الدروس الشرعية في فقه الامامية الجزء ٣

الدروس الشرعية في فقه الامامية9%

الدروس الشرعية في فقه الامامية مؤلف:
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 416

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 416 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95433 / تحميل: 4878
الحجم الحجم الحجم
الدروس الشرعية في فقه الامامية

الدروس الشرعية في فقه الامامية الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

لأنّه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده ، وسمح للأهواء النفسية والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه ، ووقع في أسر الذات والغرور ، ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأمور قد جعلها موانع أمام فهم وإدراك الحقائق.

وجاء في الحديث الشريف : «لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى ، وبدون ذلك يقع الإنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.

ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة ب( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وكم من أناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو اجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن ، فازدادوا ضلالا بدلا من أن يكون القرآن هاديا لهم (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإضلال ، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125) من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

فالمقصود بالآية عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي أن نجعل من هذا الذكر فكرا ، ومن الفكر حالة داخلية ، وعند ما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا ، أو أن تحول بيننا وبين كلام الله جل وعلا.

2 ـ لما ذا يكون التعوذ «من الشيطان الرجيم»؟

«الرجيم» : من (رجم) ، بمعنى الطرد ، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثمّ استعمل في الطرد.

٣٢١

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته ، للتذكير بتكبّره على أمر الله حين أمره بالسجود والخضوع لآدم ، وإنّ ذلك التكبّر الذي دخل الشيطان بات بمثابة حجاب بينه وبين إدراك الحقائق ، حتى سولت له نفسه أن يعتقد بأفضليته على آدم وقال :( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .

فكان ذلك العناد والغرور سببا لتمرده على أمر اللهعزوجل ممّا أدى لكفره ومن ثمّ طرده من الجنّة.

وكأنّ القرآن الكريم يريد أن يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم» بضرورة الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات الله الحكيم ، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل ، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إدراك وفهم الحقائق القرآنية.

3 ـ بين لوائي الحقّ والباطل

قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين : قسم يرزح تحت سلطة الشيطان وقسم خارج عن هذه السلطة ، وبيّنت صفتين لكلّ من هذين القسمين :

فالذين هم خارج سلطة الشيطان : مؤمنون ومتوكلون على اللهعزوجل ، أي أنّهم من الناحية الاعتقادية عباد لله ، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى الله، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان ، فقائدهم الشيطان( يَتَوَلَّوْنَهُ ) وهو مشركون ، لأنّ أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا.

وثمة من يسعى لأن يكون من القسم الأوّل ، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإلهيين ، أو الضياع في محيط فاسد ، أو أيّ أسباب أخرى ، تؤدي الى سقوطه في وحل القسم الثّاني.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على

٣٢٢

الإنسان ، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه ، ويعطيه إجازة المرور من بوابة قلبه.

4 ـ آداب تلاوة القرآن :

كل شيء يحتاج الى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم ـ كالقرآن الكريم ـ من هذه القاعدة ، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام الله والاستفادة من آياته :

1 ـ يقول تعالى أوّلا :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، ويمكن أن يشير هذا التعبير إلى الطهارة الظاهرية ، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء ، وكذا الإشارة إلى إمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير النفس من الرذائل الأخلاقية ، لأنّ الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق باعتبارها حجابا مظلما بين الإنسان والحقائق.

2 ـ يجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات الله( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) .

وعند ما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريقة العمل بهذا القول ، يروى أنّه قال : «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أخرى ، عند تلاوتهعليه‌السلام لسورة الحمد قال : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون».

وكما قلنا ، فإنّ التلفظ ـ فقط ـ في الاستعاذة لا يغني من الحق شيئا ، ما لم تنفذ الاستعاذة إلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإنسان عند التلاوة عن إرادة الشيطان ، ويقترب من الصفات الإلهية ، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق ، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالاستعاذة بالله من الشيطان ـ إذن ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة ، ومستمرّة

٣٢٣

مع التلاوة إلى آخرها وإن لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا ، أي مع التفكّر والتأمّل( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (1) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ القرآن لا يقرأ هزرمة ولكن يرتل ترتيلا ، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2) .

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إضافة إلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) .

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4) . (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين ، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إلى تلاوة القرآن أن ينصتوا إليه بتفكّر وتأمّل( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (5) .

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن ، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه ، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6) .

* * *

__________________

(1) سورة المزمل ، 4.

(2) بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 106.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 107.

(5) الأعراف ، 204.

(6) مزيد من الاطلاع راجع بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 190 وما بعدها.

٣٢٤

الآيات

( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) )

سبب النّزول

يقول ابن عباس : (كانوا يقولون : يسخر محمّد بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وغدا يأمرهم بأمر ، وإنّه لكاذب ، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الافتراء

تحدثت الآيات السابقة أسلوب الاستفادة من القرآن الكريم ، وتتناول

٣٢٥

الآيات مورد البحث جوانب أخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن ، وتبتدئ ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة ، فتقول :( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة الله ، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل ، ولكن المشركين لجهلهم( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة ، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية نعم ، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على وصفة الدواء الإلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجا مع ما يعيشونه ، فما يعطون اليوم يكمله الغد وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن ، دفعهم للاعتقاد بأنّ أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل بين ثناياها التناقض أو الافتراء على اللهعزوجل ! وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّا به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية ، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أخرى لا يتم دفعة واحدة ، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل انتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أو ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

٣٢٦

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلّا أن نقول : ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع ، وللتأكيد عليه تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) .

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» ، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر الله تعالى على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق ، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية الرّبانية له،وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا ، جاء في تكملة الآية المباركة :( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

يقول صاحب تفسير الميزان : إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق ، فالإيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان ، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّة حال ، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لا بدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة ، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها ، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أخرى ، أو على الأصح لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

٣٢٧

يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) .

اختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي ادّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فعن ابن عباس : أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة : وهو من أصل رومي وكان نصرانيا.

واعتبره بعضهم : غلاما روميا لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال آخرون : إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم : أنّه (سلمان الفارسي) ، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأسلم على يديه هناك ، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة ، أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنيا.

وعلى أيّة حال ، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون ، بقوله :( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ (1) إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ (2) وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

فإن كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ معلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئا فهذا في منتهى السفه ، إذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم ، حتى أنّ القرآن تحداهم بإتيان سورة من مثله فما

__________________

(1) يلحدون : من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل ، وقد يطلق على أيّ انحراف ، والمراد هنا : إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

(2) الإعجام والعجمة لغة : بمعنى الإبهام ، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم ، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

٣٢٨

استطاعوا ناهيك عن عدد الآيات؟! وإن كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر ، إذ أن المحتوى القرآني قد صبّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب ، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيّ إنسان ، وليس لذلك أهلا سوى اللهعزوجل وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إثبات عقائده ، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة ، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّا ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون ، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إلّا.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم من ينسبون إليه القرآن ، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إليه القرآن ، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر ، وإن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجودا ألا يستلزم ذلك اتصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وباستمرار؟ إنّهم حاولوا التشبث لا أكثر ، وكما قيل : (الغريق يتشبّث بكل حشيش).

إنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإعجازي أمر واضح ، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإنساني ، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

٣٢٩

نعم ، فمع كل ما وصلت إليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره : أنّ جمعا من الماديين في روسيا عند ما أرادوا الانتقاض من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن ينتج من ذهن إنسان واحد «محمّد» بل يجب أن يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعا من جزيرة العرب ، وإنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1) .

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقا لمنطقهم الإلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إشراقة عقلية لإنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى ، ممّا اضطرّهم لأن يطرحوا تفسيرا مضحكا وهو : اشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال ، فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون ، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الاتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّا العذاب الإلهي ، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

__________________

(1) في ضلال القرآن ، ج 5 ، ص 282.

٣٣٠

وفي آخر الآية يقول : إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء الله هم الكفار :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ، فهم الكاذبون وليس أنت يا محمّد ، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إطلاق الافتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف ، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والافتراء على الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب ، وإليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع :

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإنسان ، حتى أنّ دلالتهما على الإيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1) .

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة (صدق) ، نقلا عن الكافي.

٣٣١

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد ، وما الصدق إلّا الأمانة في الحديث ، وما الأمانة إلّا الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب :

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنّة»(1) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل جعل للبشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب»(2) .

وعن الإمام العسكريعليه‌السلام أنّه قال : «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3) .

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجبا لفضحه ، فتراه يتوسّل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أخرى : إنّ الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب ، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحقيقة بكل وضوح عند ما جاءه رجل وقال له : يا رسول الله ، إنّي لا أصلي وأرتكب القبائح وأكذب ، فأيّها أترك أوّلا؟.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكذب» ، فتعهد الرجل للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يكذب أبدا.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه : إن سألني رسول الله غدا عن أمري، ما ذا أقول له! فإن أنكرت كان كاذبا ، وإن صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا

__________________

(1) مشكاة الأنوار للطبرسي ، ص 157.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 254.

(3) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 233.

٣٣٢

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورّع عنها جميعا.

ولذا فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق :

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب ، في حين أنّ الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب ، وما النفاق إلّا الاختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبة تبيّن لنا ذلك بوضوح :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإيمان :

وإضافة إلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة

فقد روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : يكون المؤمن جبانا؟ قال : «نعم» ، قيل:ويكون بخيلا؟ قال : «نعم» ، قيل : يكون كذّابا؟ قال : «لا»(1) .

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق ، وهو لا يتفق مع الإيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الاطمئنان :

إنّ وجود الثقة والاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم ، والكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشبعه من خيانة وتقلب ،

__________________

(1) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 322.

٣٣٣

ولذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّةعليهم‌السلام عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس ، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إيّاك ومصادقة الكذّاب ، فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1) .

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته ، والأسباب الداعية إليه من الناحية النفسية ، وطرق مكافحته ، كل ذلك يحتاج إلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه ، ولمزيد من الاطلاع راجع كتب الأخلاق(2) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، قم 37.

(2) راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

٣٣٤

الآيات

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى من هذه الآيات أنّها : نزلت في جماعة أكرهوا ـ وهو : عمار وأبوه ياسر وأمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عذّبوا وقتل أبو عمار وأمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، ثمّ أخبر سبحانه

٣٣٥

بذلك رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال قوم : كفر عمّار. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا : «إنّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه» وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما وراءك»؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام :

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به ، فتتناول الآيات فئة أخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأولى :( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وتشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم :

النوع الأوّل : هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه ، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام ، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر ، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان ، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإلهي بلا ريب ، بل لم يصدر منهم ذنب ، لأنّهم قد ما رسوا التقية التي أحلها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللهعزوجل .

النوع الثّاني : هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقة ، ويغيّرون

٣٣٦

مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم ، فهؤلاء يشملهم غضب اللهعزوجل وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب الله» إشارة إلى حرمانهم من الرحمة الإلهية والهداية في الحياة الدنيا ، و «العذاب العظيم» إشارة إلى عقابهم في الحياة الأخرى وعلى أيّة حال ، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال : حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم ، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه ، لا تشمله الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية تحتاج إلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله ، وهذا مصداق لقولهعزوجل في آخر سورة العنكبوت :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) .

وتأتي الآية الأخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) بحيث أنّهم حرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق :( وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

وكما قلنا سابقا فإنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة ، وتدريجيا يسلب منه سلامة الفكر ، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره ، حتى يؤول به المآل إلى أن يصبح ذا عين ولكن لا يرى بها ، وذا أذن وكأنّه لا يسمع

٣٣٧

بها ، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة ، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز ، والتي تعتبر من النعم الإلهي العالية.

«الطبع» هنا : بمعنى «الختم» ، وهو إشارة إلى حالة الإحكام المطلق ، فلو أراد شخص مثلا أن يغلق صندوقا معينا بشكل محكم كي لا تصل إليه الأيدي فإنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها ، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للاطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم ، فتقول :( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين ، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان ، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة أخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم ، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدعون في دينهم ، فتقول :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد ، ولكنّ الآية تشير إلى من كان مشركا في البداية ثم أسلم ، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري).(2)

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيرا عاما بقولها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ

__________________

(1) ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسرين ـ يعود إلى «الفتنة» ، في حين ذهب البعض من المفسرين إلى أنه يعود إلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقا.

(2) المرتد الفطري : هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثم يرتد عن الإسلام بعد قبوله إياه ، والمرتد الملي : يطلق على من انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثم قبل الإسلام ، وارتد عنه بعد ذلك.

٣٣٨

نَفْسِها ) (1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحيانا ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إنكارا تاما فرارا من الجزاء والعقاب ، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، وعند ما لا يلمسون أيّة فائدة لإنكارهم يتجهون بإلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم ، ويقولون :( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (2) .

ولكن لا فائدة من كل ذلك( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها :

امتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروح مقاومة عظيمة أمام أعدائهم ، وسجل لنا التأريخ صورا فريدة للصمود والتحدي ، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء ، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمخ الأعداء أن يسمعوها منه ، مع أنّ قلبه مملوءا ولاء وإيمانا بالله تعالى وحبّا وإخلاصا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة ، ورحلت روحه الطاهرة إلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين الله.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمة بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهرا ، وبالرغم من اطمئنانه بإيمانه وتصديقه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا

__________________

(1) اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين فبعضهم يذهب إلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة» ، واعتبره آخرون متعلقا بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من «الغفور الرحيم» في الآية السابقة ، (ولكنّنا نرجح التّفسير الاحتمال الأوّل لشموله).

(2) الأعراف ، 38.

٣٣٩

أنّه اغتمّ كثيرا وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلّيّة ما فعل به حفظا للنفس ، فهذا.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عند ما اعتنق الإسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشدّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة ، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره وهو بتلك الحال ، وطلبوا منه أن يكفر بالله ولكنّه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد : أحد أحد ، ثمّ قال : أقسم بالله لو علمت قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله : هل تشهد أنّ محمّدا رسول الله؟

قال : نعم.

ثمّ سأله : أتشهد أنّي رسول الله؟

فأجابه ساخرا : إنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إربا إربا(1) .

والتأريخ الإسلامي حافل بصور كهذه ، خصوصا تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام .

ولهذا قال المحققون : إنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه ، عمل جائز حتى لو أدى الأمر إلى الشهادة ، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإعلاء كملة الإسلام ، وخاصة في بداية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا ، فالتقية جائزة في موارد ، وواجبة في موارد أخرى ، وخلافا لما يعتقده البعض فإنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف ، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء ، ولا هي تسليم لهم بقدر ما هي نوع من

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص 284.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

كتاب الرهن

٣٨١

٣٨٢

وهو لغة الثبات والدوام، ومنه نعمة راهنة، واللغة الغالبة رهن وارهن لغية. وشرعا وثيقة للمدين يستوفى منه المال. وجوازه بالنص(١) والاجماع، ويجوز سفرا وحضرا، والآية(٢) خرجت مخرج الاغلب. ولا يجب الرهن. وإيجابه رهنت ووثقت وهذا رهن عندك أو وثيقة. والقبول قبلت أو ارتهنت وشبهه. ويكفي إشارة الاخرس. ويجوز بغير العربية وفاقا للفاضل(٣) . ولا يجوز بلفظ الآتي. ولو قال خذه على مالك أو بمالك فهو رهن.

ولو قال إمسكه حتى أعطيك مالك وأراد الرهن جاز، ولو أراد الوديعة أو اشتبه فليس برهن، تنزيلا للفظ على أقل محتملاته، وهو لازم من طرف الراهن خاصة. والفرق إنه يسقط حق غيره والمرتهن حق نفسه. والقبض شرط فيه على الاصح، وخالف فيه الشيخ(٤) في أحد قوليه وابن

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ١ من أبواب أحكام الرهن ج ١٣ ص ١٢١.

(٢) البقرة: ٢٨٣.

(٣) قواعد الاحكام: ج ١ ص ١٥٨.

(٤) الخلاف: ج ٢ ص ٩٧.

٣٨٣

إدريس(١) والفاضل(٢) ، مستمسكين(٣) بعموم(٤) الوفاء بالعقد، ويدفعه خصوص الآية(٥) فإنها دالة على الاشتراط، لاشتراط(٦) التراضي في التجارة والعدالة في الشهادة حيث قرنا بهما، وفي رواية محمد بن قيس(٧) لارهن إلا مقبوضا، ويتفرع عليه.

فروع:

وقوعه من المرتهن أو القائم مقامه، ولو وكل الراهن ليقبضه من نفسه، أو وكل عبده أو مستولدته فالاقرب الجواز.

الثاني: القبض هنا كما تقدم في المبيع من الكيل أو الوزن أو النقل في المنقول والتخلية في غيره، ولو رهن ما هو في يد المرتهن صح، وفي افتقاره إلى إذن جديد للقبض عن الرهن خلاف، فعند الشيخ(٨) يفتقر، وحكي أنه لابد من مضي زمان يمكن فيه.

الثالث: لابد فيه من إذن الراهن، لانه من تمام العقد، فلو قبض من دون إذنه لغا، فلو رهن(٩) المشاع جاز وافتقر إلى إذن الشريك أيضا في المنقول وغيره، وقال الشيخ(١٠) : إنما يعتبر إذن الشريك في المنقول كالجوهر والسيف.

____________________

(١) السرائر: ج ٢ ص ٤١٧.

(٢) المختلف: ج ١ ص ٤١٦.

(٣) في (ق): متمسكين.

(٤) المائدة: ١.

(٥) في (ق): كاشتراط.

(٦) البقرة: ٢٨٣.

(٧) وسائل الشيعة: باب ٣ من أبواب أحكام الرهن ح ١ ج ١٣ ص ١٢٣.

(٨) المبسوط: ج ٢ ص ٢٠٢.

(٩) في باقي النسخ: ولو رهن.

(١٠) المبسوط: ج ٢ ص ٢٠٤.

٣٨٤

الرابع: لو كان مغصوبا في يده فارتهنه صح، وكفى القبض والضمان بحاله على الاقرب حتى يقبضه الراهن، أو من يقوم مقامه أو يبرئه من ضمانه عند الشيخ(١) ، لانه حقه فله إسقاطه، ولوجود سبب الضمان، ويحتمل المنع، لانه إبراء ممالم يجب.

الخامس: لو مات الراهن قبله أو جن أو اغمي عليه أو رجع في إذنه بطل، وفي المبسوط(٢) : إذا جن الراهن واغمي عليه أو رجع قبل القبض قبض المرتهن، لان العقد أوجب القبض، وهذا يشعر بأن القبض ليس بشرط، وإن كان للمرتهن طلبه ليوثق به. ولو مات المرتهن انتقل حق القبض إلى وراثه.

والفرق تعلق حق الورثة والديان بعد موت الراهن به فلا يستأثر به أحد، بخلاف موت المرتهن فإن الدين باق فتبقى وثيقته.

ويحتمل البطلان فيهما، لانه من العقود الجائزة قبل القبض، والصحة فيهما، وفاقا للقاضي(٣) والمبسوط(٤) والفاضل(٥) ، لان مصيره إلى اللزوم كبيع الخيار أو لكون لازما بالعقد، ويحتمل عندهما الفرق بين الرهن المشروط وغيره. ولو جن المرتهن أو اغمي عليه قام وليه مقامه. ولا يجبر الراهن على الاقباض، سواء كان مشروطا أم لا. نعم يتخير المرتهن في فسخ العقد لو امتنع من الاقباض، وفاقا لابن الجنيد(٦) والفاضل(٧) ،

____________________

(١) المبسوط: ج ٢ ص ٢٠٤.

(٢) المبسوط: ج ٢ ص ١٩٩.

(٣) المهذب: ج ٢ ص ٤٦.

(٤) المبسوط: ج ٢ ص ١٩٩.

(٥) المختلف: ج ١ ص ٤٢٠.

(٦) المختلف: ج ١ ص ٤٢١.

(٧) قواعد الاحكام: ج ١ ص ١٦٢.

٣٨٥

وأوجب الشيخ(١) الاقباض مع الشرط.

السادس: يشترط فيه شروط العقد، من البلوغ والعقل وعدم الحجر، ولا يشترط فيه الفورية، ولا يمتنع من جريان الحول بالنسبة إلى المالك قبل القبض. والتصرف قبله من البيع والهبة والوقف والاصداق ناقض للرهن، محكوم بصحته. ولو رهنه عند آخر تخير في إقباض أيهما شاء. ولو وطئها فأحبلها بطل، بخلاف الوطئ المجرد والتزويج والاجارة والتدبير فإنه لا يبطل، ويحتمل قويا في التدبير الابطال لتنافي غايته وغاية الرهن، وإشعاره بالرجوع.

السابع: لو انقلب خمرا قبل القبض بطل، ولو عاد خلا لم يعد الرهن، بخلاف ما إذا انقلب بعد القبض فإنه يخرج ويعود بعود الخل، ولو قبضه خمرا لم يعتد به. نعم لو صار خلا في يده أمكن اعتباره حينئذ إذا كان قبض الخمر بإذن.

الثامن: لو حجر على الراهن للسفه أو الفلس فليس له الاقباض، ولو أقبض لم يعتد به. والاقرب أن العبارة لا تبطل، فلو أقبض بعد زوال الحجر كان ماضيا.

التاسع: لوتلف الرهن أوبعضه قبل القبض للمرتهن فسخ العقد المشروط به، بخلاف التلف بعد القبض، وكذا لو تعيب.

العاشر: لواختلفا في الاذن في القبض حلف الراهن، ولو اتفقا عليه واختلفا في وقوع القبض تعارض الاصل والظاهر، ويمكن ترجيح صاحب اليد.

ولو قال رجعت في الاذن قبل أن تقبض لم يسمع منه، إلا ببينة أو تصديق المرتهن، ولو ادعى عليه العلم بالرجوع فله إحلافه.

____________________

(١) المبسوط: ج ٢ ص ١٩٩.

٣٨٦

الحادي عشر: لا يشترط في القبض الاستدامة، فلو رده إلى الراهن فالرهن بحاله، ولو كان مشتركا واتفقا على وضعه بيد أحدهما أو المرتهن أو عدل صح. وإن تعاسروا عين الحاكم عدلا لقبضه وإجارته إن كان ذا اجرة، وقسمها على الشريكين. ويتعلق الرهن بحصة الراهن من الجرة. ولتكن مدة الاجارة لا تزيد عن أجل الحق، فلو زادت بطل الزائد، وتخير المستأجر الجاهل، إلا أن يجبر المرتهن.

الثاني عشر: لو أقر الراهن بالقبض حكم عليه به، إلا أن يعلم عدمه مثل أن يقول بمكة رهنته اليوم داري بمصر وأقبضته، لان خرق العادة ملحق(١) بالمحال. ولو رجع عن الاقرار المممكن لم يقبل.

ولو قال أقررت لاقامة الرسم أو لورود كتاب وكيلي أوظننت أن القول كاف حلف المرتهن على الاقوى. ولو أقام بينة على مشاهدة القبض فلا يمين.

(٢٧٦) درس

يشترط في الرهن كونه عينا مملوكة يصح قبضها ويمكن بيعها، فلو رهن الدين لم يجز لاعتماده القبض والدين في الذمة لا ينحصر القبض فيه، ويحتمل الصحة كهبة مافي الذمم، ويجتزئ بقبض مايعينه المدين. والعجب أن الفاضل(٢) لم يشترط القبض في الرهن، وجوز هبة مافي الذمة لغير من عليه، ومنع من رهن الدين. ولا رهن المنفعة، لعدم إمكان بيعها، ولان المنافع لابقاء لها فلا ينتفع بها المرتهن، إلا خدمة المدبر وفاقا لجماعة، وقد سلف.

____________________

(١) في (م): يلحق.

(٢) المختلف: ج ١ ص ٤٢٠.

٣٨٧

ولا رهن أحد العبدين أو العبيد لا بعينه للغرر، والظاهر أنه يعتبر علم الراهن والمرتهن بالمرهون مشاهدة أو وصفا، وهو ظاهر الشيخ(١) حيث منع من رهن الحق بما فيه للجهالة، وجوزه الفاضل(٢) واكتفى بتمييزه عن غيره، والشيخ(٣) نقل الاجماع على بطلان رهن مافيه ويصح رهن الحق عنده.

ولا رهن غير المملوك، إلا أن يجيزه المالك، ولو ضمه(٤) إلى المملوك صح فيه، ووقف في غيره على الاجازة.

وتصح الاستعارة للرهن، لان التوثق بأعيان الاموال من المنافع، وليس بضمان معلق بالمال، لانه لو قال ألزمت دينك في رقبة هذا العبد بطل.

ولا استبعاد في اقتضاء العارية إلى اللزوم كالاعارة للدفن، إلا أن يقال: المعير أناب المستعير في الضمان عنه في ذمته ومصرفه هذا العين، وفي المبسوط(٥) هو عارية.

وهنا مسائل: لو قال إرهن عبدك على ديني من فلان صح، فإذا فعل فهو كما لو صدر من المستعير، وهذه الاستعارة تلزم بقبض الرهن.

نعم للمعير المطالبة بفكه في الحال وعند الاجل في المؤجل، وفي المبسوط(٦) له المطالبة بفكه قبل الاجل، لانه عارية، وتبعه الفاضل في التذكرة(٧) ، وفي غيرها ليس له، ولو لم يقبضه المرتهن فللمعير الرجوع ولو جلعناه ضمانا، لان الضمان لايتم بدون القبض هنا.

____________________

(١) المبسوط: ج ٢ ص ٢٤٦.

(٢) المختلف: ج ١ ص ٤٢٣.

(٣) الخلاف: ج ٢ ص ١١٠.

(٤) في (م): ولو ضم.

(٥) و(٦) المبسوط: ج ٢ ص ٢٢٨.

(٧) التذكرة: ج ٢ ص ١٥.

٣٨٨

الثانية: لايجب على المستعير ذكر قدر الدين وجنسه ووصفه وحلوله أو تأجيله إن جعلناه عارية، وإلا وجب، بناء على أن ضمان المجهول باطل، وفيه خلاف يأتي إن شاء الله.

وعلى كل حال، لو عين أمرا فتخطاه الراهن فله الفسخ، إلا أن يكون ما عدل إليه داخلا في الاذن، كالرهن على انقص قدرا، ويحتمل في الزيادة صحته في المأذون فيه، لوجود المقتضي.

الثالثة: لو هلك في يد المستعير قبل الرهن فالاقرب انتفاء الضمان على التقديرين، لعدم موجبه، ولو هلك عند المرتهن أو جنى فبيع في الجانية ضمنه الراهن على القول بالعارية، لا على القول بالضمان قاله الشيخ(١) ، مع أنه لو دفع إليه مال ليصرفه إلى دينه ضمنه.

والفرق أن هذا إقتراض متعين للصرف، بخلاف المستعار فإنه قد لايصرف في القضاء، ويحتمل عدم ضمان الراهن على القول بالعارية، كأحد قولي الفاضل(٢) ، لانها أمانة عندنا، إلا أن نقول: الاستعارة المعرضة للتلف مضمونة، وهو ظاهر المبسوط(٣) والتذكرة(٤) ، ولا ضمان على المرتهن على القولين.

الرابعة: ليس للمرتهن بيعه بدون إذن، إلا أن يكون وكيلا شرعيا أو وصيا على القولين، فلو امتنع الراهن من الاذن أذن الحاكم، ويجب على الراهن بذل المال، فإن تعذر وباعه ضمن أكثر الامرين من قيمته وثمنه، ولو بيع بأقل من قيمته بما لا يتغابن به بطل، وإن كان يتغابن به كالخمسة في المائة صح، وضمن

____________________

(١) المبسوط: ج ٢ ص ٢٢٩.

(٢) تحرير الاحكام: ج ١ ص ٢٧٠.

(٣) المبسوط: ج ٢ ص ٢٢٩.

(٤) التذكرة: ج ٢ ص ١٥.

٣٨٩

الراهن النقيصة على قول العارية، وعلى الضمان لا يرجع، لان الضمان إنما يرجع بما غرمه.

الخامسة: لو تبرع متبرع برهن ماله على دين الغير جاز، لانه في معنى قضاء الدين، ويلزم العقد من جهته بالقبض، فإن بيع فلا رجوع له على المدين. ولو أذن له المالك في البيع والقضاء أو أذن في القضاء بعد البيع احتمل رجوعه، لانه ملكه إلى ذلك الوقت، وعدمه لتعينه للقضاء فهو كالمقضي. نعم لو تبرع المدين بقضاء الدين صح قطعا، ولكن بناء الاول على القولين، فعلى العارية يرجع عليه، وعلى الضمان لايرجع كالضامن المتبرع.

(٢٧٧) درس

لا يصح رهن أرض الخراج، لانها ليست مملوكة على الخصوص، ويصح رهن ما بها من الشجر والبناء، ولو قلنا بملكها تبعا لهما صح رهنها. ولا رهن الخمر والخنزير عند المسلم، وإن كان الراهن ذميا ووضعهما عند ذمي. ولا رهن المصحف والعبد المسلم عند الكافر، إلا أن يوضعا عند مسلم. ولا رهن الوقف وإن اتحد الموقوف عليه، للمنع من صحة بيعه أو لعدم ملكه أو تمام ملكه. ورهن المدبر إبطال لتدبيره عند الفاضلين(١) ، وعلى القول بجواز بيع الخدمة فيصح في خدمته، وفي النهاية(٢) يبطل رهن المدبر، وفي المبسوط(٣) والخلاف(٤)

____________________

(١) قواعد الاحكام: ج ١ ص ١٥٨ وشرائع الاسلام: ج ٢ ص ٧٦.

(٢) النهاية: ص ٤٣٣.

(٣) المبسوط: ج ٢ ص ٢١٣.

(٤) الخلاف: ج ٢ ص ١٠٢.

٣٩٠

يصح ويبطل تدبيره، ثم قوى صحتهما، فإن بيع بطل التدبير، وإلا فهو بحاله، وتبعه إبن إدريس(١) ، وهو حسن. ورهن ذي الخيار جائز، ويكون من البائع فسخا ومن المشتري إجازة عند الفاضلين(٢) .

ولو رهن غريم المفلس عينه التي له الرجوع فيها قبله فالاجود المنع. وأولى منه لو رهن الزوج نصف الصداق قبل طلاق غير الممسوسة. ورهن الموهب في موضع يصح فيه الرجوع كرهن ذي الخيار.

ورهن المرتد عن غير فطرة جائز، ولو كان عنها ومات السلطان قيل: جاز، وهو ظاهر الشيخ(٣) ، وأطلق ابن الجنيد(٤) المنع، وللفاضل(٥) قولان إلا أن تكون أمة.

ولو جهل المشتري(٦) بحاله فله فسخ البيع المشروط به.

ويجوز رهن الجارية بولدها الصغير، ولا بحث فيه، وبدونه فيباعان معا إن حرمنا التفرقة، ويكون للمرتهن ماقابلها. ثم إما أن يقوما جميعا ثم يقوم الولد وحده، أو تقوم الام وحدها ومع الولد، أو كل منهما وحده، لان الام تنقص قيمتها إذا ضمت إليه لمكان اشتغالها بالحضانة، والولد تنقص قيمته منفردا لضياعه.

ووجه تقويم الام وحدها أن الرهن ورد عليها منفردة وهو قول الشيخ(٧) وكذا لو حملت بعد الارتهان، وقلنا بعدم دخول النماء المتجدد، أو كان قد شرطا

____________________

(١) السرائر: ج ٢ ص ٤٢٨.

(٢) قواعد الاحكام: ج ١ ص ١٥٩. وشرائع الاسلام: ج ٢ ص ٧٧.

(٣) المبسوط: ج ٢ ص ٢١١.

(٤) المختلف: ج ١ ص ٤٢١.

(٥) المختلف: ج ١ ص ٤٢١.

(٦) في باقي النسخ: ولو جهل المرتهن.

(٧) المبسوط: ج ٢ ص ٢١٤.

٣٩١

عدم دخوله.

ويجوز رهن الجاني عمدا أو خطأ خلافا للخلاف(١) فيهما، وحق الجناية مقدم، فإن افتكه المولى أو المرتهن، وإلا بيع في الجانية فالفاضل رهن.

ولو أقر المرهون بالجناية وصدقه المرتهن والراهن فكالجاني، وإن صدقه الراهن خاصة لم ينفذ في حق المرتهن، ولا يمين عليه، إلا أن يدعى عليه العلم، وإن صدقه المرتهن خاصة بطل الرهن خاصة(٢) ، إلا أن يعفو المجنى عليه أو يفديه أحد أو يفضل منه فضل عن الجناية، ويحتمل بقاء الرهن، لعدم صحة إقرار المرتهن واعتراف الراهن بالصحة.

فروع:

لو بيع في الرهن لتكذيب المرتهن، ففي رجوع المجنى عليه على الراهن وجهان: من قضاء دينه به، ومن عدم نفوذ إقراره في حق المرتهن.

الثاني: لو جنى بعد الرهن قدمت الجانية في العمد واالخطأ، فإن أفتك فالرهن بحاله، ولو أفتكه المرتهن على أن يكون له الرجوع على الراهن، وعلى أن يكون العبد رهنا على مال الفك والدين الاول جاز.

الثالث: لو جنى على مولاه عمدا اقتص منه، ولا يجوز أخذ المال من المرتهن في الخطأ والعمد، ولا افتكاكه، لان المال ليس عليه مال، وإلا لزم تحصيل الحاصل.

الرابع: لو جنى على مورث مولاه ثبت للمولى ما كان للمورث من القصاص والافتكاك.

ولو جنى على عبد مولاه فله القصاص، إلا أن يكون أبا المقتول.

____________________

(١) الخلاف: ج ٢ ص ١٠٢.

(٢) هذه الكلمة غير موجودة في باقي النسخ.

٣٩٢

وليس له العفو على مال، إلا أن يكون مرهونا عند غير مرتهن المجنى عليه أو عنده، واختلف الدينان فيجوز نقل ماقابل الجناية بدلا ن المجنى عليه إلى مرتهنه، هذا.

ولا يصح رهن السمك في المياه غير المحصورة، ولا الطير في الهواء، لعدم إمكان القبض.

نعم لو قضت العادة بعوده صح إذا قبض.

ولا رهن ام الولد في غير ثمنها، موسرا كان المولى أو معسرا، ولا في ثمنها مع اليسار، ويجوز مع الاعسار، لجواز بيعها فرهنها أولى، وظاهر ابن الجنيد(١) جواز رهنها مطلقا، ولم يستبعده الفاضل(٢) .

فرع:

لو رهنها فتجدد له اليسار إنفسخ الرهن ووجب الوفاء، ويحتمل بقاؤه حتى يوفي، لجواز تجدد إعساره قبل الايفاء، ولعله أقرب.

(٢٧٨) درس

تدخل زوائد الرهن فيه، متصلة كانت أو منفصلة على المشهور، ونقل فيه ابن إدريس(٣) الاجماع، وخالف فيه الشيخ(٤) في الكتابين وتبعه الفاضل(٥) ، وهو منقول عن المحقق في الدرس، ولم نجد شاهدا على القولين، غير أن المعتمد المشهور، والفاضل تمسك بروايتي إسحاق بن عمار(٦) والسكوني(٧) ، ولا دلالة فيهما.

____________________

(١) و(٢) المختلف: ج ١ ص ٤٢٢.

(٣) السرائر: ج ٢ ص ٤٢٤.

(٤) الخلاف: ج ٢ ص ١٠٩. والمبسوط: ج ٢ ص ٢٣٧.

(٥) قواعد الاحكام: ج ١ ص ١٦٤.

(٦) وسائل الشيعة: باب ٥ من أبواب أحكام الرهن ح ٦ ج ١٣ ص ١٢٦.

(٧) وسائل الشيعة: باب ١٢ من أبواب أحكام الرهن ح ٢ ج ١٣ ص ١٣٤.

٣٩٣

نعم لو شرط انتفاء دخولها صح، ولو شرط دخولها زال الخلاف عندنا وإن لم يصح رهن المعدوم، لانها تابعة هنا. ولا فرق بين المتولد منها كالولد والثمرة، وبين غيره ككسب العبد وعقر الامة.

ونفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، فإن أنفق تبرعا فلا رجوع، وإن كان بإذن الراهن، أو الحاكم عند تعذره، أو أشهد عند تعذر الحاكم رجع بها على الراهن.

ولو كان له منفعة كالركوب والدر فالمشهور جواز الانتفاع بهما، ويكون بإزاء النفقة، وهو في رواية أبي(١) ولاد والسكوني(٢) ، وفي النهاية(٣) إن انتفع وإلا رجع بالنفقة، ومنع ابن إدريس(٤) من الانتفاع، فإن انتفع تقاصا، وعليه المتأخرون.

والروايتان ليستا صريحتين في المقابلة، ولا مانعتين من المقاصة. نعم تدلان على جواز ذلك، وهو حسن، لئلا تضيع المنفعة على المالك. نعم يجب استئذانه إن أمكن وإلا فالحاكم.

ولو رهن مايسارع إليه الفساد قبل الاجل قطعا، وشرط بيعه عند الاشراف عليه صح.

وإن شرط نفي البيع بطل، وإن أطلق بطل عند الشيخ(٥) في الكتابين، لان الاطلاق يقتضي قبض الراهن عليه، وصح عند الفاضلين(٦) ويباع ويجعل ثمنه

____________________

(١) وسائل الشيعة: باب ١٢ من أبواب أحكام الرهن ح ١ ج ١٣ ص ١٣٤.

(٢) وسائل الشيعة: باب ١٢ من أبواب أحكام الرهن ح ٢ ج ١٣ ص ١٣٤.

(٣) النهاية: ص ٤٣٥.

(٤) السرائر: ج ٢ ص ٤٢٥.

(٥) المبسوط: ج ٢ ص ٢١٦. والخلاف: ج ٢ ص ١٠٤.

(٦) قواعد الاحكام: ج ١ ص ١٥٩. وشرائع الاسلام: ج ٢ ص ٧٧.

٣٩٤

رهنا للاصل.ولو توهم فساده فهو أولى بالصحة ويباع عند الاشراف على الفساد.

ولو كان على دين حال أو مؤجل يحل قبل تسارع الفساد فلا مانع من الصحة، وإن ظن الفساد قبل القبض بطل، وإن كان بعده لم ينفسخ العقد ولو قلنا ببطلان رهنه مع عدم شرط البيع، لان الطارئ لايساوي المقارن.ومن ثم يتعلق الرهن بالقيمة لو أتلف الرهن متلف وهي دين.ولا يجوز رهن الدين إبتداء فيحنئذ يباع ويتلعق بثمنه.

فروع:

لو اتفق المتراهنان على نقل الرهن عند الخوف من الفساد إلى عين اخرى احتمل الجواز، لان الحق لا يعدوهما، ويجري مجرى بيعه وجعل ثمنه رهنا، ويحتمل المنع، لان النقل لا يشعر بفسخ الاول، ويمتنع البدل مع بقاء الاول.

فإن قلنا: بجواز النقل هنا فهل يجوز في رهن قائم لم يعرض له نقص؟ وجهان مرتبان، وأولى بالمنع، لان المعرض بالفساد يجب بيعه، فهو في حكم الفائت، ونقل الحق إلى بدل الفائت معهود ولا فوات هنا.

الثاني: لو رهن نصيبه في بيت معين من جملة دار مشتركة صح، لان رهن المشاع عندنا جائز، فإن استقسم الشريك وظهرت القرعة له على ذلك البيت، فهو كإتلاف الراهن يلزم قيمته، ولا يلحق بالتلف من قبل الله تعالى.

الثالث: لونذر عتق العبد عند شرط(١) ففي صحة رهنه قبله وجهان.نعم لبقاء الملك وأصالة عدم الشرط، ولا لان سبب العتق سابق والشرط متوقع، وعلى الاول لو وقع الشرط اعتق أو عتق وخرج عن الرهن.

____________________

(١) في (م): عند شرطه.

٣٩٥

ولا يجب إقامة بدله إذا كان المرتهن عالما بحاله، وإلا فالاقرب الوجوب هذا. ولا كراهة في رهن الامة. نعم يكره تسليمها إلى الفاسق وخصوصا الحسناء، إلا أن تكون محرما له، وفي المبسوط(١) يكره رهن الامة إلا أن توضع عند إمرأة ثقة. ولو رهن الثمرة على الشجرة بعد بدو الصلاح أو قبله جاز، ومؤنة الاصلاح على الراهن. ولو اختلطت بالمتلاحق قبل القبض فالاقرب الفسخ، ولو كان بعده لم ينفسخ، وكذا اللقطة من الخيار وحينئذ يصطلحان، وفي المبسوط(٢) لو رهن لقطة منه إلى أجل يحصل فيه الاختلاط بطل.

ولا تدخل الثمرة غير المؤبرة في رهن النخلة، إلا مع الشرط، لاختصاص البيع بالنص. ولو رهن الجدار أو الشجرة ففي دخول الآس أو المغرس وجه بعيد. نعم يستحق بقاؤهما فيهما أبدا.

ولا تدخل الارض في رهن الشجر وإن كانت قليلة لا ينتفع بها على حالها.

(٢٧٩) درس

يجوز اشتراط السائغ في الرهن دون غيره، كشرط عدم تسليمه وعدم بيعه، أو توقفه على رضا الراهن أو أجنبي فيفسد ويفسد، وفي المبسوط(٣) لايفسد الرهن.

____________________

(١) المبسوط: ج ٢ ص ٢٣٨.

(٢) المبسوط: ج ٢ ص ٢٤٢.

(٣) المبسوط: ج ٢ ص ٢٤٥.

٣٩٦

ولو شرط الراهن على المؤجل الزيادة في الاجل صح عند الفاضل(١) ، خلافا للمبسوط(٢) حيث أبطل الشرط والرهن. ولو شرط في الرهن انتفاع المرتهن به جاز. ولو شرط تملك الزوائد المنفصلة فسد وأفسد على الاقرب، لعدم تراضيهما بدونه. ولو شرط كونه مبيعا عند الاجل بطل، لان البيع لا يكون معلقا. والرهن لايكون مؤقتا إلا بالوفاء.

ويضمن بعد الاجل لاقبله، إلحاقا لفاسد البيع والرهن بالصحيح في الضمان وعدمه. ويمنع الراهن من كل تصرف يزيل الملك كالبيع والهبة، أو ينافي حق المرتهن كالرهن من آخر، أو يعرضه للنقص كالوطئ والتزويج، وفي رواية الحلبي(٣) يجوز وطؤها سرا، وهي متروكة، ونقل في المبسوط(٤) الاجماع عليه.

ولا فرق بين المأمون حبلها لصغر أو يأس، وبين غيرها. ولو وطئ لم يحد وعزر، إلا مع الشبهة، ولو حملت صارت مستولدة. ولا قيمة على الراهن إن قلنا بعدم تبعية النماء في الرهن، ولو قلنا(٥) بالتبعية فكذلك، لان الحر لاقيمة له، ولان استحقاق المرتهن بواسطة ثبوت قيمته في ذمة الراهن، وهو بعيد.

وفي بيعها أو وجوب إقامة بدلها تردد، من سبق حق الراهن، وعموم النهي عن بيعها فيقام بدلها أو يتوقع قضاء الدين أو موت ولدها، ولو كانت مرهونة في

____________________

(١) قواعد الاحكام: ج ١ ص ١٦١.

(٢) المبسوط: ج ٢ ص ٢٣٥.

(٣) وسائل الشيعة: باب ١١ من أبواب أحكام الرهن ح ٢ ج ١٣ ص ١٣٣.

(٤) المبسوط: ج ٢ ص ٢٠٦.

(٥) في باقي النسخ: وإن قلنا.

٣٩٧

ثمن رقبتها فبيعها أوجه، وفي الخلاف(١) يلزم الموسر إقامة بدلها وتباع على المعسر، وأطلق.

ولو وطئ المرتهن فهو زان إلا مع الشبهة، وعليه العقر، وإن طاوعته فلا شئ، وولده رق مع العلم، ومع الجهل حريفك(٢) بقيمته.

ولو أذن له الراهن فلا مهر ولا قيمة عليه عند الشيخ(٣) ، وهو بعيد، إلا أن يحمل على التحليل، لكن كلام الشيخ ينفيه، لان الغرض من الرهن الوثيقة، ولا وثيقة مع تسلط المالك على البيع والوطئ، وغيره من المنافع المعرضة للنقص أو الاتلاف.

وليس له أن يوجره وإن كان الدين حالا، لان الاجارة تقلل الرغبة فيه، وإن كان مؤجلا والمدة لا تنقضي قبله فكذلك، وإن كانت تنقضي فالاقرب البطلان للتعريض بالنقص وقلة الرغبة، وكذا يمنع من الاعتاق موسرا كان أو معسرا، لان يتضمن إبطال حجر لازم بفعل مالكه.

ولا يلزم من نفوذه في حصة الشريك نفوذه هنا، لقيام عتق حصته سببا في ذلك.

ولو انفك الرهن لم ينفذ العتق، لانه لا يقع معلقا، وأولى منه إذا بيع في الرهن ثم عاد إليه.

ولو أذن المرتهن في ذلك كله جاز، وكذا لا يتصرف فيه المرتهن، إلا بإذن الراهن، أو إجازته، إلا العتق فإنه باطل إن لم يأذن.

وليس له إنزاء الفحل المرهون، سواء نقصت قيمته أم لا.

وأما الانزاء على الانثى، فإن كانت آدمية منع منه، وكذا غيرها على الاقوى، لانه يعرضها

____________________

(١) الخلاف: ج ٢ ص ٩٩.

(٢) في (م): يفكه.

(٤) المبسوط: ج ٢ ص ٢٠٦.

٣٩٨

للنقص، وقال الشيخ(١) : ليس للمرتهن منعه من الانزاء مطلقا.

وللراهن رعي الماشية وختن العبد وخفض الجارية، إلا أن يؤدي إلى النقص، وتأبير النخل والمداواة مع عدم خوف الضرر، وكذا تجوز المداواة من المرتهن.

وفي جواز تزويج الامة أو العبد بدون إذن المرتهن للشيخ(٢) قولان، وعلى القول به لايسلمها إلى الزوج بغير إذنه، وهو قريب، وكذا يجوز تدبيره، لانه لاينافي الغرض، خلافا للشيخ(٣) .

ويمنع الراهن من الغرس، لانه ينقص الارض، ومن الزرع وإن لم ينقص به الارض حسما للمادة، فلو فعل قلعا عند الحاجة إلى البيع ولو حمل السيل نوى مباحا فنبت، فليس له إلزامه بإزالته قبل حلول الدين، لعدم تعديه، فلو احتيج إلى البيع قلع إن التمسه المرتهن، فإن بيعا معا ففي توزيع الثمن ماتقدم في بيع الام مع ولدها. ولو شرط ضمان الرهن بطلا، ويحتمل صحة العقد ولا ضمان. ويجوز اشتراط الوكالة للمرتهن والوصية ولوارثه ولاجنبي، ولا يملك الراهن فسخها.

ولو مات أحدهما انتقلت الرهينة دونها، إلا مع الشرط، واشتراط وضعه على يد عدل فصاعدا، واشتراط وكالته في بيعه. وليس للراهن عزله وللمرتهن عزله عن البيع، لان البيع لحقه، ولهذا يفتقر إلى إذنه عند حلول الاجل، ولا يفتقر إلى إذن الراهن.

ولو مات العدل أو فسق أو جن أو اغمي عليه زالت الامانة والوكالة، وكذا لو صار عدوا لاحدهما، لان العدو لا يؤتمن على عدوه، فإن اتفقا على غيره، وإلا

____________________

(١) المبسوط: ج ٢ ص ٢٣٨.

(٢) المبسوط: ج ٢ ص ٢٣٨.

(٣) المبسوط: ج ٢ ص ٢١٣.

٣٩٩

استأمن الحاكم عليه.

ولو باع فالثمن بيده أمانة، فلو تلق فمن ضمان الراهن. ولو ظهر المبيع مستحقا فالدرك عليه لا على العدل، إلا أن يعلم بالاستحقاق. ولو اختلفا فيما يباع به بيع بنقد البلد بثمن المثل حالا، سواء كان موافقا للدين، أو اختيار أحدهما، أم لا. ولو كان فيه نقدان بيع بأغلبهما، فإن تساويا فبمناسب الحق، فإن بايناه عين الحاكم إن امتنعا من التعيين. ولو كان أحد المتباينين أسهل صرفا إلى الحق تعين، وللعدل رده عليهما، لان قبول الوكالة جائز من طرف الوكيل أبدا، فإن امتنعا أجبرهما الحاكم، فإن استترا نصب الحاكم عدلا يحفظه.

وليس له تسليمه إلى الحاكم، إلا مع تعذرهما، ولو دفعه إلى أحدهما ضمن هو والمدفوع إليه، وقرار الضمان على من تلف في يده. ولو أضطر العدل إلى السفر، أو أدركه مرض يخاف منه الموت، أو عجز عن الحفظ وتعذر أسلمه إلى الحاكم، فإن تعذر فإلى عدل بشهادة عدلين. ولا يجوز وضعه عند العبد إلا بإذن مولاه، وكذا المكاتب إذا كان مجانا، ولو كان(١) بجعل أو إجرة لم يعتبر إذن المولى.

ويصح إشتراط رهن المبيع على الثمن وفاقا للفاضلين(٢) ، وأبطل الشيخ(٣) العقد به، لانه شرط رهن ما لا يملك، إذ لا يملك المبيع قبل تمام العقد، ولان قضية الرهن الامانة والبيع الضمان وهما متنافيان، وتبعه ابن إدريس(٤) ، ويظهر من الخلاف(٥) صحة البيع وفساد الشرط.

____________________

(١) في (م): وإن كان.

(٢) المختلف: ج ١ ص ٤٢١. وشرائع الاسلام: ج ٢ ص ٧٧.

(٣) المبسوط: ج ٢ ص ٢٣٥.

(٤) السرائر: ج ٢ ص ٤٢٩.

(٥) الخلاف: ج ٣ ص ٢٥٤.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416