النهاية الجزء ١

النهاية10%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225338 / تحميل: 6345
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بقيّة نهاره تأديبا، وعليه القضاء. وإن لم يكن قد فعل شيئا ممّا يفسد الصّيام، أمسك بقيّة يومه، وقد تمَّ صومه، وليس عليه القضاء.

باب حكم المسافر في شهر رمضان وصيام النذر

يكره للإنسان الخروج إلى السّفر في شهر رمضان إلّا عند الضّرورة الدّاعية له إلى ذلك من حجّ أو عمرة أو الخوف من تلف مال أو هلاك أخ أو ما يجري مجراه. فاذا مضى ثلاث وعشرون من الشّهر، جاز له الخروج إلى حيث شاء. ومتى خرج إلى السّفر، وكان سفره ممّا يجب عليه فيه التقصير في الصّلاة، وجب عليه الإفطار. وكلّ سفر لا يجوز له فيه التقصير في الصّلاة، لم يجز له التقصير في الصّوم. ومتى كان سفره أربعة فراسخ، ولم يرد الرّجوع فيه، لم يجز له الإفطار، وهو مخيّر في التقصير في الصّلاة حسب ما قدّمناه.

ومن صام في سفر، يجب عليه فيه الإفطار، وكان عالما بوجوب ذلك عليه، كان عليه الإعادة، ولم يجزه الصّوم. وان لم يكن عالما به، كان صومه ماضيا. وإذا خرج الرّجل إلى السّفر بعد طلوع الفجر أيّ وقت كان من النّهار، وكان قد بيّت نيّته من اللّيل للسّفر، وجب عليه الإفطار. وان لم يكن

١٦١

قد بيّت نيّته من اللّيل، ثمَّ خرج بعد طلوع الفجر، كان عليه إتمام ذلك اليوم، وليس عليه قضاؤه. وإن خرج قبل طلوع الفجر، وجب عليه الإفطار على كلّ حال، وكان عليه القضاء. ومتى بيّت نيّته للسّفر من اللّيل، ولم يتّفق له الخروج إلّا بعد الزّوال، كان عليه أن يمسك بقيّة النّهار، وعليه القضاء.

وإذا خرج الإنسان إلى السّفر، فلا يتناول شيئا من الطّعام أو الشّراب، الى أن يغيب عنه أذان مصره أو يتوارى عنه بلده. ولا ينبغي له أن يتملأ من الطّعام، ولا ان يتروّى من الشّراب. ولا يجوز له أن يقرب الجماع بالنّهار إلا عند الحاجة الشّديدة الى ذلك.

ويكره صيام النّوافل في السّفر على كلّ حال. وقد وردت رواية في جواز ذلك. فمن عمل بها لم يكن مأثوما، إلّا أن الأحوط ما قدّمناه.

وصيام الثلاثة أيام في الحجّ واجب في السّفر، كما قال الله تعالى:( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ ) وقد وردت الرّغبة في صيام ثلاثة أيام بالمدينة لصلاة الحاجة.

ومن كان عليه صيام فريضة: إمّا قضاء شهر رمضان، أو كفّارة ظهار. أو كفّارة قتل الخطإ، أو غيره من وجوه الصّيام المفروضة، لم يجز له أن يصومه في السّفر. فإن فعل

١٦٢

في السّفر شيئا يلزمه به الصّيام، انتظر قدومه إلى بلده، ولا يصوم في السّفر.

فإن أقام في بلد عشرة أيام فصاعدا، جاز له الصّيام.

وأمّا صيام النّذور، فإن كان النّاذر قد نذر أن يصوم أيّاما بأعيانها، أو يوما بعينه، ووافق ذلك اليوم أو الأيّام أن يكون مسافرا، وجب عليه الإفطار، وكان عليه القضاء. وكذلك إن اتّفق أن يكون ذلك اليوم يوم عيد، وجب عليه الإفطار، وعليه القضاء لذلك اليوم. وإن كان النّاذر نذر أن يصوم ذلك اليوم أو الأيّام على كلّ حال مسافرا كان أو حاضرا، فإنه يجب عليه الصّيام في حال السّفر.

باب قضاء شهر رمضان ومن أفطر فيه على العمد أو النسيان

من فاته شي‌ء من شهر رمضان لمرض أو سفر أو أحد الأسباب التي توجب الإفطار، فليقضه أيّ وقت تمكّن منه، ولا يقضه في سفر. ولا يبتدي بصوم تطوّع، وعليه شي‌ء من صيام شهر رمضان، حتّى يقضيه.

وإذا أراد قضاء ما فاته من شهر رمضان، فالأفضل أن يقضيه متتابعا. وإن فرّقه كان أيضا جائزا. فإن لم يتمكّن من سرده، قضى ستّة أيّام متواليات، ثمَّ قضى ما بقي عليه متفرّقا. وإن لم يتمكّن وفرّق جميعه، لم يكن به بأس، غير أن الأفضل ما قدّمناه. ولا بأس أن يقضي ما فاته من شهر رمضان في أيّ شهر

١٦٣

كان. فإن اتّفق أن يكون مسافرا انتظر وصوله إلى بلده أو المقام في بلد أكثر من عشرة أيام. ثمَّ يقضيه إن شاء.

ومن أكل، أو شرب، أو فعل ما ينقض الصّيام، في يوم يقضيه من شهر رمضان، ناسيا، تمّم صيامه، وليس عليه شي‌ء. فإن فعله متعمّدا، وكان قبل الزّوال، أفطر يومه ذلك، ثمَّ ليقضه، وليس عليه شي‌ء. وإن فعل ذلك بعد الزّوال، قضى ذلك اليوم، وكان عليه إطعام عشرة مساكين. فإن لم يتمكّن، كان عليه صيام ثلاثة أيّام بدلا من الكفّارة. وقد رويت رواية: « أنّ عليه مثل ما على من أفطر يوما من شهر رمضان » والعمل ما قدّمناه. ويمكن أن يكون الوجه في هذه الرّواية: من أفطر هذا اليوم بعد الزّوال استخفافا بالفرض وتهاونا به، فلزمته هذه الكفّارة عقوبة وتغليظا، ومن أفطر على غير ذلك الوجه، فليس عليه إلّا الأوّل. وقد وردت رواية أخرى: « أنّه ليس عليه شي‌ء » ويمكن أن يكون الوجه فيها: من لم يتمكّن من الإطعام ولا من صيام ثلاثة أيّام، فليس عليه شي‌ء. ومتى أصبح الرّجل جنبا، وقد طلع الفجر عامدا كان أو ناسيا، فليفطر ذلك اليوم ولا يصمه ويصوم غيره من الأيّام.

ومن أصبح صائما متطوّعا، جاز له أن يفطر أيّ وقت شاء. فإذا صار بعد الزّوال، فالأفضل له أن يصوم ذلك اليوم، إلّا أن يدعوه أخ له مؤمن، فإن الأفضل له الإفطار.

١٦٤

ومن أصبح بنيّة الإفطار، جاز له أن يجدّد النيّة لقضاء شهر رمضان أو لصيام التطوع ما بينه وبين نصف النّهار. فإذا زالت الشّمس، لم يجز له تجديد النيّة.

والحائض يجب عليها قضاء ما فاتها من الأيّام من شهر رمضان. فإن كانت مستحاضة في شهر رمضان، صامت إلّا الأيّام التي كانت عادتها فيها الحيض. ثمَّ تقضي تلك الأيّام. ومتى أصبحت المرأة صائمة، ثمَّ رأت الدّم، فقد أفطرت. وإن كان ذلك بعد العصر أو قبل غيبوبة الشّمس بقليل، أمسكت، وعليها قضاء ذلك اليوم. ومتى أصبحت بنيّة الإفطار، ثمَّ طهرت في بقيّة يومها، أمسكت ما بقي من النّهار، وكان عليها القضاء. ومتى طهرت المرأة من الحيض أو النّفاس، ثمَّ استحاضت، وصامت، ولم تفعل ما تفعله المستحاضة، كان عليها قضاء الصّوم.

ومن أجنب في أوّل الشّهر، ونسي أن يغتسل، وصام الشّهر كلّه، وصلّى، وجب عليه الاغتسال، وقضاء الصّوم والصّلاة. والمغمى عليه إذا كان مفيقا في أوّل الشّهر. ونوى الصّوم، ثمَّ أغمي عليه، واستمرّ به أيّاما، لم يلزمه قضاء شي‌ء فاته، لأنّه بحكم الصّائم. وإن لم يمكن مفيقا في أوّل الشّهر، بل كان مغمى عليه، وجب عليه القضاء على قول بعض أصحابنا. وعندي أنّه لا قضاء عليه أصلا.

١٦٥

باب ما يجري مجرى شهر رمضان في وجوب الصوم وحكم من أفطر فيه على العمد والنسيان

الذي يجري مجرى ذلك: صيام شهرين متتابعين فيمن قتل خطأ إذا لم يجد العتق، وصيام شهرين متتابعين في كفّارة الظّهار على من لم يجد عتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمّدا إذا لم يعتق ولم يطعم. فمن وجب عليه شي‌ء من هذا الصّيام، وجب عليه أن يصومه متتابعا. فإن لم يتمكّن من صيامه متتابعا، صام الشّهر الأوّل ومن الشّهر الثّاني شيئا، ثمَّ فرّق ما بقي عليه. فإن أفطر في الشّهر الأوّل أو الثّاني قبل أن يصوم منه شيئا، كان عليه الاستيناف. اللهمّ إلّا أن يكون سبب إفطاره المرض أو شيئا من قبل الله تعالى، فإنّه يبني عليه على كلّ حال.

وليس على من وجب عليه صوم هذه الأشياء أن يصومه في السّفر، ولا أن يصوم أيّام العيدين ولا أيّام التّشريق إذا كان بمنى. فإن وافق صومه أحد هذه الأيّام، وجب عليه أن يفطر، ثمَّ ليقض يوما مكانه، إلّا أن يكون الذي وجب عليه الصّيام القابل في أشهر الحرم، فإنه يجب عليه صيام شهرين متتابعين من أشهر الحرم، وإن دخل فيها صيام يوم العيد وأيّام التّشريق. والمرأة إذا حاضت، وهي تصوم شهرين متتابعين، أفطرت أيّام

١٦٦

حيضها، ثمَّ لتقضها بعد انقضاء حيضها.

ومن وجب عليه صيام شهرين متتابعين في أوّل شعبان، فليتركه إلى انقضاء شهر رمضان، ثمَّ يصوم شهرين متتابعين. فإن صام شعبان ورمضان، لم يجزئه، إلّا أن يكون قد صام مع شعبان شيئا ممّا تقدّم من الأيّام، فيكون قد زاد على الشّهر، فيجوز له البناء عليه، ويتمّم شهرين.

ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا، فصام خمسة عشر يوما، وعرض له ما يفطر فيه، وجب عليه صيام ما بقي من الشّهر. وإن كان صومه أقلّ من خمسة عشر يوما كان عليه الاستيناف.

فأما صيام النّذر فقد بيّنّا حكمه فيما تقدّم. فمن أفطر في يوم قد نذر صومه متعمّدا، وجب عليه ما يجب على من أفطر يوما من شهر رمضان: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكينا. فان لم يتمكّن، صام ثمانية عشر يوما، أو تصدّق بما تمكّن منه. فإن لم يستطع، استغفر الله، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر أن يصوم حينا من الزّمان، وجب عليه أن يصوم ستّة أشهر. فإن نذر أن يصوم زمانا، كان عليه أن يصوم خمسة أشهر.

ومن نذر أن يصوم بمكّة أو بالمدينة أو أحد المواضع المعيّنة شهرا بعينه، فحضره، وصام بعضه، ولم يتمكّن من المقام،

١٦٧

جاز له أن يخرج. فاذا رجع الى بلده، قضاه على التّمام.

ومتى عجز الإنسان عن صيام ما نذر فيه، تصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام.

وصوم كفّارة اليمين واجب أيضا. وهو ثلاثة أيام متتابعات. ولا يجوز الفصل بينهما بالإفطار. فمن فعل ذلك، استأنف الصّيام.

وصيام أذى حلق الرّأس واجب، إذا لم ينسك، ولم يتصدّق. وصيام ثلاثة أيّام لمن لم يجد دم المتعة في الحجّ متتابعات أيضا، وصوم جزاء الصّيد بحسب قيمة جزأيه وبحسب ما يلزمه من الصّيام.

وصوم الاعتكاف واجب أيضا، وسنفرد له بابا إن شاء الله.

باب صيام التطوع وما يكون صاحبه فيه بالخيار وصوم التأديب والاذن وما لا يجوز صيامه

صوم ثلاثة أيّام في الشّهر مستحب مندوب اليه مرغّب فيه. وهو أوّل خميس في العشر الأوّل، وأوّل أربعاء في العشر الثّاني، وآخر خميس في العشر الأخير. فينبغي أن لا يتركه الإنسان مع الاختيار. فإن لم يقدر على صيام هذه الأيّام في أوقاتها، جاز له تأخيرها من شهر إلى شهر، ثمَّ يقضيها. وكذلك لا بأس أن يؤخرها من الصّيف الى الشّتاء، ثمَّ يقضيها بحسب ما فاته. فان

١٦٨

عجز عن الصّيام، جاز له أن يتصدّق عن كلّ يوم بدرهم أو بمدّ من طعام. فإن لم يقدر على ذلك، لم يكن عليه شي‌ء.

ويستحبّ صيام الأربعة أيّام في السّنة، وهي: يوم السّابع والعشرين من رجب، وهو يوم مبعث النّبيّ،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويوم السّابع عشر من شهر ربيع الأوّل، وهو يوم مولده، ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، وهو يوم دحيت فيه الأرض من تحت الكعبة، ويوم الثامن عشر من ذي الحجّة، وهو يوم الغدير، نصب فيه رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمير المؤمنين،عليه‌السلام ، إماما للأنام.

ويستحبّ صيام أوّل يوم من ذي الحجّة، وهو يوم ولد فيه إبراهيم الخليل،عليه‌السلام . ويستحبّ صيام رجب بأسره لمن تمكّن من ذلك. ومن لم يتمكّن، صام أوّل يوم منه، ويوم الثالث عشر منه، وهو يوم ولد فيه أمير المؤمنين،عليه‌السلام . ويستحبّ صيام شعبان وصلته بشهر رمضان. فمن صامه، ووصله بشهر رمضان، كان توبة من الله، ومن لم يتمكّن من صومه كلّه، صام منه ما استطاع.

والصّوم الذي يكون صاحبه فيه بالخيار، فيوم الجمعة والخميس وأيام البيض من كلّ شهر وستّة أيام من شوّال وصوم يوم عرفة ويوم عاشوراء.

وأما صوم الإذن، فلا تصوم المرأة تطوّعا إلا بإذن زوجها.

١٦٩

فان صامت من غير إذنه، جاز له أن يفطرها، ويواقعها. وإن كانت صائمة من قضاء شهر رمضان، لم يكن له ذلك. والعبد لا يصوم تطوّعا إلا بإذن مولاه. والضّيف لا يصوم تطوّعا إلا بإذن مضيفه.

وأمّا صوم التأديب، فأن يؤخذ الصّبيّ إذا راهق بالصّوم تأديبا، وليس بفرض. وكذلك من أفطر لمرض في أول النهار ثمَّ قوي بقيّة نهاره، أمر بالإمساك عن الطّعام والشّراب بقيّة يومه تأديبا، وليس بفرض وكذلك المسافر، إذا أكل من أوّل النّهار، ثمَّ قدم أهله، أمسك بقيّة يومه تأديبا. وكذلك الحائض إذا أفطرت في أوّل النّهار، ثمَّ طهرت في بقيّة يومها، أمسكت تأديبا، وعليها قضاؤه.

وأمّا الذي لا يجوز صيامه على حال: فيوم الفطر ويوم الأضحى، وثلاثة أيّام التّشريق لمن كان بمنى، وصوم يوم الشّكّ على أنّه من شهر رمضان حسب ما قدّمناه، وصوم الوصال وهو أن يجعل عشاءه سحوره، وصوم الصّمت، وصوم نذر المعصية، وصوم الدّهر.

باب الاعتكاف

الاعتكاف مستحبّ مندوب اليه مرغّب فيه. وأفضل ما يعتكف الإنسان فيه من الأوقات، العشر الأواخر من شهر رمضان. فإن اعتكف في غيرها، كان أيضا جائزا. وفيه فضل

١٧٠

كبير. والمواضع التي يجوز فيها الاعتكاف، كلّ مسجد جمّع الإمام العادل فيه بالنّاس صلاة جمعة يوم الجمعة، وهي أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة. وقد روي في بعض الأخبار مسجد المدائن. والمعوّل على المساجد الّتي ذكرناها. ولا يجوز الاعتكاف فيما عدا هذه المساجد التي قدّمنا ذكرها.

ومتى أراد الإنسان الاعتكاف، فلا يعتكف أقلّ من ثلاثة أيّام، فإنه لا اعتكاف أقلّ منها. ولا بدّ أن يصوم واجبا، لأنه لا اعتكاف إلّا بصوم. فمن اعتكف ثلاثة أيّام، كان فيما زاد عليها بالخيار: إن أراد أن يزداد ازداد، وإن أراد أن يرجع رجع. فإن صام بعد الثّلاثة أيّام يومين آخرين، لم يجز له الرّجوع، وكان عليه تمام ثلاثة أيّام أخر. وان كان قد زاد يوما واحدا، جاز له أن يفسخ الاعتكاف.

وينبغي للمعتكف أن يشترط على ربّه في حال ما يعزم على الاعتكاف كما يشترط في حال الإحرام: بأنه إن عرض له مرض وما أشبهه، كان له الرّجوع فيه. فإنّه متى فعل ذلك، ثمَّ عرض له مرض: جاز له أن يرجع فيه أيّ وقت شاء. فان لم يشترط، لم يكن له الرّجوع فيه، الّا أن يكون أقلّ من يومين. فإن مضت عليه يومان، وجب عليه أيضا تمام ثلاثة أيّام حسب ما قدّمناه.

١٧١

وعلى المعتكف أن يجتنب جميع ما يجتنبه المحرم من النّساء والطّيب والرّياحين والكلام الفحش والمماراة والبيع والشّراء، ولا يفعل شيئا من ذلك.

ولا يجوز له أن يخرج من المسجد الذي اعتكف فيه، إلّا لضرورة تدعوه إلى ذلك من تشييع أخ أو جنازة أو عيادة مريض أو قضاء حاجة لا بدّ له منها. فمتى خرج لإحدى الأشياء التي ذكرناها، فلا يقعد في موضع، ولا يمشي تحت الظّلال.

ولا يقف فيها إلّا عند الضرورة الى أن يعود إلى المسجد. ولا يصلّي المعتكف في غير المسجد الذي اعتكف فيه، إلا بمكّة خاصّة، فإنه يجوز له أن يصلّي بمكّة في أيّ بيوتها شاء.

ومتى اعتلّ المعتكف جاز له أن يخرج من المسجد الى بيته. فإذا برأ قضى اعتكافه وصومه.

واعتكاف المرأة كاعتكاف الرّجل سواء، وحكمها حكمه في جميع الأشياء. فإن طمثت، خرجت من المسجد. فإذا طهرت، عادت، وقضت الاعتكاف والصّوم.

ولا يجوز للمعتكف مواقعة النّساء لا باللّيل ولا بالنّهار. فمتى واقع الرّجل امرأته، وهو معتكف ليلا، كان عليه ما على من أفطر يوما من شهر رمضان: عتق رقبة، أو صيام شهرين أو إطعام ستّين مسكينا. وإن كانت مواقعته لها بالنّهار في شهر رمضان، كان عليه كفّارتان.

١٧٢

كتاب الزكاة

الزّكاة على ضربين: مفروض ومسنون. وكلّ واحد منهما ينقسم قسمين: فقسم منهما زكاة الأموال، والثاني زكاة الرّءوس.

فأمّا زكاة الأموال، فيحتاج في معرفتها إلى ستّة أشياء: أحدها معرفة وجوب الزّكاة. والثّاني معرفة من تجب عليه، ومن لا تجب عليه. والثّالث معرفة ما تجب فيه، وما لا تجب والرّابع معرفة المقدار الذي تجب فيه، ومعرفة مقدار ما لا تجب. والخامس معرفة الوقت الذي تجب فيه. والسّادس معرفة من يستحقّ ذلك ومقدار ما يعطى من أقلّ أو أكثر.

وأمّا زكاة الرّءوس فيحتاج فيها أيضا إلى معرفة ستّة أشياء: أحدها معرفة وجوبها. والثّاني معرفة من تجب عليه. والثّالث معرفة ما يجوز إخراجه وما لا يجوز. والرّابع معرفة مقدار ما تجب. والخامس معرفة الوقت الذي تجب فيه. والسّادس من المستحقّ له، وكم أقلّ ما يعطى وأكثر. وليس

١٧٣

يخرج من هذه الأقسام شي‌ء ممّا يتعلّق بأبواب الزّكاة. ونحن نبيّن قسما قسما من ذلك، ونستوفيه على حقّه إن شاء الله.

باب وجوب الزكاة ومعرفة من تجب عليه

الزّكاة المفروضة في شريعة الإسلام، واجبة على كلّ مكلّف حرّ بالغ، رجلا كان أو امرأة. وهم ينقسمون قسمين: قسم منهم إذا لم يخرجوا ما يجب عليهم من الزّكاة، كان ثابتا في ذمّتهم. وهم جميع من كان على ظاهر الإسلام. والباقون هم الذين متى لم يخرجوا ما يجب عليهم من الزّكاة، لم يلزمهم قضاؤه. وهم جميع من خالف الإسلام. فإن الزّكاة، وإن كانت واجبة عليهم بشرط الإسلام، ولم يخرجوها لكفرهم، فمتى أسلموا لم يلزمهم إعادتها.

وأمّا المجانين، ومن ليس بكامل العقل، فلا تجب عليهم الزّكاة في أموالهم المودعة. وتجب فيما يحصل لهم من الغلّات والمواشي. وحكم الأطفال حكم من ليس بعاقل من المجانين أو غيرهم. فإنه لا تجب في أموالهم الصّامتة زكاة.

فإن اتّجر متّجر بأموالهم نظرا لهم، يستحبّ له أن يخرج من أموالهم الزّكاة، وجاز له أن يأخذ من الرّبح بقدر ما يحتاج اليه على قدر الكفاية. وإن اتّجر لنفسه دونهم، وكان في الحال متمكّنا من ضمان ذلك المال، كانت الزّكاة عليه،

١٧٤

والرّبح له. وإن لم يكن متمكّنا في الحال من مقدار ما يضمن به مال الطّفل، وتصرّف فيه لنفسه من غير وصيّة ولا ولاية، لزمه ضمانه، وكان الرّبح لليتيم، ويخرج منه الزّكاة.

فأما ما عدا الأموال الصّامتة من الغلّات والمواشي، فإنّه يجب على من سمّيناه الزّكاة في أموالهم، وعلى أوليائهم أن يخرجوها ويسلّموها إلى مستحقّيها.

باب ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب وما يستحب فيه الزكاة

الذي تجب فيه الزّكاة فرضا لازما تسعة أشياء:

الذهب والفضّة، إذا كانا مضروبين دنانير ودراهم منقوشين. فإذا كانا سبائك أو حليّا، فلا تجب فيهما الزّكاة، إلا أن يقصد صاحبهما الفرار به من الزّكاة. فمتى فعل ذلك حال وجوب الزّكاة، استحبّ له أن يخرج منهما الزّكاة. وإن جعله كذلك بعد دخول الوقت، لزمته الزّكاة على كلّ حال.

والحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب والإبل والبقر والغنم.

وكلّ ما عدا هذه التسعة أشياء، فإنه لا تجب فيه الزّكاة.

ولا زكاة على مال غائب، إلّا إذا كان صاحبه متمكّنا منه أيّ وقت شاء. فإن كان متمكّنا منه لزمته الزّكاة. فإن لم يكن

١٧٥

متمكّنا، وغاب منه سنين، ثمَّ حصل عنده، يخرج منه زكاة سنة واحدة.

ومن ورث مالا، ولا يصل اليه إلّا بعد أن يحول عليه حول أو أحوال، فليس عليه زكاة، إلا أن يصل إليه ويحول عليه حول.

ومال القرض ليس فيه زكاة على صاحبه، بل تجب على المستقرض الزّكاة، إن تركه بحاله حتّى يحول عليه الحول. وإن تصرّف فيه بتجارة وما أشبهها، لزمته الزّكاة استحبابا.

وكلّ ما يملكه الإنسان مما عدا التّسعة أشياء التي ذكرناها، فإنّه يستحبّ له أن يخرج منه الزّكاة.

فإن كان معه مال يديره في التّجارة، استحبّ له إخراج الزّكاة منه، إذا دخل وقتها، وكان رأس المال حاصلا، أو يكون معه الرّبح. فإن كان قد نقص ماله، أو كان ما اشتراه طلب بأقلّ من رأس المال، فليس عليه فيه شي‌ء، فإن بقي عنده على هذا الوجه أحوالا، ثمَّ باعه، أخرج منه الزّكاة لسنة واحدة.

وكلّ ما يدخل فيه المكيال والميزان من الحبوب وغيرها مثل الجاورس والذرّة والسّلت والأرزّ والباقلا والسّمسم والكتّان وما أشبه ذلك، يستحبّ له أن يخرج منه الزّكاة سنّة مؤكّدة.

وأمّا الخضروات مثل القضب والباذنجان والبقول كلّها وما

١٧٦

أشبهها، فليس في شي‌ء منها زكاة، وإن بلغ ثمنه شيئا كثيرا، إلّا أن يباع ويحول على ثمنه الحول.

وأمّا الإبل والبقر والغنم، فليس في شي‌ء منها زكاة، إلّا إذا كانت سائمة، ويكون قد حال عليه الحول فصاعدا.

فإمّا المعلوفة منها فليس في شي‌ء منها زكاة على حال.

وحكم الجواميس حكم البقر في وجوب الزّكاة عليها.

وأمّا الخيل. ففيها الزّكاة مستحبّة، إذا كانت إناثا سائمة فإن كانت معلوفة، فليس فيها شي‌ء.

وليس على الإنسان زكاة فيما يملكه من خادم يخدمه أو دار يسكنها، إلّا أن تكون دار غلّة. فإن كان كذلك، يستحبّ أن يخرج منها الزّكاة. فأما زكاة الحليّ، فإعارته لمن يحتاج إليه إذا كان مأمونا.

باب المقادير التي تجب فيها الزكاة وكمية ما تجب

أمّا الذّهب فليس في شي‌ء منه زكاة، ما لم يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغ ذلك، كان فيه نصف دينار. ثمَّ ليس فيه شي‌ء ما لم تزد عليه أربعة دنانير. فإذا زاد ذلك، كان فيه ستّة أعشار. ثمَّ على هذا الحساب كلّما زادت أربعة دنانير، كان فيها زيادة عشر دينار بالغا ما بلغ. وليس فيما دون ذلك شي‌ء.

١٧٧

وأمّا زكاة الفضّة، فليس فيها شي‌ء ما لم تبلغ مائتي درهم. فإذا بلغت ذلك، كان فيها خمسة دراهم. ثمَّ ليس فيها شي‌ء الى ان تزيد أربعون درهما. فإذا زاد ذلك، كان فيها ستّة دراهم. ثمَّ على هذا الحساب، كلّما زادت أربعون درهما، كان فيها زيادة درهم بالغا ما بلغ. وليس فيما دون الأربعين بعد المأتين شي‌ء من الزّكاة.

وإذا خلّف الرّجل دراهم أو دنانير نفقة لعياله، لسنة أو سنتين أو أكثر من ذلك، مقدار ما تجب فيه الزّكاة، وكان الرّجل غالبا، لم تجب فيها زكاة. فإن كان حاضرا، وجبت عليه الزّكاة.

وأمّا زكاة الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب، فعلى حدّ سواء. وليس في شي‌ء من هذه الأجناس زكاة ما لم يبلغ خمسة أوسق بعد مقاسمة السلطان وإخراج المؤن عنها. كلّ وسق ستّون صاعا كلّ صاع تسعة أرطال بالعراقيّ، يكون مبلغه ألفين وسبعمائة رطل. فإذا بلغ ذلك، كان فيه العشر، إن كان سقي سيحا أو شرب بعلا. وإن كان ممّا قد سقي بالغرب والدّوالي والنّواضح وما أشبه ذلك، كان فيه نصف العشر. وإن كان ممّا قد سقي سيحا وغير سيح، اعتبر الأغلب في سقيه. فإن كان سقيه سيحا أكثر، كان حكمه حكمه، يؤخذ منه العشر. وإن كان

١٧٨

سقيه بالغرب والدّوالي وما أشبههما أكثر، كان حكمه حكمه، يؤخذ منه نصف العشر فإن استويا في ذلك، يؤخذ منه من نصفه بحساب العشر، ومن النّصف الآخر بحساب نصف العشر. وما زاد على خمسة أوسق، كان حكمه حكم الخمسة أوسق في أن يؤخذ منه العشر أو نصف العشر، قليلا كان أو كثيرا.

وأمّا زكاة الإبل، فليس في شي‌ء منها زكاة الى أن تبلغ خمسا. فإذا بلغت ذلك، كان فيها شاة. وليس فيما يزيد عليها شي‌ء الى أن تبلغ عشرا. فإذا بلغت ذلك، كان فيها شاتان. وليس فيما زاد عليها شي‌ء الى ان تبلغ خمس عشرة. فإذا بلغت ذلك، كان فيها ثلاث شياه. ثمَّ كذلك ليس فيها شي‌ء الى أن تبلغ عشرين. فاذا بلغت ذلك، كان فيها أربع شياه. ثمَّ ليس فيها شي‌ء الى ان تبلغ خمسا وعشرين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها خمس شياه. فإن زادت على خمس وعشرين واحدة، كان فيها بنت مخاض. وليس فيها شي‌ء بعد ذلك الى أن تبلغ خمسا وثلاثين، وتزيد واحدة. فإذا بلغت، كان فيها بنت لبون. وليس فيها شي‌ء الى أن تبلغ ستّا وأربعين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها حقّة. وليس فيما زاد عليها شي‌ء الى أن تبلغ إحدى وستّين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها جذعة، ثمَّ ليس فيها شي‌ء الى أن تبلغ ستّا وسبعين. فإذا

١٧٩

بلغت ذلك، كان فيها بنتا لبون. ثمَّ ليس فيها شي‌ء الى أن تبلغ إحدى وتسعين. فإذا بلغت ذلك، كان فيها حقّتان. ثمَّ ليس فيها شي‌ء إلى أن تبلغ مائة وإحدى وعشرين. فاذا بلغت ذلك، تركت هذه العبرة، وأخذت من كلّ خمسين حقّة، ومن كلّ أربعين بنت لبون.

فإن كان الذي تجب عليه زكاة الإبل ليس معه عين ما يجب عليه، جاز أن يؤخذ منه قيمته. فإن لم تكن معه القيمة وكان معه من غير السّنّ الذي وجب عليه، جاز أن يؤخذ منه. فإن كان دون ما يستحقّ عليه، أخذ منه مع ذلك، ما يكون تماما للذي وجب عليه. وإن كان فوق الّذي يجب عليه، أخذ منه، وردّ عليه ما فضل له. مثال ذلك أنّه إذا وجبت عليه بنت مخاض، وليست عنده، وعنده ابن لبون ذكر، أخذ منه ذلك وليس عليه شي‌ء. فإن كان عنده بنت لبون، وقد وجبت عليه بنت مخاض، أخذت منه، وأعطاه المصدّق شاتين أو عشرين درهما. فإن كان قد وجبت عليه بنت لبون، وعنده بنت مخاض، أخذت منه، وأخذ معها شاتان أو عشرون درهما. وإذا وجبت عليه حقّة، وليست عنده، وعنده بنت لبون، أخذت منه، وأعطي معها شاتين أو عشرين درهما. وإن كان قد وجبت عليه بنت لبون وعنده حقّة، أخذت منه، وردّ عليه شاتان أو عشرون درهما. وإذا وجبت عليه جذعة، وليست عنده،

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الفريقين ، فأمّا من يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين ، وأمّا من ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار ، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.

* * *

٤٠١

الآيات

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) )

التّفسير

يوما لقيامة : الوقت المجهول!

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة) : فتقول أوّلا :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) (١) .

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع

__________________

(١) جاءت كلمة «المرسى» بهذا الموضع مصدرا ، على مالها من استعمال اخرى ، فتأتي تارة اسم زمان ومكان ، وتارة اخرى اسم مفعول من «الإرساء» ، معناها المصدري هو : الوقوع والثبات ، ويستخدم المرسى كمكان لتوقف السفن ، وفي تثبيت الجبال على سطح الأرض ، وكقوله تعالى في الآية (٤١) من سورة هود :( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) ، والآية (٣٢) من سورة النازعات :( وَالْجِبالَ أَرْساها ) .

٤٠٢

القيامة ، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها ، ويقول :( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) .

فما خفّي عليك (يا محمّد) ، فمن باب أولى أن يخفى على الآخرين ، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه الله لنفسه ، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقا!

وكما قلنا ، فسّر خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية ، فإذا كان ساعة قيام القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة ، وبالمقابل ستكون التقوى اضطرارا والورع بعيدا عن الحرية والإختيار إذا كانت قريبة ، والأمران بطبيعتهما سيقتلان كلّ أثر تربوي مرجو.

وثمّة احتمالات اخرى قد عرضها بعض المفسّرين ، ومنها : إنّك لم تبعث لبيان وقت وقوع يوم القيامة ، وإنّما لتعلن وتبيّن وجودها (وليس لحظة وقوعها).

ومنها أيضا : إنّ قيامك وظهورك مبيّن وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة بدلالة ما

روي عن النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما جمع بين سبابتيه وقال : «بعثت أنا والقيامة كهاتين»(١)

ولكنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره وأقرب.

وتقول الآية التالية :( إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ) .

فالله وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في معرفة ذلك.

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآيتين : (٣٤) من سورة لقمان :( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ، وفي الآية (١٨٧) من سورة الأعراف :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) .

وقيل : المراد بالآية ، تحقق القيامة بأمر الله ، ويشير هذا القول إلى بيان علّة ما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩ ، وذكرت ذات الموضوع في : تفاسير (مجمع البيان) ، (القرطبي) ، (في ظلال القرآن) بالإضافة لتفسير اخرى ، في ذيل الآية (١٨) من سورة محمّد.

٤٠٣

ورد في الآية السابقة ، ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتسهم الآية التالية في التوضيح :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) .

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحقّ ، وإنذار من لا يأبى بعقاب أخروي أليم ، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

مع ملاحظة ، أنّ الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب الله ، هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (٢) من سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه ، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء ، ولا يستقر له شأن في أمر المعاد ، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام .

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس إلّا قليلا :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) .

فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الانقضاء ليكاد يعتقد الناس عند وقوع القيامة ، بأنّ كلّ عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلّا سويعات معدودة!

وليس ببعيد لأنّ عمر الدنيا قصير بذاته ، وليس من الصواب أن نقايس بين زمني الدنيا والآخرة ، لأنّ الفاني ليس كالباقي.

«عشيّة» : العصر. و «الضحى» : وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.

وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في يوم القيامة ، فيما يختص بمدّة لبثهم في عالم البرزخ

فتقول الآية (١٠٣) من سورة طه :( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) ، و( يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

وتقول الآية (٥٥) من سورة الروم :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما

٤٠٤

لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) .

واختلاف تقديرات مدّة اللبث ، يرجع لاختلاف القائلين ، وكلّ منهم قد عبّر عن قصر المدّة حسب ما يتصور ، والقاسم المشترك لكلّ التقديرات هو أنّ المدّة قصيرة جدّا ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.

اللهمّ! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث ، الدنيا والبرزخ والقيامة

يا ربّ! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلّا من رحمته بلطفك ، فاشملنا بخاصة لطفك ورحمتك

إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى ، ولا تجعل لنا غير الجنّة مأوى

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النّازعات

* * *

٤٠٥
٤٠٦

سورة

عبس

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية

٤٠٧
٤٠٨

«سورة عبس»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد ، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.

١ ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ بأسلوب غير لائق.

٢ ـ أهمية القرآن الكريم.

٣ ـ كفران الإنسان للنعم والمواهب الإلهية.

٤ ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حسّ الشكر في الإنسان.

٥ ـ الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم.

وتسمية هذه السورة بهذا الاسم بمناسبة الآية الاولى منها.

فضيلة السورة :

ورد في الحديث النّبوي الشريف أنّ : «من قرأ سورة «عبس» جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر»(١)

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٥.

٤٠٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) )

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب الله تعالى بشكل إجمالي ، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الاجتماعية على طلب الحق أمّا من هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون ، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم ، ما يلي :

إنّها نزلت في عبد الله بن ام مكتوم ، إنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي واميّة بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعهم ، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين) ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني ممّا علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في

٤١٠

نفسه : يقول هؤلاء الصناديد ، إنّما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فنزلت الآية.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي» ، ويقول له : «هل لك من حاجة».

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين(١) .

والرأي الثّاني في شأن نزولها : ما

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّها نزلت في رجل من بني اميّة ، كان عند النّبي ، فجاء ابن ام مكتوم ، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك ، وأنكره عليه»(٢) .

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الآيات (٨ ـ ١٠) في السورة يمكن أن تكون قرينة ، حيث تقول :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير من ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل ، بأنّ ما في آية( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه ، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة ، وهو ليس من أخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، بدلالة قول الله تعالى في الآية (٤) من سورة (ن) ، والتي نزلت قبل سورة عبس ، حيث وصفه الباري :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول ، فإنّ فعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال هذه لا يخرج من كونه (تركا للأولى) ، وهذا ما لا ينافي العصمة ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٧.

(٢) المصدر السابق.

٤١١

وللأسباب التالية :

أوّلا : على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق ، وتحطيم صف أعدائه.

ثانيا : إنّ العبوس أو الانبساط مع الأعمى سواء ، لأنّه لا يدرك ذلك ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد الله بن ام مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها ، حيث أنّه قاطع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين ، ولكن بما أنّ الله تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الاعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلا على عظمة شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية ، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى) ، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق فيه ، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضا) فلا داعي لاستعتاب نفسه

ومن مكارم خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد الله بن ام مكتوم ، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والاستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا ، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك ، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانية : إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول ، هو نزولها في شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

* * *

٤١٢

التّفسير

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات ، ننتقل إلى تفسيرها :

يقول القرآن أولا :( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) .

لماذا؟ :( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) .

( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) ، فإن لم يحصل على التقوى ، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة ، فتنفعه ذلك(١) .

ويستمر العتاب :( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) ، من اعتبر نفسه غنيا ولا يحتاج لأحد.

( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) ، تتوجّه إليه ، وتسعى في هدايته ، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر ، كما أشارت لهذا الآيتان (٦ و٧) من سورة العلق :( ... إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) .(٢)

( وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) ، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان ، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن ، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ أولئك الأغنياء المتحجرين.

__________________

(١) والفرق بين الآية والتي قبلها ، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة ، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي ، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة ، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير ، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة. وقيل : إنّ الفرق بين الآيتين ، هو أنّ الأولى تشير إلى التطهير من المعاصي ، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر الله عزوجل. والأوّل يبدو أقرب للصحة.

(٢) يقول الراغب في مفرداته : (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد ، ويقول في (تصدّى) : إنّها من (الصدى) ، أي الصوت الراجع من الجبل.

٤١٣

وتأتي العتاب مرّة اخرى تأكيدا :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) ، في طلب الهداية

( وَهُوَ يَخْشى ) (١) ، فخشيته من الله هي التي دفعته للوصول إليك ، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها ، ويعمل على مقتضاها.

( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) .

ويشير التعبير بـ «أنت» إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة ، ومهما كان يسيرا ، فهو ليس من شأن من مثلك ، وإن كان هدفك هداية الآخرين ، فبلحاظ الأولويات ، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال : فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى غيره ، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق ، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ الله لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك ، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل : السند المخلص للإسلام دائما الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق ، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة ، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنينعليه‌السلام لمالك الأشتر : «وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»(٣) .

* * *

__________________

(١) يراد بالخشية هنا : الخوف من الله تعالى ، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولا لمعرفته جلّ اسمه ، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ وجوب معرفة الله بدليل دفع الضرر المحتمل. واحتمل الفخر الرازي : يقصد بالخشية ، الخوف من الكفّار ، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّا.

(٢) «التلهي» : من (اللهو). ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والاستغفال بغيره ، ليقف في قبال «التصّدي».

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤١٤

الآيات

( كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) )

التّفسير

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس ، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق) ، ، فتقول( كَلَّا ) فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

( إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) ، إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد ، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين ، أولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضا ، كون الآيات ،( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

٤١٥

وفتقول الآية : إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة ، لا يمتلك من الصحة شيئا ، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان ، ودليلها فيها ، وكلّ من اقترب منها سيجد أثر ذلك في نفسه (ما عدا المعاندين).

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (١) .

نعم ، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرّباني ، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كلّ الآذان ، وما على الإنسان إلّا أن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثمّ يضيف : أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق) :( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) .

«الصحف» : جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة ، أو أيّ شيء يكتب عليه.

فالآية تشير إلى أنّ القرآن قد كتب على ألواح من قبل أن ينزّل على النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي ، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها : لا ينسجم مع ما قيل من أنّ المقصود بالصحف هنا هو ، كتب الأنبياء السابقين.

وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون «اللوح المحفوظ» ، لأنّ «اللوح والمحفوظ» لا يعبر عنه بصيغة الجمع ، كما جاء في الآية : «صحف».

وهذه الصحف المكرمة :( مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) .

فهي مرفوعة القدر عند الله ، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين ، ولكونها خالية من قذارة الباطل ، فهي أطهر من أن تجد فيها أثرا لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

__________________

(١) يعود ضمير : «ذكره» إلى ما يعود إليه ضمير «إنّها» ، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أنّ ضمير «إنّها» يرجع إلى الآيات القرآنية ، و «ذكره» إلى القرآن ، فجاء الأوّل مؤنثا والثّاني مذكرا.

٤١٦

وهي كذلك :( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) ، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء :( كِرامٍ بَرَرَةٍ ) .

«سفرة» : جمع (سافر) من (سفر) على وزن (قمر) ، ولغة : بمعنى كشف الغطاء عن الشيء ، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم ، ويطلق على الكاتب اسم (السافر) ، وعلى الكتاب (سفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما وعليه فالسفرة هنا ، بمعنى : الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النّبي ، أو الكاتبين لآياته.

وقيل : هم حفّاظ وقرّاء وكتّاب القرآن والعلماء ، الذين يحافظون على القرآن من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كلّ عصر ومصر.

ويبدو هذا القول بعيدا ، لأنّ الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول الوحي على صدر الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس عن المستقبل.

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، في وقوله : «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة»(١) . بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة ، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم ، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم ، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

ونستنتج من كلّ ما تقدم : بأنّ من يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه وأحكامه ممارسة ، فله من المقام ما للكرام البررة.

«كرام» : جمع (كريم) ، بمعنى العزيز المحترم ، وتشير كلمة «كرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند الله وعلو منزلتهم.

وقيل : «كرام» : إشارة إلى طهارتهم من كلّ ذنب ، بدلالة الآيتين (٢٦ و٢٧) من سورة الأنبياء :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٨.

٤١٧

«بررة» : جمع (بار) ، من (البرّ) ، بمعنى التوسع ، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البر) ، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول بركاته على الآخرين.

و «البررة» : في الآية ، بمعنى : إطاعة الأمر الإلهي ، والطهارة من الذنوب.

ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.

الاولى : إنّهم «سفرة» حاملين وحيه جلّ شأنه.

الثّانية : إنّهم أعزاء ومكرمون.

الثالثة : طهرة أعمالهم عن كلّ تقاعس أو مفسدة.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى الله ، ومنها ما في صحف المكرمة من تذكير وتوجيه ولكنّ الإنسان يبقى عنيدا متمردا :( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (١) .

«الكفر» : في هذا الموضوع قد يحتمل على ثلاثة معان عدم الإيمان ، الكفران وعدم الشكر جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كلّ المستويات ، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية ، لأنّها تعرضت لأسباب الهداية والإيمان ، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى.

( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) : كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا ، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثمّ يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي ، والذي غالبا ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة :( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) ؟

__________________

(١) «قتل الإنسان» : نوع من اللعن ، وهو أشدّها عن الزمخشري في (الكشاف). «ما» ، في «ما أكفره» : للتعجب ، التعجب من السير في متاهات الكفر والضلال ، مع ما للحق من سبيل واضحة ، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والرّبانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ النجاة.

٤١٨

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة ، ثمّ صنع منه مخلوقا موزونا مستويا قدّر فيه جميع أموره في مختلف مراحل حياته :( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) .

فلم لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!

لم ينسى تفاهة مبدأه؟!

ألّا يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه ، وكيف جعله موجودا بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات ، ومع ما منحه الله من مواهب واستعدادات لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره» : من (التقدير) ، وهو الحساب في الشيء وكما بات معلوما أنّ أكثر من عشرين نوعا من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان ، ولكلّ منها مقدارا معينا ومحسوبا بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية ، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الاستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد ، بل وفي المجموع العام للبشرية ، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.

وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالا وجلالا ، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر ، ووضعناها في مكان واحد ، لكانت بمقدار حمصة! نعم

فقد أودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.

وقيل : التقدير بمعنى التهيئة.

وثمّة احتمال آخر ، يقول التقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

٤١٩

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والاستطاعة ، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض ، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى(١) .

ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملة واحدة.

ويستمر القرآن في مشوار المقال :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) يسّر له طريق تكامله حينما كان جنينا في بطن امّه ، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون على الهيئة التالية : رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل ، ووجهه متجها صوب ظهر امّه ، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة ، بحيث يكون الطفل في بطن امّه في هيئة مغايرة للطبيعة ، ممّا تسبب كثير من السلبيات على وضع الام عموما.

وبعد ولادته : يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي ، ثمّ مرحلة نمو الغرائز ، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية ، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحيا وإيمانيا.

وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كلّ ذلك في جملة واحدة :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) .

والملفت للنظر أنّ الآية المباركة تؤكّد على حرية اختيار الإنسان حين قالت أنّ الله تعالى يسّر وسهّل له الطريق الى الحق ، ولم تقل أنّه تعالى أجبره على

__________________

(١) يقول الراغب في مفردات : «قدّره» (بالتشديد) : أعطاه القدرة ، ويقال : قدّرني الله على كذا وقواني عليه».

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793