الدروس الشرعية في فقه الامامية الجزء ١

الدروس الشرعية في فقه الامامية0%

الدروس الشرعية في فقه الامامية مؤلف:
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 507

الدروس الشرعية في فقه الامامية

مؤلف: محمد بن جمال الدين مكي العاملي
تصنيف:

الصفحات: 507
المشاهدات: 120331
تحميل: 7169


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 507 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120331 / تحميل: 7169
الحجم الحجم الحجم
الدروس الشرعية في فقه الامامية

الدروس الشرعية في فقه الامامية الجزء 1

مؤلف:
العربية

الدروس الشرعية في فقه الامامية

تأليف

الشيخ شمس الدين محمد بن مكي العاملي (الشهيد الاول)

سنة ٧٨٦ ه‍

الجزء الاول

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم نحمدك، حمد الحامدين، ونصلي ونسلم على أشرف الخلق أجمعين محمد وعلى آله الطيبين المنتجبين أولي الامر الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

وبعد، لا يخفى على بغاة العلم وطلال الهدى أن العلوم تختلف أهميتها ومكانتها باعتبار أهمية ومكانة موضوعها، وأن لعلم الفقه المكانة السامية والاهمية الخاصة، حيث إن موضوعة القوانين الشرعية والاحكام الالهية التي قننها وشرعها الرب الحكيم لتنظيم مسيرة الانسان وحياته على هذه البسيطة.

ولاجل هذا نجد أن المئات من علمائنا العظام وفقهائنا الكرام قد سعوا جاهدين، باذلين كل غال ونفيس في سبيل تبيين هذه الاحكام ونشرها وصبها في قوالب كتابية بعد تبويبها وترتيبها بشكل يحفظ لهذه الاحكام قد سيتها ويسهل للوارد الغرف من نميرها.

ومن تكلم الكتب القيمة السفر الذي نحن بصدده " الدروس الشرعية في فقه الامامية " لمصنفه الحبر الجليل والشهيد القتيل المولى شمس الملة والدين أبي عبدالله محمد بن مكي العاملي - قدس سره الشريف - من علماء القرن الثامن الهجري.

وهو بمثابة المختصر لكتابيه الشهيرين " الذكرى " و " البيان " وقد كتبه لولديه - رحمهم الله جميعا -

٣

ولما كان هذا الكتاب(١) غير جامع لابواب الفقه كلها اقترح سماحة آية الله السيد موسى الزنجاني - دام ظله - أن نلحق به كتاب " تكملة الدروس " للعالم الجليل السيد جعفر بن أحمد الملحوس الحسيني - قدس سره - فتعميما للفائدة عملنا بما اقترحه - حفظه الله تعالى -.

وإحياء لهذا التراث الفخم تصدت مؤسستنا - والحمد لله - لطبعه بهذه الطبعة الحديثة بعد مقابلته مع النسخ الخطية المتوفرة وتحقيقه تحقيقا دقيقا واستخراج منابعه وتنظيم فهارس فنية واسعة له، ونشره بهذه الصورة الانيقة.

والجدير بالذكر أن سماحة العلامة الشيخ محمد مهدي الآصفي - حفظه الله تعالى - قد كتب سابقا عن حياة الشهيد الاول - قدس سره - وقد طبع في أول شرح اللمعة الذي نشره سماحة السيد محمد كلانتر - سلمه الله تعالى - رأينا من المناسب أن ندرجه في هذا السفر الجليل مع تصرف جزئي بعد أخذ الاجازة من سماحة ولا يسعنا أخيرا إلا وأن نتقدم بجزيل شكرنا للاخوة في لجنة التحقيق سيما الشيخ علي الدباغ والشيخ كامل السنجري والسيد علي الطباطبائي وغيرهم من الاخوة الذين ساعدونا في إخراج هذا الكتاب.

سائلين الله لهم ولنا مزيد التوفيق في خدمة تراث العترة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنه خير ناصر ومعين.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

____________________

(١) قال المحدث النوري قدس سره: " إن كتابه الشريف المسمى بالدروس غير تام لا يوجد فيه من أبواب الفقه: الضمان، العارية: الوديعة، المضاربة، الوكالة، السبق والرماية، النكاح الطلاق، الخلع المباراة، الايلاء، الظهار، العهد، الحدود، القصاص، الديات.

ونهض لاكمال وإتمامه العالم الجليل السيد جعفر الملحوس. يظهر من هذا الكتاب علو فهمه وتبحره واستقامته..".

(مستدرك الوسائل: الفائدة الثالثة من خاتمته ص ٤٣٩).

٤

حياة الشهيد الاول ـ تمهيد

حياة الشهيد الاول الفقيه الاعظم (محمد بن مكي) العاملي الجزيني متشعبة الاطراف، بعيدة الغور، لا يكفى لدراستها واستعراضها هذا العرض السريع، واللمسات الخفيفة التي لا تمس من حياة الرجال غير ظواهر سطحية من حياتهم.

يعرضها التاريخ بتفصيل، أو يلمح إليها باجمال.

فقد جدد الفقيه الاعظم الشهيد الاول مدرسة في الفقه لها أبعادها وحدودها وسماتها الخاصة التي تميزها عن المدارس الفقهية السابقة عليها.

وخاض غمار السياسة، واشتبك مع الاتجاهات السياسية المعارضة في وقته، فأيده ناس من المؤمنين، وعارضه آخرون من المخارفين وحاربته فئة، واعترضت سبيله طائفة أخرى، واستدعاه حاكم خراسان واعتقله حاكم دمشق، وقتله في النهارية في حديث مشجي.

فقد كان له أثر كبير إذا على الحياة الثقافية والفكرية، وعلى الحياة السياسية في وقته.

ويزيد في أهمية ذلك كله أنه كان يمثل في الجانبين معا: الجانب الفكري، والجانب السياسي اتجاها فكريا خاصا.

كان يلقى المعارضة كل المعارضة من قبل الواجهات السياسية والفكرية في وقته، باعتباره مذهبا فكريا وسياسيا خطرا على الكيان الاجتماعي القائم في

٥

وقته، وعلى الجهاز الحاكم بصورة خاصة.

فكان دائما في مجالسه ومحافله واتصالاته وما يجري بينه وبين الآخرين من حديث محفوفا برقابة قاسية من قبل السلطة، كما كان هو - قدس الله نفسه - على حذر دائم وحيطه مستمرة من أن تأخذ عليه السلطة فلتة سياسية تحتج بها عليه في اثبات المعارضة للجهاز الحاكم.

ومنذلك تعرف الصعوبات التي واجهها (الشهيد الاول) في تثبيت ودعهم (الكيان المذهبي) الذي كان يؤمن به فكريا وسياسيا، وما كان يلقى من عنت وأذى وجهد متواصل مرير في سبيل ذلك.

إن أن أمتحن في ذات نفسه فقتل شهيدا، وصلب بعد القتل، واحرق بعد الصلب.

فحياة الشهيد الاول إذا أعمق من هذه السطحية، والظواهر التي يتناول مترجموه حياته بها.

ولا يتيسر للباحث أن يدرس شخصية الفقيه المترجم له وأثره في الحركة الفكرية، والسياسية المعارضة من دون أن يدرس عصر الشهيد الاول وبيئته، والبلاد التي كان ينتقل فيها، طالبا العلم، وحاملا له، وباحثا عن الحق، وداعيا اليه، ومستوى الثقافة والفكر في عصر الشهيد الاول ولدى شيوخ الشهيد الذي كان يتصل بهم بدء حياته الدراسية، ويأخذ عنهم العلم.

ومن دون ذلك لا يتيسر للباحث أن يلمس بوضوح أبعاد الاثر الذي تركه الفقيه الاعظم (الشهيد الاول) من الدراسات الفقهية، كما لا يستغني الباحث أن يدرس الاتجاهات السياسية في عصره، وحدودها ومعارضاتها ليستطيع أن يدرس موقف الفقيه الاعظم (الشهيد الاول) من هذه الحركات والاثر الذي تركه من تكوين الجواجهة المعارضة للسلطة والجهد الذي تحمله في سبيل ذلك.

إذا فحديثنا عن حياثة (الشهيد الاول) ينقسم إلى جانبين: ندرس في الجانب الاول شخصية الشيهد الفكرية، وأثره في تطور الفقيه الاسلامي.

٦

وفي الجانب الثاني نبحث عن حياة الشهيد السياسية، وموقفه من الحركات المعارضة، وأثره في تكوين الكيان السياسي الذي كان يدعو اليه كفقيه شيعي كبير.

أما الحديث عن ولادة الفقيه الشيهد ونسبه وأولاده وحياته الخاصة مما لا يتصل بهذين الجابين فنتركه إلى كتب التاريخ والتراجم، والرسائل المستقلة التي تناولت حياة الشهيد الاول ١ - نشاته الفكرية موطنه: للبيئة التي يفتح عليها الانسان عينيه، وينشأ فيها، ويتلقى فيها مبادئ الثقافة والتفكير أثر كبير في صياغة الشخصية وتكوينها، ومهما كانت قابلية الشخص ومؤهلاته فلا بد أن يتأثر بالبيئة التي ينشأ فيها، ويندمج بها فكريا وعاطفيا.

ولذلك فلا يمكن للباحث أن يفصل الشخصية التي يريد أن يدرسها عن البيئة التي نشأ فيها، والمؤثرات البيئية التي تدخلت في تكوينها وصياغتها وقد فتح فقيهنا المترجم له ناظريه لاول مرة على (جزين)(١) من (جبل عامل)(٢) .

في بيت من بيوت العلم والدين(٣) في هذا القطر وتلقى فيها مبادئ العلوم العربية والفقه.

____________________

(١) جزين بفتح الجيم: قرية من جبل عامل تقع في الجنوب من جبل لبنان.

(٢) جبل عامل: جزء من بلاد سوريا الكبيرى يقع في جنوب لبنان ويسمى بعاملة نسبة إلى عاملة بن سبأ الذي رحل من اليمن وسكن جبالا من لبنان فأطلق عليها اسم العاملة فيما بعد.

(٣) كان جد الشهيد الاول الشيخ (أحمد بن طي) الجزيني والده الشيخ (مكي بن محمد) الجزيني من علماء اعيان هذه المنطقة.

٧

وقد كان لبيئة جبل عامل وجزين بنحو خاص أثر في تكوين شخصية الشهيد الاول: فقد كان (جبل عامل) منذ ولادة فقينها المترجم له إلى الوقت الحاضر مركزا من مراكز الاشعاع في مجال الفكر الاسلامي ولا سيما في الدراسات الفقهية والادبية.

ورغم أن المنطقة صغيرة في حد ذاتها، فقد قدمت للعالم الاسلامي على مدى تاريخها المشرق رجالا من ذوي الكفاء‌ة والثقافة الراقية في مجالات الفكر الاسلامي.

ويكفي أن يتصفح الانسان كتاب (أمل الآمل) وما ألحق به من مستدركات وتكملات، ليلمس أهمية هذا القطر من الناحية الفكرية والفقهية بصورة خاصة.

ومجتمع عاملة بشكل عام مجتمع فكري، يطبع حياتها طابقع الحياة الجامعية فهناك في عاملة تكثر الندوات العلمية، والحلقات الدراسية ومجالس البحث والمناقشة.

وحتى في المجالس العامة يطغى حديث العلم والادب على أي لون آخر من ألوان الحديث، وتكثر المساجد بينهم وتعاطي الشعر المرتجل الذي يخلو من أي تكلف وصنعة.

وقد تكون الصورة التقريبية التي يعطيها الشيخ (الحر العاملي) في كتابه (أمل الآمل) لموقعية هذا القطر من الناحية الثقافية أقرب من غيرها في إعطاء فكرة مجملة عن هذا القطر.

يقول (الشيخ الحر العاملي رحمه الله): " إن علماء الشيعة في جبل عامل يبلغون نحو الخمس من علماء الشيعة في جميع الاقطار مع أن بلادهم أقل من عشر عشر بلاد الشيعة.

في مثل هذه البيئة نشأ الشهيد الاول.وفتح عينيه على الحياة فخالط العلماء.

وارتاد المجالس والندوات العلمية التي كانت تعقد في أطراف هذا

٨

القطر: واشترك في حلقات الدراسة التي كانت تعقد في المساجد والمدارس والبيوت، وتعاطى فيها طرفا من العلم، وساهم فيما كان يدور بين الاساتذة والطلاب، أو بين الطلاب أنفسهم: من خلاف وشجار يحتد حينا، ويلين آخر وكون لنفسه بمرور الزمن اراء خاصة في مسائل الفقه والآداب، وأعانته على ذلك ثقافته الشخصية، ومؤهلاته الفكرية، وقريحته الوقادة.

ولا نعلم شيئا صحيحا عن بداية أمر هذا القطر، وظهور الحركة الفكرية الشيعية فيها، إلا أنا نعلم أن الصحابي الجليل (أباذر) رضي الله عنه لما نفي إلى (الشام) في عهد (عثمان بن عفان) نزل هذا القطر، واتخذ لنفسه فيه مقامين في قريتي (الصرفند) على ساحل البحر الابيض (ومخاليس الجبل) في الجهة الجنوبية الشرقية من جبل عامل على رابية تطل على الاردن ولا يزال هناك مسجدان في هاتين القريتين تعرفان باسمه.

وفي غالب الظن أن التشيع انبثق من هذين المقامين، ومن أيام نزول (أبي ذر) بجبل عامل بالذات(١) .

فأصبح وهو لم يتجاوز بعد المراحل الاولى من دراسته يشار اليه بالفضل والعلم، وينبأ له بمستقبل رفيع في مجالات الثقافة والفكر.

وفي البيت كان يجد من والده الشيخ (مكي جمال الدين) دافعا قويا لممارسة الدراسة، وباعثا على التفكير والدرس، كما كان يجد من المجالس التي كانت تعقد في بيتهم بين حين وآخر، ويحضرها نفر من العلماء المرموقين في المنطقة مجالا خصبا للتفكير والمناقشة وابداء الرأي.

كذلك نشأ شيخنا الفقيه المترجم له في بيئة (عاملة) يجلس إلى حلقاتها، ويرتاد مجالسها، ويشترك فيما يجري فيها من نقاش وجدال ويستمع إلى العلماء

____________________

(١) لا حظ تاريخ جبل عامل: محمد جابر آل صفا. ص ٢٣٣.

٩

من مدرسيه.

وبهذا الشكل استطاع وهو يقطع المرحلة الاولى من نشأته الفكرية أن برز بشكل ملحوظ في مجال العلم والادب بين أقرانه وأترابه.

رحلاته وشيوخه: لم يقتصر الشهيد الاول على الثقافة التي تلقاها في مسقط رأسه (جزين) وإنما تجاوزها إلى أقطار بعيدة وقريبة أخرى من (مراكز الفكر الاسلامي) في ذلك العهد.

وأهم هذه الاقطار التي شد اليها الشهيد الاول الرحال لتلقي العلم أو الافادة هي (الحلة وكربلاء وبغداد ومكة المكرمة والمدينة المنورة والشام والقدس).

وكانت هذه الاقطار في القرن الثامن الهجري من أهم مراكز الثقافة الاسلامية، ولا سيما الحلة، فقد كانت يومذاك، مركزا فكريا كبيرا من مراكز الثقافة الاسلامية الشيعية، ومنطلقا للحركة العقلية في أوساط العالم الاسلامي.

وقد تكرر سفر الشهيد الاول إلى (الحلة) وتلقي العلم فيها على يد شيوخ كبار، وأساتذة مرموقين من أمثال (فخر المحققين) ابن (العلامة الحلي)، وغيرهم.

وإذا كانت (الحلة وكربلاء المقدسة وبغداد) تعتبر ذلك اليوم مراكز للفقه الشيعي، والدراسات الشيعية فقد تكررت زيارات الشهيد للحرمين الشريفين، حيث كان طابع الفكر فيها جميعا طابقا سنيا.

واتيح (الشهيد الاول) عن طريق هذه الاسفار أن يندمج في اطر ثقافية مختلفة، ويعيش وجوها مختلفة من الفكر، ويتفاعل مع الاتجاهات الفكرية المتضاربة.

فكان على صله وثيقة بالاتجاهات الفكرية السنية، وعلى معرفة

١٠

تامة بآرائها وأفكارها، كماكان على صلة وثيقة، ومعرفة تامة بمشيخة الرواية والفقه والكلام عن أعلام السنة، مما يدل على أنه في أسفاره كان يخالط كثيرا من (أقطاب المذاهب الاسلامية) الاخرى، ولم يكن ممن ينطوي فكريا على نفسه. ويدل على ذلك قوله في إجازته لابن الخازن: وأما مصنفات العامة ومروياتهم فاني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة، ودار السلام بغداد، ومصر ودمشق وبيت المقدس، ومقام إبراهيم الخليل.

فرويت صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بسندهم إلى البخاري.

وكذا صحيح مسلم، ومسند أبى داود، وجامع الترمذي، ومسند أحمد، وموطأ مالك، ومسند الدار قطني، ومسند ابن ماجة، والمستدرك على الصحيحين للحاكم ابن عبدالله النيسابوري، إلى غير ذلك.

وهذا النص يعيننا كثيرا على معرفة شخصية الشهيد العلمية.

فقد يظهر أنه سافر إلى كثر من (مراكز الفكر الاسلامي السني) كبغداد ومصر والقدس والحرمين، وغيرها، ولم يمنعه اختلافه الفكري مع المدرسة السنية أن يحشر نفسه فيهم، ويتلقى منهم، ويلقي اليهم ويتفاعل معهم.

ولم تكن رحلاته المتكررة والطويلة إلى هذه الاقطار لغرض السياحة أو التجارة، أو الترويح عن النفس، وإنما كان لغرض فكري خالص فكان كثير التردد على مجالس السنة وحلقاتهم، وكثر المطالعة لكتبهم ووثيق الاتصال بشيوخهم.

ويشعرنا النص ثانيا أنه تلقى من (مشايخ السنة) أمهات الكتب الحديثية والفقهية التي يتعاطاها السنة: من الصحاح، والمسانيد والسنن، وغيرها.

وهذا يدل على أن (الشهيد الاول رحمه الله) كان يملك عقلية ناضجة

١١

متفتحة لاتنطوي على اطار فكري خاص، ولا يقتصر على لون من التفكير، مما يندر وجود مثله عند عامة العلماء والمفكرين.

ونحن نستطيع أن نعتبر هذه الظاهرة: ظاهرة رحلات الشيخ واتصاله بعلماء السنة مفيدا ومستفيدا: مفتاحا لدراسة شخصية الامام الشهيد الاول.

شيوخه واساذته: يستطيع الباحث أن يلمس شخصية (الشهيد الاول) الفكري من استعراض شيوخ الفكر والعلم الذين اتصل بهم، وأخذ عنهم.

وحضر مجالسهم منذ نعومة أظفاره إلى أن انتقل إلى جزين، وأسس فيها مدرسته الشهيرة التي تعتبر الاولى من نوعها في هذه المنطقة.

ولم يقتصر اتصال الشهيد بشيوخ الفكر في عصره على شخص خاص أو على قطر خاص، أو على نمط خاص من التفكير.

فسوف نجد أن (الشهيد الاول) اتصل بألوان مختلفة من الفكر وارتاد مختلف مراكز الحركة العقلية في (الوطن الاسلامي) في وقته واتصل بمختلف العلماء والمفكرين.

وعن طريق هذا التفاعل الفكري والتلاقح قدر لشيخنا الشهيد أن يكون لنفسه شخصية ثقافية مرموقة.

شيوخه في جزين: في (جزين) مسقط رأس الشهيد، تلقى شيخنا الشهيد ومبادئ العلم والتفكير، وأنس بحديث العلم والعلماء ولازم مجالسهم، واعتنى بكل ما يتصل بشؤون الفكر والادب، فدرس على والده الشيخ (جمال الدين مكي) بن الشيخ محمد شمس الدين وتلقى عنه مبادئ العربية والفقه.

١٢

وكان والد الشهيد تلمذ على الشيخ (طوقان العاملي) وروى عنه وكان يعرف بالفضل والعلم في المنطقة.

وتلمذ الشهيد كذلك في جزين على الشيخ (أسد الدين الصائغ) الجزيني أبو زوجته وعم أبيه، وكان هذا عالما كبيرا يتقن ثلاثة عشر علما من العلوم الرياضية(١) .

وفي غالب الظن أنه تلقى من استاذه الصائغ مبادئ في الرياضيات والعلوم العقلية، كما تلقى من أبيه مبادئ في العربية والفقه.

شيوخه في الحلة: هاجر الشهيد الاول إلى (الحلة) من (جزين) بجبل عامل وهو بعد لم يتجاوز السابع عشرة من عمره، فقد أجازه (فخر المحققين) بداره بالحلة أن يروي عنه بتاريخ ٢٠ شعبان سنة / ٧٥١ ه‍، وإذا علمنا أن ولادة الشيهد كانت في سنة ٧٣٤ ه‍، علمنا أن بداية اتصال الشهيد به كانت قبل أن يبلغ السابع عشرة من عمره.

و (الحلة) كانت يومها مركزا كبيرا من مراكز الحركة العقلية في الاوساط الاسلامية الشيعية، تؤمها البعثات العلمية من مختلف اجزاء (الوطن الاسلامي) ولا سيما (البلدان الشيعية).

وكانت تحفل في وقته برجال كبار من علماء الشيعة أمثال (العلامة الحلي) وولده (فخر المحققين) و (ابن نما) و (ابن أبي الفوارس) وغيرهم ممن تعرف قسما منهم في مشيخة الشيهد فيما يأتي من حديث.

وتوسعت (الحلة) وزادت أهميتها واتجهت الانظار اليها اكثر من ذي قبل

____________________

(١) أعيان الشيعة: ج ١١، ص ١٢٩.

١٣

بعد ما أصيبت (بغداد) بنكبة (المغول) وشردوا أهلها وامعنوا في التدمير والخراب(١) ، فهاجر العلماء من بغداد إلى الحلة وانتقلوا اليها وألقوا فيها رحالهم، فكثرت فيها المدارس والمكاتب وحفلت العلماء، وأصبحت مركزا مرموقا من مراكز الحركة العقلية في الاوساط الاسلامية.

ولولا وجود (الحلة) بجوار (بغداد) وانتقال بقايا الحركة العقلية من بغداد إلى الحلة وعناية (المحقق الطوسي) وتلميذه (العلامة الحلي) وولده (فخر المحققين) بشؤون الفكر الاسلامي، والمحافظة على ما تبقى من الثقافة الاسلامية لما بقي لنا شئ من هذا التراث الفكري الضخم الذي نتداوله اليوم فيما بين أيدينا من كتب الفقه والحديث والتفسير والعلوم العقلية والادبية.

١ - فخر المحققين: وفي هذه الفترة من ازدهار الحركة العقلية، والنشاط الثقافي بالحلة انتقل الشيخ الشهيد، ب وهو بعد شاب لم يتجاوز دور المراهقة إلى هذه المدينة، واتصل بالعلامة فخر المحققين(٢) ابن العلامة الحلي، وحضر دروسه وأبحاثه، ودرس

____________________

(١) قال مؤلف تاريخ العراق بين احتلالين: وأثناء حصار بغداد كان قد أتى نفر من العلويين وأعاظم أهل الحلة وعلمائها فالتمسوا أمانا من هولاكو فأرسل اليهم (بوكله) وأمير نجلى النخجواني، وأرسل في أثرهم بوقاتيمور وهواخ أولجاي خاتون ليمتحنوا إخلاص أهل الحلة والكوفة، فاستقبلوهم وجيوشهم استقبالا باهرا، ونصبوا جسرا على الفرات لعبورهم، وفرحوا بوصولهم، وأظهروا مزيد السرور، رأى بوقاتيمور اخلاصهم وثباتهم فرحل.

تاريخ العراق بين احتلالين الجزء ١ ص ٢٠٥ - ٢٠٦.

(٢) فخر المحققين أبوطالب محمد بن حسن بن يوسف بن المطهر من وجوه الطائفة وأعيانها، رزق حظا وافرا من العلوم العقلية والنقلية ونشأ على يد أبيه (العلامة الحلي) وقرأ عليه مختلف العلوم العقلية والنقلية، وبلغ مرتبة الاجتهاد أوما يقرب منه وهو لم يتجاوز بعد العاشرة من عمره، اكمل بعض كتب والده العلامة الحلي كالالفين وغيره، وشرح البعض الآخر كالقواعد. وقد أثنى عليه علماء الطائفة ثناء‌ا بالغا مما يدل على علومقامه وسمو مكانته. قال عنه الشيخ الحر العاملي: كان فاضلا محققا فقيها ثقة جليلا.

١٤

عليه كتاب (ايضاح الفوائد في شرح اشكالات القواعد) وغيره.

ولمس فخر المحققين في تلميذه الشاب بين مئات الطلاب الذين كانوا يحضرون دروسه نبوغا وألمعية لا تتوفر في غيره فأدناه من نفسه وقر به من مجلسه.

وصحبه في مجالسه ودروسه، وحفه برعايته وعنايته، وأخذ يثني عليه كلما جرى ذكره في مجلس، أو كلما رأى فرصة مناسبة بشكل لا يعهد من استاذ كبير كفخر المحققين بالنسبة إلى تلميذ شاب في هذا الدرو من العمر.

ففي الاجازة التي كتبها له بخطه على ظهر كتاب القواعد عند قراء‌ته عليه: قرأ علي مولانا الامام العلامة الاعظم أفضل علماء العالم سيد فضلاء بني آدم، مولانا شمس الحق والدين (محمد بن مكي بن محمد بن حامد) أدام الله أيامه، من هذا الكتاب مشكلاته، وأجزت له رواية جميع كتب والدي قدس سره، وجميع ماصنفه أصحابنا المتقدمون رضي الله عنهم عن والدي عنهم بالطرق المذكورة لها(١) .

وقال عنه كذلك فيما يروي عنه: لقد استفدت من تلميذي محمد بن مكي

____________________

وقال عنه مؤلف روضات الجنات: زين المجتهدين شيخنا الغالب أبوطالب محمد بن العلامة جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهر الحلي الملقب عند والده بفخر الدين، وفي سائر مراصيده وموارده بفخر المحققين، ورأس المدققين، وحسب الدلالة على مكانته في العلوم الحقة، ونهاية جلالته في هذه الطائفة المحقة شدة عناية والده المسلم عند جميع علماء الاسلام وقيامه به، مع انه أبوه بحق احترامه وثنائه به، ودعائه له في كثير من مؤهلاته ومصنفاته.

والتماسه الدعاء منه.

وقال المحقق القمي في حقه في الكنى والالقاب، جزء ٣: وجه من وجوه هذه الطائفة وثقاتها، جليل القدر، عظيم المنزلة، رفيع الشأن، كثير العلم، وحيد عصره، وفريد دهره، جيد التصانيف، حاله في علو قدره، وسمو مرتبته وكثرة علومه، أشهر من أن يذكر وكفى في ذلك أنه فاز بدرجة الاجتهاد في السنة العاشرة من عمره الشريف.

ولد ليلة ٢٠ جمادي الاولى السنة ٦٨٢ ه‍ وتوفي ليلة ٢٥ جمادي الثاني سنة ٧٧١ ه‍.

(١) روضات الجنات، الطبعة الحجرية، ج ٢، ص ٥٩٠.

١٥

أكثر مما استفاد مني(١) .

وليس (فخر المحققين) ممن يلقي الكلام على عواهنه، ولا يحسب حسابا لما يقول، ولما يقال عنه بعد، فقد لمح في تلميذه من النبوغ والالمعية ما دعاه إلى كل هذا الثناء والاحتفاء.

وقد عرف التلميذ الشاب مكانته من قلب استاذه الكبير وإيثاره له بكل شئ، وحفاوته البالغة به، فلازمه في دروسه وأبحاثه ومجالسه وهو بعد شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة، ودرس عليه أبوابا كثيرة.

يقول مؤلف الروضات: وقد كان معظم اشتغاله في العلوم عند فخر المحققين ابن العلامة(٢) .

ومن ذلك يعلم أن التلميذ الشاب لم يفارق استاذه الكبير حتى لمس فيه استاذه النضج الفكري الكافي، وحتى لمح في نظراته وآرائه ملامح الاستقلال بالرأي والاجتهاد.

وقد استجاز استاذه الكبير في رواية الحديث، وكتب المتقدمين فأجازه أكثر من مرة: أجازه مرة بداره بالحلة سنة ٧٥١ ه‍، وفي هذا التاريخ كان عمر الشهيد ١٧ سنة فقط.

وأجازه مرة أخرى بداره بالحلة سنة ٧٥٨ ه‍.

وأجازه مرة ثالثة بالمكان المتقدم.

وكان التلميذ الشاب يقدر بدوره استاذه الكبير وبحله كلما أتته مناسبة للتقدير والتجليل، ينوه بشأنه وجلالة مكانته وحقه عليه.

____________________

(١) حياة الامام الشهيد الاول: ص ٣٨.

(٢) روضات الجنات، الطبعة الحجرية، ج ٢ ص ٥٩٠.

١٦

فقال في إجازته للشيخ شمس الدين (ابن نجدة) الذي تلمذ عليه في كثير من العلوم: وأما مصنفات الامام ابن المطهر رضي الله عنه فاني أرويها عن غيره من أصحابنا.

منهم الشيخ الامام سلطان العلماء ومنتهى الفضلاء والنبلاء، خاتمة المجتهدين، فخر الملة والدين أبوطالب محمد بن الشيخ الامام السعيد جمال الدين ابن المطهر، مد الله في عمره، وجعل بينه وبين الحادثات سدا(١) .

وهنا يلمس القارئ روعة الوفاء بين الاستاذ والتلميذ، وتقدير الاستاذ لتلميذ الشاب، وحفاوته به، وهو لم يتجاوز بعد سني المراهقة ووفاء التلميذ لاستاذه وتجليله له، واحترامه اياه، وقد انتقل من دور التلمذة إلى دور المرجعية والتأليف والتدريس.

وفي غالب الظن أن الشهيد بقي على صلة روحية مع استاذه حتى حينما انتقل إلى (جزين) وأسس مدرسته الكبيرة، وكان بينهما مايشبه المراسلة والمكاتبة.

(ابن معية): من علماء الحلة الكبار، ومن أعاظم تلامذة العلامة الحلي، وأفاخم مشايخ شيخنا الشهيد.

قال عنه تلميذ النسابة السيد أحمد بن عليالحسيني في كتابه (عمدة الطالب): شيخي المولي السيد العالم الفاضل الفقيه الحاسب النسابة المصنف.اليه

____________________

(١) روضات الجنات، الطبعة الحجرية، ج ٣، ص ٥٨٧.

١٧

انتهى علم النسب في زمانه، وله الاسناد العالية، والسماعات الشريفة أدركته قدس الله روحه شيخنا، وخدمته قريبا من ثنتي عشرة سنة. قرأت عليه ما أمكن حديثا ونسبا، فقها وحسابا، وأدبا وتاريخا وشعرا إلى غير ذلك. من تصانيفه كتاب في معرفة الرجال خرج في مجلدين ضخمين.

وكتاب نهاية الطالب في نسب آل أبي طالب في اثني عشر مجلدا ضخما قرأت عليه أكثره.

وكتاب الثمرة الظاهرة من الشجرة الطاهرة أربع مجلدات في أنساب الطالبيين مشجرا.

ومنها: كتاب الفلك المشحون في أنساب القبائل والبطون.

ومنها: كتاب أخبار الامم خرج منه أحد وعشرون مجلدا، وكان يقدر إتمامه في مائة مجلد، كل مجلد أربعمائة ورقة.

ومنها: كتاب سبائك الذهب في شبك النسب ومنها: كتاب الحدود الزينية، وتذييل الاعقاب، وكشف الالباس في نسب بني عباس.

ومنها: رسالة الابتهاج في علم الحساب، وكتاب منهاج العمال في ضبط الاعمال، إلى غير ذلك من كتب الفقه والحساب والعروض.

ومن أشعاره: ملكت زمام الفضل حتى أطاعني(١) .

ونقلنا النص بكامله حتى نستطيع أن نعرف بوضوح مكانة هذه الشخصية العلمية في الحلة وأثرها في تكوين الجانب الفكري.

ومما تقدم يظهر أنه كان إنسانا موسوعيا، وتلقى العلم عن العلامة وولده فخر الدين وغيرهما، وتوسع هو بعد ذلك واشتغل بالتدريس والكتابة والتقى به

____________________

(١) روضات الجنات، الطبعة الحجرية، ج ٢ ص ٥٨٥.

١٨

الشيهد في الحلة فوجده عالما موسوعيا، خبيرا واسع المعرفة فاغتنم مجالسه، واستفاد منه واستجازه.

ولا نجد هنا تاريخيا يدل على شكل الصلة القائمة بين (الشهيد) و (ابن معية)، هل كانت صلة التلمذة والتدريس، أم شئ آخر من الصلاة؟ إلا أن الباحث يستبعد أن يفوت الشيهد في المراحل الاولية من حياته الدراسة في الحلة الاستفادة من شخصية علمية موسوعية كابن معية وما نعرف من تعطش الشهيد إلى العلم، وتهالكه عليه أنه يكتفي للدلالة على وجود صلة بين الشهيد وابن معية تشبه صلة التلمذة والتدريس.

ويشعر بذلك الوصف الذي وصفه به الشهيد، حيث قال عنه في بعض إجازاته: أعجوبة الزمان في جميع الفضائل والمآثر: ومهما يكن من أمر فقد استجاز هذا السيد مرارا فأجازه كما يقول الشهيد في مجموعته: وأجاز ولديه (أبا طالب محمد) و (أبا القاسم علي) في سنة ٧٧٦ ه‍ قبل موته.

(عميد الدين) و (ضياء الدين): من شيوخ الشيهد الاول، ومن فقهاء الحلة وعلمائها الكبار وهما: السيد عبدالمطلب بن السيد مجد الدين بن أبي الفوارس، والسيد ضياء الدين عبدالله بن السيد مجد الدين بن الفوارس أخو السيد عميد الدين ينتهي نسبهما إلى الامام زين العابدين عليه السلام.

وهما ابنا اخت العلامة الحلي رحمه الله. أثنى العلماء على الاخوين جميعا.

١٩

يقول المحدث القمي عن السيد عميد الدين: كان سيدا جليل القدر، رفيع المنزلة، عظيم الشأن، كريم الاخلاق، زكي الاعراق، عمدة السادة الاشراف بالعراق، عالما فاضلا كاملا فقيها محدثا مدرسا بتحقيق وتدقيق، فصيحا بليغا أديبا مهذبا.

كذا قال السيد الضامن(١) .

وقال مؤلف الروضات عن أخيه: " إنه كان من أجل فقهاء الاصحاب "(٢) .

ولم نجد فيما بين أيدينا من المصادر شرحا وافيا عن حياة الاخوين الجليلين، إلا أن الذين يستطيع أن يستخرجه الباحث بشئ من التحليل والدقة خلال كتب التراجم أن الاخوين عميد الدين وضياء الدين درسا الفقه والفلسفة على خالهما العلامة الحلي، ونشأا على يديه، وذلك لصلة الاخوين بالعلامة النسبية أولا، واتصالهما الوثيق به وتناولهما كتب العلامة خالهما بالشرح والتوضيح كالقواعد، وتهذيب الاصول، ونهج المسترشدين وغير ذلك بانفراده، أو باجتماع الاخوين معا، فقد شرح عميد الدين قواعد العلامة شرحا وافيا سماه ب‍: (كنز الفوائد في حل مشكلات القواعد) ذكر فيه جملة محاوراته مع خاله المبرور، وأورد نبذة من مذكراته معه في مجلس الدرس.

وله أيضا شرح كتاب (أنوار الملكوت) للعلامة في شرح كتاب الياقوت في اصول الكلام لابن نوبخت يجري مجرى المحاكمات بين المصنف والشارح(٣) .

وله أيضا كتاب (تبصرة الطالبين في شرح نهج المسترشدين) وشرح على

____________________

(١) الكنى والالقاب: ج ٢ ص ٤٤٦.

(٢) روضات الجنات، الطبعة الحجرية، الجزء ١ ص ٣٦٨.

(٣) روضات الجنات، الطبعة الحجرية، الجزء ١ ص ٣٦٨.

٢٠