النهاية الجزء ١

النهاية7%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225114 / تحميل: 6331
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

كتاب الطهارة

باب ماهية الطهارة وكيفية ترتيبها

الطّهارة في الشّريعة اسم لما يستباح به الدّخول في الصّلاة. وهي تنقسم قسمين: وضوء وتيمّم. ومدارهما على أربعة أشياء: أحدهما وجوب الطّهارة، وثانيها ما به تكون الطّهارة، وثالثها كيفيّة الطّهارة، ورابعها ما ينقض الطّهارة.

فأمّا العلم بوجوبها فحاصل لكلّ أحد خالط أهل الشّرع ولا يرتاب أحد منهم فيه.

والعلم بما فيه تكون الطّهارة فينقسم قسمين: أحدهما العلم بالمياه وأحكامها وما يجوز الطّهارة به منها وما لا يجوز، والثّاني العلم بما يجوز التّيمّم به وما لا يجوز.

وامّا العلم بكيفيّة الطّهارة فينقسم قسمين: أحدهما العلم بالطّهارة الصّغرى وكيفيّتها، والثاني العلم بالطّهارة الكبرى من الأغسال وأحكامها.

وامّا القسم الرّابع وهو ما ينقض الطّهارة فهو أيضا على ضربين: أحدهما ينقض الطّهارة الصّغرى ولا يوجب الكبرى،

١

والثاني ينقضها ويوجب الطّهارة الكبرى.

والذي يتبع الطّهارة ممّا يحتاج الى العلم به، للدّخول في الصّلاة وإن لم يقع عليه اسم الطّهارة، العلم بإزالة النّجاسات من البدن والثياب، لانّه لا يجوز الدّخول في الصّلوة مع نجاسة على البدن أو الثّوب كما لا يجوز الدّخول في الصّلاة مع عدم الطّهارة ونحن نرتّب ذلك على حسب ما تقتضيه الحاجة إليه، إن شاء الله.

امّا العلم بوجوب الطّهارة فقد بيّنا حصوله لا محالة، فلأجل ذلك لم نشرع فيه.

وامّا ما به تقع الطّهارة من المياه وغيرها فيجب ان يكون العلم به مقدّما على العلم بكيفيّة إيقاعها، فلأجل ذلك بدأنا به في أوّل الكتاب، ثمَّ نذكر بعد ذلك ما وعدنا من الأقسام الأخر، إن شاء الله.

باب المياه وأحكامها

وما يجوز الطهارة به منها وما لا يجوز، وبيان ما يقع فيها ممّا يغيّر حكم الطّهارة منها وما يرفع ذلك الحكم عنها.

الماء كلّه طاهر ما لم يقع فيه نجاسة تفسده. وهو على ضربين: طاهر مطهّر وطاهر ليس بمطهّر.

٢

فأمّا الماء الطّاهر الّذي ليس بمطهّر، فالمياه المضافة، مثل ماء الباقلاء وماء الآس وماء الورد. وهذه المياه لا يجوز استعمالها في شي‌ء من الطّهارات ولا في إزالة النّجاسات من البدن والثّياب. ولا بأس في الشّرب وغيره ما لم يقع فيها شي‌ء من النّجاسة فإن وقع فيها شي‌ء من النّجاسة فلا يجوز استعمالها إلّا عند الضرورة والخوف من تلف النفس.

وامّا الطاهر المطهّر فهو كل ما يستحقّ إطلاق اسم الماء من غير إضافة. وهو على ضربين: جار وراكد.

فالمياه الجارية كلّها طاهرة مطهّرة لا ينجّسها شي‌ء ممّا يقع فيها من النّجاسات إلّا ما يغيّر لونها أو طعمها أو رائحتها. فإنّه متى تغيّر شي‌ء من أوصافها المذكورة بما يقع فيها من النّجاسات فلا يجوز استعمالها في الطهارة.

والمياه الرّاكدة على ثلاثة أقسام: مياه الغدران والقلبان والمصانع، ومياه الأواني المحصورة، ومياه الآبار.

فامّا مياه الغدران والقلبان فإن كان مقدارها مقدار الكرّ وحدّ الكرّ ثلاثة أشبار ونصف طولا في ثلاثة أشبار ونصف عرضا في ثلاثة أشبار ونصف عمقا، أو يكون مقداره ألفا ومأتي رطل بالعراقيّ فإنّه لا ينجّسها شي‌ء ممّا يقع فيها من النّجاسات إلّا ما غيّر لونها أو طعمها أو رائحتها. فإن تغيّر أحد أوصافها بما يقع فيها من النجاسة، فلا يجوز استعمالها على حال. وإن

٣

كان تغيّرها من قبل نفسها أو بما يلاقيها من الأجسام الطّاهرة، فإنّه لا بأس باستعمالها ما لم يسلبها إطلاق اسم الماء، وإن غيّر لونها أو طعمها أو رائحتها. وإن كان مقدارها أقلّ من الكرّ فإنّه ينجّسها كلّ ما يقع فيها من النجاسات. ولا يجوز استعمالها على حال. ويكره استعمال هذه المياه مع وجود المياه الجارية والمياه المتيقّن طهارتها.

ولا تنجّس مياه الغدران بولوغ السّباع والبهائم والحشرات وسائر الحيوان فيها إلّا الكلب خاصّة والخنزير، فإنّه ينجّسها إن كان دون الكرّ. وان كانت زائدة على الكرّ فليس به بأس.

وأمّا مياه الأواني المحصورة فإن وقع فيها شي‌ء من النّجاسة أفسدها ولم يجز استعمالها. وان كان ما يقع فيها طاهرا، فلا بأس باستعمالها ما لم يسلبها إطلاق اسم الماء وإن غيّر لونها أو طعمها أو رائحتها. فلا بأس باستعمال المياه وان كانت قد استعملت مرّة أخرى في الطّهارة، إلّا أن يكون استعمالها في الغسل من الجنابة أو الحيض، أو ما يجري مجراهما، أو في إزالة النجاسة. ولا بأس للرجل ان يستعمل فضل وضوء المرأة وكذلك المرأة لا بأس لها ان تستعمل فضل وضوء الرجل.

ولا بأس بأسئار المسلمين واستعمال ما شربوا منه في الطّهارة سواء كان رجلا أو امرأة. ويكره استعمال سؤر الحائض إن كانت متّهمة. وإذا كانت مأمونة فلا بأس به. ولا يجوز استعمال أسئار

٤

من خالف الإسلام من سائر أصناف الكفّار. وكذلك أسئار الناصب لعداوة آل محمّدعليهم‌السلام . ولا بأس بسؤر كلّ ما يؤكل لحمه من سائر الحيوان. ولا بأس باستعمال سؤر البغال والحمير والدواب والهرّ وغير ذلك إلّا الكلب خاصّة والخنزير. وكذلك لا بأس بأسئار الطّيور كلّها إلّا ما أكل الجيف أو كان في منقاره أثر دم.

وماء الحمّام سبيله كسبيل الماء الجاري إذا كانت له مادّة من المجرى. فإن لم يكن له مادّة فهو على طهارته ما لم تعلم فيه نجاسة. فإن علمت فيه نجاسة أو أدخل يده فيه يهوديّ أو نصراني أو مشرك أو ناصب ومن ضارعهم من أصناف الكفّار، فلا يجوز استعماله على حال. وغسالة الحمّام لا يجوز استعماله على حال.

ومتى ولغ الكلب في الإناء نجس الماء ووجب إهراقه، وغسل الإناء ثلاث مرّات: إحداهنّ وهي الأولى بالتّراب. وكذلك كلّ إناء وقع فيها نجاسة وجب إهراق ما فيها من الماء وغسلها ثلاث مرات، غير أنّه لا يعتبر غسلها بالتّراب، إلّا في ولوغ الكلب خاصّة. وقد روي أنه يكفي إهراق ما فيها وغسل الإناء مرّة واحدة. والأحوط ما قدّمناه. ومتى مات في الآنية حيوان له نفس سائلة، نجس الماء ووجب إهراقه وغسل الإناء حسب ما قدّمناه. والفأرة إذا ماتت في الإناء وجب إهراق ما فيها وغسل

٥

الإناء سبع مرّات، وكذلك حكم الخمر. وكلّ ما يقع في الماء فمات فيه ممّا ليس له نفس سائلة، فلا بأس باستعمال ذلك الماء الّا الوزغ والعقرب خاصّة، فإنّه يجب إهراق ما وقع فيه وغسل الإناء حسب ما قدّمناه. وإذا وقعت الفارة والحيّة في الآنية أو شربتا منها ثمَّ خرجا حيّا، لم يكن به بأس.

والأفضل ترك استعماله على حال. والوزغ إذا وقع في الماء ثمَّ خرج منه، لم يجز استعماله على حال. وإذا كان مع الإنسان إناءان أو ما زاد عليهما، ووقع في أحدهما نجاسة ولم يعلمه بعينه، وجب عليه إهراق جميعه والتّيمّم للصّلاة، إذا لم يقدر على غيره من المياه الطّاهرة.

وأمّا مياه الآبار فإنّها تنجس بكلّ ما يقع فيها من النّجاسات ولا يجوز استعمالها قبل تطهيرها. فإن وقع في البئر خمر أو فقّاع أو شراب مسكر أو منيّ أو دم حيض أو بعير فمات فيه، وجب نزح الماء كلّه. فإن تعذّر ذلك عليه، يتراوح على نزحه أربعة رجال من الغداة إلى العشيّ يتناوبون عليه. وإن مات فيه إنسان، وجب أن ينزح منه سبعون دلوا. وإن مات فيه حمار أو بقرة أو دابّة، وجب أن ينزح منه كرّ من ماء إذا كان الماء أكثر من كرّ. فإن كان أقلّ منه، وجب نزح جميعه. فإن مات فيها كلب أو شاة أو ثعلب أو سنور أو غزال أو خنزير، وما أشبهها، نزح منها أربعون دلوا. وقد روي أنّه إذا وقع فيها

٦

كلب وخرج منها حيّا. نزح منه سبع دلاء، فإن مات فيها حمامة، أو دجاجة وما أشبهها، نزح منها سبع دلاء. فإن ماتت فيها فارة، نزح منها ثلاث دلاء إذا لم تتفسّخ. فإن تفسّخت، نزح منها سبع دلاء. فإن مات فيها عصفور وما أشبهه، نزح منها دلو واحد. وإذا بال فيها رجل، نزح منها أربعون دلوا. فإن بال فيها صبيّ، نزح منها سبع دلاء. فإن كان رضيعا لم يأكل الطّعام، نزح منها دلو واحد، فإن وقعت فيها عذرة وكانت رطبة، نزح منها خمسون دلوا. وإن كانت يابسة، نزح منها عشر دلاء. فإن وقع فيها حيّة أو وزغة أو عقرب فماتت فيها، نزح منها ثلاث دلاء. وإن ارتمس فيها جنب، نزح منها سبع دلاء. فإن وقع فيها دم وكان كثيرا، نزح منها خمسون دلوا. وإن كان قليلا، نزح منها عشر دلاء. وكلّ ما أكل لحمه من الحيوان والبهائم والطّيور، فإنّه لا بأس بروثه وذرقه، إذا وقع في الماء، إلّا ذرق الدّجاج خاصّة، فإنّه إذا وقع في البئر، وجب نزح خمس دلاء منها. ومتى وقع شي‌ء من النّجاسة في البئر، أو مات فيها شي‌ء من الحيوان، فغيّر لونه أو طعمه أو رائحته، وجب نزح جميع ما فيها من الماء. فإن تعذّر ذلك، نزح منها إلى أن يرجع إلى حال الطّهارة.

وهذه المياه الّتي ذكرناها، متى لحقها حكم النّجاسة، فلا يجوز استعمالها في الوضوء والغسل معا، ولا غسل الثّوب ولا

٧

في إزالة النّجاسة، ولا في الشّرب. فمن استعملها في الوضوء أو الغسل أو غسل الثّوب ثمَّ صلّى بذلك الوضوء وفي تلك الثياب، وجب عليه إعادة الوضوء والغسل وغسل الثّوب بماء طاهر وإعادة الصّلاة، سواء كان عالما في حال استعماله لها أو لم يكن، إذا كان قد سبقه العلم بحصول النّجاسة فيها. فإن لم يتيقن حصول النّجاسة فيها قبل استعمالها، لم يجب عليه إعادة الصّلاة، ووجب عليه ترك استعمالها في المستقبل، اللهمّ إلّا أن يكون الوقت باقيا، فإنّه يجب عليه غسل الثّوب وإعادة الوضوء وإعادة الصّلاة. فإن كان قد مضى الوقت لم يجب عليه إعادة الصّلاة.

فإن استعمل شي‌ء من هذه المياه النّجسة في عجين يعجن به ويخبز، لم يكن به بأس بأكل ذلك الخبز، لأنّ النّار قد طهّرته.

ولا بأس باستعمال هذه المياه في الشّرب عند الضّرورة إليها، ولا يجوز ذلك مع الاختيار.

ومتى لم يجد الإنسان لطهوره سوى هذه المياه النّجسة، فليتيمّم ويصلّ ولا يتوضّأ بذلك الماء.

ومتى حصل الإنسان عند غدير أو قليب ولم يكن معه ما يعرف به الماء لوضوءه، فليدخل يده فيه ويأخذ منه ما يحتاج إليه، وليس عليه شي‌ء. فإذا أراد الغسل للجنابة، وخاف إن نزل إليها فساد الماء، فليرشّ عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه،

٨

ثمَّ ليأخذ كفّا كفّا من الماء فليغتسل به.

ويستحبّ أن يكون بين البئر الّتي يستقى منها وبين البالوعة سبعة أذرع، إذا كانت البئر تحت البالوعة وكانت الأرض سهلة، وخمسة أذرع إذا كانت فوقها. وإن كانت الأرض صلبة، فليكن بينها وبين البئر خمسة أذرع من جميع جوانبها.

ويكره استعمال الماء الذي أسخنته الشّمس في الأواني في الوضوء والغسل من الجنابة. ولا بأس بالوضوء أو الغسل من العيون الحميّة، ولا بأس أيضا لشرب منها، ويكره التّداوي بها.

باب آداب الحدث وكيفية الطهارة

إذا أردنا أن نبيّن كيفيّة الطّهارة، فالواجب أن نبيّن آداب ما يتقدمها من الأحداث، ثمَّ نتبعها بذكر كيفيّتها وترتيبها وأحكامها.

فإذا أراد الإنسان الحدث، فليستتر عن النّاس بحيث لا يراه أحد. وإذا أراد الدّخول إلى المكان الّذي يتخلّى فيه، فليدخل رجله اليسرى قبل اليمنى، فليقل: « بسم الله وبالله، أعوذ بالله من الرّجس النّجس الخبيث المخبّث الشيطان الرجيم » وليغطّ رأسه. فإذا أراد القعود لحاجته، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، إلّا أن يكون الموضع مبيّنا على وجه لا يتمكن

٩

فيه من الانحراف عن القبلة. ولا يستقبل الشّمس ولا القمر ولا يستقبل الرّيح بالبول. ولا يتغوّط على شطوط الأنهار، ولا في المياه الجارية ولا الرّاكدة. ولا يبولنّ فيهما. فإن بال في المياه الجارية أو تغوّط فيها، لم يفسد ذلك الماء. ولا يتغوّط أيضا في أفنية الدّور، ولا تحت الأشجار المثمرة، ولا مواضع اللّعن، ولا في‌ء النزّال، ولا المواضع الّتي يتأذّى المسلمون بحصول النّجاسة فيها. ولا يطمح ببوله في الهواء. ولا يبولنّ في جحرة الحيوان، ولا في الأرض الصّلبة. وليطلب موضعا مرتفعا من الأرض يجلس عليه.

فإذا فرغ من حاجته وأراد الاستنجاء فليستنج فرضا واجبا. ويجزيه أن يستنجي بثلاثة أحجار إذا نقي الموضع بها. فإن لم ينق بها، زاد عليها. فإن نقي بواحدة، استعمل الثّلاثة سنّة. ولا يستعمل الأحجار التي استعملت في الاستنجاء مرّة أخرى، ولا يستنج بالعظم ولا بالروث. ويجوز استعمال الخزف بدلا من الأحجار.

وإن استعمل الماء بدلا من الأحجار كان أفضل. فإن جمع بينهما، كان أفضل من الاقتصار على واحد منهما.

فإذا استنجى بالماء، فليغسل موضع النّجو إلى أن ينقي ما هناك. وليس لما يستعمل من الماء حدّ محدود.

فإذا فرغ من غسل موضع النّجو وأراد غسل الإحليل، فليمسح بإصبعه من عند مخرج النّجو إلى أصل القضيب ثلاث مرّات،

١٠

ثمَّ يمرّ إصبعيه على القضيب وينتره ثلاث مرّات. وليغسل إحليله بالماء. ولا يجوز الاقتصار على غيره مع وجود الماء. وأقلّ ما يجزي من الماء لغسله مثلا ما عليه من البول. وإن زاد على ذلك كان أفضل.

وليس على الإنسان استنجاء من شي‌ء من الأحداث إلّا من البول والغائط حسب ما قدّمناه. وإذا بال، فليس عليه الّا غسل مخرج البول، وليس عليه استنجاء.

ولا يجوز الاستنجاء باليمين إلّا عند الضّرورة. ولا يستنجي باليسار وفيها خاتم عليه اسم من أسماء الله تعالى وأسماء أنبيائه أو أحد من الأئمّةعليهم‌السلام . وإن كان في يده شي‌ء من ذلك أو خاتم فصه من حجر زمزم، فليحوّله.

ولا يقرأ القرآن وهو على حال الغائط سوى آية الكرسيّ. ويجوز له أن يذكر الله تعالى فيما بينه وبين نفسه. فإن سمع الأذان، فليقل مع نفسه كما يسمعه استحبابا. ولا يستعمل السّواك، ولا يتكلّم وهو على حال الغائط، إلّا أن يدعوه إلى الكلام ضرورة.

ويستحب له أن يغسل يده قبل إدخالها الإناء من حدث الغائط مرّتين، ومن النّوم والبول مرّة، ومن الجنابة ثلاث مرّات. فإن لم يفعل ذلك لم يكن عليه شي‌ء. وجاز استعمال ذلك الماء، اللهمّ إلّا أن تكون على يده نجاسة، فيفسد بذلك الماء، إلّا أن

١١

يزيد على الكرّ، ولا يحمل شيئا من النّجاسة.

فإذا فرغ من الاستنجاء، قام من موضعه ومسح يده على بطنه وقال: « الحمد لله الّذي أماطا ـ عنّي الأذى وهنّأني طعامي وشرابي وعافاني من البلوى ».

فإذا أراد الخروج من الموضع الّذي تخلّى فيه، فليخرج رجله اليمنى قبل اليسرى، وليقل: « الحمد لله الذي عرّفني لذّته، وأبقى في جسدي قوّته، وأخرج عنّي أذاه. يا لها نعمة يا لها نعمة يا لها نعمة! لا يقدر القادرون قدرها ».

فإذا أراد أن يتوضّأ وضوء الصّلاة، فليجعل الإناء على يمينه، وليقل إذا نظر إليها: « الحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا »، ثمَّ يقول: « بسم الله وبالله » ويأخذ كفّا من الماء فيتمضمض به ثلاثا ويقول: « اللهمّ لقّني حجّتي يوم ألقاك، وأطلق لساني بذكرك » ويأخذ كفّا آخر ويستنشق به ثلاثا ويقول: « اللهمّ لا تحرمني طيّبات الجنان واجعلني ممّن يشم ريحها وروحها وريحانها ».

ثمَّ يأخذ كفّا آخر فيضعه على جبهته فيغسل به وجهه. وحدّه من قصاص شعر الرّأس إلى محادر شعر الذّقن طولا، ما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضا. فما خرج من ذلك. فليس من الوجه، ولا يجب غسله ولا مسحه. ثمَّ يأخذ كفّا آخر فيغسل به وجهه ثانيا على ما وصفناه.

١٢

ثمَّ يأخذ كفّا آخر فيضعه على مرفقه الأيمن فيغسل به يده مرّة إلى أطراف الأصابع ويغسل معه المرفق، ثمَّ يغسله دفعة أخرى بكفّ آخر من الماء يضعه على باطن ذراعه فيغسلها من المرفق إلى أطراف الأصابع.

ثمَّ يغسل يده اليسرى مرّتين كما يغسل يده اليمنى.

ثمَّ ليمسح بباقي نداوة يده من قصاص شعر الرّأس مقدار ثلاث أصابع مضمومة.

ثمَّ ليمسح ظاهر قدميه بما بقي فيهما من النّداوة إلى الكعبين. وهما النّابتان في وسط القدم. ولا يستأنف لمسح الرّأس والرّجلين ماء جديدا.

والمرأة تفعل في وضوئها مثل ما ذكرناه، إلّا أنّها تبتدي في غسل يديها بباطن ذراعيها. والرّجل يبتدي بظاهرهما. ويجوز لها أن لا تضع قناعها في صلاة الظّهر والعصر والعشاء الآخرة، بل تدخل أصابعها تحت القناع. ولا بدّ لها من وضع القناع في صلاة الغداة والمغرب.

والمضمضة والاستنشاق سنّتان، وليسا بفرضين، لا في الوضوء ولا في الغسل من الجنابة، ولا يكونان أقلّ من ثلاث مرّات. وما قدّمناه من التّسمية على حال الطّهارة والدّعاء عند غسل الأعضاء، فمندوب إليه، لا يخلّ تركه بالطّهارة. إلّا أن يكون تاركه مهملا سنّة ومضيّعا فضيلة. وغسل الوجه مرّة واحدة فريضة، ومرّتين

١٣

سنّة وفضيلة. فمن زاد على المرّتين، فقد أبدع، وكذلك غسل اليدين. ولا يستقبل الشّعر في غسل اليدين بل يبدأ من المرفق، ولا يجعله غاية ينتهي إليها في غسلهما.

والمسح بالرّأس لا يجوز أقلّ من ثلاث أصابع مضمومة مع الاختيار. فإن خاف البرد من كشف الرأس. أجزأه مقدار إصبع واحدة. ولا يستقبل أيضا شعر الرّأس في المسح، ولا يمسح بالرّأس أكثر من مرّة واحدة. ولا يجوز المسح على الأذنين. فمن مسحهما، كان مبدعا. ولا يجوز المسح على العمامة ولا القلنسوة ولا غيرهما ممّا يغطّي الرّأس. فمن مسح على شي‌ء من ذلك فلا طهارة له.

والمسح على الرّجلين، بالكفّين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين. فإن بدأ من الكعبين الى رؤوس الأصابع، فقد أجزأه. فإن اقتصر في المسح عليهما بإصبع واحدة، لم يكن به بأس، إلّا أن الأفضل ما ذكرناه.

ولا يجوز المسح على الخفّين ولا الجوربين. ولا بأس بالمسح على النّعل العربيّ، وإن لم يدخل يده تحت الشّراك. ولا يجوز المسح على غير العربيّ من النّعال ولا الخفّين. فمن فعل ذلك فلا طهارة له، إلّا في حال الضّرورة. لأنّ من خاف على نفسه في بعض الأحوال، من نزع الخفّين من عدوّ أو سبع أو برد شديد، فإنّه لا بأس بالمسح عليهما. ولا يجوز ذلك مع الاختيار.

١٤

وأقلّ ما يجزي من الماء في الطهارة: كفّ للوجه وكفّان لليدين. والإسباغ يكون بمقدار مدّ من الماء. فإن لم يكن مع الإنسان إلّا كفّ واحد من الماء، قسّمه ثلاثة أقسام، واستعمله مثل الدّهن.

والنيّة في الطّهارة واجبة. ومتى نوى الإنسان بالطّهارة القربة، جاز أن يدخل بها في صلوات النّوافل والفرائض. ولا يحتاج الى استيناف الطّهارة للفرض.

والتّرتيب واجب في الطّهارة. فمن قدّم شيئا من أعضاء الطّهارة على شي‌ء، وجب عليه الرّجوع الى المؤخّر وغسله أو مسحه وتأخير ما قدّمه عليه. مثاله أن يغسل يده قبل وجهه، أو يمسح برأسه قبل غسل يديه، أو يمسح برجليه قبل مسح رأسه. فإنّه يجب أن يغسل وجهه ثمَّ اليدين، يقدّم غسل اليمين منهما على اليسار، ثمَّ يمسح برأسه ثمَّ يمسح برجليه. فإن خالف ما ذكرناه فلا طهارة له.

والموالات أيضا واجبة في الطّهارة، ولا يجوز تبعيضها، إلّا لعذر، فإنّ بعضها لعذر أو لانقطاع الماء عنه، جاز، إلّا أنّه يعتبر ذلك بجفاف ما وضّأه من الأعضاء، فإن كان قد جفّ، وجب عليه استيناف الوضوء. فإن لم يكن قد جفّ، بنى عليه ولم يجب عليه استيناف الطّهارة.

ولا يجوز غسل الرّجلين في الطّهارة لأجلها. فإن أراد الإنسان

١٥

غسلها للتّنظيف، قدّم غسلهما على الطّهارة، ثمَّ يتوضّأ وضوء الصّلاة. فإن نسي غسلهما حتّى ابتدئ بالطّهارة، أخّر غسلهما الى بعد الفراغ منها. ولا يجعل غسلهما بين أعضاء الطّهارة.

وإن كان في إصبع الإنسان خاتم أو في يده سير وما أشبهه، فليحرّكه ليصل الماء الى ما تحته. فإن كان ضيّقا، حوّله الى مكان آخر، وكذلك يفعل في غسل الجنابة.

ولا بأس ان يقع شي‌ء من الماء الذي يتوضّأ به على الأرض ويرجع على ثوبه أو يقع على بدنه. وكذلك إن وقع على ثوبه من الماء الذي يستنجي به، لم يكن به بأس. وكذلك، إن وقع على الأرض ثمَّ رجع اليه. اللهمّ إلّا ان يقع على نجاسة ثمَّ يرجع عليه، فإنّه يجب عليه غسل ذلك الموضع الذي أصابه ذلك الماء.

ولا بأس أن يمسح الإنسان أعضاء الطّهارة بالمنديل بعد الفراغ منها. فإن تركها حتّى يجفّ الماء، كان أفضل.

ولا بأس أن يصلّي الإنسان بوضوء واحد صلوات اللّيل والنّهار، ما لم يحدث أو يفعل ما يجب منه إعادة الوضوء. فإن جدّد الوضوء عند كلّ صلاة، كان أفضل.

وإن كان على أعضاء طهارة الإنسان جبائر أو جرح وما أشبهها، وكان عليه خرقة مشدودة، فإن أمكنه نزعها، وجب عليه أن ينزعها. فإن لم يمكنه، مسح على الخرقة. وإن كان جراحا، غسل ما حولها، وليس عليه شي‌ء.

١٦

ويكره أن يستعين الإنسان في وضوئه بغيره يصبّ عليه الماء. وينبغي أن يتولّاه هو بنفسه، فإنه أفضل، ومن وضأه غيره وهو متمكّن من توليه بنفسه، لم يجز ذلك عنه. فإن كان عاجزا عنه لمرض أو ما يقوم مقامه بحيث لا يتمكّن منه، لم يكن به بأس.

باب من ترك الطهارة متعمدا أو ناسيا أو شك فيها أو في شي‌ء منها ثمَّ صلى

من ترك الطّهارة متعمّدا أو ناسيا ثمَّ صلّى، وجبت عليه الطّهارة وإعادة الصّلاة. ومن شكّ في الوضوء والحدث وتساوت ظنونه، وجبت عليه الطّهارة. فإن صلى. والحال هذه، وجبت عليه إعادة الوضوء والصّلاة. ومن تيقّن الحدث، ثمَّ شكّ في الوضوء، وجب عليه الوضوء، ومن شك في الحدث، وهو على يقين من الوضوء، لا يجب عليه إعادة الوضوء.

فإن شكّ في الوضوء، وهو جالس على حال الوضوء لم يفرغ منه، وجب عليه استيناف الوضوء. فإن شكّ في الوضوء بعد انصرافه من حال الوضوء، لم يلتفت الى الشّك، وبنى على الوضوء، لأنّه ليس من العادة أن ينصرف الإنسان من حال الوضوء، إلّا بعد الفراغ من استيفائه على الكمال.

فإن ترك الاستنجاء متعمّدا بالماء أو الأحجار معا وصلّى، وجب عليه الاستنجاء وإعادة الصّلاة. وكذلك الحكم إن تركه

١٧

ناسيا ثمَّ تيقّن، وجب عليه ان يستنجي ويعيد الصّلاة. فإن كان قد استنجى وترك غسل إحليله من البول، وجب عليه غسل الإحليل، دون الاستنجاء ودون شي‌ء من أعضاء الطّهارة. فإن كان قد صلّى، وجب عليه إعادة الصّلاة.

ومن ترك عضوا من أعضاء الطّهارة متعمّدا أو ناسيا وصلّى ثمَّ ذكر، وجب عليه إعادة الوضوء والصّلاة. ومن شكّ في غسل الوجه وقد غسل اليدين، وجب عليه غسل الوجه ثمَّ غسل اليدين فإن شكّ في غسل اليدين وقد مسح برأسه، رجع، فغسل يديه، ثمَّ مسح برأسه فإن شكّ في مسح رأسه وقد مسح رجليه، رجع، فمسح رأسه، ثمَّ رجليه بما بقي في يديه من النّداوة. فإن لم يبق فيهما نداوة أخذ من أطراف لحيته أو من حاجبه أو من أشفار عينيه، ومسح برأسه ورجليه. فإن لم يبق في شي‌ء من ذلك نداوة، وجب عليه إعادة الوضوء. فإن انصرف من حال الوضوء وقد شكّ في شي‌ء من ذلك، لم يلتفت اليه، ومضى على يقينه.

باب ما ينقض الوضوء وما لا ينقضه

الّذي ينقض الطّهارة: النّوم الغالب على السّمع والبصر، والمرض المانع من الذّكر، والبول، والغائط، والرّيح، والجنابة والحيض، والاستحاضة، والنّفاس، ومسّ الأموات من النّاس بعد بردهم بالموت وقبل تطهيرهم بالغسل.

١٨

وليس ينقض الطّهارة شي‌ء سوى ما ذكرناه من مذي أو ودي أو قيح أو رعاف أو نخامة أو فتح جراح، أو مسّ ذكر أو دود خارج من إحدى السّبيلين، إلا أن يكون متلطّخا بالعذرة أو قي‌ء، قلّ ذلك أم كثر، ولا حلق شعر ولا مسّ شي‌ء من الزّهو مات ولا مسّ شي‌ء من النّجاسات ولا تقليم أظفار ولا قبلة ولا مسّ امرأة ولا استدخال أشياف ولا حقنة ولا خروجهما إلّا أن يكون ممزوجا بالعذرة.

ومن جملة ما ينقض الوضوء ما يوجب الغسل وهو خمسة أشياء: الجنابة والحيض والاستحاضة والنّفاس ومسّ الأموات. ونحن نبدأ بأحكامها ونرتّب الأوّل فالأوّل:

باب الجنابة وأحكامها وكيفية الطهارة منها

الجنابة تكون بشيئين: أحدهما إنزال الماء الدّافق في النّوم واليقظة وعلى كل حال. والآخر التقاء الختانين، سواء كان معه إنزال أو لم يكن.

وهذان الحكمان يشترك فيهما الرّجال والنّساء. فإن جامع امرأته فيما دون الفرج، وأنزل، وجب عليه الغسل، ولا يجب عليها ذلك. فإن لم ينزل، فليس عليه أيضا الغسل. فإن احتلم الرّجل أو المرأة فأنزلا، وجب عليهما الغسل. فإن لم ينزلا لم يجب عليهما الغسل.

١٩

ومتى انتبه الرّجل فرأى على فراشه منيّا ولم يذكر الاحتلام، وجب عليه الغسل. فإن قام من موضعه، ثمَّ رأى بعد ذلك عليه منيّا، فإن كان ذلك الثّوب أو الفراش ممّا يستعمله غيره، لم يجب عليه الغسل، وإن كان ممّا لا يستعمله غيره، وجب عليه الغسل.

ومتى خرج من الإنسان ماء لا يكون دافقا، لم يجب عليه الغسل ما لم يعلم إنّه مني. وإن وجد من نفسه شهوة، إلّا أن يكون مريضا. فإنّه يجب عليه حينئذ الغسل، متى وجد في نفسه شهوة، ولم يلتفت الى كونه دافقا وغير دافق. ومتى خرج منه ماء دافق، وجب عليه الغسل، وإن لم يكن عن شهوة.

ومتى حصل الإنسان جنبا بأحد هذه الأشياء، فلا يدخل شيئا من المساجد إلّا عابر سبيل، إلّا المسجد الحرام ومسجد المدينة، فإنّه لا يدخلهما على حال. ولا يضع فيه شيئا. وإن كان له فيه شي‌ء: جاز له أخذه، ولم يكن به بأس. وإن كان في المسجد الحرام أو مسجد النبيّ، فاحتلم، فليتيمم من موضعه، ثمَّ يخرج منه للاغتسال.

ولا يمسّ المصحف ولا شيئا فيه اسم من أسماء الله تعالى مكتوبا. ويقرأ من القرآن من أيّ موضع شاء ما بينه وبين سبع آيات، إلّا أربع سور: « سجدة لقمان » و « حم السجدة » و « النّجم » و « اقرأ باسم ربّك » وإن أراد أن يقرأ القرآن في

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (1) .

5 - قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) (2) .

هذه الآيات المباركة لسانها واحد واستدلالهم بها قريب من الاستدلال بالآية الأولى، حيث إن هذه الآيات القرآنية تنهى عن أن يدعو الإنسان مع اللَّه أحداً، أي لا يعبد مع اللَّه مخلوقاً من المخلوقات، وإذا كان الدعاء روح العبادة وقوامها، فسوف يكون منهيّاً عنه بمقتضى صريح هذه الآيات الكريمة؛ لكونه من الشرك الصريح.

6 - قوله تعالى: ( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم ) (3) .

7 - قوله تعالى: ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) (4) .

وهذا اللسان من الآيات القرآنية يؤكّد على أن التوجّه إلى الغير بغية الاستنصار به شرك ومغالاة يوجب الخذلان الإلهي.

8 - قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) (5) .

9 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

____________________

(1) الحج: 62.

(2) الجن: 20.

(3) آل عمران: 126.

(4) آل عمران: 160.

(5) يونس: 18.

٢٤١

زُلْفَى ) (1) .

فهاتان الآيتان دلّتا على وجوب نبذ مقالة المشركين الذين جعلوا أصنامهم شركاء في الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بينهم وبين اللَّه عزَّ وجل، والإسلام جاء لكسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقيدة الصنمية والوثنية والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى، وهو ما ابتُلى به مشركو العرب؛ إذ لم يكن شركهم في ذات اللَّه تعالى أو صفاته، بل كان شركهم شركاً في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فيُعلم من هذه الآيات أن التوحيد في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدين، وهدف الرسالة الإسلامية الخاتمة؛ وذلك لأن صحة الأعمال والنسك العبادية مشروطة بصحّة العقيدة، فمَن يعمل ويعبد وكان في معتقده الدينيّ شي‏ء من الغلو والصنمية للأشخاص يحبط عمله كلّه؛ ويستدلّون لذلك بقوله تعالى: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3) ، فصحّة العقيدة بالتوحيد شرطاً في صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حينئذٍ من نبذ كلّ ما يوجب الشرك وبطلان العقيدة، كالتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى.

الجواب عن الشبهة الثالثة:

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّكهم ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها

____________________

(1) الزمر: 3.

(2) الزمر: 65.

(3) الأنعام: 88.

٢٤٢

تنهى عن التوجّه والقصد إلى غير اللَّه عزَّ وجل، منها:

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (1) ، فلا يجوز التوسّل والدعاء بغير الأسماء الحسنى التي جاءت في قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (2) .

إذن لابدّ من التوحيد في الدعاء الذي هو مخّ العبادة ولا يجوز القصد والتوجّه في الدعاء إلى غير اللَّه عزَّ وجلَّ وأسمائه الحسنى؛ لأنه شرك وإلحاد بالأسماء الإلهية.

الجواب الأول: حقيقة الأسماء الإلهية مستند للتوسّل

في البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالي:

ما هو المراد من الأسماء الإلهية الواردة في الآيات المباركة؟

الاسم في اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشي‏ء علامته).

(قال أبو العبَّاس: الاسم وسمة توضع على الشي‏ء يُعرف به، قال ابن سيده: والاسم اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، كقولك مبتدئاً: اسم هذا كذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة على المعنى) (3) .

____________________

(1) الأعراف: 180.

(2) الإسراء: 110.

(3) لسان العرب، ج14، ص 403 - 401.

٢٤٣

إذن اسم الشي‏ء سمته وعلامته وصفته الدالّة عليه.

والأسماء والصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية، فللّه تعالى أسماء وصفات ذاتية هي عين ذاته غير زائدة عليها، وله عزَّ وجلَّ أسماء وصفات فعلية هي عين فعله. فالقدرة والعلم والحياة صفات ذاتية يُشتقّ منها القادر والعالم والحيّ، وهي أسماء ذاتية غير زائدة على الذات الإلهية المقدّسة، والخَلق والرِّزق والتدبير والربوبية والحُكم والعَدل وغيرها صفات فعلية يشتقّ منها أسماء فعلية، هي الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحَكَم والعدَْل، ولا ريب أن الأسماء الفعلية غير الذات وليست عينها، بل مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزَّ وجل.

ولا ريب أيضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهية هي أسماء فعلية مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالى.

والمخلوق يكون اسماً للَّه عزَّ وجلَّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقير له متقوّم به ليس له من نفسه شي‏ء، دالّ بسبب افتقاره بما فيه من كمال على كمال خالقه وباريه، فهو سمة وعلامة على صانعه، وما فيه من عظمة وحكمة دالّة على عظمة وحكمة الخالق؛ إذ ليس له من ذاته إلّا الفقر والاحتياج.

الجواب الثاني: الكلمة والآية

إن الكلمة والآية مع الاسم متقاربة المعنى متّحدة المضمون، فهي وإن لم تكن ألفاظاً مترادفة، إلّا أن مضمونها والمراد منها في اللغة وفي القرآن الكريم واحد؛ وهو الدلالة على الشي‏ء والعلامّية والمرآتية له.

٢٤٤

ففي لسان العرب:

(الآية العلامة) (وأيّا آية: وضع علامة).

وفيه أيضاً: (وقال ابن حمزة: الآية في القرآن كأنها العلامة التي يفضى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية) (1) .

كذلك قال في اللسان:

(كلمات اللَّه أي كلامه وهو صفته وصفاته) (2) .

أضف إلى ذلك أن الكلمة في حقيقتها دالّة على مراد المتكلم وكاشفة عنه.

إذن الأسماء والآيات والكلمات في شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها على وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفيتها على عظمة وقدرة وحكمة الباري عزَّ وجل، ومن ثمّ يكون كلّ مخلوق اسماً من أسماء اللَّه تعالى وآية من آياته وكلمة من كلماته، ولكن الأسماء والآيات والكلمات على درجات في الصغر والكبر، فكلّما كان الاسم أعظم والآية أكبر لِمَا أعطيت من المقامات والكرامات الإلهية، كلّما كانت آييَّة ذلك المخلوق واسميَّته أعظم، لا سيما المخلوق الأول وهو نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم في موارد كثيرة جدّاً، منها:

1 - قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (3) .

2 - قوله تعالى: ( وَالتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا

____________________

(1) لسان العرب، ج4، ص 61 - 62.

(2) لسان العرب، ج12، ص522.

(3) المؤمنون: 50.

٢٤٥

آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

3 - قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (2) .

4 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (3) .

5 - قوله تعالى: ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِْمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) (4) .

فقد أطلق في هذه الآيات المباركة على مريم عليها‌السلام أنها آية، وعلى عيسى عليه‌السلام أنه كلمة اللَّه وآيته للعالمين.

6 - قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (5) .

7 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (6) .

8 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

____________________

(1) الأنبياء: 91.

(2) آل عمران: 45.

(3) النساء: 171.

(4) آل عمران: 38 - 39.

(5) البقرة: 31.

(6) البقرة: 37.

٢٤٦

إ ِمَامًا ) (1) .

9 - ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

فإن هذه المخلوقات العظيمة عند اللَّه عزَّ وجلَّ أسماء وآيات وكلمات وعلامات للَّه تعالى، وحينئذٍ تكون مشمولة لإطلاق قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (3) فهذه الآية المباركة وغيرها، التي ذكروها للتدليل على مدّعاهم لا تعني النهي عن التوجّه إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بالوسائط، بل هي توجب وتعيّن التوجّه إلى اللَّه تعالى بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلية.

إذن؛ ليست الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها على مدّعاهم فحسب، بل هي تحكُّمهم وتديُّنهم بالإلحاد عن اسمائه، وتنصُّ على ضرورة توسيط الأسماء الإلهية والمخلوقات الوجيهة عند اللَّه تعالى، ولابدّ من عدم الإلحاد فيها والإعراض عنها في الدعاء.

لكن لابدّ من الالتفات إلى أن النظرة إلى الوسائط لابد أن لا تكون نظرة استقلالية وموضوعية وبما هي هي، بل لابدّ أن تكون نظرة آلية حرفية آيتيّة، أي بما هي يُنظر بها إلى اللَّه تعالى، فالتوجّه بها لا إليها بما هي هي.

وبناء على ذلك يكون التعاطي مع الأسماء والآيات والوسائط على ثلاثة مناهج:

الأول: منهج إبليس؛ وهو رفض وساطة الآيات والأسماء والمخلوقات

____________________

(1 ) البقرة: 124.

(2) الأنعام: 115.

(3) الأعراف: 180.

٢٤٧

الوجيهة عند اللَّه عزَّ وجلَّ وإنكارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الكفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الإلحاد في تلك المخلوقات العظيمة والأسماء الإلهية لا يمكن التوجّه والزلفى إلى اللَّه عزَّ وجل؛ لأنه ليس بجسم، وهو حقيقة الحقائق والمقوّم لها، فلا يجابه ولا يقابل، فلابدّ من التوجّه إلى المظاهر والمجالي والآيات.

الثاني: وهو منهج المغالين الذين ينظرون إلى الأسماء الإلهية بالنظرة الاستقلالية وبما هي هي ويتوجّهون إليها لا بها، وهذا أيضاً من الشرك والحجاب الذي يمنع عن معرفة اللَّه تعالى، ولكنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه على سبيل نجاة فيما إذا شملهم اللَّه عزَّ وجلَّ بلطفه ورأوا ما وراء الآية من الحقائق، بخلاف مَن أعرض عن الآية بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآيات وتوسيطها في الدعاء، وهذا هو التوحيد التام الذي يوصل إلى معرفة اللَّه تبارك وتعالى.

فالنظرة في هذا المنهج إلى الأسماء الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالى ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالّة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هم النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ إذ حباهم اللَّه عزَّ وجلَّ بالكرامات والمقامات التكوينية، التي تفضل جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، فهم عليهم‌السلام الأسماء التي تعلّمها آدم وفُضَّل بها على الملائكة كلّهم أجمعون، وذلك بنصّ سورة البقرة في قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )( 1 ) ، حيث

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٤٨

جاء التعبير فيها بـ ( عَرَضَهُمْ ) ولم يقل: عرضها، وكذا التعبير بـ ( هؤُلآءِ ) ولم يقل: هذه، كلّ ذلك يدلّ على أن تلك الأسماء موجودات نورية مخلوقة حيّة شاعرة عاقلة، أفضل من جميع الملائكة، ولم يعلم بها الملائكة ولا يحيطون بها وهي تحيط بهم وهي أوّل ما خلق اللَّه تعالى، فهم عباد ليس على اللَّه أكرم منهم، أُسند إليهم ما لم يسند إلى غيرهم، ومكّنهم اللَّه عزَّ وجلَّ ما لم يمكّن به غيرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلك الآيات التي ذكروها لنفي التوسّل تدلّ على ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآيات الكبرى والأسماء الفعلية الحسنى والعظمى - وهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام - إلى اللَّه عزَّ وجل، والباء في قوله تعالى: ( فَادْعُوهُ بِهَا ) للتوسيط وجعل الآيات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال:

(ياهشام، اللَّه مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمَن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومَن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد. أفهمت يا هشام؟) قال: قلت: زدني، قال: (للَّه تسعة وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمَّى، لكان كل اسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معنى يُدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره. ياهشام، الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق، أفهمت ياهشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا المتَّخذين مع اللَّه عزَّ وجلَّ غيره؟) قلت: نعم، فقال: (نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام)

٢٤٩

قال: فواللَّه ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) (1) .

فبيّن عليه‌السلام أن الاسم غير المسمَّى وهو الذات الإلهية ومغاير لها، ولو كان الاسم هو عين الذات الإلهية، لكان كل اسم إلهاً ولتكثَّرت الآلهة، ولكن اللَّه ذات أحدية واحدة يُدلّ عليه وله علامات هي هذه الأسماء المتكثرة المتعدّدة، فالأسماء آيات وعلامات وكلمات دالّة ووسيلة إلى الذات، فظهر أن قوله تعالى: ( لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) (2) برهان قرآني على ضرورة الوسيلة، وهي الكلمات والآيات الإلهية، بأن يدعى اللَّه بها، فلا يُدعى اللَّه بدونها، بل لابدّ من توسيطها في دعاء اللَّه، وذلك بالتوجّه بها إليه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها كي يتوجّه منها إلى اللَّه، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها ليتحقّق دعاء اللَّه تعالى، وقد جعلت الآية الإعراض عن الأسماء والكلمات والآيات الإلهية إلحاداً ومجانبة وزيغاً عن الطريق إلى اللَّه. ومن ثمّ قد أُكّد في الآية أن الأسماء الإلهية بكثرتها الكاثرة هي برمّتها ملك للَّه تعالى مملوكة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهية، وجحود وساطتها استكبار وتمرّد على الشأن الإلهي، ومنه يعرف اتحاد الاسم والوجه وأن الأسماء هي وجه اللَّه التي يتوجّه بها إليه، وأن مَن له وجاهة ووجيه عند اللَّه هو وجه للَّه يتوجّه به إليه تعالى، فيكون اسماً وآية وكلمة للَّه تعالى.

نعم، بين الأسماء والكلمات والآيات درجات وتفاضل في الدلالة عليه تعالى عظمة وكبراً؛ وذلك لأن الاسم إذا كان من أسماء الأفعال يكون مخلوقاً للَّه تعالى وآية من

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص521، وأصول الكافي، ج1، ص89، باب معاني الاسماء واشتقاقها، ح2.

(2) سورة الأعراف: 180.

٢٥٠

آياته، فالعبادة ليست له، بل لباريه تعالى، ومن ثم يتوجّه إليه كمرآة وآية يُنظر بها ولا ينظر إليها؛ ولذا تكون اسماً وعلامة. وأمَّا إذا نُظر إلى الاسم بما هو هو، فيكون حينئذٍ صنماً موجباً للشرك والكفر، وهو الغلو المنهيّ عنه، ولكن هذا لا يعني رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلك يحجب عن المسمّى أيضاً، فلا يلحد بها ولا ينظر إليها بالاستقلال، بل ينظر بها؛ وذلك لِمَا بيّناه سابقاً من أنه لا تعطيل ولا تشبيه، فالإلحاد في الأسماء تعطيل للباري بعد عدم كونه جسماً يُقابل أو يجابه أو يشابه مخلوقاته، وهو نفي الجسميّة، فلا محيص عن التوجّه بالأسماء، لا سيّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق اللَّه عزَّ وجل، نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، الذين بواسطتهم وصل آدم إلى ما وصل إليه من الخلافة، عندما علّمه اللَّه عزَّ وجلَّ تلك الأسماء الحيّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوريّة، التي هي أعظم آيات الباري تعالى وأفضل من جميع الملائكة.

الكلمات التامّات:

هناك آيات عديدة تدلّ - بمعونة الروايات الواردة فيها - على أن الكلمات التامّات والآيات الكبرى للَّه عزَّ وجلَّ هم النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وقد سبق تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال: (إن اللَّه تبارك وتعالى كان ولا شي‏ء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكلّ واحد منهم اسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمّى النبيّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الأعلى وسمّى

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٥١

أمير المؤمنين عليه‌السلام عليّاً، وله الأسماء الحسنى فاشتقّ منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه اسماً، فلمّا خلقهم، جعلهم في الميثاق، فإنهم عن يمين العرش، وخلق الملائكة من نور، فلمَّا نظروا إليهم، عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبيح فذلك قوله: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) (1) فلمّا خلق اللَّه تعالى آدم(صلوات اللَّه وسلامه عليه) نظر إليهم عن يمين العرش، فقال: ياربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: ياآدم، هؤلاء صفوتي وخاصّتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسماً من أسمائي، قال: ياربّ، فبحقّك عليهم علّمني أسماءهم، قال: ياآدم فهم عندك أمانة، سرّ من سرّي، لا يطّلع عليه غيرك إلّا بإذني، قال: نعم ياربّ، قال: ياآدم، أعطني على ذلك العهد، فأخذ عليه العهد، ثم علّمه أسماءهم، ثم عرضهم على الملائكة، ولم يكن علّمهم بأسمائهم، ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ) (2) علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلاً له وعبادة للَّه؛ إذ كان ذلك بحقّ له، وأبى إبليس الفاسق عن أمر ربّه) (3) .

2 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، ويمكن تقريب دلالة الآية إجمالاً على كون الكلمات هي النبي وأهل بيته بما تقدّمت الإشارة من

____________________

(1) الصافات: 165 - 166.

(2) البقرة: 31 - 32 - 33.

(3) تفسير فرات الكوفي، ص56، وكمال الدين وتمام النعمة، ص14، والهداية الكبرى للخصيبي، ص428 (واللفظ للأوَّل).

٢٥٢

إطلاق الكلمة في القرآن الكريم على النبي عيسى عليه‌السلام بما هو حجّة للَّه اصطفاه على العباد، فمنه يعرف أن الكلمة في استعمال القرآن تطلق على حجج اللَّه وأصفيائه، ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) (1) حيث تومئ الآية إلى كون كلمة اللَّه تعرف بالصدق والعدالة، وهو وصف لحجج اللَّه، وهذا الوصف أحرى بالصدق على سيد الأنبياء بعد صدقه على النبي عيسى عليه‌السلام .

وقد وردت بذلك الروايات من الفريقين كما سيأتي معتضداً ذلك بأن الأسماء التي تعلّمها آدم وشرّف بها على الملائكة قد مرّ أنها عرّفت بضمير الجمع للحي الشاعر العاقل وأُشير إليها باسم الإشارة للجمع الحي الشاعر العاقل، ممَّا يدلُّ على أنها موجودات وكائنات حيّة شاعرة عاقلة، نشأتها في غيب السماوات والأرض؛ لعدم علم ملائكة السماوات والأرض بها، كما أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (2) .

ولا ريب أن أشرف الكائنات بنصوصية الكثير من الآيات وروايات الفريقين هو سيد الأنبياء، كما قد تبيّن أن أوَّل وأسمى الكلمات التي بشرفها قُبلت توبة آدم هو سيد الأنبياء، وحينئذٍ تُبيّن الآيات أن تلك الأسماء والكلمات حيث عبّر عنها بلفظ الجمع يقتضي أن مع سيد الأنبياء حجج آخرين للَّه تعالى شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب اللَّه بهم عليه.

ولا نجد القرآن الكريم يُنزّل منزلة نفس النبي أحداً من الأنبياء والرسل، بل نزَّل علي بن أبي طالب منزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه خصيصة اختصّ هو عليه‌السلام بها. كما لم يُشرك اللَّه تعالى في طهارة

____________________

(1) سورة الأنعام: 115.

(2) سورة البقرة: 33.

٢٥٣

النبي وعصمته ونمط حُجِّيَّته وعلمه بالكتاب كلّه مع العديد من المقامات الأخرى أحداً من أنبيائه ورسله، لكنَّه أشرك أهل بيته؛ وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، كما في آية التطهير والمباهلة ومسِّ الكتاب من المطهَّرين من هذه الأمة وغيرها من الآيات النازلة فيهم.

فتبيّن أن قرين سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله في المراد من الكلمات والأسماء هم أهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد في كتب الفريقين من السنّة والشيعة أن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فدعا اللَّه عزَّ وجلَّ بواسطة الكلمات فتاب عليه.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لمَّا اقترف آدم الخطيئة، قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي، فقال: يا آدم، وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: يا ربّ؛ لأنك لمَّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت يا آدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك) (1) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عبَّاس قال: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال:

____________________

(1) المستدرك، ج2، ص615.

٢٥٤

سأل بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت علي فتاب عليه) (1) . ومنها: ما أخرجه السيوطي عن الإمام علي عليه‌السلام أنه ذكر أن اللَّه عزَّ وجلَّ علّم آدم الكلمات التي تاب بها عليه وهي: (اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التوَّاب الرحيم. فهؤلاء الكلمات التي تلقّى آدم) (2) .

3 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) (3) .

فالكلمة أُطلقت على عيسى عليه‌السلام ، وهذا الإطلاق غير خاص به عليه‌السلام ، بل هو شامل لكلّ الأنبياء لا سيما أولوا العزم منهم ولا سيما خاتم النبيِّين، فهو أفضل الأنبياء وسيّدهم وأعظمهم، فلا محالة يكون هو الكلمة الأتمّ، وكذا من هم نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم أهل بيته عليهم‌السلام .

4 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (4)

فلا شك أن إبراهيم عليه‌السلام كلمة وآية من آيات اللَّه تعالى؛ لأنه أفضل من عيسى عليه‌السلام ، ومع ذلك امتحنه اللَّه عزَّ وجلَّ بكلمات تفوقه في المقام والمنزلة، ولمَّا ثبت في الامتحان، فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة

____________________

(1) شواهد التنزيل، ج1، ص101.

(2) الدر المنثور، ج1، ص60.

(3) النساء: 171.

(4) البقرة: 124.

٢٥٥

تكون الكلمات هم سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخرين غير النبي إبراهيم والنبي عيسى وموسى وآدم عليهم‌السلام .

والكلمات - كما جاء في الروايات - هم خمسة أصحاب الكساء، فإبراهيم نال مقام الخلافة في الأرض والزلفى عند اللَّه عزَّ وجلَّ بالكلمات، كما أن آدم فُضّل على الملائكة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسنى والآيات العظمى، وهم أهل آية التطهير عليهم‌السلام .

وكذلك آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهية بتوسّط علم الأسماء الحيّة العاقلة النوريّة، التي تحيط بجميع المخلوقات، ولا يحيط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء اللَّه عزَّ وجل.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، قال: سألته عن قول اللَّه عزَّ وجل: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ما هذه الكلمات؟

قال: (هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب اللَّه عليه، وهو أنه قال: أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليَّ، فتاب اللَّه عليه إنه هو التواب الرحيم) (1) .

5 - قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

وقد كان المعصومون الأربعة عشر كلّهم عليهم‌السلام يقرأون هذه الآية عند ولادتهم، فهم الكلمات التَّامَّات التي تمّت صدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلماته، وقد مرّت الإشارة إلى أن نعت الكلمة بالصدق والعدالة يشير إلى حجج اللَّه فيما

____________________

(1) كمال الدين وتمام النعمة، ص358.

(2) الأنعام: 115.

٢٥٦

يؤدّونه عن اللَّه وما هي عليه سيرتهم من الصدق والعدل والعدالة، هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل وتفصيلاته.

الجواب الثالث: الآيات القرآنية

1 - وهو ما جاء في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (1) . الاستكبار على الآيات الوارد في هذه الآية المباركة نظير ما فعله إبليس؛ حيث أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكذّب بآية من آيات اللَّه تعالى. وذلك عندما قال: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) وقد استند في تكذيبه هذا إلى القياس الباطل، وهو لا يعلم حقائق دين اللَّه تعالى، ولا يعلم أن جانباً آخر في آدم نوريّ يعلو على النار هو الذي أهّله لذلك المقام، وليس الطين إلّا وجوده النازل المادّي. ثم إن الآية المباركة ذكرت أثراً آخر من آثار التكذيب بالآيات الإلهية والاستكبار عليها، حيث قالت: ( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) ، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حين الدعاء والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزَّ وجل، وحين إرادة الزلفى والقرب، وكذلك لتصاعد الإيمان والعقيدة، كما يشير إليه قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (3) ، فهذه الآية المباركة تقول: إن الذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالى وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها - كما فعل إبليس - لا

____________________

(1) الأعراف: 40.

(2) الأعراف: 12.

(3) سورة فاطر: 10.

٢٥٧

تفتّح لهم أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا اللَّه أو يتقرّبوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم كالصلاة والصوم والحجّ. والربط بين ترك الآية والإعراض عنها والاستكبار عليها وبين عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن اللَّه عزَّ وجلَّ ليس بمادّي ولا بجسم، فلا يمكن أن يقابل أو يجابه، فلا زلفى إلّا بالآيات والإيمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلى اللَّه عزَّ وجل: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) ، وقد مرّ في هذا الفصل وفي الفصل الثالث أن الآيات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلى سماء الحضرة الإلهية بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلك مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآية تتشاهد وتتطابق مع الآية المتقدمة من قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1) وأن الأسماء التي يُدعى بها في مقام الدعاء والفوز على اللَّه هي الآيات التي لابدّ من الإيمان بها والخضوع والإقبال عليها والتوجّه بها إلى الحضرة السماوية. وهذا المضمون هو ما ورد في الروايات المتواترة من أن ولاية أهل البيت عليهم‌السلام شرط في قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم عليهم‌السلام مقام من مقامات التوحيد في الطاعة، وهي شرط التوحيد وكلمة لا إله إلّا اللَّه، فمَن لا ولاية ولا طاعة له لا يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ له عملاً، كما هو الحال في إبليس، حيث لم يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ أعماله، ولم يقم له وزناً وطُرد من جوار اللَّه وقربه.

____________________

(1) سورة الأعراف: 180.

٢٥٨

إذن؛ مَن لا يُذعِن بالواسطة والولاية لا يقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا يكون ناجياً يوم القيامة ( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ ) .

2 - وهو قوله تعالى: ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (1) ، فهذه الآية جاءت في سياق واحد مع قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (2) ، فالسياق الواحد في هذه الآيات دالّ على أن ما فعله إبليس كان إنكاراً وظلماً لآية من آيات اللَّه تعالى، ودالّ أيضاً على أن ثقل الميزان والقرب وقبول الأعمال إنما يتمّ بالخضوع للآيات والإيمان بها.

وليست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة.

3 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (3) ، وتقريب الاستدلال بهذه الآية كالتقريب الذي تقدّم في الآيات التي سبقتها، ولا يخفى ما في التعبير بـ(عنه) دون التعبير بـ(عليه) من دلالة على الإعراض والإنكار لوساطة الآيات الإلهية، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود في النار.

____________________

(1) الأعراف: 9.

(2) الأعراف: 11 - 13.

(3) الأعراف: 36.

٢٥٩

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة

التوسُّل والوسيلة حقيقة العقيدة بالنبوّة والرسالة

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنكِر لمبدأ التوسّل بتوجيه قوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، حيث فسّروا الوسيلة في هذه الآية بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلى ربّه.

وقد ورد في الأحاديث بأن العبد لا يتقرّب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ إلّا بالطاعة والعمل الصالح، فطوعانية العبد لربّه هي وسيلته الوحيدة، وليس بين اللَّه وبين خلقه قرابة وقرب إلّا بالطاعة ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، فالجنّة يدخلها المطيع ولو كان عبداً حبشياً، والنار يدخلها العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

كان حصيلة الشبهة الرابعة هو تمسّكهم بقوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) حيث فسّروا الوسيلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوى والورع وسائر العبادات، وأن طوعانية العبد لربّه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفي المقدّمة نحن لا ننفي كون الأعمال الصالحة وسيلة من وسائل القرب إلى اللَّه عزَّ وجل، ولكن نريد أن نقول هي أحد مصاديق الوسيلة وليست الوسيلة منحصرة بها، وذلك بمقتضى نفس زعمهم من أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة والطاعات، حيث إن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإيمان باللَّه ورسوله؛ إذ لا يقاس بالإيمان بقيّة الأعمال من الصلاة والصيام والحج وغيرها،

____________________

(1) المائدة: 35.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793