النهاية الجزء ١

النهاية7%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225284 / تحميل: 6344
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ومن المعلوم أنّ وقوع الخطاء في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعيّ في سدّ طريق استكمال النوع الإنسانيّ، وإضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس.

قلت: الأبحاث السابقة تكفي مؤنة حلّ هذه العقدة، فإنّ الّذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعليّة أعني الأمر الروحي الّذي يرفع الاختلاف إنّما هو الناموس التكوينيّ الّذي هو الإيصال التكوينيّ لكلّ نوع من الأنواع الوجوديّة إلى كماله الوجوديّ وسعادته الحقيقيّة، فإنّ السبب الّذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجوداً حقيقيّاً كسائر الأنواع الخارجيّة هو الّذي يهديه هداية تكوينيّة خارجيّة إلى سعادته، ومن المعلوم أنّ الاُمور الخارجيّة من حيث أنّها خارجيّة لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني: أنّ الوجود الخارجيّ لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح أنّ ما في الخارج هو ما في الخارج! وإنّما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقيّة والاُمور الفكريّة من جهة تطبيقها على الخارج فإنّ الصدق والكذب من خواصّ القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض أنّ الّذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد والتكوين لزم أن لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته الّتي هي روح النبوّة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبيّ، ولا هذا الشعور الّذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطاً وخطائاً في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.

فظهر: أنّ هذا الروح النبويّ لا يحلّ محلّاً إلّا بمصاحبة العصمة، وهي المصونيّة عن الخطاء في أمر الدين والشريعة المشرّعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ هذه عصمة في تلقّي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في مقام العمل والعبوديّة، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإنّ كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينيّة وقوعاً تكوينيّاً،

١٦١

ولا خطاء ولا غلط في التكوين.

وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنّه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطنيّ مثل الشعور الفطريّ المشترك أعني الشعور الفكريّ في نحو الوجود بأن يكون محكوماً بحكم التغيّر والتأثّر؟ فإنّ الشعور الفطريّ وإن كان أمراً غير مادّيّ، ومن الاُمور القائمة بالنفس المجرّدة عن المادّة إلّا أنّه من جهة ارتباطه بالمادّة يقبل الشدّة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطنيّ أمر متعلّق بالبدن المادّيّ نحواً من التعلّق، وإن سلّم أنّه غير مادّيّ في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكريّ في قبول التغيّر والفساد، ومع إمكان عروض التغيّر والفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتّة.

والجواب: أنّا بيّنّا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنسانيّ نحو سعادته الحقيقيّة إنّما يتحقّق بيد الصنع والإيجاد الخارجيّ دون العقل الفكريّ، ولا معنى لتحقّق الخطاء في الوجود الخارجيّ.

وأمّا كون هذا الشعور الباطنيّ في معرض التغيّر والفساد لكونه متعلّقاً نحو تعلّق بالبدن فلا نسلّم كون كلّ شعور متعلّق بالبدن معرضاً للتغيّر والفساد، وإنّما القدر المسلّم من ذلك هذا الشعور الفكريّ (وقد مرّ أنّ الشعور النبويّ ليس من قبيل الشعور الفكريّ) وذلك أنّ من الشعور شعور الإنسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغيّر والخطاء فإنّه علم حضوريّ معلومه عين المعلوم الخارجيّ، وتتمّة هذا الكلام موكول إلى محلّه.

فقد تبيّن ممّا مرّ اُمور:أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدّن والاختلاف.

ثانيها: أنّ هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكريّ من القوانين المقرّرة.

ثالثها: أنّ رافع هذا الاختلاف إنّما هو الشعور النبويّ الّذي يوجده الله سبحانه

١٦٢

في بعض آحاد الإنسان لا غير.

رابعها: أنّ سنخ هذا الشعور الباطنيّ الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكريّ المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

خامسها: أنّ هذا الشعور الباطنيّ لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الإنسانيّ في سعادته الحقيقيّة.

سادسها: أنّ هذه النتائج (ويهمّنا من بينها الثلثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكريّ سنخاً، وكون النبيّ معصوماً غير غالط في تلقّي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العامّ المشاهد في هذه العالم الطبيعيّ، وهو سير كلّ واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجوديّة الّتي جهّزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبّس بها، والإنسان أحد هذه الأنواع، وهو مجهّز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحقّ ويتلبّس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملاً صالحاً في مدينة صالحة فاضلة، فلا بدّ أن يكون الوجود يهيّئ له هذه السعادة يوماً في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينيّة ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مرّ بيانه.

١٦٣

( سورة البقرة آية ٢١٤)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( ٢١٤ )

( بيان)

قد مرّ أنّ هذه الآيات آخذة من قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) ، تثبيت لما تدلّ عليه الآيات السابقة، وهو أنّ الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلّموا له ولا يتّبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائاً، ولا يبدّلوا نعمة الله سبحانه كفراً ونقمة من اتّباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحلّ عليهم غضب من ربّهم كما حلّ ببني إسرائيل حيث بدّلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإنّ المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب ربّ العالمين إلّا بالثبات والتسليم.

وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإنّ أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة، وإنّما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلاميّة أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانياً

وكلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحقّ أنّ أم لإفاده الترديد، وأنّ الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنّها دلالة وضعيّة، فالمعنى في المورد مثلاً: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان والثبات على

١٦٤

نعمة الدين، والاتّفاق والاتّحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثّل الشئ ويحضره ويشخّصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصّة الّتي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيليّة كما قال تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، ومنه أيضاً المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ) الفرقان - ٩، وإنّما قالوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مجنون وساحر وكذّاب ونحو ذلك، وحيث أنّه تعالى يبيّن المثل الّذي ذكره بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء إلخ فالمراد به المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) إلى آخره لمّا اشتدّ شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الّذي دلّ عليه بقوله: ولمّا يأتكم مثل الّذين، بيّن ذلك بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء والبأساء هو الشدّة المتوجّهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الّذي يحتاج إليه في حياته، والضرّاء هي الشدّة الّتي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف وأصله من زلّ بمعنى عثر، كرّرت اللفظة للدلالة على التكرار كأنّ الأرض مثلاً تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصّر وصرصر، وصّل وصلصل، وكبّ وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادّهاش.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محلّ الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين لكنّ الثاني أنسب للسياق، فإنّ كون الجملة غاية يعلّل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كلّ المناسبة.

قوله تعالى: ( مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه ) ، الظاهر أنّه مقول قول الرسول والّذين آمنوا معه جميعاً، ولا ضير في أن يتفّوّه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائاً وطلباً للنصر الّذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

١٦٥

الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ) الصافّات - ١٧٢، وقال تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقد قال تعالى أيضاً:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) يوسف - ١١٠، وهو أشدّ لحناً من هذه الآية.

والظاهر أيضاً أنّ قوله تعالى: ألا إنّ نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمّة لقول الرسول والّذين آمنوا معه

والآية (كما مرّت إليه الإشارة سابقاً) تدلّ على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الاُمّة كما جرى في الاُمم السابقة.

وتدل أيضاً على اتّحاد الوصف والمثل بتكرّر الحوادث الماضية غابراً، وهو الّذي يسمّى بتكرّر التاريخ وعوده.

١٦٦

( سورة البقرة آية ٢١٥)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢١٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) ، قالوا: إنّ الآية واقعة على اُسلوب الحكمة، فإنّهم إنّما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللّغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحقّ بالسؤال إنّما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرّض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيهاً لهم بحقّ السؤال.

والّذي ذكروه وجه بليغ غير أنّهم تركوا شيئاً، وهو أنّ الآية مع ذلك متعرّضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنّها تعرّضت لذلك: أوّلاً بقولها: من خير، إجمالاً، وثانياً بقولها: وما تفعّلوا من خير فإنّ الله به عليم، ففي الآية دلالة على أنّ الّذي ينفق به هو المال كائناً ما كان، من قليل أو كثير، وأنّ ذلك فعل خير والله به عليم، لكنّهم كان عليهم أن يسألوا عمّن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.

ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ المراد بما في قوله تعالى: ماذا له ينفقون ليس هو السؤال عن المهيّة فإنّه اصطلاح منطقيّ لا ينبغي أن ينزّل عليه الكلام العربيّ ولا سيّما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفيّة، وأنّهم كيف ينفقونه، وفي أيّ موضع يضعونه، فاُجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أنّ السؤال وإن كان بلفظ ما إلّا أنّ

١٦٧

المقصود هو السؤال عن الكيفيّة فإنّ من المعلوم أنّ الّذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوماً لم يذهب إليه الوهم، وتعيّن أنّ السؤال عن الكيفيّة، نظير قوله تعالى:( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) البقرة - ٧٠، فكان من المعلوم أنّ البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب المهيّة، فكان من المتعيّن أن يكون سؤالاً عن الصفة الّتي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك اُجيب بالمطابقة بقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) الآية البقرة - ٧١.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإنّ ما وإن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب المهيّة الّتي اصطلح عليها المنطق، وهي الحدّ المؤلّف من الجنس والفصل القريبين، لكنّه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيّة، حتّى يصحّ لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقّين للانفاق: ماذا اُنفق: أي على من اُنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والأقربين، فإنّ ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرّف الشئ سواء كان معرّفاً بالحدّ والمهيّة، أو معرّفاً بالخواصّ والأوصاف، فهي أعمّ ممّا اصطلح عليه في المنطق لا أنّها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفيّة الشيئ، ومنه يعلم أنّ قوله تعالى:( يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) وقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عمّا يعرّف الشئ ويخصّه والجواب بذلك.

وأمّا قول القائل: إنّ المهيّة لمّا كانت معلومة تعيّن حمل ما على السؤال عن الكيفيّة دون المهيّة فهو من أوضح الخطاء، فإنّ ذلك لا يوجب تغيّر معنى الكلمة ممّا وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إنّ السؤال كان عن الأمرين جميعاً: ما ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! وهو كما ترى.

وكيف كان لا ينبغي الشكّ في أنّ في الآية تحويلاً ما للجواب إلى جواب آخر تنبيهاً على أنّ الأحقّ هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلّا فكون الإنفاق من الخير

١٦٨

والمال ظاهر، والتحوّل من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحوّل إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من ألطف الصنائع المختصّة به كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١ وقوله تعالى:( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) آل عمران - ١١٧ وقوله تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) البقرة - ٢٦١، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء - ٨٩، وقوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان - ٥٧، وقوله تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات - ١٦٠، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أوّل الآية إيماء إلى أنّ الإنفاق وإن كان مندوباً إليه من قليل المال وكثيره، غير أنّه ينبغي أن يكون خيراً يتعلّق به الرغبة وتقع عليه المحبّة كما قال تعالى:( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران - ٩٢، وكما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) البقرة - ٢٦٧.

وايماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشرّ كالإنفاق بالمنّ والأذى كما قال تعالى:( ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) البقرة - ٢٦٢، وقوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة - ٢١٩.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منهنّ: يسئلونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض، ويسألونك عن الأنفال، ويسألونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلّا عمّا كان ينفعهم.

١٦٩

في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح - وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير - فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيّان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلّا السؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه.

ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوّع، والزكوة سوى ذلك كلّه.

ونظيرها في ذلك أيضاً ما رواه عن السدّي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة - ١٠٣، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلّا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

١٧٠

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢١٦ ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢١٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢١٨ )

( بيان)

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ، الكتابة كما مرّ مراراً ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدلّ على فرض القتال على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجّهاً إليهم إلّا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى:( يْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) النور - ٦١، وغير ذلك من الآيات والأدلّة.

ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيّلة بقوله:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) وهو لا يناسب إظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين.

والكره بضمّ الكاف المشقّة الّتي يدركها الإنسان من نفسه طبعاً أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقّة الّتي تحمّل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على

١٧١

فعل ما يكرهه، قال تعالى:( لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًاً ) النساء - ١٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًاً ) فصّلت - ١١، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إمّا لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضارّ الماليّة وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الإجتماعيّة لا محالة كان كرهاً وشاقّاً للمؤمنين بالطبع، فإنّ الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أنّ فيهم رجالاً صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنّه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر واُحد والخندق وغيرها، ومعلوم أنّ من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه.

وإمّا لأنّ المؤمنين كانوا يرون أنّ القتال مع الكفّار مع ما لهم من العدّة والقوّة لا يتمّ على صلاح الإسلام والمسلمين، وأنّ الحزم في تأخيره حتّى يتمّ لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبيّن تعالى أنّهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإنّ لله أمراً في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلّا ظاهره وهذا وجه آخر.

وإمّا لأنّ المؤمنين لكونهم متربّين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفّار لكونه مؤدّياً إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبّون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلّهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفّار من الهلاك الأبديّ والبوار الدائم، فبيّن ذلك أنّهم مخطئون في ذلك، فإنّ الله - وهو المشّرع لحكم القتال - يعلم أنّ الدعوة غير مؤثّرة في تلك النفوس الشقيّة الخاسرة، وأنّه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنياً أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانيّة كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الّذي لا ينجع فيه علاجٌ دون

١٧٢

أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضاً وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) إلّا أنّ الأوّل أنسب نظراً إلى ما اُشير إليه من آيات العتاب، على أنّ التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مرّ من الوجه يؤيّد ذلك.

قوله تعالى: ( وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ، قد مرّ فيما مرّ أنّ أمثال عسى ولعلّ في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجيّ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلّم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنّما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنّه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبّين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطائهم في الأمرين جميعاً، بيان ذلك: أنّه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أو تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، كان معناه أنّه لا عبرة بكرهكم وحبّكم فإنّهما ربّما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنّما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحداً كمن يكره لقاء زيد فقط، وأمّا من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحبّ الاعتزال، فالّذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطائه في الأمرين جميعاً، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبّك اهتديت، عسى أن تكره شيئاً وهو خير لك وعسى أن تحبّ شيئاً وهو شرّ لك لأنّك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولمّا كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبّين للسلم كما يشعر به أيضاً قوله تعالى سابقاً: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم، نبّههم الله بالخطائين بالجملتين المستقلّتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبّوا.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، تتميم لبيان خطائهم، فإنّه تعالى تدرّج في بيان ذلك إرفاقاً بأذهانهم، فأخذ أوّلاً بإبداء احتمال خطائهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلمّا اعتدلت أذهانهم بحصول الشكّ فيها، وزوال صفة الجهل المركّب كرّ عليهم ثانياً بأنّ هذا الحكم الّذي كرهتموه أنتم إنّما شرّعه

١٧٣

الله الّذي لا يجهل شيئاً من حقائق الاُمور، والّذي ترونه مستند إلى نفوسكم الّتي لا تعلم شيئاً إلّا ما علّمها الله إيّاه وكشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلّموا إليه سبحانه الأمر.

والآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق ونفى العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالّة على هذا المعنى كقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) آل عمران - ٥، وقوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ١٩٠.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمّة بأنّه صدّ عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أنّ إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وأنّ الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وأنّ هناك قتلاً، وأنّه إنّما وقع خطائاً لقوله تعالى في آخر الآيات( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفّار خطائاً من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفّار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصّة عبدالله بن جحش وأصحابه.

قوله تعالى: ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، الصدّ هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصّة الحجّ، والظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفراً في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

والآية تدلّ على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنّها منسوخة بقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٦، وليس بصواب، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي والّذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين - وهم أهل المسجد

١٧٤

الحرام - منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحقّ للمشركين أن يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر ممّا طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلّا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إلى آخر الآية حتّى للتعليل أي ليردّوكم.

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ) الخ تهديد للمرتدّ بحبط العمل وخلود النار.

( كلام في الحبط)

والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلّا إلى العمل كقوله تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الزمر - ٦٥، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) محمّد - ٣٣، وذيل الآية يدلّ بالمقابلة على أنّ الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود - ١٦، ويقرب منه قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣.

وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إنّ أصله من الحبط بالتحريك وهو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه وربّما أدّى إلى هلاكه.

والّذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمان يطيّب الحياة الدّنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وخسران سعى الكافر، وخاصّة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإنّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت - وهو الله سبحانه - يبتهج به عند النعمة،

١٧٥

ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، تبيّن الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى،( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤، حيث يبيّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدّنيا ضنك ضيّقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال مطلق الأفعال الّتي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العباديّة، والأفعال القربيّة الّتي كان المرتد عملها وأتى بها حال الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحبط وارد في مورد الّذين لا عمل عباديّ، ولا فعل قربيّ لهم كالكفّار والمنافقين كقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمّد - ٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) آل عمران - ٢٢، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصّل الآية كسائر آيات الحبط هو أنّ الكفر والإرتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثّر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيويّة ولا اُخرويّة، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردّة وإن مات على الردّة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.

١٧٦

ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتدّ إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.

توضيح ذلك: أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدلّ عليه بقوله تعالى( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) الآية وربّما أيّده قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، فإنّ الآية تبيّن حال الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.

وذهب آخرون إلى أنّ الردّة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وإن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله وأفعاله الّتي عملها في الدنيا!

وأنت بالتدبّر فيما ذكرناه تعرف: أن لا وجه لهذا النزاع أصلاً، وأنّ الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله وأفعاله من حيث التأثير في سعادته!

وهنا مسألة اُخرى كالمتفرّعة على هذه المسألة وهي مسألة الإحباط والتكفير، وهي أنّ الأعمال هل تبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيّئة حكمها؟ نعم الحسنات ربّما كفّرت السيّئآت بنصّ القرآن.

ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأنّ كلّ لاحق من السيّئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلّا حسنة فقط أو سيّئة فقط، ومن قائل بالموازنة وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقلّ ويبقى الباقي سليماً عن المنافي، ولازم القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلّا نوع واحد حسنة أو سيّئة لو كان عنده شئ منهما.

ويردّهما أوّلاً قوله تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١٠٢، فإنّ الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط

١٧٧

بأيّ وجه تصوّروه.

وثانياً: أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنسانيّ من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيّئة على حدة إلّا في بعض السيّئآت من المعاصي الّتي تقطع رابطة المولويّة والعبوديّة من أصلها فهو مورد الإحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنيّة عن الإيراد.

وذهب آخرون إلى أنّ نوع الأعمال محفوظة، ولكلّ عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيّئة.

نعم الحسنة ربّما كفّرت السيّئة كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الأنفال - ٢٩، وقال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) الآية البقرة - ٢٠٣، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣٠، بل بعض الأعمال يبدّل السيّئة حسنة كما قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وهنا مسألة اُخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق الجزاء وموطنه، فقيل: إنّه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى إنّه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحقّ ذلك إلّا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقرّ عليه، فيكتب ما يستحقّه حال العمل.

وقد استدلّ أصحاب كلّ قول بما يناسبه من الآيات، فإنّ فيها ما يناسب كلّاً من هذه الأوقات بحسب الانطباق، وربّما استدلّ ببعض وجوه عقليّة ملفّقة.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيّناه في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) البقرة - ٢٦، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانيّة ما دامت متعلّقة بالبدن جوهراً متحوّلاً قابلاً للتحوّل في ذاته وفي آثار ذاته من الصور الّتي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه

١٧٨

حسنة حصل في ذاته صورة معنويّة مقتضية لاتّصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنويّة تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لمّا كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرؤها من الحسنات والسيّئآت كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الّذي بيّناه سابقاً.

وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيّناه فيما مرّ كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهيّة وترتّب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الإطاعة والمعصية في التكاليف الإجتماعيّة وترتّب المدح والذمّ عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذمّ العاصي والمسئ بمجرّد صدور الفعل عن فاعله، غير أنّهم يرون ما يجازونه به من المدح والذمّ قابلاً للتغيّر والتحوّل لكونهم يرون الفاعل ممكن التغيّر والزوال عمّا هو عليه من الانقياد والتمرّد، فلحوق المدح والذمّ على فاعل الفعل فعليّ عندهم بتحقّق الفعل غير أنّه موقوف البقاء على عدم تحقّق ما ينافيه، وأمّا ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قطّ فإنّما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغيّر قطّ بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

ومن هنا يعلم: أنّ في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافاً عن الحقّ لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.

وأنّ الحقّ أوّلاً: أنّ الإنسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرّد صدور الفعل الموجب له لكنّه قابل للتحوّل والتغيّر بعد، وإنّما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.

وثانياً: أنّ حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر يتحقّق عند صدور المعصية ويتحتّم عند الموت.

وثالثاً: أنّ الحبط كما يتعلّق بالأعمال الاُخرويّة كذلك يتعلّق بالأعمال الدنيويّة.

ورابعاً: أنّ التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

١٧٩

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)

من أحكام الأعمال: أنّ من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى:( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) آل عمران - ٢٢، وكذا من الطاعات ما يكفّر سيّئآت الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة، قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ) الزمر - ٥٥، وقال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤.

وأيضاً: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقّة مع الرسول، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) سورة محمّد - ٣٣، فإنّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقّة، وإبطال العمل هو الإحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبيّ، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الحجرات - ٢.

وكذا من الطاعات ما يكفّر بعض السيّئآت كالصلوات المفروضة، قال تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود - ١١٤، وكالحجّ، قال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة - ٢٠٣، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

الحسين،عليه‌السلام .

ومن حقّ الولد على والده أن يحسّن اسمه. والأسماء المستحبّة جميع أسماء الأنبياء والأئمّة،عليهم‌السلام . وأفضلها « محمد وعليّ والحسن والحسين » ثمَّ أسماء الأئمّة،عليهم‌السلام . ولا بأس أن يكنّي الرّجل ابنه في حال صغره. ولا يكنّيه « أبا القاسم » إذا كان اسمه « محمدا ». ويكره أن يسمّي الرّجل ابنه « حكما أو حكيما أو خالدا أو مالكا أو حارثا ».

فإذا كان يوم السّابع، يستحبّ للإنسان أن يعقّ عن ولده بكبش إن كان ذكرا، أو نعجة إن كانت أنثى. وهي سنّة مؤكّدة لا يتركها مع الاختيار. فإن لم يعقّ الوالد عن ولده، ثمَّ أدرك، استحبّ له أن يعقّ عن نفسه. ولا تقوم مقام العقيقة الصّدقة بثمنها. وإذا لم يتمكّن من العقيقة، فليس عليه شي‌ء. وإن تمكّن بعد ذلك، استحبّ له قضاؤها.

ويستحبّ أيضا أن يحلق رأس الصّبيّ يوم السّابع، ويتصدّق بوزن شعره ذهبا أو فضّة. ويكون ذلك مع العقيقة في موضع واحد.

وكلّ ما يجزئ في الأضحيّة فهو جائز في العقيقة، إلّا أنّ الأفضل ما قدّمناه: أن يعقّ عن الذّكر بالذّكر، وعن الأنثى بالأنثى. فإن لم يوجد ووجد حمل كبير، جاز ذلك أيضا.

وإذا ذبح العقيقة، فليعط القابلة ربعها. فإن لم يكن له

٥٠١

قابلة، أعطى أمّه الرّبع، تتصدّق به، ولا تأكل منه. وإن كانت القابلة ذمّيّة، أعطيت ثمن الرّبع، ولا تعطى اللّحم، وإن كانت القابلة أمّ الرّجل أو من هو في عياله، لم تعط من العقيقة شيئا. ويستحبّ أن يطبخ اللّحم ويدعى عليه جماعة من المؤمنين. وكلّما كثر عددهم، كان أفضل. فإن لم يفعل ذلك، وفرّق اللّحم على الفقراء، كان أيضا جائزا. ولا يجوز للوالدين أن يأكلا من العقيقة البتّة. ولا ينبغي أن يكسر العظم بل تفصل الأعضاء.

ويستحبّ أن يختن الصّبيّ اليوم السّابع، ولا يؤخّر. فإن أخّر لم يكن فيه حرج الى وقت بلوغه. فإذا بلغ، وجب ختانه. ولا يجوز تركه على حال.

وأمّا خفض الجواري، فإن فعل، كان فيه فضل كبير وثواب جزيل. وإن لم يفعل، لم يكن بذلك بأس.

ومتى أسلم الرّجل، وهو غير مختتن، ختن، وإن كان شيخا كبيرا.

وإذا مات الصّبيّ يوم السّابع، فإن مات قبل الظّهر، لم يعقّ عنه، وإن مات بعد الظّهر، استحبّ أن يعقّ عنه.

ويكره أن يترك للصّبيان القنازع، وهو أن يحلق موضع من رأسه ويترك موضع. ولا بأس أن يحلق الرّأس كلّه للرّجال.

٥٠٢

وكذلك إزالة الشّعر عن جميع البدن، بل ذلك مندوب اليه مستحب.

وإذا ولد الصّبيّ، فمن السّنة أن يرضع سنتين كاملين لا أقلّ منهما ولا أكثر. فإن نقص عن السّنتين مدّة ثلاثة أشهر، لم يكن به بأس. فإن نقص عن ذلك، لم يجز، وكان جورا على الصّبيّ. ولا بأس أن يزاد على السّنتين في الرّضاع، إلّا أنّه لا يكون أكثر من شهرين. ولا تستحقّ المرضعة الأجر على ما يزيد على الحولين.

وأفضل الألبان التي يرضع بها الصّبيّ لبان الأمّ. فإن كانت أمّه حرّة، واختارت رضاعه، كان ذلك لها وان لم تختر، فلا تجبر على رضاع ولدها. وإن كانت أمة، جاز أن تجبر على رضاع ولدها. وإن طلبت الحرّة أجر الرّضاع، كان لها ذلك على أب الولد. فإن كان أبوه قد مات، كان أجرها من مال الصّبيّ. وكذلك إن أرضعته من لبان خادمة لها، كان لها أجر مثلها في الرّضاع.

ومتى وجد الرّجل من ترضع ولده بأجرة مخصوصة، ورضيت بذلك، كانت هي أولى به من غيرها. فإن طلبت أكثر من ذلك، لم يكن ذلك لها على حال، وجاز للأب أن يأخذ الولد منها، ويسترضع غيرها. والأمّ أولى بالولد من الأب مدّة الرّضاع. فإذا خرج عن حدّ الرّضاع، كان الوالد أحقّ به منها، إذا كان الولد

٥٠٣

ذكرا. فإن كانت أنثى فهي أحقّ بها إلى سبع سنين ما لم تتزوّج. فإن تزوّجت، كان الوالد أحقّ بها. وإن كان الوالد قد مات، كانت هي أحقّ به من الوصيّ، سواء كان الولد ذكرا أو أنثى، الى أن يبلغ. فإن كان الأب مملوكا، والأمّ حرّة، كانت هي أحقّ بولدها من الأب، وإن تزوّجت، الى أن يعتق الأب. فإذا أعتق، كان أحقّ بهم منها.

وإذا أراد الإنسان أن يسترضع لولده، فلا يسترضع إلّا امرأة عاقلة مسلمة عفيفة وضيئة الوجه. ولا يسترضع كافرة مع الاختيار فإن اضطرّ إليها، فليسترضع يهوديّة أو نصرانيّة، وليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، وتكون معه في منزله، ولا يسلّم الولد إليها لتحمله الى منزلها. ولا يسترضع المجوسيّة إلّا أن لا يجد غيرها من النّساء. ولا يسترضع من ولد من الزّنا مع الاختيار.

ولا بأس باسترضاع الإماء. وإن كانت له أمة قد ولدت أو كانت ولدت من الزّنا، واحتاج الى لبنها، فليجعلها في حلّ من فعلها، ليطيب بذلك لبنها.

وإذا أسلم الرّجل ولده الى ظئر، ثمَّ جاءت به بعد أن فطمته، فأنكره الرّجل، وقال: « هذا ليس ولدي » لم يكن له ذلك، لأنّ الظّئر مأمونة. ومتى تسلّمت الظّئر الولد، وسلّمته إلى

٥٠٤

ظئر أخرى، كانت ضامنة له الى أن تجي‌ء به. فإن لم تجي‌ء به، كان عليها الدّية.

باب إلحاق الأولاد بالآباء وأحكامهم

إذا ولدت امرأة الرّجل ولدا على فراشه، لزمه الإقرار به، ولم يجز له نفيه. فإن جاءت به لأقلّ من ستّة أشهر حيّا سليما، جاز له نفيه عن نفسه. وكذلك إن جاءت بالولد لأكثر من تسعة أشهر، كان له نفيه. إلّا أنه متى نفاه، ورافعته المرأة إلى الحاكم، كان عليه ملاعنتها. ومتى أقرّ الرّجل بولد، وقبله، ثمَّ نفاه بعد ذلك، لم يقبل نفيه، وألزم الولد. ومتى طلّق امرأته، أو باع جاريته، فتزوّجت المرأة، أو وطئت الجارية، ثمَّ أتت بولد لأقلّ من ستة أشهر، كان لاحقا بالزّوج الأوّل أو المولى الأوّل. وإن كان الولد لستّة أشهر فصاعدا، كان لاحقا بمن عنده المرأة أو الجارية.

ومتى كان للرّجل جارية، فوطئها، ثمَّ باعها من آخر قبل أن يستبرئها، فوطئها الذي اشتراها قبل أن يستبرئها، ثمَّ باعها من آخر، فوطئها أيضا قبل أن يستبرئها، كلّ ذلك في طهر واحد ثمَّ جاءت بولد، كان لاحقا بالأخير الذي عنده الجارية.

وإذا كانت الجارية بين شريكين أو أكثر منهما، فوطئاها جميعا في طهر واحد، وجاءت بولد، أقرع بينهم الحاكم. فمن

٥٠٥

خرج اسمه، ألحق الولد به، وغرّم نصف ثمنه للشّريك الآخر.

ومن وطئ امرأته أو جاريته، وكان يعزل عنهما، وجاءت بولد، وجب عليه الإقرار به، ولا يجوز له نفيه لمكان العزل.

وإذا ولد للرّجل من المتعة، لزمه الإقرار به، ولم يجز له نفيه على حال.

وإذا كان للرّجل امرأة لم يدخل بها، أو يكون قد دخل بها، غير أنّه يكون قد غاب عنها غيبة تزيد على زمان الحمل، وجاءت امرأته أو جاريته بولد، لم يكن ذلك ولدا له، ووجب عليه نفيه عن نفسه.

وإذا نعي الرّجل إلى امرأته أو أخبرت بطلاق زوجها لها، فاعتدّت، وتزوّجت، ورزقت أولادا، ثمَّ جاء زوجها الأول، وأنكر الطّلاق، وعلم أنّ شهادة من شهد بالطّلاق كانت شهادة زور، فرّق بينهما وبين الزّوج الأخير، ثمَّ تعتدّ منه وترجع إلى الأوّل بالعقد المتقدّم، ويكون الأولاد للزّوج الأخير دون الأوّل.

ومتى كان للرّجل امرأة فوطئها، ووطئها بعده غيره فجورا بلا فصل، كان الولد لاحقا به، ولم يجز له نفيه. وإن كانت له جارية فوطئها، ووطئها بعده غيره فجورا، كان الولد أيضا لاحقا به. وإذا اشتبه عليه الأمر، فإن غلب على ظنّه أنه ليس منه بشي‌ء من الأمارات، فلا يلحقه بنفسه، ولا يجوز له بيعه،

٥٠٦

وينبغي أن يوصي له من ماله بشي‌ء، ولا يورّثه ميراث الأولاد. ومتى جاءت جاريته بولد، ولا يكون قد وطئها هو، جاز له بيع الولد على كلّ حال. وإذا اشترى الرّجل جارية حبلى، فوطئها قبل أن تمضي عليها أربعة أشهر وعشرة أيّام، فلا يبيع ذلك الولد، لأنّه غذّاه بنطفته، وكان عليه أن يعزل له من ماله شيئا، ويعتقه. وإن كان وطؤه لها بعد انقضاء الأربعة أشهر وعشرة أيّام، جاز له بيع الولد على كلّ حال.

وكذلك إن كان الوطؤ قبل انقضاء الأربعة أشهر وعشرة أيّام، إلّا أنّه يكون قد عزل عنها، جاز له بيع ولدها على كلّ حال. ولا يجوز للرّجل أن ينفي ولد جاريته أو امرأة يتّهمها بالفجور، بل يلزمه الإقرار به. وإنّما يسوغ له نفيه مع اليقين والعلم. وإذا فجر الرّجل بامرأة أو جارية فحبلت منه، ثمَّ تزوّجها، أو اشترى الجارية، لم يجز له إلحاق الولد به على حال.

٥٠٧

كتاب الطلاق

باب أقسام الطلاق وشرائطه

الطّلاق على ضربين: طلاق السّنّة وطلاق العدّة. وهو ينقسم أقساما: منها طلاق التي لم يدخل بها، والتي دخل بها ولم تبلغ المحيض ولا في سنّها من تحيض، والتي لم تبلغ المحيض وفي سنّها من تحيض، والمستحاضة، والمستقيمة الحيض، والحامل المستبين حملها، والآئسة من المحيض وفي سنّها من تحيض، والآئسة من المحيض ولا تكون في سنّها من تحيض، وطلاق الغائب عن زوجته، وطلاق الغلام والعبد.

وما يلحق بالطّلاق وإن لم يكن طلاقا في الحقيقة على ضربين: ضرب منه يوجب البينونة مثل الطّلاق، وضرب آخر يوجب التّحريم وإن لم تقع فرقة. فالقسم الأوّل اللّعان والارتداد عن الإسلام. والقسم الثّاني الظّهار والإيلاء.

ويدخل في هذا الباب ما يؤثّر في بعض أنواع الطّلاق وهو الخلع والمبارأة. ويدخل فيه أيضا ما يكون كالسّبب للطّلاق وهو النّشوز والشّقاق. ونحن نبيّن كلّ ذلك في أبوابه، إن شاء الله.

٥٠٨

وجميع أقسام الطّلاق التي قدّمناها، فلا بدّ فيها من اعتبار العدّة بعده، إلّا ما نستثنيه منه، إن شاء الله.

فأمّا شرائط الطّلاق فعلى ضربين: ضرب منه عام في سائر أنواعه. وضرب منه خاصّ في بعضه. فأمّا الذي هو عامّ فهو أن يكون الرّجل غير زائل العقل، ويكون مريدا للطّلاق غير مكره عليه، ولا مجبر، ويكون طلاقه بمحضر من شاهدين مسلمين ويتلفّظ بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه إذا لم يمكنه.

والضّرب الآخر في الطّلاق وهو الخاصّ من القسمين هو ألّا تكون المرأة حائضا، لأنّ هذا القسم مراعى في المدخول بها غير غائب عنها زوجها مدة مخصوصة على ما سنبيّنه فيما بعد.

فإن طلّق الرّجل امرأته، وهو زائل العقل بالسّكر أو الجنون أو المرّة أو ما أشبهها، كان طلاقه غير واقع. فإن احتاج من هذه صورته، إلّا السّكران، الى الطّلاق، طلّق عنه وليّه. فإن لم يكن له وليّ، طلّق عنه الإمام أو من نصبه الإمام.

فإذا طلّق الرّجل امرأته، وهو مريض، فإنّهما يتوارثان، ما دامت في العدّة. فإن انقضت عدّتها، ورثته ما بينها وبين سنة ما لم تتزوّج. فإن تزوّجت، فلا ميراث لها. وإن زاد على السّنة يوم واحد، لم يكن لها ميراث. ولا فرق في جميع هذه الاحكام بين أن تكون التّطليقة هي الأولى أو الثانية أو الثّالثة، وسواء كان له عليها رجعة أو لم يكن، فإنّ الموارثة ثابتة بينهما

٥٠٩

على ما قدّمناه. هذا إذا كان المرض يستمرّ به الى أن يتوفّى. فإن صحّ من مرضه ذلك، ثمَّ مات، لم يكن لها منه ميراث، إلّا إذا كان طلاقا يملك فيه رجعتها، فإنّها ترثه ما لم تخرج من العدّة.

ومتى طلّق الرّجل، وهو غير مريد للطّلاق، أو كان مكرها عليه، كان طلاقه غير واقع. ومتى طلّق، ولم يشهد شاهدين ممّن ظاهره الإسلام، كان طلاقه غير واقع.

فإن أشهد رجلين واحدا بعد الآخر، ولم يشهدهما في مكان واحد، لم يقع أيضا طلاقه، فإن طلّق بمحضر من رجلين مسلمين ولم يقل لهما: اشهدا، وقع طلاقه، وجاز لهما أن يشهدا بذلك. وشهادة النّساء لا تقبل في الطّلاق لا على الانفراد ولا مع الرّجال.

ومتى طلّق ولم يشهد، ثمَّ أشهد بعد ذلك بأيّام، كان الطّلاق واقعا من الوقت الذي أشهد فيه، وكان على المرأة العدّة من ذلك اليوم.

وإذا أراد الطّلاق، ينبغي أن يقول: فلانة طالق، أو يشير إلى المرأة بعد أن يكون قد سبق العلم بها من الشهود، فيقول: هذه طالق. فمتى قال غير ذلك من كنايات الطّلاق، لم يقع طلاقه: مثل أن يقول لها: اعتدّي، أو أنت خليّة، أو بريّة، أو باتّة، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك، أو أنت عليّ حرام، أو جعل إليها الخيار، فاختارت نفسها، فإنّ ذلك كلّه، لا يؤثر في الطّلاق، ولا تحصل به بينونة ولا تحريم

٥١٠

على حال. فإن قيل للرّجل: هل طلّقت فلانة؟ فقال: نعم، كان الطّلاق واقعا. وما ينوب مناب قوله: أنت طالق بغير العربيّة بأيّ لسان كان، فإنّه تحصل به الفرقة.

ولا يقع الطّلاق إلا باللّسان. فإن كتب بيده: أنّه طالق امرأته، وهو حاضر ليس بغائب، لم يقع الطّلاق. وإن كان غائبا، وكتب بخطّه: أنّ فلانة طالق، وقع الطّلاق. وإن قال لغيره: اكتب إلى فلانة امرأتي بطلاقها، لم يقع الطّلاق. فإن طلّقها بالقول ثمَّ قال لغيره: اكتب إليها بالطّلاق، كان الطّلاق واقعا بالقول دون الأمر.

وإذا وكل الرّجل غيره بأن يطلّق عنه، لم يقع طلاقه، إذا كان حاضرا في البلد. فإن كان غائبا، جاز توكيله في الطّلاق. ومتى أراد عزل الوكيل فليعلمه ذلك. فإن لم يمكنه، فليشهد شاهدين على عزله. فإن طلّق الوكيل، وكان طلاقه قبل العزل، وقع طلاقه. وإن كان بعد العزل، كان باطلا. ومتى وكل رجلين على الطّلاق، لم يجز لأحدهما أن يطلّق فإن طلّق. لم يقع طلاقه إلّا برضا الآخر. فإن اجتمعا عليه، وقع الطّلاق.

ومن لم يتمكّن من الكلام، مثل أن يكون أخرس، فليكتب الطّلاق بيده، إن كان ممّن يحسنه. فإن لم يحسن، فليوم إلى الطّلاق كما يومي إلى بعض ما يحتاج اليه. فمتى فهم من إيمائه الطّلاق، وقع طلاقه. وقد روي أنّه ينبغي أن

٥١١

يأخذ المقنعة فيضعها على رأسها، ويتنحى عنها، فيكون ذلك منه طلاقا. فإذا أراد مراجعتها أخذ القناع من رأسها.

متى علّق الطّلاق بشرط من الشّروط، كان باطلا. وكذلك العتاق. ولا يقع الطّلاق قبل العقد على حال من الأحوال.

ومن شرائط الطّلاق العامّة أن يطلّقها تطليقة واحدة. فإن طلّقها أكثر من ذلك ثنتين أو ثلاثا أو ما زاد عليه، لم يقع أكثر من واحدة. وإذا جمعت الشّرائط كلّها، فإن كان المطلّق مخالفا، وكان ممّن يعتقد وقوع الثّلاث، لزمه ذلك، ووقعت الفرقة به. وإنّما لا يقع الفرقة، إذا كان الرّجل معتقدا للحقّ.

وأمّا الشرائط الخاصّة، فهو الحيض. لأنّ الحائض لا يقع طلاقها، إذا كان الرّجل حاضرا. ويكون قد دخل بها. فإن طلّقها وهي حائض، كان طلاقه باطلا. وكذلك إن طلّقها في طهر قد قربها فيه لم يقع الطّلاق. ومتى لم يكن قد دخل بالمرأة، وطلّقها، وقع الطّلاق. وإن كانت حائضا. وكذلك إن كان عنها غائبا شهرا فصاعدا، وقع طلاقه إذا طلّقها، وإن كانت حائضا. ومتى عاد من غيبته، وصادف امرأته حائضا، وإن لم يكن واقعها، لم يجز له طلاقها حتّى تطهر، إن شاء الله.

٥١٢

باب كيفية أقسام الطلاق

إذا أراد الرّجل أن يطلّق امرأته التي دخل بها، وهو غير غائب عنها طلاق السّنّة، فليطلّقها وهي طاهر طهرا لم يقربها فيه بجماع، ويشهد على ذلك شاهدين، تطليقة واحدة، ثمَّ يتركها حتّى تخرج من العدّة. فإذا خرجت من العدّة، ملكت نفسها، وكان خاطبا من الخطّاب. وما لم تخرج من عدّتها، فهو أملك بها برجعتها. فمتى خرجت من عدّتها، وأراد أن يتزوّجها، عقد عليها عقدا جديدا بمهر جديد.

فإن أراد بعد ذلك طلاقها، فعل معها ما فعل في الأوّل من استيفاء الشّروط، ويطلّقها تطليقة أخرى، ويتركها حتّى تخرج من العدّة. فإذا خرجت من العدّة، ملكت نفسها مثل الأوّل. فإن أراد أن يعقد عليها عقدا آخر، فعل كما فعل في الأوليين بمهر جديد وعقد جديد.

فإذا أراد بعد ذلك طلاقها، طلّقها على ما ذكرناه، ويستوفي شرائط الطّلاق. فإذا طلّقها الثّالثة، لم تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره. فإن تزوّجت فيما بين التّطليقة الأولى أو الثّانية أو الثّالثة زوجا بالغا، ودخل بها، ويكون التّزويج دائما، هدم ما تقدّم من الطّلاق. وكذلك إن تزوّجت بعد التّطليقات الثّلاث، هدم الزّوج الثّلاث تطليقات، وجاز لها أن ترجع إلى الأوّل بعقد

٥١٣

جديد ومهر جديد.

ومتى أراد أن يطلّقها طلاق العدّة، فليطلّقها كما قدّمناه في طهر لم يقربها فيه بجماع بمحضر من شاهدين. فإذا فعل ذلك، فليراجعها قبل أن تخرج من عدّتها ولو بيوم واحد. وليواقعها، ثمَّ يستبرئها بحيضة. فإذا طهرت، طلّقها ثانية حسب ما طلّقها الأولة، ثمَّ يراجعها قبل أن تخرج من عدّتها. فاذا راجعها، وأراد أن يطلّقها الثّالثة، واقعها، ثمَّ استبرأها بحيضة. فإذا طهرت، طلّقها الثّالثة، وقد بانت منه ساعة طلّقها، ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره. إلّا أنّه لا يجوز لها أن تتزوّج إلّا بعد خروجها من العدّة. فإذا تزوّجت زوجا غيره تزويج الدّوام، وكان بالغا، ودخل بها، ثمَّ طلّقها، أو مات عنها، جاز لها أن ترجع إلى الأوّل بعقد جديد ومهر جديد.

فإِن طلَّقها بعد ذلك ثلاث تطليقات أُخر طلاق العدَّة، لم تحلَّ له حتَّى تنكح زوجاً غيره. فاذا تزوّجت زوجاً غيره حسب ما قدَّمناه ثم طلقها اومات عنها جاز لها أن ترجع الى الأول بمهر جديد وعقد جديد.

فإن طلّقها بعد ذلك ثلاث تطليقات أخر طلاق العدّة، لم تحلّ له أبدا.

ومتى أراد المراجعة، يستحبّ له أن يشهد شاهدين مسلمين على ذلك. فإن لم يفعل، كان ذلك جائزا. غير أنّ الأفضل

٥١٤

ما قدّمناه. وأدنى ما تكون به المراجعة أن ينكر طلاقها أو يقبلها أو يلمسها. فإن بذلك أجمع ترجع إلى العقد الأوّل. وإنّما يستحبّ الإشهاد، لأنّه متى لم يشهد على المراجعة، وأنكرت المرأة ذلك، وشهد لها بالطّلاق شاهدان، فإن الحاكم يبينها منه، ولم يكن له عليها سبيل. وإن لم يشهد في حال المراجعة، ثمَّ أشهد بعد ذلك، كان أيضا جائزا. ومتى أنكر الرّجل الطّلاق، وكان ذلك قبل انقضاء العدة، كان ذلك أيضا رجعة.

ومتى راجعها، لم يجز له أن يطلّقها تطليقة أخرى طلاق العدة، إلّا بعد أن يواقعها ويستبرئها بحيضة. فإن لم يواقعها، أو عجز عن وطئها، وأراد طلاقها، طلّقها طلاق السّنة. ومتى واقعها، وارتفع حيضها، وأراد طلاقها، استبرأها بثلاثة أشهر، ثمَّ يطلّقها بعد ذلك.

والزّوج الذي يحلّل الرّجوع إلى الأوّل هو أن يكون بالغا حرّا كان أو عبدا، ويكون التّزويج دائما، ويدخل بها. فمتى اختلّ شي‌ء من ذلك، بأن يكون الزّوج غير بالغ، أو يكون مع بلوغه لم يدخل بها، أو يكون العقد متعة، لم يجز لها الرّجوع إلى الأوّل.

وإذا أراد الرّجل أن يطلّق امرأة لم يدخل بها، طلّقها أيّ وقت شاء، سواء كانت حائضا أو لم تكن كذلك، إلّا أنّه

٥١٥

يستوفي الشّرائط كلّها حسب ما قدّمناه، ويطلّقها تطليقة واحدة فإذا طلّقها، فقد بانت منه في الحال، وكان خاطبا من الخطّاب. فإن أراد مراجعتها، كان ذلك بعقد جديد ومهر جديد. فإن تزوّجها ثانيا، ثمَّ طلّقها قبل الدّخول بها، فقد بانت منه بتطليقتين، وهو خاطب من الخطّاب. فإن تزوّجها ثالثا، ثمَّ أراد طلاقها قبل الدخول بها، طلّقها. فإذا طلّقها، فقد بانت منه، ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره.

وإذا أراد أن يطلّق امرأة قد دخل بها، ولم تكن قد بلغت مبلغ النّساء، ولا مثلها في السنّ قد بلغ ذلك، وحدّ ذلك دون تسع سنين، فليطلّقها أيّ وقت شاء. فإذا طلّقها، فقد بانت منه في الحال، وهو خاطب من الخطّاب.

ومتى كان لها تسع سنين فصاعدا، ولم تكن حاضت بعد، وأراد طلاقها، فليصبر عليها ثلاثة أشهر، ثمَّ يطلّقها بعد ذلك إن شاء.

وحكم الآئسة من المحيض، ومثلها لا تحيض، حكم التي لم تبلغ مبلغ النّساء سواء في أنّه يطلّقها أيّ وقت شاء. وحدّ ذلك خمسون سنة فصاعدا. ومتى كانت آيسة من المحيض، ومثلها تحيض، استبرأها بثلاثة أشهر، ثمَّ طلّقها بعد ذلك. وحدّ ذلك إذا نقص سنّها عن خمسين سنة.

وإذا أراد أن يطلّق امرأته وهي حبلى مستبين حملها،

٥١٦

فليطلّقها أيّ وقت شاء. فإذا طلّقها واحدة، كان أملك برجعتها ما لم تضع ما في بطنها. فإذا راجعها، وأراد طلاقها للسّنّة، لم يجز له ذلك، حتّى تضع ما في بطنها. فإن أراد طلاقها للعدة، واقعها، ثمَّ طلّقها بعد المواقعة. فإذا فعل ذلك، فقد بانت منه بتطليقتين، وهو أملك برجعتها. فإن راجعها، وأراد طلاقها ثالثة، واقعها، ثمَّ يطلقها. فإذا طلّقها الثّالثة، لم تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره. ولا يجوز لها أن تتزوج حتّى تضع ما في بطنها. فإن كانت حاملا باثنين فإنها تبين من الرّجل عند وضعها الأوّل. ولا تحلّ للأزواج حتّى تضع جميع ما في بطنها.

وإذا أراد الرّجل طلاق زوجته، وهو غائب عنها، فإن خرج إلى السّفر، وقد كانت طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع جاز له أن يطلّقها أيّ وقت شاء. ومتى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه بجماع، فلا يطلّقها حتّى يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر، ثمَّ يطلّقها بعد ذلك أيّ وقت شاء. ومتى أراد طلاقها، فليطلّقها تطليقة واحدة، ويكون هو أملك برجعتها ما لم تمض لها ثلاثة أشهر، وهي عدّتها إذا كانت من ذوات الحيض. فإذا راجعها، أشهد على المراجعة كما أشهد على الطّلاق. فإن لم يشهد على المراجعة، وبلغ الزّوجة الطّلاق، فاعتدّت، وتزوّجت، لم يكن له عليها سبيل. وكذلك إن

٥١٧

انقضت عدّتها، ولم تتزوّج، لم يكن له عليها سبيل إلّا بعقد مستأنف ومهر جديد.

ومتى طلّقها، وأشهد على طلاقها، ثمَّ قدم أهله، وأقام معها، ودخل بها، وأتت المرأة بولد، ثمَّ ادّعى أنّه كان قد طلّقها، لم يقبل قوله ولا بيّنته، وكان الولد لاحقا به.

ومتى كان عند الرّجل أربع نساء، وهو غائب عنهنّ. وطلّق واحدة منهنّ، لم يجز له أن يعقد على أخرى، إلا بعد أن يمضي تسعة أشهر، لأنّ في ذلك مدّة الأجلين: فساد الحيض ووضع الحمل.

ومتى كان للرّجل زوجة معه في البلد، غير أنّه لا يصل إليها، فهو بمنزلة الغائب عن زوجته. فإذا أراد طلاقها، فليصبر إلى أن يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر، ثمَّ يطلّقها إن شاء. وإذا أراد الرّجل أن يطلّق المسترابة، صبر عليها ثلاثة أشهر ثمَّ طلّقها بعد ذلك أيّ وقت شاء.

والغلام إذا طلّق، وكان ممّن يحسن الطّلاق، وقد أتى عليه عشر سنين فصاعدا، جاز طلاقه، وكذلك عتقه وصدقته ووصيّته. ومتى كان سنّه أقلّ من ذلك، ولا يكون ممّن يحسن الطّلاق، فإنّه لا يجوز طلاقه، ولا يجوز لوليّه أن يطلّق عنه. اللهمّ إلّا أن يكون قد بلغ، وكان فاسد العقل، فإنّه، والحال

٥١٨

على ما ذكرناه، جاز طلاق الوليّ عنه.

والحرّ إذا كان تحته أمة، فطلاقها تطليقتان، فإذا طلّقها ثنتين، لم تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره. فإن وطئها مولاها، لم يكن ذلك محلّلا للزّوج من وطئها حتّى تدخل في مثل ما خرجت منه من نكاح. فإن اشتراها الذي كان زوّجها، لم يجز له وطؤها حتّى يزوّجها رجلا، ويدخل بها، ثمَّ يطلّقها أو يموت عنها. فإذا حصل ذلك، جاز له بعد ذلك وطؤها بالملك. ومتى طلّقها واحدة ثمَّ أعتقت، بقيت معه على تطليقة واحدة. فإن تزوّجها بعد ذلك، وطلّقها الثّانية، لم تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره.

والعبد إذا كان تحته حرّة، فطلاقها ثلاث تطليقات. فإن كانت تحته أمة، فطلاقها تطليقتان حسب ما قدّمناه. فإن طلّقها واحدة، ثمَّ أعتقا معا، بقيت على واحدة. فإن أعتقا جميعا قبل أن يطلقها شيئا، كان حكمها حكم الحرّة من كونها على ثلاث تطليقات.

باب اللعان والارتداد

إذا انتفى الرّجل من ولد زوجة له في حباله، أو بعد فراقها بمدّة الحمل، إن لم تكن نكحت زوجا غيره، أو أنكر ولدها لأقلّ من ستّة أشهر من وقت فراقه لها، وإن كانت نكحت

٥١٩

زوجا غيره، وجب عليه ملاعنتها. وكذلك إن قذفها بالفجور، وادّعى أنّه رأى معها رجلا يفجر بها مشاهدة وعيانا ولم يقم بذلك أربعة من الشّهود، كان عليه ملاعنتها.

وصفة اللّعان أن يجلس الإمام، أو من نصبه الإمام، مستدبر القبلة، ويوقف الرّجل بين يديه، والمرأة عن يمينه، قائمين ولا يقعدان، ويقول له: قل: « أشهد بالله إنّي من الصّادقين فيما ذكرته عن هذه المرأة من الفجور ». فإذا قالها مرّة، قال له: « أشهد ثانية ». فإذا شهد أمره بأن يشهد ثالثة. فإذا شهد، طالبه بأن يشهد رابعة. فإذا شهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الصّادقين، قال له الحاكم: « اتّق الله،عزوجل ، واعلم أنّ لعنة الله شديدة وعقابه أليم. فإن كان حملك على ما قلت غيرة أو سبب من الأسباب، فراجع التّوبة. فإنّ عقاب الدّنيا أهون من عقاب الآخرة ». فإن رجع عن قوله، جلده حدّ المفتري ثمانين جلدة، وردّت امرأته عليه.

وإن أقام على ما ادّعاه، قال له: قل: « إنّ لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين ». وإذا قالها، قال للمرأة: « ما تقولين فيما رماك به هذا الرّجل؟ » فإن اعترفت به، رجمها حتّى تموت. وإن أنكرت، قال لها: « اشهدي بالله إنّه لمن الكاذبين فيما قذفك به من الفجور ». فإن شهدت مرّة، قال لها: اشهدي ثانية. فإذا شهدت، أمرها أن تشهد ثالثة.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793