النهاية الجزء ١

النهاية7%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225349 / تحميل: 6346
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

ومتى هلكت اللّقطة في مدّة زمان التّعريف من غير تفريط، لم يكن على من وجدها شي‌ء. فإن هلكت بتفريط من قبله، أو يكون قد تصرّف فيه، ضمنه، ووجب عليه غرامته بقيمته يوم هلك.

ومتى اشتري بمال اللّقطة جارية، ثمَّ جاء صاحبها، فوجدها بنته، لم يلزمه أخذها، وكان له أن يطالبه بالمال الذي اشترى به ابنته، ولا تحصل هذه البنت في ملكه، فتكون قد انعتقت به، بل هي حاصلة في ملك الغير، وهو ضامن لماله الذي وجده. فإن أجاز شراءه لها انعتقت بعد ذلك، ولم يجز له بيعها.

ومتى تصرّف في اللّقطة قبل السّنة واستفاد بها ربحا، كان الرّبح لصاحب المال. وإن كان تصرّفه بعد السّنة، كان الرّبح له وعليه ضمان المال حسب ما قدمناه.

ومن وجد كنزا في دار انتقلت اليه بميراث عن أهله، كان له ولشركائه في الميراث، إن كان له شريك فيه. فإن كانت الدّار قد انتقلت اليه بابتياع من قوم، عرّف البائع. فإن عرفه، وإلّا أخرج خمسه الى مستحقّه، وكان له الباقي. وكذلك إن ابتاع بعيرا أو بقرة أو شاة، فذبح شيئا من ذلك، فوجد في جوفه شيئا له قيمة، عرّفه من ابتاع ذلك الحيوان منه. فإن عرفه، أعطاه. وإن لم يعرفه، أخرج منه الخمس، وكان له الباقي. فإن ابتاع سمكة، فوجد في جوفها درّة أو سبيكة وما أشبه ذلك،

٣٢١

أخرج منه الخمس، وكان له الباقي.

ومن وجد في داره شيئا، فإن كانت الدّار يدخلها غيره. كان حكمه حكم اللّقطة. وإن لم يدخلها غيره، كان له. وإن وجد في صندوقه شيئا كان حكمه مثل ذلك، ومن وجد طعاما في مفازة، فليقوّمه على نفسه، ويأكله. فإذا جاء صاحبه، ردّ عليه ثمنه. وإن وجد شاة في بريّة، فليأخذها وهو ضامن لقيمتها. ويترك البعير إذا وجده في المفازة، فإنّه يصبر على المشي والجوع. فإن وجد بعيرا قد خلّاه صاحبه من جهد، وكان في كلاء وماء، لم يجز له أخذه. فإن وجده في غير كلاء ولا ماء، كان له أخذه، ولم يكن لأحد بعد ذلك منازعته. وكذلك إن وجد دابّة، فالحكم فيها مثل الحكم في البعير سواء. ويكره أخذ ماله قيمة يسيرة مثل العصا والشّظاظ والوتد والحبل والعقال وأشباه ذلك، وليس ذلك بمحظور.

ومن أودعه لصّ من اللّصوص شيئا من المغصوب، لم يجز له ردّه عليه. فإن عرف صاحبه، ردّه عليه. وإن لم يعرف، كان حكمه حكم اللّقطة سواء.

والشّاة إذا وجدها، حبسها عنده ثلاثة أيّام. فإن جاء صاحبها ردّها، وإلّا تصدّق بها.

وإذا وجد المسلم لقيطا، فهو حرّ غير مملوك، وينبغي له أن يرفع خبره الى سلطان الإسلام ليطلق له النّفقة عليه من بيت المال.

٣٢٢

فإن لم يوجد سلطان ينفق عليه، استعان بالمسلمين في النّفقة عليه. فإن لم يجد من يعينه على ذلك، أنفق عليه. وكان له الرّجوع بنفقته عليه، إذا بلغ وأيسر، إلّا أن يتبرّع بما أنفقه عليه. وإذا أنفق عليه، وهو يجد من يعينه في النّفقة عليه تبرّعا، فلم يستعن به، فليس له رجوع عليه بشي‌ء من النّفقة.

وإذا بلغ اللّقيط، تولّى من شاء من المسلمين، ولم يكن للّذي أنفق عليه ولاؤه إلّا أن يتوالاه. فإن لم يتوال أحدا حتى مات، كان ولاؤه للمسلمين.

وإن ترك مالا ولم يترك ولدا ولا قرابة له من المسلمين كان ما تركه لبيت المال.

ومن وجد شيئا من اللّقطة والضّالّة، ثمَّ ضاع من غير تفريط، أو أبق العبد من غير تعدّ منه عليه، لم يكن عليه شي‌ء. فإن كان هلاك ما هلك بتفريط من جهته، كان ضامنا. وإن كان إباق العبد بتعد منه، كان عليه مثل ذلك. وإن لم يعلم أنّه كان لتعد منه أو لغيره، وجب عليه اليمين بالله: أنّه ما تعدّى فيه، وبرئت عهدته.

ولا بأس للإنسان أن يأخذ الجعل على ما يجده من الآبق والضّالّ. فإن جرت هناك موافقة، كان على حسب ما اتّفق عليه. فإن لم تجر موافقة، وكان قد وجد عبدا أو بعيرا في المصر، كان جعله دينارا قيمته عشرة دراهم. فإن كان خارج المصر، فأربعة

٣٢٣

دنانير قيمتها أربعون درهما فضة. وفيما عدا العبد والبعير، ليس فيه شي‌ء موظّف، بل يرجع فيه الى العادة حسب ما جرت في أمثاله، فأعطي إياه.

ومن وجد شيئا ممّا يحتاج إلى النّفقة عليه، فسبيله أن يرفع خيره الى السّلطان لينفق عليه من بيت المال. فإن لم يجد وأنفق هو عليه، كان له الرّجوع على صاحبه بما أنفقه عليه. وإن كان من أنفق عليه قد انتفع بشي‌ء من جهته إما بخدمته أو ركوبه أو لبنه، كان ذلك بإزاء ما أنفق عليه، ولم يكن له الرّجوع على صاحبه.

٣٢٤

كتاب الشهادات

باب تعديل الشهود ومن تقبل شهادته ومن لا تقبل

العدل الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين وعليهم، هو أن يكون ظاهره ظاهر الإيمان، ثمَّ يعرف بالسّتر والصّلاح والعفاف والكفّ عن البطن والفرج واليد واللّسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار: من شرب الخمر والزّنا والرّبا وعقوق الوالدين والفرار من الزّحف وغير ذلك، السّاتر لجميع عيوبه، ويكون متعاهدا للصلوات الخمس مواظبا عليهنّ، حافظا لمواقيتهن، متوفّرا على حضور جماعة المسلمين، غير متخلّف عنهم إلّا لمرض أو علّة أو عذر.

ويعتبر في شهادة النّساء الإيمان والسّتر والعفاف وطاعة الأزواج وترك البذاء والتّبرّج إلى أنديه الرّجال.

ولا يجوز قبول شهادة الظّنين والمتّهم والخصم والخائن والأجير. ولا تقبل شهادة الفسّاق إلّا على أنفسهم. ولا تقبل شهادة ماجن ولا فحّاش. وتردّ شهادة اللاعب بالنّرد والشّطرنج وغيرهما من أنواع القمار والأربعة عشر والشّاهين.

٣٢٥

ولا بأس بشهادة أرباب الصّنائع أيّ صنعة كانت إذا جمعوا الشّرائط التي ذكرناها.

ولا يجوز شهادة من يبغي على الأذان الأجر، ولا من يرتشي في الأحكام. ولا يجوز شهادة السّائلين على أبواب الدّور وفي الأسواق.

ويجوز شهادة ذوي الفقر والمسكنة المتجمّلين السّاترين لأحوالهم، إذا حصل فيهم شرائط العدالة. ولا يجوز شهادة ولد الزّنا. فإن عرفت منه عدالة، قبلت شهادته في الشي‌ء الدون. ولا بأس بشهادة القاذف إذا تاب وعرفت توبته. وحدّ توبته من القذف أن يكذّب نفسه فيما كان قذف به. فإذا فعل ذلك، جاز قبول شهادته بعد ذلك.

ولا يجوز شهادة الشّريك لشريكه فيما هو شريك فيه. ولا بأس بشهادته له فيما ليس بشريك فيه. ومن قطع به الطّريق فأخذوا اللّصوص فشهد بعضهم لبعض عليهم، لم تقبل شهادتهم. وإنّما تقبل شهادة غيرهم، أو يحكم بإقرار اللّصوص. ولا بأس بشهادة الوصيّ على من هو وصيّ له وله. غير أنّ ما يشهد به عليه يحتاج أن يكون معه غيره من أهل العدالة. ثمَّ يحلّف الخصم على ما يدّعيه. وما يشهد للورثة مع غيره من أهل العدالة لم يجب مع ذلك يمين.

ولا بأس بشهادة ذوي الآفات والعاهات في الخلق، إذا

٣٢٦

كانوا من أهل العدالة. ولا بأس بشهادة الأعمى إذا أثبت ولم تكن شهادته فيما يحتاج فيه الى الرّؤية. وإن كانت شهادته في حال صحّته، ثمَّ عمي، جاز قبول شهادته فيما يعتبر الرّؤية فيه. ولا بأس بشهادة الأصمّ. غير أنّه يؤخذ بأوّل قوله، ولا يؤخذ بثانيه.

ومن أشهد أجيرا له على شهادة، ثمَّ فارقه، جازت شهادته له. وتجوز شهادته عليه، وإن لم يفارقه. ولا بأس بشهادة الضّيف إذا كان من أهلها.

ولا يجوز شهادة من خالف الحقّ من أهل البدع والاعتقادات الباطلة، وإن كانوا على ظاهر الإسلام والسّتر والعفاف.

وإقرار العقلاء جائز على نفوسهم فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام، سواء كان ملّيّا أو كافرا، أو مطيعا كان أو عاصيا، وعلى كلّ حال. إلّا أن يكون عبدا، فإنّه لا يقبل إقراره على نفسه، لأنّ إقراره على نفسه إقرار على الغير، لأنّه لا يملك من نفسه شيئا.

والفاسق إذا شهد على غيره في حال فسقه، ثمَّ أقام الشّهادة وهو عدل، قبلت شهادته. وتقبل شهادة من يلعب بالحمام إذا لم يعرف منه فسق. ولا بأس بشهادة المراهن في الخفّ والحافر والرّيش، وما عدا ذلك فهو قمار.

٣٢٧

باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها

لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشّهادة، إذا دعي إليها ليشهد، إذا كان من أهلها، إلّا أن يكون حضوره مضرّا بشي‌ء من أمر الدّين أو بأحد من المسلمين. وإذا حضر، فلا يجوز له أن يشهد إلّا على من يعرفه. فإن أشهد على من لا يعرفه. فليشهد بتعريف من يثق إليه من رجلين مسلمين. وإذا أقام الشّهادة، أقامها كذلك.

وإذا أشهد على امرأة، وكان يعرفها بعينها، جاز له أن يشهد عليها، وإن لم ير وجهها. فإن شكّ في حالها، لم يجز له أن يشهد إلّا بعد أن تسفر عن وجهها ويتبيّنها بصفتها. فإن عرّفها من يثق به، جاز له أن يشهد، وإن لم تسفر أيضا عن وجهها، غير أنّ الأحوط ما قدّمناه.

ويجوز أن يشهد الإنسان على الأخرس، إذا عرف من إشارته الإقرار. ويقيم شهادته كذلك، ولا يقيمها بمجرّد الإقرار، لأنّ ذلك كذب.

ويجوز أن يشهد على شهادة رجل آخر، غير أنّه ينبغي أن يشهد رجلان على شهادة رجل واحد ليقوما مقامه. فأمّا واحد فلا يقوم مقام واحد. وذلك لا يكون أيضا إلّا في الدّيون والأملاك والعقود. فأمّا الحدود، فلا يجوز أن يقبل فيها شهادة على

٣٢٨

شهادة. ولا يجوز شهادة على شهادة في شي‌ء من الأشياء. ومن شهد على شهادة آخر. وأنكر ذلك الشّاهد الأوّل، قبلت شهادة أعدلهما. فإن كانت عدالتهما سواء، طرحت شهادة الشّاهد الثّاني. ولا بأس بالشهادة على شهادة، وإن كان الشّاهد الأوّل حاضرا غير غائب، إذا منعه من إقامة الشّهادة مانع من مرض وغيره.

ومن رأى في يد غيره شيئا، ورآه يتصرّف فيه تصرّف الملّاك، جاز له أن يشهد بأنّه ملكه، كما أنّه يجوز أن يشتريه على أنّه ملكه. ولا بأس أن يشهد الإنسان على مبيع، وإن لم يعرفه، ولا عرف حدوده ولا موضعه، إذا عرف البائع والمشتري ذلك.

ويكره للمؤمن أن يشهد لمخالف له في الاعتقاد، لئلّا يلزمه إقامتها، فربّما ردّت شهادته، فيكون قد أذلّ نفسه.

ومتى دعي الإنسان لإقامة شهادة، لم يجز له الامتناع منها على حال، إلّا أنّ يعلم: أنّه إن أقامها أضرّ ذلك بمؤمن ضررا غير مستحقّ، بأن يكون ذلك عليه دين وهو معسر، ويعلم: إن شهد عليه، حبسه الحاكم، فاستضرّ به هو وعياله، لم يجز له إقامتها.

وإذا أراد إقامة شهادة، لم يجز له أن يقيم، إلّا على ما يعلم. ولا يعوّل على ما يجد خطّه به مكتوبا. فإن وجد خطّه

٣٢٩

مكتوبا، ولم يذكر الشّهادة، لم يجز له إقامتها. فإن لم يذكر، شهد معه آخر ثقة، جاز له حينئذ إقامة الشّهادة.

ومن علم شيئا من الأشياء، ولم يكن قد أشهد عليه، ثمَّ دعي الى أن يشهد، كان بالخيار في إقامتها وفي الامتناع منها. اللهمّ إلّا أن يعلم: أنّه إن لم يقمها، بطل حقّ مؤمن، فحينئذ يجب عليه إقامة الشّهادة.

ولا يجوز للشّاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشّهادة، كما لا يجوز له كتمانها، وقد دعي إلى إقامتها، إلّا أن تكون شهادته تبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله تعالى، أو يؤدّي الى ضرر على المشهود عليه لا يستحقّه. فإنّه لا يجوز له حينئذ إقامة الشّهادة، وإن دعي إليها.

باب شهادة الولد لوالده وعليه، والوالد لولده وعليه والمرأة لزوجها وعليه، والزوج لزوجته وعليها

لا بأس بشهادة الوالد لولده وعليه مع غيره من أهل الشّهادة ولا بأس بشهادة الولد لوالده. ولا يجوز شهادته عليه. ولا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه، إذا كان معه غيره من أهل الشهادات. ولا بأس بشهادة الرّجل لامرأته وعليها، إذا كان معه غيره من أهل العدالة. ولا بأس بشهادتها له وعليه فيما يجوز قبول شهادة النّساء فيه، إذا كان معها غيرها من أهل الشّهادة

٣٣٠

باب شهادة العبيد والإماء والمكاتبين والصبيان

لا بأس بشهادة العبيد، إذا كانوا عدولا وعلى ظاهر الإيمان، لساداتهم وعلى غير ساداتهم ولهم. ولا يجوز قبول شهادتهم على ساداتهم. وإذا شهد العبد على سيّده بعد أن يعتق، قبلت شهادته عليه.

وإذا أشهد رجل عبدين له على نفسه بالإقرار بوارث، فردت شهادتهما، وحاز الميراث غير المقرّ له، فأعتقهما بعد ذلك، ثمَّ شهدا للمقرّ له، قبلت شهادتهما له، ورجع بالميراث على من كان أخذه، ورجعا عبدين. فإن ذكرا: أنّ مولاهما كان أعتقهما في حال ما أشهدهما، لم يجز للمقرّ له أن يردّهما في الرّقّ، وتقبل شهادتهما في ذلك، لأنّهما أحييا حقّه.

ولا بأس بشهادة المكاتبين والمدبّرين. وتقبل شهادة المكاتبين بمقدار ما عتقوا على ساداتهم. وكلّ من ذكرنا من العبيد والمكاتبين والمدبّرين، تقبل شهادتهم على أهل الإسلام، إلّا من استثنيناه من سادتهم، ولأهل الإسلام ولمن خالف الإسلام من الأحرار والعبيد في سائر الحقوق والحدود وغير ذلك ممّا يراعى فيه الشّهادة.

ويجوز شهادة الصّبيان إذا بلغوا عشر سنين فصاعدا الى أن يبلغوا في الشّجاج والقصاص. ويؤخذ بأوّل كلامهم ولا يؤخذ

٣٣١

بآخره. ولا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من الدّيون والحقوق والحدود. وإذا أشهد الصّبيّ على حقّ، ثمَّ بلغ، وذكر ذلك، جاز له أن يشهد بذلك، وقبلت شهادته، إذا كان من أهلها.

باب شهادة النساء

شهادة النّساء على ثلاثة أضرب:

فضرب منها لا يجوز قبولها على وجه.

وضرب يجوز قبولها إذا كان معهنّ الرّجال.

وضرب يجوز قبولها وان لم يكن معهنّ رجال.

فأمّا ما لا يجوز قبول شهادة النّساء فيه على وجه، كان معهنّ رجال أو لم يكن، فرؤية الهلال والطّلاق، فإنّه لا يجوز قبول شهادة النّساء في ذلك، وإن كثرت.

وأمّا ما يراعى فيه مع شهادة النّساء شهادة الرّجال، فكا الرّجم. فإنّه إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان على رجل بالزّنا، قبلت شهادتهم، ووجب على الرّجل الرّجم إن كان محصنا. وان شهد رجلان وأربع نسوة بذلك، قبلت أيضا شهادتهنّ. ولا يرجم المشهود عليه، بل يحدّ حدّ الزّاني. فإن شهد رجل وستّ نساء أو أكثر من ذلك، لم يجز قبول شهادتهم، وجلّدوا كلّهم حدّ الفرية. وإذا شهد أربعة رجال على امرأة بالزّنا، فادّعت أنّها بكر، أمر النّساء بأن ينظرن إليها: فإن كانت كما قالت،

٣٣٢

درئ عنها الرّجم والحدّ، وجلد الأربعة حدّ الفرية. وان لم تكن كذلك، رجمت أو حدّت. ويجوز شهادة النّساء في القتل والقصاص إذا كان معهنّ رجال أو رجل: بأن يشهد رجل وامرأتان على رجل بالقتل أو الجراح. فأمّا شهادتهنّ على الانفراد فإنّها لا تقبل على حال.

وتقبل شهادتهنّ في الدّيون مع الرّجال وعلى الانفراد. فإن شهد رجل وامرأتان بدين، قبلت شهادتهم. فإن شهد امرأتان، قبلت شهادتهما، ووجب على الذي تشهدان له اليمين، كما يجب عليه اليمين إذا شهد له رجل واحد.

وأمّا ما تقبل فيه شهادة النّساء على الانفراد، فكلّ ما لا يستطيع الرّجال النّظر اليه، مثل العذرة والأمور الباطنة بالنّساء. وتقبل شهادة القابلة وحدها في استهلال الصّبيّ في ربع ميراثه. وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصيّة، وشهادة امرأتين في نصف ميراث المستهلّ ونصف الوصية، ثمَّ على هذا الحساب، وذلك لا يجوز الا عند عدم الرّجال. ولا يجوز شهادة النّساء في شي‌ء من الحدود سوى ما قدّمناه من الرّجم، وحدّ الزّنا والدّم خاصّة، لئلّا يبطل دم امرئ مسلم، غير أنّه لا يثبت بشهادتهنّ القود، وتجب بها الدّية على الكمال.

٣٣٣

باب شهادة من خالف الإسلام

لا يجوز قبول شهادة من خالف الإسلام على المسلمين في حال الاختيار. ويجوز قبول شهادتهم في حال الضّرورة في الوصيّة خاصّة، ولا يجوز في غيرها من الأحكام. ويجوز شهادة المسلمين عليهم ولهم. ويجوز شهادة بعضهم على بعض ولهم، وكلّ أهل ملّة على أهل ملّته خاصّة ولهم. ولا تقبل شهادة أهل ملّة منهم لغير أهل ملّتهم ولا عليهم، إلّا المسلمين خاصّة حسب ما قدّمناه، فإنّه تقبل شهادتهم لهم وعلى غيرهم من أصناف الكفّار. وتقبل لهم من أحكام المسلمين في الوصيّة خاصّة حسب ما قدّمناه. والذّمّي إذا أشهد ثمَّ أسلم، جاز قبول شهادته على المسلمين.

باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة

إذا شهد لصاحب الدّين شاهد واحد، قبلت شهادته، وحلّف مع ذلك، وقضي له به. وذلك في الدّين خاصّة. ولا يجوز قبول شهادة واحد والحكم بها في الهلال والطّلاق والحدود والقصاص وغير ذلك من الأحكام. والقسامة لا تقبل إلّا في الدّماء خاصّة.

وصفة القسامة أنّه إذا لم يوجد في الدّم رجلان عدلان يشهدان بالقتل، فأحضر وليّ المقتول خمسين رجلا من قومه يقسمون بالله تعالى على أنّه قتل صاحبهم، فاذا حلفوا، قضي

٣٣٤

لهم بالدّية. فإن حضر دون الخمسين، حلّف وليّ الدّم بالله من الأيمان ما يتمّ بها الخمسين، وكان له الدّية. فإن لم يكن له أحد يشهد له، حلف هو خمسين يمينا، ووجبت له الدّية.

ولا تكون القسامة إلّا مع التّهمة للمطالب بالدّم والشّبهة في ذلك. والقسامة فيما دون النّفس يكون بحساب ذلك. وسنبيّن ذلك في كتاب الدّيات إن شاء الله.

باب شهادات الزور

لا يجوز لأحد أن يشهد بالزّور وبما لا يعلم، في أي شي‌ء كان قليلا أو كثيرا، وعلى من كان موافقا كان أو مخالفا. فمتى شهد بذلك، أثم، وكان ضامنا. فإن شهد أربعة رجال على رجل بالزّنا، وكان محصنا، فرجم، ثمَّ رجع أحدهم، فقال: تعمّدت ذلك، قتل وأدّى الى ورثته الثّلاثة الباقون ثلاثة أرباع الدّية. وإن قال: أوهمت، ألزم ربع الدّية. وإن رجع اثنان وقال: أوهمنا، ألزما نصف الدّية. وإن قالا: تعمّدنا، وأراد أولياء المقتول بالرّجم قتلهما، قتلوهما، وأدوا إلى ورثتهما دية كاملة يتقاسمان بينهما على السّوية، ويؤدّي الشّاهدان الآخران على ورثتهما أيضا نصف الدّية، يتقاسمان بينهما بالسّويّة. وإن اختار أولياء المقتول قتل واحد منهما، قتله، وأدّى الآخر مع الباقين من الشّهود على ورثة المقتول الثّاني ثلاثة أرباع ديته وإن رجع الكلّ عن شهادتهم، كان حكمهم حكم الاثنين سواء.

٣٣٥

وإن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته فاعتدّت، وتزوّجت ودخل بها، ثمَّ رجعا، وجب عليهما الحدّ، وضمنا المهر للزوج الثّاني، وترجع المرأة إلى الأوّل بعد الاستبراء بعدة من الثّاني.

فإن شهدا بسرقة، فقطع المشهود عليه، ثمَّ رجعا، ألزما دية يد المقطوع. فإن رجع أحدهما، ألزم نصف دية يده. هذا إذا قالا: وهمنا في الشهادة. فإن قالا: تعمّدنا، قطع يد واحد منهما بيد المقطوع وأدّى الآخر نصف ديته على المقطوع الثّاني. وإن أراد المقطوع الأوّل قطعهما، قطعهما، وأدّى إليهما دية يد واحدة يتقاسمان بينهما على السّواء.

وكذلك إن شهدا على رجل بدين ثمَّ رجعا، ألزما مقدار ما شهدا به. فإن رجع أحدهما، ألزم بمقدار ما يصيبه من الشّهادة وهو النّصف. ومتى شهدا على رجل بدين، ثمَّ رجعا قبل أن يحكم الحاكم، طرحت شهادتهما، ولم يلزما شيئا، بل يتوقّف الحاكم عن إنفاذ الحكم. وإن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم: غرّما ما شهدا به، إذا لم يكن الشّي‌ء قائما بعينه. فإن كان الشّي‌ء قائما بعينه، ردّ على صاحبه، ولم يلزما شيئا.

وإذا شهدا على رجل بسرقة، فقطع، ثمَّ جاء بآخر، وقالا: هذا الذي سرق، وإنّما وهمنا على ذلك، غرّما دية اليد، ولم تقبل شهادتهما على الآخر.

وينبغي للإمام أن يعزر شهود الزّور ويشهّرهم في أهل محلّتهم، لكي يرتدع غيرهم عن مثله في مستقبل الأوقات.

٣٣٦

كتاب القضايا والاحكام

باب آداب القضاء وما يجب أن يكون القاضي عليه من الأحوال

قد بيّنّا في كتاب الجهاد من له تولّي القضاء والأحكام بين النّاس ومن ليس له ذلك.

وينبغي أن لا يتعرّض للقضاء أحد حتّى يثق من نفسه بالقيام به. وليس يثق أحد بذلك من نفسه حتى يكون عاقلا كاملا، عالما بالكتاب وناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، وندبه وإيجابه، ومحكمه ومتشابهه، عارفا بالسّنّة وناسخها ومنسوخها، عالما باللغة، مضطلعا بمعاني كلام العرب، بصيرا بوجوه الإعراب، ورعا من محارم الله تعالى، زاهدا في الدّنيا، متوفّرا على الأعمال الصّالحات، مجتنبا للكبائر والسّيّئات، شديد الحذر من الهوى، حريصا على التّقوى. فإذا كان بالصّفات التي ذكرناها، جاز له أن يتولّى القضاء، والفصل بين النّاس.

وإذا أراد أن يجلس للقضاء، ينبغي أن ينجز حوائجه التي تتعلّق نفسه بها، ليفرغ للحكم، ولا يشتغل قلبه بغيره، ثمَّ يتوضّأ وضوء الصّلاة، ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها،

٣٣٧

ويخرج الى المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه. فإذا دخله، صلّى ركعتين، ويجلس مستدير القبلة، لتكون وجوه الخصم إذا وقفوا بين يديه مستقبلة القبلة.

ولا يجلس وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في شي‌ء من الأشياء. وليجلس وعليه هدي وسكينة وقار.

فإذا جلس، تقدّم الى من يأمر كلّ من حضر للتّحاكم اليه أن يكتب اسمه واسم أبيه وما يعرف به من الصّفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة. فإذا فعلوا ذلك، وكتبوا أسماءهم وأسماء خصومهم في الرّقاع، قبض ذلك كلّه، وخلط الرّقاع، وجعلها تحت شي‌ء يسترها به عن بصره. ثم يأخذ منها رقعة، فينظر فيها، ويدعوا باسم صاحبها وخصمه، فينظر بينهما.

وإذا دخل الخصمان عليه، وجلسا، وأراد كلّ واحد منهما الكلام، ينبغي له أن يأذن للذي سبق بالدّعوى. فإن ادّعيا جميعا في وقت واحد، أمر من هو على يمين صاحبه أن يتكلّم، ويأمر الآخر بالسّكوت الى أن يفرغ من دعواه.

وإذا دخل عليه الخصمان، فلا يبدأ أحدهما بالكلام. فإن سلّما أو سلّم أحدهما، ردّ السّلام دون ما سواه. وليكن نظره إليهما واحدا ومجلسهما بين يديه على السّواء.

ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين، بل يتركهما حتى

٣٣٨

يبدءا بالكلام. فإن صمتا ولم يتكلّما، قال حينئذ لهما: إن كنتما حضرتما لشي‌ء، فاذكراه. فإن ابتدأ أحدهما بالدّعوى على صاحبه، سمعها، ثمَّ أقبل على صاحبه، فسأله عمّا عنده فيما ادّعاه خصمه.

فإن أقرّ به، ولم يرتب بعقله واختياره، ألزمه الخروج اليه منه. فإن خرج، وإلّا أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه. فإن التمس الخصم حبسه على الامتناع من أداء ما أقرّ به، حبسه له. فإن ظهر له بعد أن حبسه: أنّه معدم فقير لا يرجع إلى شي‌ء، ولا يستطيع الخروج ممّا أقرّ به، خلّى سبيله، وأمره: أن يتحمّل حقّ خصمه، ويسعى في الخروج ممّا عليه.

وإن ارتاب الحاكم بكلام المقرّ، وشكّ في صحّة عقله أو اختياره للإقرار، توقّف عن الحكم عليه، حتّى يستبرئ حاله.

وإن أنكر المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي، سأله: ألك بيّنة على ذلك؟ فإن قال: نعم هي حاضرة، نظر في بيّنته. وإن قال: نعم، غير أنّها ليست حاضرة، قال له: أحضرها. فإن قال: نعم، أقامه، ونظر في حكم غيره إلى أن يحضر الأوّل بيّنته. وإن قال المدّعي: لست أتمكّن من إحضارها، جعل معه مدة من الزّمان ليحضر فيه بيّنته، ويكفّل بخصمه. فإن أحضرها، نظر فيها. وإن لم يحضرها عند انقضاء الأجل، خرج خصمه عن حدّ الكفالة.

وإن قال: لا بيّنة لي، قال له: فما تريد؟ فإن قال: تأخذ لي

٣٣٩

بحقّي من خصمي، قال للمنكر، أتحلف له؟ فإن قال: نعم، أقبل على صاحب الدّعوى، فقال له: قد سمعت، أفتريد يمينه؟ فإن قال: لا، أقامهما، ونظر في حكم غيرهما. وإن قال: نعم، أريد يمينه، رجع اليه، فوعظه وخوّفه بالله. فإن أقرّ الخصم بدعواه، ألزمه الخروج اليه من الحقّ. وإن حلف، فرّق بينهما. وإن نكل عن اليمين، ألزمه الخروج إلى خصمه ممّا ادّعاه عليه. فإن قال المنكر عند توجّه اليمين عليه: « يحلف هذا المدّعي على صحّة دعواه، وأنا أدفع اليه ما ادّعاه »، قال الحاكم للمدّعي: أتحلف على صحّة دعواك؟ فإن حلف، ألزم خصمه الخروج اليه ممّا حلف عليه. وإن أبى اليمين، بطلت دعواه.

وإن أقام المدّعي البيّنة، فذكر المدّعى عليه: أنّه قد خرج اليه من حقّه، كان عليه البيّنة بأنّه قد وفّاه الحق. فإن لم تكن له بيّنة، وطالب صاحب البيّنة بأن يحلف بأنّه: ما استوفى ذلك الحقّ منه، كان له ذلك. فإن امتنع من ذلك خصمه، وأبى أن يحلف أنّه: لم يأخذ حقّه، بطل حقّه.

وإن قال المدّعي: ليس معي بيّنة، وطلب من خصمه اليمين، فحلّفه الحاكم، ثمَّ أقام بعد ذلك البيّنة على صحّة ما كان يدّعيه، لم يلتفت إلى بيّنته، وأبطلت.

وإن اعترف المنكر بعد يمينه بالله بدعوى خصمه عليه، وندم على إنكاره، لزمه الحقّ والخروج منه إلى خصمه. فإن لم يخرج

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793