النهاية الجزء ١

النهاية7%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225180 / تحميل: 6337
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٥ - عقيدتنا في الله تعالى

نعتقد: أنّ الله تعالى واحد احد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، هو الاَوّل والآخر، عليم، حكيم، عادل، حي، قادر، غني، سميع، بصير. ولا يوصف بما تُوصف به المخلوقات؛ فليس هو بجسم ولا صورة، وليس جوهراً ولا عرضاً، وليس له ثقل أو خفة، ولا حركة أو سكون، ولا مكان ولا زمان، ولا يشار إليه(١) ؟. كما لا ندَّ له، ولا شبه، ولا ضدّ، ولا صاحبة له ولا ولد، ولا شريك، ولم يكن له كفواً أحد، لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار.

ومن قال بالتشبيه في خلقه، بأن صوَّر له وجهاً ويداً وعيناً، أو أنّه ينزل إلى السماء الدنيا، أو أنّه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر، أو نحو ذلك(٢) ، فانّه

____________________

(١) روي عن الامام عليعليه‌السلام قوله في جواب ذعلب: «لم أكن بالذي اعبد رباً لم أره» ثم أردف قائلاً في وصف الله تعالى: «ويلك لم تره العيون بمشاهدة الاَبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان. ويلك يا ذعلب، إنّ ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون ولا بالقيام قيام انتصاب ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللّطافة لا يوصف باللّطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمجسّة، قائل لا باللّفظ، هو في الاَشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كل شيء فلا يقال شيء فوقه، وأمام كل شيء فلا يقال له أمام، داخل في الاَشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج».

التوحيد للصدوق: ٣٠٤ - باب حديث ذعلب - ، أمالي الصدوق: ٢٨٠ المجلس الخامس والخمسون، بحار الاَنوار: ٤/٢٧.

(٢) كقول الكرامية (إنّه تعالى في جهة فوق)!!

=

٢١

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

راجع: الفرق بين الفرق: ١٣١، الملل والنحل: ١/ ٩٩، وكذلك الأشاعرة في الإبانة في اصول الديانة: ٣٦ - ٥٥، وكذلك الوهابية رسالة العقيدة الحموية لإبن تيمية: ١/ ٤٢٩، الهدية السنية : ٩٧، والرسالة الخامسة منها لعبد اللطيف حفيد محمد بن عبدالوهاب.

وكذلك القول بأنه تعالى يتحد مع أبدان العارفين! كما حكم الصوفية قال العارف البلجرامي في كتابه «سبحة المرجان»:

انما الخلق المظهر الباري

هو في كل جزئه ساري

وقال الآخر منهم:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

ويراجع ديوان الشيخ ابن الفارض، كما في قصيدته التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك ومطلعها:

سقتني حميا الحب راحة مقلتي

وكأسي محيا من عن الحسن جلت

وقصيدته اليائية، مطلعها:

سائق الأضعان يطوي البيد طي

منعما عرج على كثبان طي

ورسائل الشيخ عطار وغيرها كثير.

ذكر العلامة الحلي معقبا على هذه الخرافات بقوله: (فانظرو إلى هؤلاء المشايخ الذين يتبركون بمشاهدهم كيف اعتقادهم في ربهم، وتجويزهم تارة الحلول واخرى الاتحاد، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء) إلى أن قال: (ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسينعليه‌السلام وقد صلوا المغرب سوى شخص واحد منهم كان جالسا لم يصل، ثم صلوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص، فقال: وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل؟ أيجوز ان يجعل بينه وبين الله حاجباً؟ فقلت: لا فقال: الصلاة حاجب بين العبد والرب) نهج الحق: ٥٨.

يراجع: مناقب العارفين للافالكي، وأسرار التوحيد: ١٨٦، والأنوار في كشف الاسرار للشيخ روزبهان البقلي، والمجلد الثاني من احياء العلوم للغزالي.

٢٢

بمنزلة الكافر به، جاهل بحقيقة الخالق المنزَّه عن النقص، بل كل ما ميّزناه بأوهامنا في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلنا مردود إلينا - على حد تعبير الامام الباقرعليه‌السلام (١) - وما أجلّه من تعبير حكيم! وما أبعده من مرمى علمي دقيق!

وكذلك يلحق بالكافر من قال: إنّه يتراءى لخلقه يوم القيامة(٢) ، وإن

____________________

(١) انظر بحار الاَنوار: ٦٩/٢٩٣ ح٢٣، المحجة البيضاء: ١/٢١٩.

(٢) حيث حكم الاَشاعرة بأنّ الله تعالى يتراءى لخلقه. راجع: الابانة في أصول الديانة لاَبي الحسن الاَشعري: ٥ و٦، الملل والنحل: ١/٨٥ إلى ٩٤، وحاشية الكستلي المطبوع في هامش شرح العقائد للتفتازاني: ٧٠، اللوامع الالهية: ٨٢ و٩٨.

ويضيف البغدادي: (وأجمع أهل السنة على أنّ الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة، وقالوا بجواز رؤيته في كل حال ولكل حي من طريق العقل، ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة من طريق الخبر). الفرق بين الفرق: ٣٣٥ - ٣٣٦.

وباستثناء المجسّمة الذين زعموا أنّ أهل المحشر كافة سيرونه - تعالى عن ذلك - يوم القيامة نصب أعينهم باتصال اشعّتها بجسمه، ينظرون إليه لا يمارون كما لا يمارون في الشمس والقمر ليس دونهما سحاب.. فإنّ محل النزاع منحصر في أنّ رؤية الباري تعالى هل هي ممكنة مع تنزيهه؟ أم هي مع التنزيه ممتنعة مستحيلة؟ فالاَشاعرة ذهبوا إلى الاَول وذهبنا نحن - تبعاً لائمتناعليهم‌السلام - إلى الثاني.

راجع - للتفصيل: كتاب كلمة حول الرؤية للاِمام السيد عبد الحسين شرف الدين؛ فقد أوفى الغرض بمناقشة هذه المسألة واستعراضها باسلوب رصين.

هذا كله بالاضافة إلى ما ورد من الاَحاديث - المزعومة - التي ذكرت بأن الله خلق آدم على صورته، وأنّ له جوارح مشخصة، كالاَصابع والساق والقدم، وأنّ في ساقه علامة يعرف بها، وأنّه يضع قدمه في جهنّم يوم القيامة لتكف عن النهم فتقول: قط! قط!، وأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يراه - سبحانه - فيقع ساجداً، وأنّ الله يهبط يوم القيامة إلى العباد ليقضي بينهم، وأنّ المسلمين يرون ربّهم يوم القيامة كما يرون القمر لا يضامون في رؤيته. وغيرها الكثير؛ لاحظ: صحيح البخاري: ٨/٦٢، ٩/١٥٦، وصحيح مسلم: ٤/٢١٨٣ وغيرها، سنن ابن ماجه: ١/٦٤، مسند أحمد: ٢/٢٦٤ وغيرها، الموطأ: ١/٢١٤ ح٣٠، أصل الشيعة وأصولها - مقدمة المحقّق - هامش ص ٢٤.

٢٣

نفى عنه التشبيه بالجسم لقلقة في اللسان؛ فان أمثال هؤلاء المدّعين جمدوا على ظواهر الاَلفاظ في القرآن الكريم أو الحديث، وأنكروا عقولهم وتركوها وراء ظهورهم. فلم يستطيعوا أن يتصرَّفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز.

٢٤

٦ - عقيدتنا في التوحيد

ونعتقد: بأنّه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنّه واحد في ذاته ووجوب وجوده، كذلك يجب - ثانياً - توحيده في الصفات، وذلك بالاعتقاد بأنّ صفاته عين ذاته - كما سيأتي بيان ذلك - وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية؛ فهو في العلم والقدرة لا نظير له، وفي الخلق والرزق لا شريك له، وفي كلّ كمال لا ندَّ له.

وكذلك يجب - ثالثاً - توحيده في العبادة؛ فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه، وكذا إشراكه في العبادة في أيّ نوع من أنواع العبادة؛ واجبة أو غير واجبة، في الصلاة وغيرها من العبادات.

ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك، كمن يرائي في عبادته ويتقرَّب إلى غير الله تعالى، وحكمه حكم من يعبد الاَصنام والاَوثان، لا فرق بينهما(١) .

____________________

(١) يذكر الشيخ المظفرقدس‌سره في محاضراته الفلسفية قوله: (في بحثنا الالهي نخطو خطوات ونجتاز مراحل:

١ - المرحلة الاولى: في إثبات أصل واجب الوجود.

٢ - المرحلة الثانية: بعد ثبوت أصل واجب الوجود لا بدّ أن يكون هو صرف الوجود.

٣ - المرحلة الثالثة: بعد ثبوت المرحلتين ننتقل إلى وحدانيته؛ لاَنّه إذا ثبت أنّه صرف الوجود فلا بد أن يكون واحداً؛ لاَنّ صرف الشيء لا بدّ أن يكون واحداً، وإلاّ لم يكن صرف الشيء، وإذا كان عارياً من كل حد فلا يعقل أن يتعدّد؛ لاَنّ الاَشياء إنّما تتمايز بالحدود.

فالتوحيد لا ينحصر في الاعتقاد بوحدة واجب الوجود وأنه صرف الوجود، بل هو تعالى واحد في خلقه وفيضه، فكل الاَشياء من فيضه وتجليات لنوره).

ثم يذكر الشيخقدس‌سره برهانا للقدماء على التوحيد، وملخصه: ( العالم واحد فلا

=

٢٥

أمّا زيارة القبور وإقامة المآتم، فليست هي من نوع التقرُّب إلى غير الله تعالى في العبادة - كما توهّمه بعض من يريد الطعن في طريقة الامامية، غفلة عن حقيقة الحال فيها(١) - بل هي من نوع التقرُّب إلى الله تعالى

____________________

=

بد أن يكون الخالق واحدا؛ فهناك تلازم بين وحدة الخالق ووحدة المخلوق - وهو العالم - بحيث لو فرض وجود عالمين لفرض وجود إلهين اثنين، وهو مقولة: الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

ثم يشير عند شرحه لخطبة التوحيد المشهورة للامام عليعليه‌السلام عند قولهعليه‌السلام : «وكمال توحيده الاخلاص له»: والفكرة العامية للاخلاص هو الاخلاص بالعبادة، ولكن هذا المعنى لا يترتب على ما قبله، ولا ينسجم مع ما بعده؛ فالاخلاص يعني تنزيه من كل النقائص، ومن كل شيء يقدح في كونه واجب الوجود، فهو أعم من الاخلاص في العمل والعبادة، فالتوحيد لا يكون توحيداً حقيقياً إلا إذا وحدته من جميع الجهات في ذاته وصفاته وأفعاله وعبادته أيضاً، فالاخلاص له يعني التوحيد من جميع الجهات، وتنزيهه عن الشريك من جميع النواحي إلى آخره).

يراجع: الفلسفة الاسلامية؛ محاضرات الشيخ المظفرقدس‌سره على طلاب كلية الفقه في النجف الاشرف، الدرس العاشر: ٩١، والدرس الحادي عشر: ٩٣، والدرس الرابع عشر: ١٠٣.

(١) وفي هذه العبارة التي ذكرها المصنفقدس‌سره إشارة إلى الشبهة التي أثارها بعض خصوم الشيعة حول زيارة القبور وأشاعوا انّها محرّمة. واعتمدوا في ذلك على الحديث النبوي الذي نقله النسائي في سننه، ولفظه «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»: ٤/٩٥. ونقله أيضاً بنفس اللفظ: كنز العمال: ١٦/٣٨٨ ح٤٥٠٣٩. وذكره أيضاً ابن ماجه في سننه، ولكن بلفظ مختلف هو: «لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زوّارت القبور»: ١/٥٠٢ باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، ح١٥٧٤ و ١٥٧٥ ، ١٥٧٦. ولا يخفى ما في متن الحديثين من تفاوت واضطراب؛ فلفظ زائرات يختلف عن زوّارت - بصيغه المبالغة - وكذلك عدم ورود الزيادة التي ذكرها النسائي اضافة إلى ذلك، ذكر هذا الحديث كل من محمد ناصر الدين الاَلباني في: سلسلة الاَحاديث الضعيفة: ١/٢٥٨ ح٢٢٥، وكذلك ابن عدي في: الكامل في الضعفاء: ٥/١٦٩٨ بدون ذكر الزيادة الموجودة في سنن النسائي.

=

٢٦

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

هذا من ناحية المتن، أما بالنسبة إلى السند، ففي سند هذا الحديث: عبدالوارث بن سعيد وأبو صالح - على رواية النسائي وراوية ابن ماجه الاولى - وعبدالله بن عثمان وعبدالرحمن بن بهمان - على رواية ابن ماجه الثانية - وهؤلاء يمكن الاطلاع على احوالهم مما يلي: -

١- عبدالوارث بن سعيد: قال عنه ابن حبان: كان قدرياً. وقال ابن أبي خيثمة: وكان يرمى بالقدر. وقال الساجي: كان قدرياً ذم لبدعته، وقال ابن معين: كان يرى القدر ويظهره. ذكر ذلك في تهذيب التهذيب: ٦/ ٣٩١ - ٣٩٢.

٢ - أبو صالح: وهو مردد بين ميزان البصري وبين باذام مولى ام هاني. والمرجح عند أهل الرجال والحديث أنه باذام. وباذام هذا قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: ١/ ٣٦٤ - ٣٦٥ أنه قال فيه أحمد: كان ابن مهدي قد ترك حديثه، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: ولم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه. وقال زكريا بن أبي زائدة، كان الشعبي يمر بأبي صالح فيأخذ باذنه فيهزها ويقول: ويلك تفسر القرآن وأنت لا تحفظ القرآن، وقال ابن المديني عن القطان عن الثوري: قال الكلبي قال لي أبو صالح: كلما حدثتك كذب. ونقل ابن الجوزي عن الازدي أنه قال: كذاب.

هذا ما ذكره تهذيب التهذيب. أما في سلسلة الأحاديث الضعيفة فبعد أن ذكر الحديث ورجح أن أبو صالح هذا هو باذام قال: (وأبو صالح هذا مولى ام هانئ بنت أبي طالب، واسمه باذان ويقال: باذام. وهو ضعيف عند جمهور النقاد ولم يوثقه أحد إلا العجلي وحده. بل كذبه اسماعيل بن أبي خالد والأزدي، ووصمه بعضهم بالتدليس وقال الحافظ في «التقريب»: ضعيف مدلس. وهو ضعيف عند ابن الملقن وعبد الحق الأشبيلي). سلسلة الأحاديث الضعيفة: ١/ ٢٥٨.

٣- عبدالله بن عثمان: قال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان يخطئ ‎ وقال عبدالله بن الدورقي عن ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية. وقال: ابن خثيم ليس بالقوي علي بن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث. ذكره تهذيب التهذيب: تهذيب التهذيب: ٦/ ١٣٥.

٤- عبدالرحمن بن بهمان: وهذا قال فيه ابن المديني: لا نعرفه. كما نقله عنه في تهذيب التهذيب: ٦/ ١٣٥.

هذا هو حال سند هذا الحديث وحال متنه، ويضاف إلى ذلك أنه معارض بأخبار أخر

=

٢٧

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

كثيرة أحسن منه متناً وأقوى سنداً؛ فقد جاء من الأحاديث التي تحث على زيارة قبر النبي العديد العديد منها ما في كنز العمال: ١٥/ ٦٥١ ح ٤٢٥٨٢ - ٤٢٥٨٤، وكذا في جزئه الخامس / ١٣٥ ح ١٢٣٦٨ - ١٢٣٧٣، وكذلك ما جاء في السنن الكبرى للبيهقي: ٥/ ٢٤٥ باب زيارة قبر النبي، وأما في زياره القبور بصورة عامة فلا حظ: كنز العمال: ١٥/ ٦٤٦ الفصل الثالث في زيارة القبور وفي الاحاديث من ٤٢٥٥١ إلى ٤٢٥٥٨، والسنن الكبرى للبيهقي: ٥/ ٢٤٩ باب زيارة القبور التي في بقيع الغرقد، وباب زيارة قبور الشهداء. وكذا في سنن ابن ماجه: ١/ ٥٠٠ باب ما جاء في زيارة القبور. وغير هذه المصادر الكثير الكثير مما يقصر هذا الموضع عن عدها. ولو سلمنا صحة الحديث السابق - جدلا - ومقاومته ومعارضته لكل هذه الأحاديث الصحيحة القوية، فان هذا الأحاديث يمكن أن نعتبرها ناسخة له إذا لا حظنا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم بالاخرة» ذكره كنز العمال: ١٥/ ٦٤٦ ح ٤٢٥٥٥ وغيره كثير. هذا كله بالاضافة إلى إجماع المسلمين على جواز زيارة القبور، بل رجحانها واستحبابها، وقيام السيرة على ذلك منذ عهد النبي، فقد ذكر البيهقي في سننه الكبرى وغيره بأنه كلما كانت ليلة عائشة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون» ذكره في الجزء: ٥/ ٢٤٩، وذكر النسائي في سننه، كتاب الجنائز، باب زيارة قبور المشركين، وأبو داود في سننه في زيارة القبور ح٣٢٣٤، وبن ماجه في سننه في باب ما جاء في زيارة قبور المشركين: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. بالاضافة إلى الاحاديث المتكاثرة التي تذكر بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم عائشة الدعاء عند زيارة القبور. ولو تجاوزنا هذا كله ورجعنا إلى الحديث الذي اعتمدوه ولا حظناه - بغض النظر عن كل ما قدمناه - فلن نجد فيه الدلالة التي ذكروها بل قد استفاد الكثير من المحدثين والفقهاء كراهة زيارة القبور بالنسبة للنساء فقط لا غير، وإليك نص العبارة التي ذكرها البيهقي في سننه الكبرى: ٤/ ٧٨، فقد قال: (إن فاطمة بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده ثم قال: وقد روينا في الحديث الثابت عن أنس بن مالك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مر بامرأة عند قبر وهي تبكي فقال: «اتقي الله واصبري» وليس في الخبر أنه نهاها عن الخروج إلى المقبرة، وفي ذلك تقوية لما روينا

=

٢٨

بالاعمال الصالحة، كالتقرُّب إليه بعيادة المريض، وتشييع الجنائز، وزيارة الاخوان في الدين، ومواساة الفقير.

فإنّ عيادة المريض - مثلاً - في نفسها عمل صالح يتقرَّب به العبد إلى الله تعالى، وليس هو تقرُّباً إلى المريض يوجب أن يجعل عمله عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته، وكذلك باقي أمثال هذه الاَعمال الصالحة التي منها: زيارة القبور، وإقامة المآتم، وتشييع الجنائز، وزيارة الاِخوان.

أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الاَعمال الصالحة الشرعية، فذلك يثبت في علم الفقه، وليس هنا موضع إثباته(١) .

____________________

=

عن عائشة إلا أن اصح ما روي ذلك صريحا حديث أم عطية وما يوافقه من الأخبار، فلو تنزهن عن اتباع الجنائز والخروج إلى المقابر وزيارة القبور كان أبرأ لدينهن). انتهى كلامه. وحديث أم عطية هو: قالت نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا: السنن الكبرى: ٤/ ٧٧ قال: وأخرجه مسلم في الصحيح من وجهين عن هشام. سنن ابن ماجه ١/ ٥٠٢ ح ١٥٧٧.

ولزيادة الاطلاع والتوضيح راجع: كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب، للسيد محسن الأمين العاملي.

(١) وعلى سبيل المثال نذكر ما ورد في السنة والسيرة للنبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله حول رجحان أمثال هذه الاَعمال الصالحة؛ منها ما رواه البخاري في صحيحه في باب فضائل أصحاب النبي: ٤/٢٠٤ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «على مثل جعفر فلتبك البواكي» وكذلك ندب النبي إلى البكاء على حمزة فقال: «على مثل حمزة فلتبك البواكي» راجع: طبقات ابن سعد: ٢/٤٤، ومغازي الواقدي: ١/٣١٧، ومسند أحمد: ٢/٤٠. وذكر النسائي في سننه، كتاب الجنائز باب زيارة قبور المشركين، وابو داود في سننه في زيارة القبور ح ٣٢٣٤ وابن ماجه في سننه في باب ما جاء في زيارة قبور المشركين: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زار قبر اُمه فبكى وأبكى من حوله.

وكذلك صح بكاء الزهراءعليها‌السلام على أبيها وبكاء زينب بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام على أخويها الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وقال الامام الصادقعليه‌السلام : «قال الحسينعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى» كامل الزيارات: ١٠٨.

وقالعليه‌السلام : «نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة، وكتمان سرنا جهاد

=

٢٩

والغرض؛ إنّ إقامة هذه الاَعمال ليست من نوع الشرك في العبادة - كما يتوهمه البعض - وليس المقصود منها عبادة الاَئمّة، وإنّما المقصود منها إحياء أمرهم، وتجديد ذكرهم، وتعظيم شعائر الله فيهم( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإنَّها مِنْ تَقْوى القُلُوب ) (١) .

فكلّ هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع إستحبابها، فإذا جاء الانسان متقرِّباً بها إلى الله تعالى، طالباً مرضاته، استحقّ الثواب منه، ونال جزاءه.

____________________

=

في سبيل الله». بحار الأنوار: ٤٤/ ٢٧٨ ح٤.

وقال الامام الرضاعليه‌السلام : «من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» أمالي الصدوق: المجلس السابع عشر.

(١) الحج ٢٢: ٣٢.

٣٠

٧ - عقيدتنا في صفاته تعالى

ونعتقد: أنّ من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات الجمال والكمال - كالعلم، والقدرة، والغنى، والاِرادة، والحياة - هي كلّها عين ذاته، ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلاّ وجود الذات؛ فقدرته من حيث الوجود حياته، وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا إثنينيه في صفاته ووجودها، وهكذا الحال في سائر صفاته الكماليّة.

نعم، هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها؛ لاَنّه لو كانت مختلفة في الوجود - وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات - للزم تعدّد واجب الوجود، ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد(١) .

وأمّا الصفات الثبوتية الاضافية - كالخالقية، والرازقية، والتقدّم، والعلّية - فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية، وهي القيّومية

____________________

(١) يشير الشيخ المظفرقدس‌سره إلى هذا المعنى بقوله: -

(أمّا القول بالاعتبار الذي معناه أنّ الصفات لا واقع خارجي لها، فنحن نعتبر هذا الكلام غير صحيح؛ لاَنّ الله تعالى وصف نفسه بأنّه عليم حكيم قادر هو محض القدرة والعلم والحياة، لا أنّه ذات لها القدرة والعلم والحياة، ولكن هذه الصفات متغايرة بالمفهوم الذي يفهم منه لدى الذهن؛ لاَنّها ألفاظ غير مترادفة، فتغايرها اعتباري مفهومي فقط، فلا تغاير في الصفات وجوداً، ولا من حيث الحيثيّة، ولا تعددها اعتباري كما ذكروا، بل هناك تعدد مفهومي يحكي عن حقيقة هو كلّ الحقائق. قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «فمن وصفه فقد عدّه..» أليس هو قد وصفه بصفات كثيرة؟! ولكنه يعني أنّ من وصفه بصفات زائدة على الذات، بحيث يوجب تعدد الذات وتعدّد القدماء، ويخرج عن كونه واجب الوجود).

الفلسفة الاسلامية محاضرات الشيخ المظفرقدس‌سره : ١٠٢.

٣١

لمخلوقاته، وهي صفة واحدة تنتزع منها عدّة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات.

وأمّا الصفات السلبية التي تسمّى بصفات الجلال، فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد هو سلب الامكان عنه؛ فإنّ سلب الاِمكان لازمه - بل معناه - سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون، والثقل والخفّة، وما إلى ذلك، بل سلب كل نقص.

ثمّ إنّ مرجع سلب الاِمكان - في الحقيقة - إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية، فترجع الصفات الجلالية (السلبية) آخر الاَمر إلى الصفات الكمالية (الثبوتية) ، والله تعالى واحد من جميع الجهات، لا تكثّر في ذاته المقدّسة، ولا تركيب في حقيقة الواحد الصمد.

ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية؛ لمّا عزّ عليه أن يفهم كيف أنّ صفاته عين ذاته، فتخيّل أنّ الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب؛ ليطمئنّ إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثّرها، فوقع بما هو أسوأ؛ إذ جعل الذات التي هي عين الوجود، ومحض الوجود، والفاقدة لكلّ نقص وجهة إمكان، جعلها عين العدم ومحض السلب(١) ، أعاذنا الله من شطحات الاَوهام، وزلاّت الاَقلام.

____________________

(١) في كلام المصنّفقدس‌سره إشارة إلى ما ذهب إليه الشيخ الصدوققدس‌سره في قوله: (كلّما وصفنا الله تعالى من صفات ذاته فإنّما نريد بكل صفة منها نفي ضدّها عنه عز وجل. ونقول: لم يزل الله عز وجل سميعاً بصيراً عليماً حكيماً قادراً عزيزاً حياً قيوماً واحداً قديماً. وهذه صفات ذاته.

ولا نقول: إنّه عز وجل لم يزل خلاّقاً فاعلاً شائياً مريداً راضياً ساخطاً رازقاً وهاباً متكلماً؛ لاَنّ هذه صفات أفعاله، وهي محدثة لا يجوز أن يقال: لم يزل الله موصوفاً بها) الاعتقادات: ٨.

=

٣٢

كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أنّ صفاته الثبوتية زائدة على ذاته؛ فقال بتعدّد القدماء، ووجود الشركاء لواجب الوجود، أو قال بتركيبه - تعالى عن ذلك -(١) .

____________________

=

الاعتقادات: ٨.

ولا يخفى أن هذا يعني أنه يمكن انطباق عدة سلوب على موضوع واحد؛ فمعنى الحياة هو عدم الموت، ومعنى العلم عدم الجهل، ومعنى القدرة عدم العجز.. وهكذا، وهذه اسلوب يمكن انطباقها على ذات واحدة، فيتبين أن الله - تعالى عن ذلك - هو مجموعة اسلوب، ويعقب الشيخ المظفر على ذلك بقوله: (نحن نحترم الشيخ الصدوق - كمحدث وناقل - فاذا تحدث عن مثل هذه الامور فلا نقبل آراءه. فنحن نريد أن نقول: أنه لا تعدد حقيقي، ولا من حيث الحيثية، ولا تعدد اعتباري؛ لأن التعدد من ناحية الاعتبار ومن ناحية الحيثية لا قيمة له، فالفكرة التي نؤمن بها يعرب عنها الفارابي بقوله : (هو عالم من حيث قادر ، وقادر من حيث هو حي ، وحي من حيث هو عالم ..) إن هذه الصفات ليس فيها تعدد حقيقي ولا تعدد حيثية ؛ لان جهة العلم ليست غير جهة الحياة ، فالتعدد الذي نتصوره هو بالمفهوم الذي يحكي عن حقيقة ، وتعددها عين وحدتها نحن نقول : انه عالم من حيث هو قادر ، وهو حيثيات واقعية ولكن لا بمعنى ان لها وجودات مستقلة ، بل بمعنى ان نفس الوجود هو بنفسه العلم وهو بنفسه القدرة لا ان القدرة موجودة بذلك الوجود لتكون حيثية مقابلة لتلك الحيثية ، فهذه الصفات وان كانت حقيقة وواقعية ففي عين تعددها هي واحدة ، وتعدد هذه المفاهيم يكشف عن معنى حقيقي ولكن ليس هناك تعدد حتى بالمعنى ، وهذا العمق في هذا القول هو الذي غاب عن أفكار أصحاب الاقوال السابقة ) لاحظ : الفلسفة الاسلامية للمظفر : ١٠١ - ١٠٢. راجع : تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ٤١، وكذلك : مطارح النظر في شرح الباب الحادي عشر للشيخ صفي الدين الطريحي : الفصل الثالث : ١٣١- ١٦٢.

(١) نجد أنّ الشيخ المؤلف قد اوضح هذه المسألة من حيث أنّ الاَقوال فيها كما يلي: -

١ - الصفات زائدة على الذات، ولكنها لازمة لها أي واجبة الوجود أيضاً، هذا قول الاَشاعرة.

٢ - قول الكرامية بأنّ الصفات زائدة على الذات ولكنها غير لازمة لها؛ لاَنّها لو كانت

=

٣٣

قال مولانا أمير المؤمنين وسيِّد الموحّدينعليه‌السلام : «وكمالُ الاِخلاصِ لهُ نفيُ الصِفاتِ عنهُ؛ لشهادةِ كلِّ صفةٍ أَنَّها غيرُ المَوصوفِ، وشهادةِ كلِّ موصوفٍ أنَّه غيرُ الصفةِ، فمَنْ وَصَفَ الله سبحانه فَقدْ قرنَهُ، ومَنْ قرنَهُ فَقدْ ثنّاهُ، ومَنْ ثنّاهُ فَقدْ جزّأَهُ، ومن جزّأَهُ فَقدْ جَهِلَهُ...»(١) .

____________________

=

لازمة لكانت واجبة الوجود وحينئذٍ يلزم تعدد واجب الوجود.

٣- وقول بأن وجود الصفات نفس وجود الذات أي متحدة بالوجود مع تعدد الحيثية، كتعدد حيثيات صفات الانسان ، فالنفس في وحدتها كل القوى أي وجودا.

٤- وقول بأن هذا التعدد اعتباري ، أي ليس هناك تعدد في الوجود ولا في الحيثيات ، وإنما يعتبرها الذهن ، ومنشأ الاعتبار هو نفس الذات.

فهذه الأقوال جميعا لا نرتضيها ؛ لأنها كلها غير صحيحة ، وإنما نشأ الخلط في دقة النظر في فهم عينية الصفات للذات.

الأشاعرة لم يفهموا معنى عينية الصفات للذات وظنوا أن معنى ذلك أنه تعالى لا صفات له ، والكرامية قالوا : إن الصفات لو كانت ملازمة للزم تعدد واجب الوجود ، والقائلون بتعدد الحيثيات قالوا بأن هذا لا يثلم عقيدة التوحيد ، والقائلون بالاعتبار قالوا : إن القول بتعدد الحيثيات غير معقول.

الفلسفة الاسلامية للشيخ المظفر : ١٠٠.

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١ (من كلام لهعليه‌السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والاَرض)، الاحتجاج: ٢/٤٧٣ ح١١٣.

٣٤

٨ - عقيدتنا في العدل

ونعتقد: أنّ من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنّه عادل غير ظالم، فلا يجور في قضائه، ولا يحيف في حكمه؛ يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين، ولا يكلِّف عباده ما لا يطيقون، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقّون(١) .

ونعتقد: أنّه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة، ولا يفعل القبيح؛ لاَنّه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح، مع فرض علمه بحسن الحسن، وقبح القبيح، وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح، فلا الحسن يتضرّر بفعله حتى يحتاج إلى تركه، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله. وهو مع كل ذلك حكيم؛ لا بدّ أن يكون فعله مطابقاً للحكمة، وعلى حسب النظام الاَكمل(٢) .

____________________

(١) العدل هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه، والظلم هو منع الحقوق، والله تعالى عدل كريم جواد متفضل رحيم قد ضمن الجزاء على الاعمال والعوض على المبتدئ من الآلام، ووعد التفضل بعد ذلك بزيادة من عنده، فقال تعالى( لِلّذينَ أحسَنُوا الحُسْنَى وزيادة ) يونس ١٠: ٢٦. فخبّر أنّ للمحسنين الثواب المستحق وزيادة من عنده، وقال:( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِهَا ) يعني له عشر أمثال ما يستحق عليها،( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فِلا يُجزَى إلاّ مِثْلَها وَهُم لا يُظلَمون ) الانعام ٦: ١٦٠. يريد أنّه لا يجازيه بأكثر مما يستحقه، ثم ضمن بعد ذلك العفو ووعد بالغفران. فقال سبحانه( وإنّ ربّك لَذو مَغفِرةٍ للنَّاسِ على ظلمهم ) الرعد ١٣: ٦. وقال سبحانه:( إنّ الله لا يَغْفِر أن يُشركَ بِهِ ويَغفر مَا دُونَ ذَلِكَ لَمَنْ يَشاءُ ) النساء ٤: ٤٨... وقد أمر الله تعالى بالعدل ونهى عن الجور فقال تعالى:( إنَّ الله يأمُر بِالعَدلَ والاِحْسن ) النحل ١٦: ٩٠.

تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد: ١٠٣.

(٢) وتعتبر الشيعة الامامية العدل من أصول الدين وليس هو في الحقيقة اصلاً مستقلاً، بل هو

=

٣٥

فلو كان يفعل الظلم والقبح - تعالى عن ذلك - فانّ الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور:

١ - أن يكون جاهلاً بالأمر، فلا يدري أنّه قبيح.

٢ - أن يكون عالماً به، ولكنّه مجبور على فعله، وعاجز عن تركه.

٣ - أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه، ولكنه محتاج إلى فعله.

٤ - أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه، ولا يحتاج إليه، فينحصر في أن يكون فعله له تشهّياً وعبثاً ولهواً.

وكل هذه الصور محال على الله تعالى، وتستلزم النقص فيه وهو محض الكمال، فيجب أن نحكم أنه منزَّه عن الظلم وفعل ما هو قبيح.

____________________

=

مندرج في نعوت الحق ووجوب وجوده المستلزم لجامعيّته لصفات الجمال والكمال فهو شأن من شؤون التوحيد، ولكن الاَشاعرة لما خالفوا العدلية - وهم المعتزلة والامامية - فانكروا الحسن والقبح العقليين وقالوا: ليس الحسن إلاّ ما حسّنه الشرع وليس القبح إلاّ ما قبحه الشرع، وأنه تعالى لو خلد المطيع في جهنم والعاصي في الجنة لم يكن قبيحاً؛ لاَنّه يتصرف في ملكه( لا يُسئَلُ عَمَّا يَفْعَل وَهُم يُسْئَلُونَ ) الانبياء ٢١: ٢٣. أمّا العدلية فقالوا: انّ الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاً، ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلاّ تأكيداً وارشاداً، والعقل يستقل بحسن بعض الاَفعال وقبح البعض الآخر ويحكم بأنّ القبيح محال على الله تعالى؛ لاَنّه حكيم وفعل القبيح مناف للحكمة وتعذيب المطيع ظلم والظلم قبيح وهو لا يقع منه تعالى.

وبهذا أثبتوا لله صفة العدل وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات إشارة الى خلاف الاشاعرة.

والعدلية بقاعدة الحسن والقبح العقليين اثبتوا جملة من القواعد الكلامية : كقاعدة اللطف ، ووجوب شكر المنعم ، ووجوب النظر في المعجزة ، وعليها بنوا أيضا مسألة الجبر والاختبار التي هي من معضلات المسائل.

للتفصيل راجع : أصل الشيعة واصولها للشيخ كاشف الغطاء : ٢٣٠.

مطارح النظر للشيخ الطريحي : الفصل الرابع ١٦٤.

٣٦

غير أن بعض المسلمين جوَّز عليه تعالى فعل القبيح(١) - تقدَّست أسماؤه - فجوَّز أن يعاقب المطيعين، ويدخل الجنّة العاصين، بل الكافرين، وجوَّز أن يكلِّف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه، ومع ذلك يعاقبهم على تركه، وجوَّز أن يصدر منه الظلم والجور والكذب والخداع، وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة، بحجّة أنّه( لا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسئَلونَ ) (٢) .

فربُّ أمثال هؤلاء الذين صوَّروه على عقيدتهم الفاسدة: ظالم، جائر، سفيه، لاعب، كاذب، مخادع، يفعل القبيح ويترك الحسن الجميل، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وهذا هو الكفر بعينه، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه:( وَمَا اللهُ يُريدُ ظُلْماً للعِبَادِ ) (٣) .

وقال:( وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ ) (٤) .

وقال:( وَمَا خَلَقْنَا الْسَّمواتِ والاَرضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (٥) .

وقال:( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ والاِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (٦) .

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً.

____________________

(١) والى ذلك ذهبت الاَشاعرة بقولهم إنّ الله تعالى قد فعل القبائح بأسرها من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان ورضي بها وأحبّها - جل عن ذلك سبحانه وتعالى -. ولتفصيل هذه الاَفكار الباطلة يراجع: نهج الحق للعلامة الحلّي: ٨٥، شرح العقائد وحاشيتة للكستلي: ١٠٩ و١١٣، الملل والنحل: ١/٨٥، ٨٨، ٩١، الفصل لابن حزم: ٣/٦٦ و٦٩، شرح التجريد للقوشجي: ٣٧٣.

(٢) الانبياء ٢١: ٢٣.

(٣) غافر ٤٠: ٣١.

(٤) البقرة ٢: ٢٠٥.

(٥) الدخان ٤٤: ٣٨.

(٦) الذاريات ٥١: ٥٦.

٣٧

٩ - عقيدتنا في التكليف

نعتقد: أنّه تعالى لا يكلِّف عباده إِلاّ بعد إقامة الحجّة عليهم(١) ، ولا

____________________

(١) لا بد من معرفة أنّ حقيقة التكليف تعني: إرادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقة. فيكون عندئذ المرجع هو الارادة، بقرينة ما ذكر في التعريف من الكلفة والمشقة. وأردف السيد الشريف المرتضى علم الهدى بعد ذلك بقوله - مصحّحاً القول: إنّ التكليف لا يحسن إلاّ بعد اكمال العقل ونصب الادلّة -: (وأنه تعالى اكمل العقول وحصل سائر الشروط فلا بد من أن يكلِّف، وهذا يدل على أن التكليف غير التعريف ). وقد بحث علماؤنا مباحث التكليف بصورة مستفيضة ذاكرين وجوه المراد بالتكليف وتعلقها بالمكلِّف والمكلَّف وصفات المكلف، والغرض من هذا التكليف، والوجه المجرى به إليه، وما الافعال التي يتناولها، وما المكلِّف الذي كلف هذه الاَفعال، وبأي شيء مختص من الصفات حتى يحسن أو يجب تكليفه. والمعلوم أنّ هذا الموضوع هو من بحوث الارادة الذي استحق من المتكلمين عناية وعنواناً مفرداً على أثر الاختلاف العظيم بين العلماء وزعماء المذاهب في المشيئة الالهية المذكورة في آيات الذكر الحكيم وتعلقها بأمور غير مرضية لديه سبحانه، ثمّ في تأويلها بوجوه لا تخلو عن التكلّف في الاَكثر وأهمّها الآية ١٤٨ من سورة الاَنعام( سَيقوُل الّذين أشركُوا لو شاءَ الله ما أشركْنَا ولا آباؤُنَا ولا حَرّمنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كذّبَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأسَنَا قُلْ هَل عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبعونَ إلاّ الظَنَّ وإنْ أَنْتُمْ إلاّ تخرُصُون ) والآية ٢٠ من سورة الزخرف:( وَقالُوا لَو شَاءَ الرّحمنُ ما عبدنهُمْ مَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلمٍ إنْ هم إلاّ يَخرُصوُنَ ) وآيات كثيرة توهم تعلق إرادة الخالق بما يستقبحهُ المخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن هذا يبدو أنّ شيخنا المظفرقدس‌سره أفرد عنواناً مستقلاً للتكليف سطر فيه ما يمكن أن يختصر نظرية الامامية في هذا الباب، ذلك أنّ مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام لها موقف واضح معروف يؤكّد على تنزيه الرب الكريم سبحانه وتقديسه عن كل ما هو قبيح أو شبه قبيح وشدة استنكارها بتعلّق مشيئة الله أو إرادته بشرك أو ظلم أو فاحشة قط، فضلاً عن فعله أو خلق فعله أو الاَمر به؛ إذ كل ذلك سيقع خلافاً لحكمته وعدله وفضله.

=

٣٨

يكلِّفهم إلاّ ما يسعهم ما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون؛ لاَنّه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصِّر في التعليم.

أمّا الجاهل المقصِّر في معرفة الاَحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله تعالى، ومعاقَب على تقصيره؛ إذ يجب على كلّ إنسان أن يتعلَّم ما يحتاج إليه من الاَحكام الشرعية(١) .

____________________

=

ومحصلة القول ما ذكره الشيخ المفيد بقوله: إنّ الله تعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الاَفعال، ولا يشاء إلاّ الجميل من الاعمال، ولا يريد القبائح، ولا يشاء الفواحش - تعالى الله عمّا يقول المبطلون علواً كبيرا- :

قال الله تعالى :( وما الله يريد ظلماً للعباد ) غافر ٤٠ : ٣١.

وقال تعالى :( يريد الله بكم اليسرة ولا يريد بكم العسر ) البقرة ٢ : ١٨٥.

وقال تعالى :( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) النساء ٤ : ٢٦.

وقال تعالى :( والله يرريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماُ ) النساء ٤: ٢٧.

وقال تعالى :( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسن ضعيفا ) النساء ٤: ٢٨. فخبر سبحانه أنه لا يريد بعباده العسر بل يريد بهم اليسر ، وأنه يريد لهم البيان ولا يريد لهم الضلال ، ويريد التخفيف عنهم ولا يريد التثقيل عليهم ، فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك إرادة البيان لهم والتخفيف عنهم واليسر لهم وكتاب الله تعالى شاهد بضد ما ذهب اليه الضالون المفترون على الله الكذب تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كلبيرا.

لاحظ : الذخيرة للسيد المرتضى : ١٠٥، تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد : المجلد ٥ من مصنفات الشيخ المفيد : ٤٨-٥١.

(١) ويدلّ عليه ما ورد في كتاب الله تعالى من قوله:( فَسْئَلُوا أَهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) النحل ١٦: ٤٣ وقوله تعالى:( فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا في الدِّين ولُينذرِوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعوا إليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرون) التوبة ٩: ١٢٢.

ويدلّ عليه أيضاً قول الامام الصادقعليه‌السلام عندما سئل عن قوله تعالى:( قلْ فَلِلّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ ) الانعام ٦: ١٤٩. فقالعليه‌السلام : «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟ فان قال نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت

=

٣٩

ونعتقد: أنّه تعالى لا بدَّ أن يكلِّف عباده، ويسنَّ لهم الشرائع، وما فيه صلاحهم وخيرهم؛ ليدلّهم على طرق الخير والسعادة الدائمة، ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح، ويزجرهم عمّا فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم، وإن علم أنّهم لا يطيعونه؛ لاَنّ ذلك لطف ورحمة بعباده، وهم يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الدنيا والآخرة، ويجهلون الكثير ممّا يعود عليهم بالضرر والخسران، والله تعالى هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته، وهو من كماله المطلق الذي هو عين ذاته، ويستحيل أن ينفك عنه.

ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمرّدين على طاعته، غير مناقدين إلى أوامره ونواهيه.

____________________

=

جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟! فيخصم، فتلك الحجة البالغة». الاَمالي للشيخ الطوسي: ٩ ح١٠/١٠. ونقله عنه: البحار: ٢/٢٩ ح١٠.

والحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام : (عليكم بالتفقه في دين الله ، ولا تكونوا أعرابا ؛ فانه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزك له عملا .)الكافي :١/٢٤ ح٧.

كما ورد في الرسائل العملية للعلماء الأعلام : يجب على المكلف تعلم مسائل الشك والسهو التي في معرض ابتلائه لئلا يقع - لولا التعلم - في مخالفة تكليف إلزامي متوجه اليه عند طروهما لاحظ منهاج الصالحين للسيد السيستاني : العبادات / مسألة ١٩ص١٣.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وساعره على ثمنه، كان جائزا وإن لم يوازنه، ولا يناقده في الحال، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنّقد. ولا يجوز ذلك إذا كان ما يعطيه أقلّ من ماله. فإن أعطاه أقلّ من ماله، وساعره، مضى البيع في المقدار الذي أعطاه، ولم يمض فيما هو أكثر منه. والأحوط في ذلك أن يوازنه ويناقده في الحال أو يجدّد العقد في حال ما ينتقد ويتّزن.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ألف درهم ودينارا بألفي درهم من ذلك الجنس أو من غيره من الدّراهم. وإن كان الدّينار لا يساوي ألف درهم في الحال. وكذلك لا بأس أن يجعل بدل الدّينار شيئا من الثّياب أو جزءا من المتاع أو غير ذلك ليتخلّص به من الرّبا، ويكون ذلك نقدا، ولا يجوز نسيئة. وكذلك لا بأس أن يبيع ألف درهم صحاحا وألفا غلّة بألفين صحاحا أو بألفين غلّة نقدا، ولا يجوز ذلك نسيئة. وكذلك لا بأس أن يبيع درهما بدرهم ويشترط معه صياغة خاتم أو غير ذلك من الأشياء.

وإذا باع الإنسان دراهم بالدّنانير، لم يجز له أن يأخذ بالدّنانير دراهم مثلها، إلّا بعد أن يقبض الدّنانير، ثمَّ يشتري بها دراهم إن شاء.

وإذا اشترك نفسان في شراء دراهم بدنانير، ونقد أحدهما الدّنانير عن نفسه وعن صاحبه، وجعل نقده عنه دينا عليه،

٣٨١

ثمَّ أراد أن يشتري منه حصّته بالدّنانير التي له عليه من ثمنها أو أقلّ منها أو أكثر، لم يكن به بأس.

ولا بأس ببيع دينار ودرهم بدينارين. وكذلك لا بأس ببيع درهم ودينار بدرهمين، ويكون ذلك نقدا، ولا يجوز نسيئة. ولا يجوز إنفاق الدّراهم المحمول عليها، إلّا بعد أن يبيّن حالها.

ولا يجوز بيع الفضّة إذا كان فيها شي‌ء من المسّ أو الرّصاص أو الذّهب أو غير ذلك إلّا بالدّنانير، إذا كان الغالب الفضّة. فإن كان الغالب الذّهب، والفضّة الأقلّ، فلا يجوز بيعه إلّا بالفضّة. ولا يجوز بيعه بالذّهب. هذا إذا لم يحصل العلم بمقدار كلّ واحد منهما على التّحقيق. فإن تحقّق ذلك، جاز بيع كلّ واحد منهما بجنسه مثلا بمثل من غير تفاضل.

ولا بأس أن يعطي الإنسان غيره دراهم أو دنانير، ويشترط عليه أن ينقدها إيّاه بأرض أخرى مثلها في العدد أو الوزن من غير تفاضل فيه، ويكون ذلك جائزا، لأنّ ذلك يكون على جهة القرض لا على جهة البيع، لأن البيع في المثلين لا يجوز إلّا مثلا بمثل نقدا، ولا يجوز نسيئة.

وجوهر الفضّة لا يجوز بيعه إلّا بالذّهب أو بجنس غير الفضّة. وجوهر الذّهب لا يجوز بيعه إلّا بالفضّة أو بجنس غير الذّهب. وجوهر الذّهب والفضّة معا يجوز بيعه بالذّهب

٣٨٢

والفضّة معا.

ولا يجوز بيع تراب الصّاغة. فإن بيع، كان ثمنه للفقراء والمساكين، يتصدّق به عليهم، لأنّ ذلك لأربابه الذين لا يتميّزون.

وجوهر الأسرب والنّحاس والصّفر لا بأس بالإسلاف فيه دراهم أو دنانير، إذا كان الغالب عليه ذلك، وإن كان فيه فضّة يسيرة أو ذهب قليل.

والأواني المصاغة من الذّهب والفضّة معا إن كان ممّا يمكن تخليص كلّ واحد منهما من صاحبه، فلا يجوز بيعها بالذّهب أو الفضّة. وإن لم يمكن ذلك فيها، فإن كان الغالب فيها الذّهب، لم تبع إلّا بالفضّة. وإن كان الغالب فيها الفضّة، لم تبع إلّا بالذّهب. فإن تساويا النّقدان، بيع بالذّهب والفضّة معا. وإن جعل معها شي‌ء آخر من المتاع، كان أولى وأحوط.

والسّيوف المحلّاة والمراكب المحلّاة بالذّهب والفضّة، فإن كانت محلاة بالفضّة، وعلم مقدار ما فيها، جاز بيعها بالذّهب والفضّة نقدا، ولا يجوز نسيئة. فإن بيع بالفضّة، فيكون ثمن السّيف أكثر ممّا فيه من الفضّة. وإن كان أقلّ، لم يجز ذلك فيه. وكذلك إن كان مثله إلّا أن يستوهب السّيف والسّير. وكذلك الحكم فيها إذا كانت محلّاة بالذّهب وعلم مقدار ما فيها، بيع بمثلها وأكثر منه بالذّهب، ولا يجوز

٣٨٣

بيعها بأقلّ ممّا فيها من الذّهب. ويجوز بيعها بالفضّة سواء كان أقلّ ممّا فيها من الذّهب أو أكثر، إذا كان نقدا، ولا يجوز ذلك نسيئة على حال. ومتى لم يعلم مقدار ما فيها وكانت محلّاة بالفضّة، فلا يباع إلّا بالذّهب. وإن كانت محلّاة بالذّهب لم تبع إلّا بالفضّة أو بجنس آخر سوى الجنسين من السّلع والمتاع. ومتى كانت محلّاة بالفضّة، وأراد بيعها بالفضّة، وليس لهم طريق إلى معرفة مقدار ما فيها، فليجعل معها شيئا آخر وبيع حينئذ بالفضّة، إذا كان أكثر ممّا فيه تقريبا. ولم يكن به بأس. وكذلك الحكم فيما كان من الذّهب. ولا بأس ببيع السّيوف المحلّاة بالفضّة بالفضّة نسيئة إذا نقد مثل ما فيها من الفضّة، ويكون ما يبقى ثمن السّير والنّصل.

ولا يجوز أن يشتري الإنسان سلعة بدينار غير درهم، لأن ذلك مجهول. وإذا حصل مع إنسان دراهم محمول عليها، لم يجز له صرفها إلّا بعد بيانها، ولا إنفاقها وإن كانت صارت إليه بالجياد.

ومن أقرض غيره دراهم، ثمَّ سقطت تلك الدّراهم، وجاءت غيرها، لم يكن له عليه إلّا الدّراهم التي أقرضها إيّاه، أو سعرها بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه.

٣٨٤

باب الشرط في العقود

لا يجوز أن يبيع الإنسان إلّا ما يملكه في الحال. فإن باع ما لا يملك، كان البيع موقوفا على صاحبه: فإن أمضاه مضى، وإن لم يمض كان باطلا. إن باع ما يملك وما لا يملك في صفقة واحدة، مضى البيع فيما يملك، وكان فيما لا يملك موقوفا حسب ما بيّنّاه.

وإذا باع ما يجوز بيعه من جملة ما يملك، وما لا يجوز بيعه من المحظورات، مضى البيع فيما يصحّ بيعه، وبطل فيما لا يصحّ البيع فيه.

وإذا باع، فلا ينعقد البيع، إلّا بعد أن يفترق البيّعان بالأبدان. فإن لم يفترقا، كان لكلّ واحد منهما فسخ البيع والخيار.

ومتى شرط المبتاع على البائع مدّة من الزّمان، كان ذلك جائزا كائنا ما كان. فإن هلك المتاع في تلك المدّة من غير تفريط من المبتاع، كان من مال البائع دون المبتاع. وإن كان بتفريط من جهته، كان من ماله دون مال البائع. وإن هلك بعد انقضاء المدّة، كان من مال المبتاع دون البائع على على كلّ حال.

وإذا باع الإنسان شيئا، ولم يقبّض المتاع ولا قبّض الثّمن

٣٨٥

ومضى المبتاع، كان العقد موقوفا إلى ثلاثة أيّام: فإن جاء المبتاع في مدّة ثلاثة أيام كان البيع له، وإن مضى ثلاثة أيّام، كان البائع أولى بالمتاع. فان هلك المتاع في هذه الثّلاثة أيّام، ولم يكن قبّضه إيّاه، كان من مال البائع دون مال المبتاع. وان كان قبّضه إيّاه ثمَّ هلك في مدّة الثّلاثة أيّام، كان من مال المبتاع دون البائع. وإن هلك بعد الثّلاثة أيّام، كان من مال البائع على كلّ حال، لأنّ الخيار له بعد انقضاء الثّلاثة أيّام.

وإذا اشترى إنسان عقارا أو أرضا، وشرط البائع أن يردّ على المبتاع بالثّمن الذي ابتاعه به في وقت بعينه، كان البيع صحيحا، ولزمه ردّه عليه في ذلك الوقت. وإن مضى الوقت ولم يجي‌ء البائع، كان بالخيار فيما بعد بين ردّه وإمساكه. فإن هلك المبيع في مدّة الأجل المضروبة، كان من مال المبتاع دون مال البائع. وكذلك إن استغلّ منه شيئا، كان له، وكان له أيضا الانتفاع به على كلّ حال.

والشّرط في الحيوان كلّه الدّواب والحمير والبغال وغيرها، وفي الأناسيّ من العبيد أيضا ثلاثة أيّام، شرط ذلك في حال العقد أو لم يشرط. ويكون الخيار للمبتاع خاصة في هذه المدّة ما لم يحدث فيه حدثا. فإن أحدث فيها حدثا: بأن يركب دابة، أو يستعمل حمارا، أو يقبل جارية، أو يلامسها

٣٨٦

أو يعتقها، أو يدبّرها، أو يكاتبها، أو غير ذلك من أنواع التصرف، لزمه البيع، ولم يكن وإن كان الشي‌ء قائما بعينه، كان لصاحبه انتزاعه من يد المبتاع. فإن أحدث المبتاع فيه حدثا نقص به ثمنه، كان له انتزاعه منه وأرش ما أحدث فيه فإن كان الحدث يزيد في قيمته، وأراد انتزاعه من يده، كان عليه أن يردّ على المبتاع قيمة الزّيادة لحدثه فيه. فإن ابتاعه بحكم البائع في ثمنه، فحكم بأقلّ من قيمته، كان ذلك ماضيا، ولم يكن له أكثر من ذلك. وإن حكم بأكثر من قيمته، لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع، اللهمّ إلّا أن يتبرّع المبتاع بالتزام ذلك على نفسه. فإن لم يفعل، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن باع شيئا بدراهم أو دنانير، وذكر النّقد بعينه، كان له من النّقد ما شرط. فإن لم يذكر نقدا بعينه، كان له ما يجوز بين النّاس. وإن اختلف النّقد، كان البيع باطلا.

باب البيع بالنقد والنسيئة

من باع شيئا بنقد، كان الثّمن عاجلا. وإن باعه ولم يذكر لا نقدا ولا نسيئة، كان أيضا الثّمن حالا. فإن ذكر أن يكون الثّمن آجلا، كان على ما ذكر بعد أن يكون الأجل معيّنا، ولا يكون مجهولا مثل قدوم الحاجّ ودخول القافلة وإدراك الغلّات وما يجري مجراها. فإن ذكر شيئا من هذه الأوقات، كان البيع باطلا. وكذلك إن باع بنسيئة ولم يذكر الأجل أصلا، كان أيضا البيع باطلا. فإن ذكر المتاع

٣٨٧

بأجلين ونقدين مختلفين بأن يقول: « ثمن هذا المتاع كذا عاجلا وكذا آجلا »، ثمَّ أمضى البيع، كان له أقلّ الثّمنين وأبعد الأجلين.

ومتى باع الشّي‌ء بأجل، ثمَّ حضر الأجل، ولم يكن مع المشتري ما يعطيه إيّاه، جاز له أن يأخذ منه ما كان باعه إيّاه من غير نقصان من ثمنه. فإن أخذه بنقصان ممّا باع، لم يكن ذلك صحيحا، ولزمه ثمنه الذي كان أعطاه به. فإن أخذ من المبتاع متاعا آخر بقيمته في الحال، لم يكن بذلك بأس. وإذا باع شيئا إلى أجل، وأحضر المبتاع الثّمن قبل حلول الأجل، كان البائع بالخيار بين قبض الثّمن وبين تركه إلى حلول الأجل، ويكون ذلك في ذمّة المبتاع. فإن حلّ الأجل، ومكّنه المبتاع من الثّمن، ولم يقبض البائع، ثمَّ هلك الثّمن، كان من مال البائع دون المبتاع. وكذلك إن اشترى شيئا إلى أجل، وأحضر البائع المبيع قبل حلول الأجل، كان المبتاع، مخيّرا بين أخذه وتركه. فإن هلك قبل حلول الأجل، كان من مال البائع دون مال المبتاع. فإن حلّ الأجل، وأحضر البائع المبتاع ومكّن المبتاع من قبضه، فامتنع من قبضه، ثمَّ هلك المتاع، كان من مال المبتاع دون البائع.

ولا بأس أن يبيع الإنسان متاعا حاضرا إلى أجل، ثمَّ يبتاعه منه في الحال، ويزن الثّمن بزيادة ممّا باعه أو نقصان.

٣٨٨

وإن اشتراه منه بنسيئة أيضا، كان جائزا. ولا يجوز تأخير الثّمن عن وقت وجوبه بزيادة فيه. ولا بأس بتعجيله بنقصان شي‌ء منه. ويكره الاستحطاط من الأثمان بعد انتقال المبيع وانعقاد البيع، وليس ذلك بمحظور.

وكلّ شي‌ء يصحّ بيعه قبل القبض، صحّ أيضا الشركة فيه.

ولا بأس بابتياع جميع الأشياء حالّا، وإن لم يكن حاضرا في الحال، إذا كان الشي‌ء موجودا في ذلك الوقت، أو يمكن وجوده. ولا يجوز أن يشتري حالا ما لا يمكن وجوده في الحال، مثال ذلك أن يشتري الفواكه حالّة في غير أوانها، فإن ذلك لا يمكن تحصيله. فأمّا ما يمكن تحصيله فلا بأس به، مثل الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب والثياب وغير ذلك، وإن لم يكن عند بائعه في الحال.

ومن اشترى شيئا بنسيئة فلا يبيعه مرابحة. فإن باعه كذلك، كان للمبتاع من الأجل مثل ماله. ولا يجوز أن يبيع الإنسان متاعا مرابحة بالنّسبة إلى أصل المال بأن يقول: « أبيعك هذا المتاع بربح عشرة واحدا أو اثنين » بل يقول بدلا من ذلك: « هذا المتاع عليّ بكذا، وأبيعك إيّاه بكذا » بما أراد.

وإذا قوّم التّاجر متاعا على الواسطة بثمن معلوم وقال له: « فما زدت على رأس المال، فهو لك، والقيمة لي »، كان ذلك

٣٨٩

جائزا، وإن لم يواجبه البيع. فإن باع الواسطة المتاع بزيادة على ما قوّم عليه، كان له. وإن باعه برأس المال، لم يكن له على التّاجر شي‌ء. وإن باعه بأقلّ من ذلك، كان ضامنا لتمام القيمة. فإن ردّ المتاع ولم يبعه، لم يكن للتّاجر الامتناع من أخذه. ومتى أخذ الواسطة المتاع على ما ذكرناه، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة، ولا يذكر الفضل على القيمة في الشّراء. وإذا قال الواسطة للتّاجر: « خبّرني بثمن هذا المتاع، واربح عليّ فيه كذا وكذا »، ففعل التّاجر ذلك، غير أنّه لم يواجبه البيع ولا ضمن هو الثّمن، ثمَّ باع الواسطة بزيادة على رأس المال والثّمن، كان ذلك للتّاجر، وله أجرة المثل لا أكثر من ذلك. وإن كان قد ضمن الثّمن، كان له ما زاد على ذلك من الرّبح، ولم يكن للتّاجر أكثر من رأس المال الذي قرّره معه. وإذا قال الإنسان لغيره: « اشتر لي هذا المتاع، وأزيدك شيئا »، فإن اشترى التّاجر ذلك، لم يلزم الآمر أخذه، ويكون في ذلك بالخيار: إن شاء اشتراه، وإن شاء لم يشتره.

ومتى أخذ الإنسان من تاجر مالا، واشترى به متاعا يصلح له، ثمَّ جاء به إلى التّاجر. ثمَّ اشتراه منه، لم يكن بذلك بأس، إذا كان قد ناب عنه في الشّراء، ويكون التّاجر مخيّرا: بين أن يبيعه وألّا يبيعه. فإن كان شراؤه لنفسه، وإنّما ضمن المال، لم يكن للتّاجر عليه سبيل

٣٩٠

ولا بأس أن يبيع الإنسان متاعا بأكثر ممّا يسوى في الحال بنسيئة، إذا كان المبتاع من أهل المعرفة. فإن لم يكن كذلك، كان البيع مردودا.

وإذا اشترى الإنسان ثيابا جماعة بثمن معلوم، ثمَّ قوّم كلّ ثوب منها على حدة مع نفسه، لم يجز له أن يخبر بذلك الشّراء ولا أن يبيعه مرابحة، إلّا بعد أن يبيّن أنّه إنّما قوّم ذلك كذلك. وإذا اشترى الإنسان متاعا، جاز له أن يبيعه في الحال، وإن لم يقبضه، ويكون قبض المتاع الثّاني قبضا عنه. وإذا اشترى الإنسان ثيابا جماعة، فلا يجوز أن يبيع خيارها مرابحة، لأنّ ذلك لا يتميّز، وهو مجهول. ولا يجوز أن يشتري الإنسان ثوبا بدينار إلّا درهما، لأنّه مجهول. وإذا باع الإنسان المتاع مرابحة، فلا بدّ أن يذكر النّقد الّذي وزنه وكيفيّة الصّرف في يوم وزن المال، وليس عليه شي‌ء من ذلك إذا باعه مساومة.

ولا يجوز بيع المتاع في أعدال محزومة وجرب مشدودة، إلّا أن يكون له بارنامج يوقفه منه على صفة المتاع في ألوانه وأقداره. فإذا كان كذلك، جاز بيعه. فإذا نظر اليه المبتاع، ورآه موافقا لما وصف له وذكر، كان البيع ماضيا. وإن كان بخلاف ذلك، كان البيع مردودا. ومن أمر غيره أن يبتاع له متاعا، وينقد من عنده الثّمن عنه، فاشتراه، ونقد عنه ثمنه، ثمَّ سرق المتاع، أو هلك، كان من مال الآمر، دون المبتاع.

٣٩١

باب العيوب الموجبة للرد

من اشترى شيئا على شرط الصّحة والسّلامة، ثمَّ ظهر له فيه عيب سبق وجوده عقدة البيع، ولم يكن قد تبرّأ صاحبه اليه من العيوب كلّها، كان له أن يردّ المتاع، ويسترجع الثّمن إن شاء، أو يطالب بالأرش بين قيمة المتاع صحيحا وبينه معيبا، وليس للبائع عليه في ذلك خيار. ومتى كان البائع قد تبرّأ إلى المتاع من جميع العيوب، لم يكن له الرّجوع عليه بشي‌ء من ذلك، وإن لم يفصل له العيوب في الحال. والأفضل أن يفصّل له العيوب كلّها، ويظهرها في حال البيع، ليقع العقد عليه مع العلم بها أجمع، وليس ذلك بواجب، بل يكفي التّبرّؤ من العيوب.

ومتى اختلف البائع والمشتري في العيب، فذكر البائع: « أنّ هذا العيب حدث عند المبتاع، ولم يكن في المتاع وقت بيعي إيّاه »، وقال المبتاع: « بل باعني معيبا، ولم يحدث فيه عندي عيب »، ولم يكن لأحدهما بيّنة على دعواه، كان على البائع اليمين بالله: أنّه باعه صحيحا لا عيب فيه. فإن حلف، برئ من العهدة. وإن لم يحلف، كان عليه الدّرك فيه. وإذا قال البائع: « بعت على البراءة من العيوب »، وأنكر المبتاع ذلك، فعلى البائع البيّنة فيما ادّعاه. فإن لم يكن معه بيّنة، حلف المبتاع: أنّه لم يتبرّأ إليه من العيوب، وباعه على الصحّة. فإذا حلف،

٣٩٢

كان له الرّد إن شاء، أو أرش العيب حسب ما قدّمناه.

ومتى اختلف أهل الخبرة في قيمته، عمل على أوسط القيم فيما ذكروه.

فإن كان المبيع جملة، فظهر العيب في البعض، كان للمبتاع أرش العيب في البعض الذي وجد فيه. وإن شاء، ردّ جميع المتاع، واسترجع الثّمن، وليس له ردّ المعيب دون ما سواه.

ومتى أحدث المشتري حدثا في المتاع، لم يكن له بعد ذلك ردّه، وكان له الأرش بين قيمته معيبا وصحيحا، وسواء كان إحداثه ما أحدث فيه مع علمه بالعيب أو مع عدم العلم. وليس علمه بالعيب ووقوفه عليه، بموجب لرضاه. ومتى حدث فيه حادث ينضاف الى العيب الذي كان فيه، كان له أرش العيب الذي كان فيه وقت ابتياعه إيّاه، ولم يكن له أرش ما حدث عنده فيه على حال.

ومن ابتاع أمة، فظهر له فيها عيب لم يكن علم به في حال ابتياعه إيّاها، كان له ردّها واسترجاع ثمنها أو أرش العيب دون الرّدّ، لا يجبر على واحد من الأمرين. فإن وجد بها عيبا بعد أن وطئها، لم يكن له ردّها، وكان له أرش العيب خاصّة. اللهمّ إلّا أن يكون العيب من حبل، فيلزمه ردّها على كلّ حال وطئها أو لم يطأها. ويردّ معها إذا وطئها نصف عشر قيمتها. ومتى وجد عيبا فيها بعد أن يعتقها، لم يكن له ردّها، وكان له

٣٩٣

له أرش العيب. فإن وجد العيب بعد تدبيرها أو هبتها، كان مخيّرا بين الرّدّ وأرش العيب، أيّهما اختار، كان له ذلك، لأنّ التّدبير والهبة له أن يرجع فيهما. وليس كذلك العتق، لأنّه لا يجوز الرجوع فيه على حال.

وتردّ الشّاة المصرّاة، وهي التي جمع بائعها في ضرعها اللّبن يومين وأكثر من ذلك، ولم يحلبها ليدلّسها به على المشتري، فيظنّ إذا رأى ضرعها وحلب لبنها: أنّه لبن يومها لعادة لها. وإذا ردّها، ردّ معها قيمة ما احتلب من لبنها بعد إسقاط ما أنفق عليها الى أن عرف حالها.

ويردّ العبيد والإماء من أحداث السّنة. مثل الجذام والجنون والبرص ما بين وقت الشرى وبين السّنة فإن ظهر بعد مضي السّنة شي‌ء من ذلك، لم يكن له ردّ شي‌ء من ذلك على حال. وإذا أبق المملوك من عند المشتري، ثمَّ وجده، لم يكن ردّه على البائع بالعيب، إلّا أن يعلم أنّه كان قد أبق أيضا عنده. فإن علم ذلك، كان له ردّه عليه واسترجاع الثّمن.

وما يحدث من العيب في شي‌ء من الحيوان ما بين حال البيع وبين الثّلاثة أيّام، كان للمبتاع ردّه ما لم يحدث فيه حدثا. وإذا أحدث بعد انقضاء الثّلاثة أيّام، لم يكن ردّه على حال إلّا ما استثنيناه من أحداث السّنة. ومتى أحدث في مدّة الثّلاثة أيّام فيه حدثا، ثمَّ وجد فيه عيبا، لم يكن له ردّه.

ومن اشترى جارية على أنّها بكر، فوجدها ثيّبا، لم يكن له

٣٩٤

ردّها، ولا الرّجوع على البائع بشي‌ء من الأرش، لأنّ ذلك قد يذهب من العلّة والنّزوة. ومن اشترى جارية لا تحيض في مدّة ستة أشهر، ومثلها تحيض، كان له ردّها، لأنّ ذلك عيب.

ومن اشترى زيتا أو بزرا، ووجد فيه درديّا، فإن كان يعلم: أنّ ذلك يكون فيه، لم يكن له ردّه: وإن لم يعلم ذلك، كان له ردّه.

ومن اشترى شيئا، ولم يقبضه، ثمَّ حدث فيه عيب، كان له ردّه. وإن أراد أخذه وأخذ الأرش، كان له ذلك. وإذا قبض بعضه، ولم يقبضه البعض الآخر، كان الحكم فيما لم يأخذه إذا حدث فيه حادث ما قدّمناه.

ومتى هلك المبيع كلّه، كان من مال البائع دون مال المبتاع.

باب السلف في جميع المبيعات

السّلف جائز في جميع المبيعات، إذا جمع شرطين: أحدهما تمييز الجنس من غيره من الأجناس وتحديده بالوصف. والثّاني ذكر الأجل فيه. فإن ذكر الجنس، ولم يحدّد بالوصف، كان البيع باطلا. وإن ذكر الجنس والوصف، ولم يذكر الأجل كان البيع غير صحيح. فإذا جمع الشرطين معا، صحّ البيع.

وكلّ شي‌ء لا يتحدّد بالوصف ولا يمكن ذلك فيه، لا يصحّ السّلف فيه. ولا يجوز أن يكون ذكر الأجل بما لا يتعيّن مثل

٣٩٥

قدوم الحاجّ ودخول القوافل وإدراك الغلّات وهبوب الرّياح وما يجرى مجراه. وإنّما يصحّ من ذلك ما يذكره من السّنين والأعوام أو الشّهور والأيّام.

فإذا أسلف الإنسان في شي‌ء من الثّياب، فينبغي أن يعيّن جنسها ويذكر صفتها ويصف طولها وعرضها وغلظها ورقّتها. فإن أخلّ بشي‌ء من ذلك، كان العقد باطلا. ولا يجوز أن يذكر في الثّوب نساجة إنسان بعينه أو غزل امرأة بعينها. فإن اشتراه كذلك، كان البيع باطلا.

وإذا أسلف في طعام أو شي‌ء من الغلّات، فليذكر جنسه ويعيّن صفته. فإن لم يذكره، لم يصحّ البيع. ولا يذكر أن تكون الغلّة من أرض بعينها أو من قرية مخصوصة. فإن اشتراه كذلك، لم يكن البيع مضمونا. لأنّه إذا اشترى الحنطة مثلا من أرض بعينها، ولم تخرج الأرض الحنطة، لم يلزم البائع أكثر من ردّ الثّمن. ومتى اشتراه، ولم ينسبه إلى أرض بعينها، كان لازما في ذمّته الى أن يخرج منه.

ولا بأس أن يسلف الإنسان في شي‌ء، وإن لم يكن للمستسلف شي‌ء من ذلك، غير أنّه إذا حضر الوقت اشتراه، ووفّاه إيّاه.

ولا يجوز السّلف فيما لا يتحدّد بالوصف مثل الخبز واللّحم وروايا الماء، لأنّ ذلك تحديده لا يمكن بوصف لا يختلط به سواه.

٣٩٦

ولا بأس بالسّلم في الحيوان كلّه، إذا ذكر الجنس والوصف والأسنان، من الإبل والغنم والدّوابّ والبغال والحمير والرّقيق وغيرها من أجناس الحيوان. فإذا أسلم الإنسان في شي‌ء ممّا ذكرناه، ثمَّ حلّ الأجل، ولم يكن عند البائع ما يوفّيه إيّاه، جاز له أن يأخذ منه رأس المال من غير زيادة عليه.

فإن أعطاه البائع مالا، وجعل اليه أن يشتري لنفسه ما كان باعه إيّاه، ووكّله في ذلك، لم يكن به بأس. والأفضل أن يتولّى ذلك غيره. وإن حضر الأجل، وقال البائع: « خذ منّي قيمته الآن »، جاز له أن يأخذ منه في الحال، ما لم يزد ثمنه على ما كان أعطاه إيّاه. فإن زاد على ذلك، لم يجز بيعه إيّاه. هذا إذا باعه بمثل ما كان اشتراه من النّقد. فإن اختلف النّقدان، بأن يكون كان قد اشتراه بالدّرهم والدّنانير، وباعه إيّاه في الحال بشي‌ء من العروض والمتاع أو الغلّات أو الرّقيق أو الحيوان، لم يكن لذلك بأس، وإن كان لو قوّم ما يعطيه في الحال، زاد على ما كان أعطاه إيّاه.

ولا بأس بالسّلم في مسوك الغنم إذا عيّن الغنم وشوهد الجلود، ولم يجز ذلك مجهولا.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ما هو موجود في الوقت، وإن لم يكن حاضرا بالصفة. فإذا أحضر وكان على ما وصف، كان البيع ماضيا. فإن لم يكن كذلك، كان البيع مردودا.

٣٩٧

ولا بأس بالسّلف في الفواكه كلّها إذا ذكر جنسها ولم ينسب إلى شجرة بعينها. ولا بأس بالسّلف في الشّيرج والبزر، إذا لم يذكر أن يكون من سمسم بعينه أو كتّان بعينه. فإن ذكر ذلك، كان البيع باطلا. ولا بأس بالسّلف في الألبان والسّمون إذا ذكر أجناسها.

ومتى أعطي الإنسان غيره دراهم أو دنانير، وأخذ منه شيئا من المتاع، ولم يساعره في حال ما أعطاه المال، كان المتاع بسعر يوم قبضه، دون يوم قبض المال. ولا يجوز أن يبيع الإنسان ماله على غيره في أجل لم يكن قد حضر وقته، وإنّما يجوز له بيعه إذا حلّ الأجل. فإذا حضر، جاز له أن يبيع على الذي عليه أو على غيره من النّاس. وإن باع على غيره، وأحال عليه بالمتاع، كان ذلك جائزا، وإن لم يقبض هو المتاع، ويكون قبض المبتاع الثّاني قبضا عنه. وذلك فيما لا يكال ولا يوزن. ويكره ذلك فيما يدخله الكيل والوزن. فإن وكل المبتاع منه بقبضه، ويكون هو ضامنا، لم يكن بذلك بأس على كلّ حال. ولا بأس أن يبتاع الإنسان ما اكتاله غيره من النّاس، ويصدّقه في قوله، غير أنّه إذا أراد بيعه لم يبعه إلّا بعد الكيل.

وكلّ ما يكال أو يوزن، فلا يجوز بيعه جزافا، وكذلك حكم ما يباع عددا، فلا يجوز بيعه جزافا.

وإذا اشتري الإنسان شيئا بالكيل أو الوزن وعيّره، فزاد أو

٣٩٨

نقص منه شي‌ء يسير لا يكون مثله غلطا ولا تعدّيا، لم يكن به بأس. فإن زاد ذلك أو نقص شيئا كثيرا، ولا يكون مثله إلّا غلطا أو تعمّدا، وجب عليه ردّه على صاحبه ما زاد، وكان فيما نقص بالخيار، إن شاء طالبه به، وإن شاء تركه.

ومن أسلف في متاع موصوف ثمَّ أخذ دون ما وصف برضا منه، كان ذلك جائزا، وكذلك إن اعطي فوق ما وصف برضا من الذي باعه، لم يكن به بأس.

ولا بأس بالسّلف في الصّوف والشّعر والوبر إذا ذكر الوزن فيه. فإن أسلف في الغنم، وشرط معه أصواف نعجات بعينها كائنا ما كان، لم يكن به بأس.

ولا يجوز أن يسلف السّمسم بالشّيرج، ولا الكتّان بالبزر، بل ينبغي أن يثمّن كلّ واحد منهما على حياله. ولا بأس بالسّلف في جنسين مختلفين كالحنطة والأرزّ والتّمر والزّبيب والمروي والحرير وما أشبه ذلك، بعد أن يذكر المبيع ويميّز بالوصف ويذكر الثّمن والأجل على ما قدّمناه.

باب بيع الغرر والمجازفة وما يجوز بيعه وما لا يجوز

قد بيّنّا أنّ ما يباع كيلا أو وزنا، فلا يجوز بيعه جزافا. فإن بيع كذلك، كان البيع باطلا. فإن كان ما يباع وزنا يتعذّر وزنه، جاز أن يكال، ثمَّ يعيّر مكيال منه، ويؤخذ الباقي على ذلك الحساب. وكذلك ما يباع بالعدد، لا يجوز بيعه جزافا.

٣٩٩

فإن تعذّر عدّه، وزن منه مكيال وعدّ، وأخذ الباقي على حسابه.

ولا يجوز أن يباع اللّبن في الضّروع. فمن أراد بيع ذلك، حلب من الغنم شيئا من اللّبن، واشتراه مع ما بقي في ضرعه في الحال أو مدّة من الزّمان. وإن جعل معه عرضا آخر، كان أحوط.

ولا بأس أن يعطي الإنسان الغنم والبقر بالضّريبة مدّة من الزّمان بشي‌ء من الدّراهم والدّنانير والسّمن، وإعطاء ذلك بالذّهب والفضّة أجود في الاحتياط.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان أصواف الغنم وشعرها على ظهورها. فإن أراد بيعها، جعل معها شيئا آخر. وكذلك لا يجوز أن يبيع ما في بطون الأنعام والأغنام وغيرهما من الحيوان.

فإن أراد بيع ذلك، جعل معه شيئا آخر. فإن لم يكن ما في البطون حاصلا، كان الثّمن في الآخر. ومتى اشتري أصواف الغنم مع ما في بطونها في عقد واحد، كان البيع صحيحا ماضيا.

ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الصّيّاد ما يضرب بشبكته، لأنّ ذلك مجهول. ولا بأس أن يشتري الإنسان، أو يتقبّل بشي‌ء معلوم، جزية رؤوس أهل الذّمّة، وخراج الأرضين، وثمرة الأشجار، وما في الآجام من السّموك، إذا كان قد أدرك شي‌ء من هذه الأجناس، وكان البيع في عقد واحد. ولا يجوز ذلك ما لم يدرك منه شي‌ء على حال. ولا بأس أن يشتري الإنسان تبن البيدر لكلّ كرّ من الطّعام تبنة بشي‌ء معلوم وإن لم يكل بعد الطّعام.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793