاءا».

ولكن القياس الذي ذكروه هنا انما نشأ من مشابهة ربا القرض لربا الجاهلية في اخذ المال في مقابل الاجل، وهذه المشابهة سوف نناقشها عند ذكر دليل المشابهة.

____________________

(١) الربا والمعاملات في الاسلام ص٤٥.

٦٤

وأما حديث سوار، فقد نقله علماء العامة عن علي (ع) وقد نقله الامامية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويحتمل ان يكون عن علي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الا ان عليا (ع) لم يصرح به باعتبار ان قوله هو قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فيكون الحديث معتبرا حينئذ(١) . ولكن ذهب بعض من فقهاء العامة إلى ان ربا القرض لم يرد فيه حديث صحيح، والحديث الذي اخرجه صاحب (بلوغ المرام) عن عليعليه‌السلام اسناده ساقط وسوار متروك الحديث(٢) .

واما استدلالهم بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «القرض صدقة» فلا يمكن ان يكون دليلا على حرمة ربا القرض، ويمكن مناقضة ما قيل - من ان القرض عبادة وصدقة فحكم الانتفاع عليه كحكم الاستئجار على سائر امور الدين من الافتاء والوعظ - كبرويا بأن نقول بامكان أخذ الاجرة على اتيان العبادة المستأجر عليها بداعي امتثالها لاعلى نفس الاتيان كي ينافي عباديتها، فيكون اخذ الاجرة - كما افاده في الكفاية - من قبيل الداعي إلى الداعي(٣) وقد افتى بجواز اخذ الاجرة على الواجب الكفائي بهذا النحو السيد الامام الخوئي حفظه الله تعالى(٤) . واما صغرويا فلايمكننا اخذ الاجرة او لنفع على القرض الذي هو عبادة وصدقة لدليل خاص في المقام يأتي عند بحث ربا القرض عند الامامية.

____________________

(١) ولكن هذا الاحتمال غير صحيح لان الامامية يصرحون بان الرواية نبوية، ولو كانت عن الامام علي (ع) لما صرحوا بذلك ولكان لهم بها شأن آخر.

(٢) الربا والمعاملات في الاسلام ص٢١.

(٣) كفاية الاصول/ للاخوند/ ١٩٧.

(٤) المسائل المنتخبة ص٣٥/ مسألة (١٠٢) «الاحوط قصد القربة في التغسيل، فلا يجوز اخذ الاجرة عليه. ولا بأس بأخذ الاجرة على المقدمات، او أن يكوي التغسيل بقصد القربة، ويكون اخذ الاجرة داعيا إلى ذلك».

٦٥

وقد ذكر السنهوري دليلا علىحرمة ربا القرض فقال: لان الزيادة تشبه الربا والتحرز من حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب. ولكن فيما نرىان الشبه بالمحرم لوحده لايسوغ لنا ان نعطي حكم المحرم للشبيه، الا ان يكون الشبه من جميع الجهات وقد رأينا ان الشبه هنا ليس من جميع الجهات فلايكفي هذا لاعطاء الحرمة لربا القرض. على ان التحرز عن شبهة الربا ليس واجبا دائما، اذ قد تكو شبهة الربا في بعض الموارد حكمية فلايجب التحرز عنها.

ثم ان هذا الدليل الذي ذكره السنهوري - فيما ارى - يعود إلى القياس الذي ذكر كدليل على حرمة ربا القرض حيث قاسوه على الربا المنصوص العلة، وهذا القياس الذي ذكروه وكل قياس عندهم له اركان اربعة هي:

١ - الاصل: وهو الجزئي الاول المعلوم ثبوت الحكم له (كربا الجاهلية) في المثال.

٢ - الفرع: وهو الجزئي الثاني المطلوب اثبات الحكم له (كربا القرض) في المثال.

٣ - الجامع: وهو جهة الشبه بين الاصل والفرع كالزيادة على اصل المال في المثال.

٤ - الحكم: وهو المعلوم ثبوته في الاصل والمراد اثباته في الفرع كالحرمة في المثال.

وهذا القياس بأركانه الاربعة الذي يسمى بعرف المناطقة (التمثيل) لايفيد الا الاحتمال لانه لايلزم من تشابه شيئين في امر أو امور ان يتشابها في الحكم ايضا. نعم كلما قويت وجوه الشبه يقوى عندنا الاحتمال حتى يكون ظنا، وهو في هذه الحالة لايخرج عن القيافة التي لاتغني من الحق شيئا.

نعم قد نستفيد ان الجامع (جهة المشابهة) علة تامة لثبوت الحكم في الاصل،

٦٦

وبما ان العلة لايختلف عنها معلولها، فنستنبط على نحو اليقين ان الحكم ثابت في الفرع لوجود علته التامة. ولكن اثبات ان الجامع هو العلة التامة لثبوت الحكم في المسائل الشرعية ليس لنا طريق اليه - كما قلنا سابقا - الا من ناحية الشارع نفسه كما اذا نص الشارع على العلة بنفسه، وحينئذ يخرج عن اسم القياس باصطلاح الفقهاء ويكون حجة. اما في موردنا فلم ينص الشارع على العلة في ربا الجاهلية، فضلا عن معرفة وجودها في ربا القرض، وحينئذ يكون القياس في هذا المورد غير مفيد الا الاحتمال.

وقد استدل بعض الفقهاء على ان القرض المطلق ليس ببيع استنادا إلى حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله «القرض صدقة» ولكن اذا زيد فيه شرط النفع يصير بيعا لانه يفوت كونه تبرعا فيكون الفضل ايضا ربا.

وقد اورد على هذا القول عدة مؤاخذات، ملخصها هي:

اولا: ان القرض لانسلم انه يصدق عليه انه معاوضة ابتداء وانتهاء لانه لاعوض له في الحال.

ثانيا: ان الشرط خلاف مقتضى العقد لان مبنى القرض على التبرع، واذا كان الشرط خلاف ذلك فانه يفسده، ولكن القرض من العقود التي لاتفسد بالشروط الفاسدة، بل الشرط يكون لغوا والعقد صحيحا، واذا بقي القرض على صحته لم يصر بيعا.

ثالثا: ان الفقهاء يصرحون بان النفع المشروط في القرض شبيه بالربا، فلو قلنا باستحالة القرض بشرط النفع إلى البيع - كما عن القائل - لصار النفع ربا حقيقة لاشبيها بالربا.

والى هنا لم يتم دليل عند العامة على حرمة ربا القرض، ولعله لهذا ذهب بعض الفقهاء منهم لكراهية ربا القرض.

وقد ذهب بعضهم للتفريق بين الزيادة الصريحة في القرض ويقصد بها شرط

٦٧

زيادة الشيء الذي اقترض عند الوفاء وبين المنفعة التي يجرها القرض كما اذا شرط رد الاجود مما اخذ عند الوفاء واعتبر الزيادة الصريحة هي التي حرمها النص القرآني وهي ربا الجاهلية التي هي عبارة عن حقيقة الربا وماهيته، واما القرض الذي جر منفعة فهو الذي يحرمه الحديث المروي، وقد تكلف كثيرا لارجاع كلام الفقهاء في هذه المسألة إلى المنفعة بمعناها الضيق لا الزيادة الصريحة(١) .

وهذا الكلام بالاضافة إلى عدم دليل يدل على هذا التمييز، فان الفرق بين ربا الجاهلية وبين الزيادة الصريحة في القرض واضح كما تقدم مرارا، اذ ان الاول لاتكون الزيادة فيه من اول الامر، وانما تكون عند الوفاء في صورة عدم تمكن المفترض من سداد دينه، اما الثاني فالزيادة فيه عند العقد فليس القرض الذي اشترطت فيه الزيادة الصريحة هو مما حرم بالقرآن الكريم حتى يكون الحديث الشريف في معنى آخر. بالاضافة إلى ان الحديث الشريف عام يشمل كل قرض جر نفعا، سواء كان هذا النفع هو زيادة او صفة كاشتراط رد الاجود او كتابة السفتجة(٢) او غير ذلك، فما هو الدليل على جعل فرق بين الزيادة وبين النفع

____________________

(١) نظرية الربا المحرم ص٢٠٦/٢١٣ وكان من الامران يعبر عن المنفعة التي يجرها القرض كما اذا شرط رد الاجود بالمنفعة بمعناها الواسع لا الضيق، ولكنه تسامح بذلك.

(٢) والسفتجة تكون زيادة حكمية باعتبار ان صاحب العين العظيمة الحمل يدفع العين لاجل ان يتسلمها في بلد آخر. فان كان هذا قرضا فهو قد اقرض مالا وانتفع به، اذ رفعت عنه كلفة نقل المال وهو اجرة الطريق، وان كان بيعا فهو مبادلة مال بمال نسيئة. (هذا ما ذكر كدليل لهم على ان السفتجة مبطلة) راجع نظرية الربا المحرم ص ٢١١ -٢١٢.

وكذلك ذكرت رواية عن عمر تنهى عن ذلك. واما نحن: فنرى في كلام القوم اختلافا واضحا في معنى السفتجة، اذ منهم من يفسر السفتجة بالعين العظيمة الحمل، ومنهم من يفسرها بمطلق الحوالة سواء كانت لعين عظيمة الحمل او لورق او ذهب، ونحن لانوافق

٦٨

الذي هو كرد الاجود؟ ولذا نجد ابن حزم يصرح بان القرض يدخل فيه الربا في صورة «اشتراط اكثر مما اقرض اواقل مما اقرض او اجود مما اقرض او أوفى مما اقرض، وهذا مجمع عليه وهو في الاصناف الستة منصوص عليه.... وهو فيما عداها شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل»(١) .

وهذا الكلام وان كنا لانوافق على قسم منه وهو (اشتراط رد الادون او الانقص) اذ الربا المحرم هو اشتراط الزيادة سواء كانت عينية او حكمية، اما اشتراط النقيصه او الادونية فهو ليس ربا فلايكون محرما، وكل الحوالات التي تكون هي من قبيل اشتراط المحول اعطاء انقص مما اخذ، وهو في حقيقته قرض، اذ ان المحول له هو المقرض، والمحول هو المقترض، ويشترط المقترض رد الانقص ولم يقل احد بحرمته من الفقهاء المعروفين. ولكننا على كل حال: نستفيد من كلام ابن حزم عدم الفرق بين شرط الزيادة او شرط رد الاجود وهو المطلوب. وسوف يأتي تفصيل عند البحث عن القرض الربوي عند الامامية ويتضح انه ليس كل شرط في القرض هو المحرم وانما الشرط الذي يجر نفعا للمقرض عرفا هو المحرم فقط.

____________________

على حرمة السفتجة بمعينيها، اما رواية عمر فليست حجة علينا لانها ليست رواية عن النبي «ص».

واما ماذكر فمناقشته هي بان هذه العملية هي قرض الا انه لم يجر منفعة، وانما هو قرض دفع بعض الضرر على المقرض، ودفع الضرر ليس جرا للنفع كما هو واضح، وحينئذ فان لم يصدق النفع لاتكون العملية القرضية محرمة.

(١) المحلى ٨/٤٩٤ ولانوافق ايضا على كلامه القائل بان الشرط الذي ليس في كتاب الله فهو باطل اذ اكثر الشروط التي يشترطها المتعاملون ليست في كتاب الله تعالى مع الحكم بصحتها عند الفقهاء.

٦٩

الفصل الرابع

وهو يشتمل على بحثين مهمين:

الاول: ما ذكر من التخلص الموضوعي للربا، كبيع العينه وبيع الوفاء، وحط وتعجل، والبيع مع السلف. مع مناقشة من يقول بالحرمة.

الثاني: ما ذكر من التخلص الحكمي للربا كبيع العرايا وبيع المصوغ وبيع مادخلته الصنعة بوجه عام وبيع الدراهم والدنانير المسكوكة مع مناقشة ذلك. ثم ختمنا البحث عند العامة بخاتمة مفيدة.

البحث الاول: التخلص من الربا موضوعا

ذكر بعض الفقهاء وجود عقود ظاهرها مشروع الا انها تعتبر ربوية لبعض الوجوه، فمن تلك العقود:

١ -بيع العينة: وهو عبارة عن ان تباع السلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها البائع من المشتري بثمن معجل اقل مما باع به. «وقد قال بحرمة هذا البيع مالك واحمد لانها حيلة لربا النسيئة» وقد احتج لهؤلاء «بحديث عائشة حينما اخبرتها ام محبة بانها كانت لها جارية، فباعتها لزيد ابن ارقم بثمانمائة درهم الىعطائة، وانه اراد بيعها، فابتاعتها منه بستمائة، فقالت عائشة بئسما شريت وبئسما اشتريت فأبلغي زيدا انه قد ابطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الا ان يتوب. فقالت لها: أرأيت ان لم آخذ منه الا رأس مالي؟فقالت: «فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف»(١) .

وقد استدل ابن القيم على تحريم العينة بما روي عن الاوزاعي عن

____________________

(١) نظرية الربا المحرم ص٢٠٣ عن القرطبي ٣/٣٥٩ - ٣٦١.

٧٠

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» ثم قال: «وهذا الحديث وان كان مرسلا فانه صالح للاعتقاد به بالاتفاق... فانه من المعلوم ان العينة عند من يستعملها انما يسميها بيعا، وقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمها إلى المعاملة وصورتها إلى التبايع الذي لاقصد لهما فيه البتة، وانما هو حيلة ومكر وخديعة لله تعالى»(١) .

ولنا ان نقول: لادلالة فيما نقل عن عائشة على الحرمة، لانه فهم خاص لها حجة عليها، وليس هو اثرا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يكون معتبرا، واما الحديث الذي رواه ابن الاوزاعي فلا يستفاد منه تحريم هذه الطريقة التي ذكرناها، بل يفهم منه انه قد يستحل الربا بالبيع ولكن أي بيع يستحل فيه الربا فيكون حراما؟ فهذا غير واضح من الحديث، بالاضافة إلى ارساله كما ذكر، والاعتضاد غير محقق. واما ماذكره ابن القيم من عدم القصد إلى بيع العينة فهي دعوى من دون دليل، اذ القصد امر نفساني يكشف عنه الانشاء من قبل المتعاملين.

وفيما ارى ان صحة هذا البيع مما ينسجم مع القواعد العامة في البيع اذا اخذنا بظاهره ولم يلزم المشتري بالبيع ثانية(٢) كما هو مفروض البحث هنا، فحينئذ لاتوجد شائبة ربا، وذلك لان العقد الاول الذي توفرت فيه كل شروطه - كما هو الفرض - حتى القصد اليه فهو بيع صحيح وكذلك البيع الثاني. فلم يحصل من البيع الاول لوحده ربا، ولا من العقد الثاني كذلك، نعم حصل من مجموع العقدين نتيجة الربا، وهذا لم يكن محرما في اصل الشريعة، نعم

____________________

(١) نيل الاوطار٥/٢٠٦/٢٠٧ عن نظرية الربا ص٢٠٤.

(٢) واما مع الزام (المشترى بالبيع ثانية) في البيع الاول فهنا بحث طويل عند الامامية حول بطلان هذه المعاملة ولكن لا للربا، وتوجد روايات عن الائمةعليهم‌السلام تدل على البطلان يأتي الكلام عنها مفصلا.

٧١

ظاهر النواهي عن المعاملات الربوية متجهة إلى حصول الربا في معاملة واحدة اذا توافرت شروط معينة، ونحن اذا لاحظنا ما وقع في بيع العينة فلم نجد تلك الشروط التي تقدمت متوافرة، فلم يحصل الربا في المعاملة.

واما قول ابن القيم من انهم اتفقوا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد فهو ان كان يريد من حقيقة الربا تحديده شرعا فهو مصادرة على المطلوب، واما قوله انهم لاقصد لهم بالتبايع فهو اول الكلام لان القصد إلى التبايع الاولي موجود وكذلك الثانوي، وانما كانت عندهم غاية من البيعين، ونهي لاتتنافى مع قصد التبايع، ولذلك نشترط كل الشروط المعتبرة فيهما، واما اذا افترضنا عدم وجود قصد إلى التبايع فالعقد باطل من ناحية عدم القصد لامن ناحية حصول الربا. هذا كله مضافا إلى ان الحيلة التي تجري لاجل الهروب من الحرام إلى الحلال لايوجد دليل على تحريمها خصوصا عند العامة الذين هم اول من قال بالحيل(١) .

نعم ربما نفصل في بيع العينة بين بيعين:

الاول: وهو ما تقدم الذي يكون ظاهره عبارة عن بيعين لم يحصل ارتباط شرعي بينهما، حصل منهما نتيجة الربا القرضي، وحينئذ يكون الحكم ماتقدم من عدم دليل على الحرمة لعدم شمول دليل الربا لما هو ظاهر من البيعين.

الثاني: ان يكون البيع الاول مرتبطا بالبيع الثاني، أي لولا البيع الثاني لما حدث البيع الاول، وحينئذ يكون هذان البيعان صورتهما ما تقدم، ولكن روحهما هو القرض الربوي قد توصلا اليه بهذا الثوب من المعاملة، اذ القرض هو تمليك مع الضمان وهو حاصل من المعاملتين، فلايجوز فيه الزيادة لان ادلة حرمة ربا القرض تشمله.

وهذا التصوير الثاني - وان لم يكن مقصودا لمن حرم بيع العينة من ابناء

____________________

(١) وتوجد روايات تحبذ الحيلة التي يهرب بواسطتها الانسان من الحرام إلى الحلال ولكن في ربا البيع لافي ربا القرض سيأتي ذكرها عند بحث الحيل في ربا الامامية.

٧٢

العامة، حيث ان الادلة التي ذكروها لاتربط بين البيعين على نحو لولا البيع الثاني لما حصل البيع الاول كما هو ظاهر من حديث عائشة - فان كان هو المقصود ففيه شائبة ربا باعتباره قرضا قد البس ثوب البيع(١) .

ولكن هذا الدليل على البطلان ينسج مع الفكرة القائلة ان وراء الالفاظ لبا قد قصده المتعاقدان، والاعتبار باللب، واما على المسلك القائل ان الفاظ المعاملات لا واقع لها الا الانشاء لانها امور اعتبارية لاواقع لها الا الانشاء واما ماورائها فهو داعي للمتعاقدين، فيكون عندنا عقدان قد شرط العقد الثاني في العقد الاول، ولاربط للعقد الاول بالقرض كما لاربط للعقد الثاني كذلك، وحينئذ ينبغي بحث المسألة على مقتضى القاعدة اولا ثم بحثها على مستوى الروايات الواردة في المقام، وهذا ما سنبحثه في بيع العينة عند الامامية.

ثم ان من جملة ما استدل به ابناء العامة على حرمة بيع العينة هو مارواه ابن عمر «ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: اذا ظن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا اذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله انزل الله بهم بلاءا فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم»(٢) .

وهذا الحديث لا دلالة فيه على تحريم العينة لانه قد قرن العينة بالاخذ باذناب البقر والاشتغال بالزرع وهو غير محرم، فالسياق لايدل على الحرمة.

ثم انهم قد ذكروا في تسمية هذا العقد بالعينة وجوها) منها ان المشتري يأخذ بدل سلعته عينا أي نقدا حاضرا، ومنها ان البائع يعود اليه عين ماله بعد ان باعه.

____________________

(١) هذا الكلام منا كدليل على البطلان، وتوجد ادلة اخرى على البطلان كالروايات المروية عن اهل البيت (ع) في هذه الصورة يأتي الكلام عنها عند البحث في ربا الامامية.

(٢) نيل الاوطار٥/٣٢٠.

٧٣

٢ - بيع الوفاء:

وهو عبارة عن ان يبيع البائع العين على انه اذا ردّ على المشتري الثمن ردها له، وقد ذكر ان فيه حيلة للربا، لانتفاع المشتري بريع المبيع مدة بقائه في يده، وقد قال بعض الفقهاء بحله لحاجة التخلص من الربا.

وقد ذكر بعضهم ان هذا «من قبيل الرهن لايملكه المشتري، ولاينتفع به الا باذن مالكه وهو (المشتري) ضامن لما اكل من ثمره واتلف من شجره ويسقط الدين بهلاكه»(١) .

ومن العجيب حقا ان يعبر عن هذا انه من قبيل الرهن، مع التصريح بأنه بيع، فالتكلف في هذا القول واضح لمخالفته ظاهر العقد بل وصريحه، ثم مامعنى ان يذكر لفظ (المشتري) اذا قبلنا انه رهن؟!! وكذلك لاينقضي العجب من قولهم ان فيه حيلة للربا لانتفاع المشتري بريع المبيع مدة بقائه في يده، وهل ان بيعا يشترط فيه المشتري خيار الفسخ إلى مدة معينة الا من هذا القبيل؟ ولا ندري لماذا قال بعض الفقهاء بحله لحاجة التخلص من الربا؟ فأي ربا هنا حتى نتخلص منه بهذه المعاملة؟!!.

والحق ان هذه معاملة فيها شرط صحيح لم يخالف كتاب الله وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي عبارة عن بيع شيء مع اشتراط على المشتري بارجاع المبيع اذا ارجع اليه الثمن في مدة معينة او دائما(٢) ، وهذا هو مايسمى بالبيع الخياري، أي ان الخيار في فسخ العقد موجود للبائع عند اراجع الثمن، وبهذا يتمكن المشتري

____________________

(١) نظرية الرباا المحرم ص٢٠٥.

(٢) ذكر المشهور ان عدم ذكر مدة للشرط يحصل الشرط غرريا و الشرط اذا بطل بطل العقد، ولكن الرأي الصحيح اذا قصد الشرط لكونه غرريا فلايبطل العقد.

٧٤

من التصرف بالمبيع لانه ملكه ملكا متزلزلا بالعقد الذي فيه خيار للبائع.

٣ - حط ويعجل:

قد بين ابن رشد صورة هذه المعاملة فقال «يتعجل الدائن في دينه المؤجل عوضا يأخذه وان كان قيمته اقل من دينه»(١) .

واجاز هذه المعاملة ابن عباس، وزفر من الحنفية، ومنعها جمع منهم ابن عمر من الصحابة ومالك وابو حنيفة والثوري. وقد ذكر في سند من لم يجزها انها «شبيهة بالزيادة مع النظرة المجمع على تحريمها، ووجه شبهها بها انه جعل للزمان مقتدرا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا».

وفيما اراه ايضا ان هذه المعاملة منسجمة مع القواعد العامة في البيع بشرط لايكون الجنسان ربويين، لانها تقرر ان للاجل قسطا من الثمن، وهي قاعدة مقبولة رفعنا اليد عنها في قضية الربا حيث ان الشارع المقدس في قضية القرض وفي قضية البيع مع شروط معينة(٢) لم يقبل هذه القاعدة، ولكن في غير هذين الموردين تجري هذه القاعدة على حسب مجراها، وهنا «أي في مورد التعجيل يسقط شيئا من ماله» فهو شيء مقبول، ولم يرد فيه نهي ومنع، ولولا ان النهي وارد في صورة الزيادة في مقابل الاجل لما قلنا بالمنع والبطلان. اذن لاحاجة لصحة هذه المعاملة من ايجاد رواية كما فعل المجيزون بما روي عن ابن عباس ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما امر با خراج بني النضير جاءه ناس منهم، فقالوا يا نبي الله انك امرت باخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١) بداية المجتهد ٢/١٩٨.

(٢) كأن يبيعه منا من الحنطة بمن ونصف نسيئة. واما اذا باعه منا من الحنطة نقدا بمن نسيئة فهنا الاجل له قسط من الثمن على القاعدة فتكون الزيادة حكمية ربوية.

٧٥

«ضعوا وتعجلوا» فلم يكن هذا الحديث مجوزا للمعاملة، وانما القواعد العامة هي القاضية بصحة المعاملة، وهذا شاهد على ذلك.

كما وردت صحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (ع) في الرجل يكون عليه دين إلىاجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول: انقدني من الذي لي كذا وكذا وضع لك بقيته، او يقول: انقدني بعضا وامد لك في الاجل فيما بقي، فقال: لا ارى به بأسا ما لم يزد على رأس ماله شيئا يقول الله عز وجل: فلكم رؤوس اموالكم لاتظلمون ولاتظلمون»(١)

ولكن لنا ان نقول ان عنوان المسألة يختلف عن الدليل الذي ساقه القوم عليها كما يختلف عن الصحيحة التي ذكرناها وذلك: لان المسألة هي في صورة وقوع معاملة الدين المؤجل بعوض، اما دليل القوم فلاينظر إلى وجود معاملة بين الدين وماينقد حالا، اذ يقول «ضعوا وتعجلوا» وهذا ليس معاملة واما هو عبارة عن وفاء المدين بعض دينه مع ابراء ذمته من الزائد وكذلك الصحيحة التي سقناها اذ تقول «انقدني من الذي لي كذا وكذا واضع لك بقيته»، وعلى هذا فمدلول الروايتين هو صحة هذه العملية حتى اذا كان مافي الذمة وما يأخذه الدائن هو من جنس واحد لانه، عبارة عن اخذ شيء من الدين قبل الاجل وابراء المدين من الباقي وهو لا بأس به قطعا.

٤ - البيع مع السلف(٢) او الصفقتان في صفقة:

وقد ذكر له عدة معاني، ومن جملة ماذكر من المعاني هو ما ذكره سماك «هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسأ «اي بنسيئة» بكذا وهو بنقد بكذا وكذا»

____________________

(١) وسائل الشيعة ج١٣، باب (٢٢) من ابواب الدين ص١٢٠ حديث(١).

(٢) السلف هو القرض في لغة اهل الحجاز.

٧٦

وقد رويت عدة روايات تنهي عن بيع وسلف وعن شرطين في بيع، وفي حديث اخر عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من باع بيعتين في بيعة فله اوكسهما او الربا» وفي لفظ اخر نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيعتين في بيعة، وفي لفظ حديث اخر نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن صفقتين في صفقة، وعن ابن حبان موقوفا(١) « الصفقة في الصفقتين ربا»، وقد روي عن عبد الله بن عمر ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عتاب بن اسيد إلى مكة وقال «انههم عن شرطين في بيع وعن بيع وسلف، وعن بيع مالم يقبض وعن ربح مالم يضمن»(٢) .

وقد ذكرت لهذه الاحاديث - كما قلنا - معاني مختلفة، فمنها ماذكره سماك «هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسا (اي بنسيئة) بكذا وهو بنقد بكذا وكذا» وحينئذ اذا كان هذا هو معنى الاحاديث فانها تبطل المعاملة لا للربا كما هو ظاهر من اكثر الاحاديث. نعم رواية ابي هريرة التي ليست حجة عندنا - لما ذكره اصحاب الرجال فيه - ورواية ابن حبان الموقوفة التي ليست بحجة عند الجميع تذكر ان المعاملة ربوبية وباستثناء هذين الراويتين، فالنهي الذي جاء في المعاملة لم تكن فيه لفظة الربا.

ولعل بطلان هذه المعاملات من ناحية فقدانها شرطا من شروط صحة البيع وهو تعيين الثمن، فانه هنا مردد وغير معين، بالاضافة إلى ان البائع لم يقصد ثمنا معينا. هذا كله اذا أنشأ البائع البيع على هذه الصورة، واما اذا لم ينشأ البيع على هذه الصورة، وانما اتفقا على البيع النقدي بالثمن الاقل، او اتفقا على البيع النسيء بالثمن الاكثر ثم بعد ذلك أنشأ البيع مع القصد إلى ثمن

____________________

(١) الموقوف عبارة عن اسقاط الراوي الذي بعده، ويصح ايضا اذا لم يذكر المروي عنه من هو.

(٢) هذه الروايات كلها عن كتاب نظرية الربا المحرم ص٢١٣ - ٢١٥.

٧٧

معين، فان البيع هنا صحيح ولاشائبة للربا اصلا، لان الثمن في مقابل المثمن وان كان الثمن اكثر من قيمة المثمن، فان هذا ليس بربا كما هو واضح.

ثم انه يمكننا ان نذكر معاني اخرى للبيع مع السلف على سبيل الاحتمال وهي:

١ - ان يبيع منه شيئا ليقرضه، او يؤجله في الثمن ليعطيه على ذلك ربحا.

٢ - ان يبيعه اما حالا او سلفا بمائة من دون تعيين احدهما.

٣ - ان اشتري سلفا، وحيئذ لايجوز لي ان ابيع المثمن الذي لم اقبضه.

ولكن المعنى الثالث ساقط اطلاقه، لان البيع على البائع جائز بالتولية وبغيرها بشرط ان لايكون ربا، اما على غير البائع فهو الذي لايجوز الا تولية، وحينئذ يكون اطلاق منع البيع غير صحيح، ويكون المعنى هو المنع من الشراء سلفا وبيعه على غير البائع قبل القبض بغير التولية.

واما المعنى الثاني فهو على خلاف لغة اهل الحجاز الذي يسمون السلف قرضا، ويكون البيع باطلا لعدم تعيين ان البيع نقدا او سلفا. واما المعنى الاول: فان كان شرطا في ضمن عقد، فيجب ان ننظر إلى هذا الشرط، فان كان مخالفا لكتاب الله او لسنة رسوله فهو حرام والا فلا بأس به لانه شرط في ضمن العقد، وليس هذا من القرض الذي جر نفعا، بل و من البيع الذي جر قرضا او نفعا وهو لابأس به. نعم لو كان اعطاء الربح على مجرد التأجيل فهو ربا او بحكم الربا كما دلت عليه روايات أتقضي ام تربي، ولكن الربح في البيع لاجل التأجيل.

اما البيعتين في بيعة: فقد ذكرت لها معاني مخالفة لما تقدم وهي:

١ - فقد فسرها الشافعي على نحوين:

أ - ان يقول بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا.

٧٨

ب - ان يقول بعتك هذا العبد مثلابالف على ان تبيعني او فلان (اي يبيعني فلان) الدار بكذا، او يقول: أبيعك داري هذه بكذا على ان تبيعني غلامك بكذا فاذا وجب لي غلامك وجبت لك داري(١) .

٢ - ان يسلفه دينارا في قفيز حنطة إلى شهر، فلما حل الاجل وطالبه بالحنطة قال بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة، لان البيع الثاني قد دخل على الاول فيرد اليه اوكسهما وهو الاول(٢) .

فأما التفسير الاول للشافعي فهو المعنى الذي ذكر للبيعتين في بيعة، وقد قلنا فيه ان البيع باطل لتردد الثمن عند العقد، بل لم يحصل قصد إلى احدهم بالخصوص. ولكن التفسير الثاني للشافعي فهو لايبطل المعاملة لانه من قبيل الالتزام في الالتزام ويشمله قوله (ع) «المؤمنون عند شروطهم» او «المسلمون عند شروطهم».

واما المعنى الثاني: فهو وان كان من قبيل بيع مالم يقبض الا ان بيعه على البائع لابأس به كما تقدم، فلايصح ان يكون البيعتين في بيعة المنهي عنه معناها هو هذا، اذن يتعين ان يكون معناها هو ما ذكرناه سابقا.

تنبيهان:

الاول: ان الحرمة التي اطلقت على بيع العينة، والوفاء، وحط وتعجل، والبيع مع السلف من قبل بعض العامة، مع عدم ذكر دليل يعتد به على الحرمة، لاينسجم مع تحليل ربا الفضل بحجج مختلفة وهو الذي فيه دليل واضح على الحرمة، وليتهم قالوا بحرمة ماكان فيه دليل واضح ولم يقولوا بحرمة ماليس فيه

____________________

(١) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج/ للرملي ٣/٤٣٣ وما بعدها. وفتح القدير ٥/٢١٨.

(٢) نظرية الربا المحرم ص٢١٤ هامش (٣).

٧٩

دليل او مشكوك الدليلية حتى يكون قولهم منسجما مع القواعد الاصولية للاستنباط. ومن جملة من قال بحرمة العينة بلا ان يكون له دليل واضح هو ابن القيم، بينما احل ربا الفضل لانه قد حرم حسب مدعاه من باب سد الذريعة.

الثاني: وقد تعرض الامامية لهذا البحث وخلاصة ماذكر فيه هو ان الروايات في صورة بيع الشيء نقدا بكذا ونسيئة بكذا متعارضة، فبعضها تعجل هذا البيع الذي عبرت عنه الروايات «شرطين في بيع» باطلا كما في موثقة عمار(١) عن ابي عبد الله (ع) في حديث «ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث رجلا إلى اهل مكة وامره ان ينهاهم عن شرطين في بيع»، وبعض الروايات تصحح هذا البيع بأقل الثمنين إلى ابعد الاجلين كصحيحة(٢) محمد بن قيس البجلي عن ابي جعفر (ع) قال: قال امير المؤمنين (ع) من باع سلعة فقال ان ثمنها كذا وكذا يدا بيد، وثمنها كذا وكذانظرة، فخذها بأي ثمن شئت واجعل صفقتها واحدة فليس له الا اقلهما وان كانت نظرة، وفي مضمون هذه الروايات موثقة السكوني(٣) .

ثم انه بعد تحكم المعارضة بين الروايات، ذهب السيد المرتضى في الناصريات بواسطة الجمع بين الروايات إلى حمل الروايات الناهية على الكراهة حيث ان الروايات المجوزة تقول ان البيع مشروع «خذها». ولكن هذا الجمع لايمكن المساعدة عليه حيث ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ارسل إلى اهل مكة ينهاهم عن شرطين في بيع، فهذا الاهتمام من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يدل على ان النهي غير قابل للحمل على الكراهة.

وذهب بعض: إلى ان الروايات المجوزة هي في صورة كون البيع قد انشأ حالا، بان باعه بدينار كلي في الذمة، فان قال ونسيئة بكذا فمعناه امهلك سنة

____________________

(١ و٢و٣) الوسائل ١٢/ ٣٦٧ رواية (٣،١،٢) باب (٢) من ابواب احكام العقود.

٨٠

على ان تعطي دينارين، فتكون الزيادة في مقابل الاجل (وهو فاسد وحرام) لانه داخل في الربا حكما او موضوعا كما دلت عليه الروايات، وحينئذ الروايات المانعة تقول لايعمل هذا العمل فانه حرام، واما الروايات المجوزة فهي تقول اذا عمل هذا العمل فيثبت اقل الثمنين لابعد الاجلين (اي التمليك لاجل الزيادة باطل، اما البيع الاول الحال فهو صحيح).

وقال بعض: ان الروايات المجوزة كصحيحة محمد بن قيس وموثقة السكوني ناظرة إلى صورة تلف المبيع الذي بيع بيعين (نقدا ونسيئة) فان البيع فاسد وقد اعطى البائع إلى المشتري المبيع وقد تلف بيده، فيكون المشتري ضامنا، وحينئذ ماذا يعطي المشتري إلى البائع؟ الجواب هو: يعطي المشتري اقل الثمنين، لان الملاك في باب الضمان في القيميات هو قيمة يوم الضمان وهو الثمن الاقل ولو كان في ابعد الاجلين.

ولكن نقول: الجمعان (الثاني والثالث) لايمكن المساعدة عليهما لعدم وجود شاهد عليهما، فهما تبرعان. نعم لو كانت رواية ابي هريرة او الموقوفة المتقدمة في اول البحث معتبرة لكان شاهد جمع فيكون الجمع الثاني معتبرا، ولكن الروايتين كما ترى.

وهناك جمع. رابع: ذهب اليه السيد(١) اليزدي فقال ان الروايات المانعة مطلقة لما نهي عنه ولغيره وهو ما اذا قال بعت هذا المال إلى شهر بألف والى سنة بألفين والمشتري يقول قبلت. ولكن الروايات المجوزة التي تقول يثبت البيع بأقل الثمنين مؤجلا، هي في مورد واحد وهو بعته نقدا بكذا ونسيئة بكذا.

ولكن هذا الجمع ايضا غير صحيح لعدم الفرق بين الصورتين (الى شهر

____________________

(١) تعليقة السيد اليزدي (قده) على المكاسب ٢/١٧٧.

٨١

بكذا والى سنة بكذا) (ونقدا بكذا ونسيئة بكذا) على ان الروايات التي تنهي عن شرطين في بيع يكون القدر المتيقن منها هو (النقد والنسيئة) بالاضافة إلى ان الروايات المجوزة مطلقا لما اذا باع إلى شهر بكذا والى سنة بكذا ولا جمع عرفي بينهما.

البحث الثاني: الخروج من الربا حكما

وقد ذكر الفقهاء جملة من الموارد تكون خارجة عن حكم الربا وهي:

١ - بيع العرايا:

يقول ابن القيم «واما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو اليه الحاجة كالعرايا، فان ماحرم سدا للذريعة اخف مما حرم تحريم المقاصد، ثم يقول «أن تحريم ربا الفضل انما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سدا للذريعة ابيح للمصلحة الراجحة كما ابيحت العرايا من ربا الفضل»(١) .

ومن الجدير بالذكر التنويه إلى ان فقهاء العامة غير متفقين تماما على حكم بيع العرايا، بل وعلى تحديد موضوعها، فقد قال مالك بالجواز «وقال الشافعي يجوز بيع العرايا وهو بيع التمر على رؤوس النخل خرصا بمثله من التمر كيلا، ويجوز فيما دون خمسة(٢) اوسق قولا واحدا وفي خمسة اوسق على قولين، وفيما زاد على خمسة اوسق لايجوز، واختلف قوله فقال في الام الغني والفقير

____________________

(١) اعلام الموقعين ٢/١٤٠ و١٤٢.

(٢) الوسق ستون صاعا، والصاع تسعة ارطال بالعراقي، فيكون خمسة اوسق تساوى الفين وسبعمائة رطل بالعراقي، وبالمعيار المعمول في هذا العصر على ما حسبوه تساوي ثمانمائة وسبعة واربعين كيلوغراما.

٨٢

والمحتاج سواء، وقال في اختلاف الاحاديث والاملاء ولاتجوز الا للفقير وهو اختيار المزني. وقال ابو حنيفة لايجوز ذلك في القليل والكثير وهو ربا»(١) . واحتج له مقلدوه بماصح من طريق عمر «نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المزابنة، المزابنة ان يباع ما في رؤوس النخل من ثمر بتمر مسمى بكيل ان زاد فلي وان نقص فعلي»(٢) وغيرها.

ونحن نقول: انه لاحاجة لهم في ذلك، اذ ان المزابنة التي ذكر النهي عنها لاينكرها احد من العامة، واما الكلام في حلية العرايا التي نقلت بالتواتر عندهم، والعجب من ابي حنيفة تحريمه بيع العرية الذي جاء به نص بالجواز كما سيأتي، وتحليله مالم يرد فيه نص من بيع الجوز على رؤوس اشجاره بالجوز المجموع(٣) .

واما النصوص التي يستند اليها في حلية العرايا فكثيرة منها ماروي من طريق «ابن أبي شيبة عن ابن المبارك عن عثمان بن حكيم عن عطاء عن ابن عباس قال: الثمر بالتمر على رؤوس النخل مكايلة ان كان بينهما دينار او عشرة دراهم فلا بأس به، وهذا خبر صحيح»(٤) «وروينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رخص لصاحب العرية ان يبيعها بخرصها من التمر»(٥) . وعن الشافعي «العرية ان يأتي أوان الرطب وهناك قوم فقراء لا مال لهم، ويريدون ابتياع رطب يأكلونه مع الناس ولهم فضول تمر من اقواتهم فأبيح لهم ان يشتروا الرطب بخرصها من التمر فيما دون خمسة او أوسق نقدا»(٦) .

ومن مجموع هذه الاقوال التي تقدمت، نشاهد عدم الاتفاق على معنى محدد

____________________

(١) الخلاف ١/٢٠٩ طبعة طهران.

(٢) المحلى ٨/٤٥٩ طبعة بيروت.

(٣،٤، ٥،٦) نفس المصدر المتقدم ٤٠ - ٤٦١ - ٤٦٤ - ٤٦٢.

٨٣

للعرية، بل للمزابنة عند ابناء العامة، فقد ذكر قسم منهم كما ذكرت الروايات بأن العرية هي عبارة عن بيع الرطب على النخلة بتمر منها، ولكن ذكر الشافعي معنى اخر للعرية لانعلم ما هو دليله عليه، فقد ذكر ان معناها هو شراء الرطب الذي على النخلة بتمر على الارض.

وفيما نرى ان المزابنة هي الاصل في التحريم، ومعناها ما تقدم ذكره في الروايات، واما العرية فهي الاستثناء الذي حلل وهي مخصوصة بالنخلة او النخلتين او فيما دون خمسة اوسق كما ذكرت ذلك الروايات. وبعبارة اوضح ان التعارض الذي نشأ من تحريم بيع المزابنة وتحليل بيع العرايا مرفوع بنفس الفاظ الاحاديث حيث ان النهي عن بيع المزابنة عام يشمل كل رطب على النخلة اذا بيع بالتمر اما الجواز في العرايا فهو مخصوص ببيع الرطب على النخلة او النخلتين، اذا اراد من لامال له شراءه او اذا اراد الضعيف شراءه فقد جوز الشارع له الشراء فيما دون خمسة اوسق بتمر منها، فيكون العام مرادا به غير هذه الصورة، وهذا جمع عرفي، وبهذا نعرف ان المزابنة هو بيع الثمر على النخل بتمر منها(١) .

ويتبين مما تقدم ان جواز التفاضل بين الرطب والتمر في بيع العرايا انما هو للنص الذي ورد عندهم كالمتواتر لا للحاجة كما قال ابن القيم، فان الحاجة اذا قال بها نص اخذنا بها والا فلا، ولسنا بحاجة إلى دليل يدل على حرمة كثير من الحاجات عند الناس. على ان الحاجة التي قيل بها غير محدودة وغير معلومة. نعم اذا كانت الحاجة بمعنى الضرورة التي تبيح اكل الميتة وشرب الدم، فانها لاتختص في العرايا، بل تسري في جميع الافعال المحرمة، ولكننا نقطع بعدم ارادة الضرورة من الحاجة هنا، اذ يمكن ان تؤدي هذه الحاجة ببيع التمر بغير التمر والرطب، ثم يشتري بالثمن رطبا. وهذا وان كانت فيه كلفة كما في كل شيء يريد الانسان تحقيقة الا انه لم

____________________

(١) وسيأتي تفصيل ذلك في البحث عن المزابنة والعرايا عند الامامية.

٨٤

يصل إلى مرحلة الضرورة التي تبيح المحظور.

كما اننا الان لسنا بصدد التحقيق في علة المنع من بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر منها، والا لاثبتنا ان العلة ليست هي الربا، وانما هي اتحاد الثمن والمثمن كما سيأتي تحقيقه عند بحث الربا عند الامامية.

٢ - بيع المصوغ:

وقد ذكر العامة ان الحاجة تدعو إلى اباحة التفاضل، فيجوز بيع الصياغة المباحة كخاتم الفضة، وحلية النساء بفضة او ذهب من مثلها متفاضلا، والفضل في نظير الصياغة. ويقول ابن القيم «ان كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما ابيع من حلية النساء وغيرها، فالعاقل لايبيع هذه بوزنها من جنسها، فانه سفه واضاعة للصنعة. والشارع احكم من ان يلزم الامة بذلك، فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس عليه، فلم يبق الا ان يقال لايجوز بيعها بجنسها البتة، بل بيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة»(١) .

وبعد ان ذكر السنهوري كلام ابن القيم في الجواز قال «وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، واين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه. فلم يبق الا جواز بيعه كما تباع السلع... »(٢) .

ولاندري لماذا لم يقل ابن القيم ان العاقل لايبيع الحنطة الرديئة بالحنطة الجيدة من دون تفاضل، فانة سفه واضاعة للجودة. والشارع احكم من ان يلزم الامة بذلك، فالشريعة لا تأتي به ولاتأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس اليه...

____________________

(١) اعلام الموقفين ٢/١٤٠ - ١٤١.

(٢) مصادر الحق ٣/٢١٢.

٨٥

الخ، فان منهجه الذي سلكه يلزمه ان يقول هذا ايضا، ولايحدث أي شيء زائد على مافعله هنا، اذ كل ما فعله هنا مخالفة النص الصريح. فلتكن مخالفة النص في موردين، احدهما هنا والاخر في بيع الحنطة الرديئة بالحنطة الجيدة متفاضلا.

ثم اننا لانرى توجيها لهذا المسلك من اباحة بيع المصوغ بجنسه متفاضلا الا ان يقصد من الحاجة الضرورة التي تبيح المحظور، والا كيف يفتي بالجواز مع وجود نصوص صريحة في حرمة هذه المعاملة يرويها ابناء العامة انفسهم؟! فقد اخرج مسلم وغيره القصة التي وقعت بين عبادة ومعاوية عن ابي الاشعث انه قال «غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة فكان مما غنما آنية من فضة فأمر معاوية رجلا ببيعها في اعطيات الناس، فتنازع الناس في ذلك، فبلغ عبادة ابن الصامت ذلك فقام فقال: اني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبربالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح الا سواء بسواء عينا بعين ومن زاد او ازداد فقد اربى، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: الامابال رجال يتحدثون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله احاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فاعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وان كره معاوية - او قال وان رغم - ما ابالي الا اصحبه في جنده في ليلة سوداء»(١) قال حماد هذا او نحوه.

وعن عطا بن بشار: ان معاوية بن ابي سفيان باع سقاية من ذهب او ورق باكثر من وزنها، فقال ابو الدرداء: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينهى عن مثل

____________________

(١) تفسير القرطبي ٣/٣٤٩ - ٣٥٠ ونظرية الربا المحرم ص١٠٢.

٨٦

هذا الامثلا بمثل، فقال له معاوية: ما ارى بمثل هذا بأسا. فقال ابو الدرداء من يعذرني عن معاوية؟ انا اخبره عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يخبرني عن رأيه لا اساكنك بأرض كنت بها، ثم قدم ابو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية ان لاتبع ذلك الا مثلا بمثل ووزنا بوزن»(١) .

ومن هذه المحاورات نفهم ان النهي الذي ورد على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مطلق شامل لمنع بيع الذهب بالذهب مع التفاضل سواء كان احدهما عمله حلالا او حراما، فلا وجه للتفصيل الذي ذكره ابن القيم(٢) بين المصوغ اذا كان حلالا فيجوز بيعه بجنسه متفاضلا وبين المصوغ اذا كان حراما فلايجوز، والا لاحتج معاوية بهذا.

ثم بالنظر إلى هذه الروايات، فان كان المقصود من الحاجة التي تبيح هذه المعاملة هي الضرورة، فلا ضرورة هنا، اذ يمكنه ان يبيع المصوغ بشيء من غير جنسه، ثم يشتري بذلك الشيء ذهبا او فضة. نعم نحن لاننكر ان يكون في هذا العمل كلفة، الا انها لاتصل إلى مرحلة الضرورة التي تبيح المحرمات.

ومع غض النظر عن هذه الروايات المصرحة بعدم الجواز، فانه يكفينا عمومات النهي عن الربا للردع عن هذه المعاملة، اذ ان الاصل في المعاملات الربوية هو الحرمة، فاذا شككنا ان هذه المعاملة الربوية هل جوزها الشارع عند الحاجة؟ فالاصل هو التحريم.

وفيما ارى ان النهج الذي سلكه ابن القيم والسنهوري مع وجود هذه الروايات واعراضهم عنها هو امتداد للنهج الذي كان موجودا سابقا عند البعض واعرضوا

____________________

(١) جامع الاصول ١/٤٦٨.

(٢) اعلام الموقعين ٢/١٤٠.

٨٧

عنه، وهو النهج القائل باخضاع الاحكام الشرعية إلى عقل الانسان، فما وافق العقل اخذبه وماخالفه طرح كما فعل ذلك ابليس حيث اخضع حكم الله بالسجود لادم إلى عقله فرآه مخالفا له حيث انه خلق من نار وان ادم خلق من طين، فكيف يسجد له؟.

وهذا هو احد معاني القياس التي نودي بها كحجة على الحكم الشرعي، ولذا جاء في الرواية ان اول من قاس برأيه ابليس، وان السنة اذا قيست محق الدين، فكأن ابن القيم والسنهوري اخضعا الراويات لعقلهما فرأيا انها مخالفة للعقل فطرحاها وقالا بحلية بيع المصوغ من الذهب بالذهب متفاضلا كما تقدم. ولكن ننبه إلى ان هذا المعنى من القياس اعرضوا عنه وقالوا بالقياس المتعارف عندهم اليوم كحجة على الحكم الشرعي(١) .

ولعل السنهوري يقصد الاستدلال به حيث يريد قياس حاجة بيع المصوغ على حاجة بيع العرايا، وهو انما يصار اليه - على مسلكهم - في صورة عدم وجود نص في المورد، بالاضافة إلى ان القياس الذي يريد الاستدلال به غير تام، اذ ان الاصل الذي يريد ان يسري الحكم منه إلى الفرع هو مورد الكلام، اذ من قال ان بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب حتى تكون الحاجة إلى بيع المصوغ مثلها حكما؟! ولكن الظاهر من كلام السنهوري انه يريد الاستدلال بقياس الاولوية حيث يقول «واين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق الاجواز بيعه كما تباع السلع...».

وهو لايتم ايضا على مسلك من لم يعمل بالعلة الا اذا كانت منصوصة من قبل الشارع، لان اباحة بيع «الرطب بالتمر» العرايا لم تذكر علته من قبل الشارع المقدس، واما فقهاء العامة الذين يكتفون بالعلة المستنبطة فيتم القياس

____________________

(١) للتوسع يراجع كتاب الاصول العامة للفقه المقارن ص٣٠١ - ٣٠٧.

٨٨

عندهم، ولذا فقد ذكروا له عللا كدفع مشقة الانتظار إلى ان يصبح الرطب تمرا، او من اجل طعام الاولاد رطبا او غير ذلك» الا ان هذه العلل لاتخرج عن كونها محتملة فلايمكن الاعتماد عليها.

وحينئذ لايمكن اجراء قياس الاولوية لعدم احراز علة التجويز في بيع المصوغ على مسلكنا. هذا بالاضافة إلى امكان بيع المصوغ باكثر من قيمته، فيحصل على ثمن الهيئة التي بذل في مقابلها عمل ولكن لابالطريقة الربوية، وانما ببيع المصوغ بالتمر، ثم يشتري بالتمر الذهب الذي اراده في مقابل المصوغ فلا يصح حصر السنهوري «فلم يبق الاجواز بيعه كما تباع السلع». هذه هي اهم الاشكالات علىكلام السنهوري وقد اعرضنا عن اشكالات اخرى كفساد بعض المقدمات في كلامه.

٣ - بيع مادخلته الصنعة بوجه عام:

وقد اجيز هذا قياسا على جواز بيع المصوغ بجنسه متفاضلا متى اقامت الحاجة إلى ذلك. وملخص كلامهم هو ان الصنعة اذا دخلت على شيء تخرجه من جنسه كما عن ابي حنيفة، وقال الشافعي لاتخرجه عن جنسه (فالصنعة لها قيمة كما يقول ابن القيم، فلاتضيع على صاحبها)(١) .

ويرد على هذا الكلام ماتقدم من انهم يقولون بجاوزه عند الحاجة او قياسا أي انه ربا موضوعا الا انه لايشمله حكم الربا للحاجة مثلا، بينما نرى دليل ابي حنيفة يحاول اخراج هذه المعاملة عن الربا موضوعا. واما الشافعي فهو لايخرجه عن الربا موضوعا.

واما السنهوري فهو يقول شيئا لايلزم منه الحكم بالحلية والجواز، اذ يقول

____________________

(١) مصادر الحق/ السنهوري٣/٢١٥.

٨٩

«ان الصنعة لها قيمة، فلا تضيع على صاحبها» وهذا لايلزم منه الكم بحلية مادخلته الصنعة بجنسه متفاضلا، اذ يمكن قبول كلام السنهوري مع تحريم هذه المعاملة للنصوص الشرعية، وحينئذ نبيع ما دخلته الصنعة بغير جنسه، ثم نشتري بهذا الجنس الجديد مقدار الجنس الذي كنا نريده في مقابل الجنس الذي دخلته الصنعة، وبهذا نكون قد عملنا بالنصوص وبقولنا ان الصنعة لها قيمة فلاتفوت على صاحبها. هذا بالاضافة إلى عدم قبولنا الحكم في الاصل (وهو جواز بيع المصوغ) فعدم قبولنا له في الفرع بالاولوية.

٤ - بيع الدراهم والدنانير المسكوكة:

قال بعضهم ما ملخصه، انه يجوز ان يشتري التاجر الدراهم والدنانير المسكوكة بالورق مع التفاضل، والفاضل اجرة السكة، ولايكلف الانتظار إلى ان يسك له ورقة فيفوته السوق، وهذه حاجة قد قامت تبرر التفاضل في بيع الدراهم المسكوكة حتى لاتفوت مصلحة راجحة. وهذا ايضا كسابقيه، بالاضافة إلى ان النهي الوارد عن بيع الذهب بالذهب وعن الفضة بالفضة مطلق يشمل هذه المعاملة، خصوصا مع ادعاء العامة بانه ربا اجيز عند الحاجة، بخلا ما اذا قلنا انه خارج عن الربا موضوعا، فلا تشمله روايات النهي.

الخاتمة:

وبعد ان تكلمنا عن الربا عند العامة بفصوله الاربعة المتقدمة، ورأينا وجود تيار يحاول تحليل الربا، وتخصيصه حرمته بالربا الجاهلي فقط، كما رأينا ما يروى عن عمر «ان آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة» (لقد خفت ان نكون قد زدنا

٩٠

في الربا عشرة اضعافه بمخافته) او يقول «تركنا تسعة اعشار الحلال مخافة الربا»(١) .

ولاادري كيف يترك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله امته في حيرة من امرها بالنسبة إلى احكام الله تعالى، ولم يبين لها حكم الربا؟! فان هذا امر لايستقيم لمثل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الا ان يكون قد عهد لفرد من افراد الامة بموجب نص الهي يبين الاحكام التي بقيت من دون بيان كما يقول عمر «وددت لو ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عهد الينا فيهن عهدا ينتهي اليه، الجد والكلالة وابواب من الربا» وان لم يكن قد عهد«وهو المعصوم» فلايمكن ان يترك الربا من دون بيان احكامه كاملة. وبما ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد مات ولم يبين لنا احكام الربا وكذلك الجد والكلالة كما يقول عمر فلابد من عهد عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فرد منصوص عليه من السماء لانهصلى‌الله‌عليه‌وآله «لاينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى». وهذا دليل اخر نضيفه إلى الادلة الكثيرة على النص الالهي للخلافة اذا قبلنا كلام عمر.

واذا لم نرتض هذا القول فمعنى ذلك ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد ترك امته من دون بيان لبعض احكامها، وهذا لايمكن ان ينسب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «الذي اكمل الدين ورضي الاسلام دينا للبشرية» فضلا عن صدوره منه. ولو قدمنا ما قدمه الله بالنص، واخرنا ما أخره الله لما اصبحنا كما يقول عمر «انا والله لاندري لعلنا نأمركم بامور لاتصلح لكم، ولعلنا ننهاكم عن امور تصلح لكم».

هذا، ولكن القول بأن اخر ما نزل من القرآن هو آية الربا، غير صحيح كما ذكر ذلك ابن ابي كعب وسعيد بن جبير والحسن وقتادة بأن آخر آية نزلت من القرآن ولم ينزل بعدها شيء هي آية (فان تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو

____________________

(١) المحلى ٨/٤٧٧.

٩١

عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)(١) .

ثم اننا والعامة الذين يدعون رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من دون بيان احكام الربا كاملة، لابد لنا - طلبا للحق - ان نرجع إلى من يدعي بأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عهد بالنص إلى من يخلفه لنرى تحديد الربا وحكمه عندهم، فان كان دليلهم يمكن الاعتماد عليه اخذنا به، والاّ فلا يمكننا الرجوع اليه ايضا.

والى هنا انتهى الحديث عن الربا عند العامة، وسوف نبحث الربا عند الامامية ان شاء الله تعالى.

____________________

(١) التبيان/للشيخ الطوسي١/٨٦٩.

٩٢

الباب الثاني : الربا عند الإمامية

وسوف نتكلم في هذا الباب عن فصول أربعة مع مقدمة تمهيدية، وهي:

الفصل الاول: يشتمل على الربا في المعاوضات، ونتعرض فيه الى الصرف بما يتصل بالمقام.

الفصل الثاني: نتكلم فيه عن الربا في القرض.

الفصل الثالث: نتكلم فيه عن الخروج الموضوعي والحكمي للربا.

الفصل الرابع: نتكلم فيه عن مسائل متفرقة مرتبطة بالبحث.

٩٣

تمهيد

ولابأس لنا بذكر مقدمة تمهيدية قبل الدخول في بحث الربا المعاوضي والقرضي، لنكون على بينة من بعض الامور، وهي:

١- ان الآيات القرآنية التي تقدم ذكرها «في الفصل الاول من الربا عند العامة» هي تعتبر كقانون عام عرضه الشارع حول نظرته عن الربا: فبين تحريمه وقبحه، وهدد مرتكبيه باشد التهديد والوعيد، اذن كل ما صدق عليه عنوان الربا فهو حرام على نحو القضية الحقيقية. نعم تعرضت السنة النبوية والولوية للتوسع تارة وللتضييق اخرى، وحينئذ يكون المراد الجدي من الربا شاملا لما تكفلت السنة ببيانه، وتوضيح ذلك: ان الآيات القرآنية مطلقة في تحريم الربا(١)

____________________

(١) قد يقال ان المراد من «أحل الله البيع وحرم الربا» هو الحلية الوضعية والحرمة التي هي حرمة تملك الزيادة التي هي ربا، فهي ناظرة الى ان تملك الزيادة فاسد كما في قوله تعالى (لاتأكلوا اموالكم بينكم بالباطل).

واما الحرمة التكليفية لانشاء المعاملة الربوية فهي مستفادة من قوله تعالى (وذروا ما بقي من الربا ان

كنتم مؤمنين فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)اذ الاذن بالمحاربة مع الله والرسول يدل على ان غير المتجنب من الربا قد فعل فعلا حراما اوجب الاذن بالمحاربة، لافقط فساد تملك الزيادة. ولكن يرد عليه: اولا ان ظاهر التحريم هو التكليفي كما في قوله تعالى (قل لا اجد فيما اوحى الى محرما على طاعة يطعمه.. )، فان اسناد التحريم الى الفعل ظاهر في التكليف، نعم نسبة الحرمة الى الاعيان قيل انها مجملة ك-«حرمت عليكم امهاتكم».

واما قوله «لاتأكلوا» فهي ايضا تكليف وان كان يلزم منه الوضع والفساد ايضا، وعلى تقديم التسليم فلايقاس «لاتأكلوا» الذي هو نهي على مادة التحريم. وثانيا: لو كان «حرم الربا» ظاهرا في الفساد فمن اين اثبت ان الفساد في الزيادة لا في الاصل؟ بل ان هذا يتوقف على البحث في هذه الجهة. وثالثا: اذا الغينا ظهور «حرم الربا» في التكليف يلزم الا نأخذ بدلالة «ذروا» لانه محتمل الكراهة، والمحاربة ايضا لاتدل علىالحرمة الا بالاطلاق لقوله «فان لم تفلعوا» الشامل للمستحل ولغيره، ومع الاغماض عن الاطلاق لادافع لاحتمال أن يكون الربا محاربة مع قيد الاستحلال لا نفس العمل وحده. وعلى كل حال: فان الحرمة المستفادة من الآية القرآنية، وبقية الآيات مطلقة تشمل حتى انشاء المعاملة الربوية.

واما الروايات التي وردت في لعن آكل الربا وفاعله وكاتبه ومنشئه تدل على حرمة الانشاء للمعاملة ايضا.

٩٤

ونحن نأخذ باطلاقها وان كان مورد نزولها خاصا، لان المورد لايخصص الوارد، فهي تشمل كل ما كان ربا بالمعنى اللغوي، وتشمل ايضا ماحكم الشارع بأنه ربا فيكون حراما، وبذلك يكون الربا شاملا لما بينته السنة باعتبار انها تحقق العنوان فينطبق الحكم عليه قهرا.

ولانرى حاجة لان نسلك ماسلكه ابناء العامة من البحث عن الربا في القرآن والبحث عن الربا في السنة منفصلا كلا على حدة، مادام الامامية يعتبرون القرآن

٩٥

والسنة كلاهما مصدرا للتشريع، والفقيه يبحث عن الحكم الشرعي(١) سواء كان مصدر تشريعه القرآن او السنة.

٢- قد ذكرت جملة من الروايات ان الربا من الكبائر(٢) وحرمتها واضحة ضرورية، فاذا ضممنا الى آية الربا القائلة (وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين، فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)(٣) الآية القائلة (انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ان يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف او ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم)(٤) ينتظم لنا دليل منطقي يحكم بقتل آكل الربا في الجملة في بعض الاحوال، هذا بالاضافة الى الروايات الصريحة في الباب، ويمكن وضع الدليل المنطقي المستخرج من الايتين بهذا الشكل:

فان لم تذراو ما بقي من الربا فأذنوا بحرب من الله ورسوله.

الذين يحاربون الله ورسوله... ان يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم وارجلهم... الخ فالنتيجة هي: فان لم تذراو ما بقي من الربا فأذنوا بالقتل او الصلب او تقطيع الايدي والارجل. وهذا الاستدلال المنطقي انما يكون صحيحا لو قلنا ان الاذن بمحارب الله والرسول هي نفس محاربة الله والرسول، ولم نقل بخصوصية شهر السلاح لاخافة الناس والسعي في الارض فسادا في آية (الذين يحاربون

____________________

(١) ويبحث ايضا عن بعض الموضوعات المستنبطة كالصعيد والكنز والمفازة والوطن وماشابه ذلك.

(٢) وسائل الشيعة ج١١ حديث١و٢ من باب ٤٦ من ابواب جهاد النفس ص٢٥٢.

(٣) سورة البقرة: ٢٧٨ و٢٧٩.

(٤) سورة المائدة: ٣٣.

٩٦

الله ورسوله) وفي كلا الامرين توقف، اذن يبقى عندنا الروايات التي تدل على قتل آكل الربا وسوف يأتي البحث في دلالتها على ذلك.

٣- انما يؤخذ بالروايات الواردة عن اهل البيتعليهم‌السلام اذا كان سندها معتبرا وصحيحا وهي انما تكون حجة عند الامامية لما يرونه من عصمة الائمة (ع) كالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع فرق بينهما من ناحية نزول الوحي على النبي دون الامام. واما من لم يعتقد عصمتهم من ابناء العامة، فأيضا يلزمهم الاخذ بها اذا كان رجال السند ثقات، حيث ثبت عن الائمة(ع) قولهم ان ما نقوله هو عن آبائنا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرائيل عن الله عز وجل، فاذا صحت هذه الروايات فيجب الاخذ بأقوالهم.

ونحن اختصارا عن ذكر كل سند الرواية الى الامام (ع) نذكر الراوي عن الامام فقط ورأينا في الرواية، ونذكر المصدر الذي نقلنا عنه الرواية، فمن اراد ان يعرف ويحقق السند من مجتهدي ابناء العامة او غيرهم فما عليهم الا الرجوع الى المصدر لمعرفة رجال السند١.

٤- ثم ان هذه الروايات اكدت القانون العام الذي ذكره القرآن الكريم، وهي على طوائف قد وردت من الجانبين: منها ما عمل عن جميل بن دراج عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: درهم ربا اعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات

____________________

(١) ننبه الى ان اكثر الروايات الموجودة في المصادر التي نذكرها لم يذكر فيها جميع سلسله السند، وانما تروى الرواية من قبل الشيخ الطوسي عن شخص، ولكن بينهما اشخاصا ذكرهم في كتاب آخر، فينبغي لمن اراد ان يعرف صحة السند من البحث عن الاشخاص الذين هم بين الراوي الاول كالشيخ الطوسي والكليني والصدوق مثلا وبين الرجال الموجودين في كتاب الوسائل مثلا.

٩٧

محرم في بيت الله الحرم(١) . ولاحاجة لعرضها اذ هي متواترة معنى على الاقل(٢) .

ومع هذا قد يدعى ان التهديد قد جاء على سبيل المبالغة والمجاز، ويستدل له بعدم تشريع الحد على المرابي والرابي، بينما شرع الحد على الزاني والزانية في الشريعة، وباختلاف الروايات في بيان اشديته من الزنا.

ولكن يمكن ان يجاب: بأن الروايات تدل على ثبوت قتل آكل الربا في الجملة في بعض الاحوال (كما اذا كان مستحلا له على تفصيل يأتي ان شاء الله تعالى) وقد افتى بذلك من القدماء الشيخ المفيد وابن ادريس ومن المتأخرين جمع كثير من العلماء كما سيأتي. اذن لم يثبت ان الربا بجميع اقسامه ليس عليه حد، ولكن يمكن القول بأن قتل آكل الربا هو لاستحلاله، أي لانكاره ضرورة من ضرورات الاسلام ولا ربط له بالتحريم والاشدية، وحينئذ يكون الحد لا لاكل الربا وانما لانكاره الضروري.

نعم لم يدل على وجود ملازمة بين اشدية الجرم وبين تشريع حد عليه، بل لعل العكس هو الصحيح في بعض الموارد كما هو الظاهر من الآية القرآنية الكريمة (يا ايها الذين آمنوا لاتقتلوا الصيد وانتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة او كفارة طعام مساكين او عدل ذلك صياما ليذوق وبال امره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم والله منه الله عزيز ذو انتقام)(٣) فهي متكفلة لثبوت الكفارة.

وبما ان الكفارة والحد جزاء على المكلف لردعه عن المخالفة فلايفرق الامر من هذه الناحية، ولذا نجد كثيرا من الاحكام المتفق على اشديتها لم يشرع

____________________

(١،٢) وسائل الشيعةج١٢/ باب (١و٢) من ابواب الربا، حديث١: ص٤٢٢ - ٤٢٨.

(٣) سورة المائدة: ٩٥.

٩٨

الحد عليها (كترك الصلاة) ومعنى هذا ان الحد على شيء يعني ان الجرم قابل للتخفيف بالحد او بالكفارة، وما لم يذكر له حد او كفارة، فمعناه انه جرم غير قابل للتخفيف. وليس هذا الكلام قاعدة عامة وانما المقصود منه عدم وجود ملازمة بين اشدية الذنب ووضع كفارة او حد عليه، على ان العقوبة قد تكون على اساس نكات موضوعية اجتماعية.

واما اختلاف الروايات فهو طبيعي باعتبار اختلاف اقسام الربا واشخاصه وازمانه والاصرار عليه، واستحلاله وعدمه، وما الى ذلك من خصوصيات كثيرة تجعل الربا يختلف عقابه باختلافها.

٥- ثم ان الاجماع قد انعقد علىحرمة الربا في الجملة، وقد حكى الشيخ الطوسي اجماع المؤمنين، بل المسلمين على الحرمة. نعم خالف بعض الصحابة في بعض اقسامه، منهم ابن عباس، ولكنهم رجعوا عن قولهم «لا ربا الا في النسيئة» - كما تقدم - ومنهم معاوية الذي لايعتنى بقوله وروايته، فقد كان يقول ان التحريم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الدينار المضروب والدرهم المضروب لافي التبر من الذهب والفضة ولا في المصوغ بالمضروب.

وعلى هذا فيمكن ان يدعى الاجماع من جميع الامة الاسلامية على الحرمة في الجملة، اذ هي معلومة عند جميع المسلمين كمعلومية وجوب الصلاة والصيام بل عند غير المسلمين ايضا، وحينئذ ليس من الجزاف اعتبار حرمة الربا من الضروريات التي يكون لمنكرها الكفر والقتل كما صرحت بذلك الروايات.

٦- ثم لايخفى ان التحريم الوارد في الربا ارشاد الى بطلان المعاملة ايضا، والوجه في ذلك قوله تعالى (احل الله البيع وحرم الرب)فانه يرشدنا الى بطلان المعاملة المستفاد من مقابلته لصحة البيع، اذ ان احل الله البيع معناه تجويزه

٩٩

تكليفا ووضعا(١) ، فالحرمة التي تكون في مقابله معناها منعه تكليفا ووضعا، وهذا هو المستظهر عرفا من المقابلة في الاية الكريمة. ثم ان الاخبار الكثيرة الواردة في ان الربا اعظم من الزنا وان الاخذ للربا والمعطي والشهود كلهم في النار تدل على الحرمة التكليفية ايضا. وقد ذكر الشيخ الانصاري (قده) ان الربا هو الجامع بين أكل المال بالباطل وبين ارتكاب الموبقة، وهذا هو المستفاد من الروايات كما تقدم.

هل المعاملة الربوية فاسدة مطلقا او يفسد منها خصوص الزيادة؟

وبعد ان قلنا ان المعاملة الربوية محرمة وباطلة، ولكن هل البطلان للمعاملة كلها او لخصوص الزيادة؟ وانما يأتي هذا التساؤل لان الحرمة للمعاملة لاتستبطن ابطالها، وحينئذ البطلان الذي استفدناه من مقابلة الحرمة للحل ما هو حده؟.

وللجواب على هذا التساؤل يجب علينا النظر الى الروايات التي تقول «لعن الله بائعه ومشتريه» او الى الرواية التي يسأل فيها الامامعليه‌السلام عن معاملة ليست بربوية فيقول لا بأس، ومعناه وجود البأس في المعاملة الربوية. ومن هذه النصوص يفهم العرف ان اصل المعاملة باطلة حيث ان البأس او اللعن قد توجه الى نفس المعاملة.

ويرد على هذا ان لعن البائع لايدل على كون المحرم هو البيع، وكذلك البأس فانه من غير الواضح انه راجع الى نفس المعاملة، اذن لابدلنا من التحقيق في معرفة معنى الربا الذي توجه البأس له لنرى ما هو معناه؟ والجواب: عند استعراض الايات القرآنية والروايات الواردة في الباب يعلم ان المراد من الربا

____________________

(١) حتى لو جعلنا الحكم الوضعي منتزعا عن الحكم التكليفي، فيدل على التكليف ثم الوضع.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464