النهاية الجزء ١

النهاية7%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225172 / تحميل: 6337
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

به حاجة إلى ذلك، لم يجز له شرب لبنها ولا لبن أولادها ولا أكل لحومهنّ. فإن أكل أو شرب مع ارتفاع الحاجة، كانت عليه الكفّارة. وإن كان قد شرب ذلك لحاجة به، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن أودع عند إنسان مالا، وذكر: أنّه لإنسان بعينه، ثمَّ مات، فجاء ورثته يطالبونه بالوديعة، فإن كان الموصي ثقة عنده، جاز له أن يحلف: بأنّ ليس عنده شي‌ء، ويوصل الوديعة إلى صاحبها، وإن لم يكن ثقة عنده، وجب عليه أن يردّ الوديعة على ورثته.

ومن حلف ألّا يمسّ جارية غيره أبدا، ثمَّ ملكها بعد ذلك، جاز له وطؤها، لأنه إنّما حلف ألّا يمسّها حراما. فإذا ملكها، فقد زال ذلك عنه. ومن حلف على مال لغيره ليقتطعه ارتكب بذلك كبيرة موبقة، غير أنّه لم يجب عليه الكفّارة، بل كفّارته أن يردّ على صاحب الحقّ حقّه من غير نقصان.

واما الضّرب الآخر من الأيمان التي تجب فيه الكفّارة، فهو أن يحلف ألّا يخلّ بواجب، أو لا يفعل قبيحا. فمتى أخلّ بما وجب عليه، أو ارتكب قبيحا، وجب عليه فيه الكفّارة. ومتى حلف: أن يفعل ما قد وجب عليه فعله، أو ما الأولى به فعله في دينه أو دنياه، ثمَّ لم يفعل ما وجب عليه، أو أخلّ بما الأولى به فعله، كان عليه الكفّارة. ومن حلف

٥٦١

أن يفعل فعلا من الافعال، كان فعله وتركه على حدّ واحد، ولم يكن لأحدهما على الآخر مزيّة، فمتى لم يفعله، كان عليه الكفّارة. وكذلك إن حلف: ألّا يفعل فعلا، كان فعله مثل تركه. فمتى فعله، وجبت عليه الكفّارة.

باب ماهية النذور والعهود

النّذر هو أن يقول الإنسان: إن كان كذا وكذا، فلله عليّ كذا وكذا، من صيام أو صدقة أو حجّ أو صلاة، وغير ذلك من أفعال البر.

فمتى كان ما نذر عليه وحصل، وجب عليه الوفاء بما نذر فيه، ولم يسغ له تركه. وإن قال: إن كان كذا وكذا، فعليّ كذا، ولم يقل: لله، لم يكن ذلك نذرا واجبا، بل يكون مخيّرا في الوفاء به وتركه. والأفضل له الوفاء به على كلّ حال.

ومتى اعتقد: أنّه متى كان شي‌ء، فلله عليه كذا وكذا، وجب عليه الوفاء به عند حصول ذلك الشي‌ء، وجرى ذلك مجرى أن يقول: لله عليّ كذا وكذا. وإن جعل في اعتقاده: أنّه متى كان شي‌ء، كان عليه كذا، ولم يعتقده لله، كان مخيّرا في ذلك أيضا حسب ما قدّمناه في القول.

ومن نذر لله تعالى: أنّه متى حصل أمر، كان عليه شي‌ء،

٥٦٢

ولم يعيّنه ولم يميّزه، كان بالخيار: ان شاء صام يوما، وإن شاء تصدّق بشي‌ء، قلّ أم كثر، وإن شاء صلّى ركعتين، أو فعل قربة من القربات. ومتى قال: متى كان كذا وكذا، فلله عليّ المشي إلى بيت الله، أو إهداء بدنة اليه، فمتى كان ذلك الشّي‌ء، وجب عليه الوفاء به. فإن قال: متى كان كذا، فلله عليّ أن أهدي هذا الطّعام إلى بيته، لم يلزمه ذلك، لأنّ الإهداء لا يكون إلّا في البدن خاصّة أو ما يجري مجراها من البقر والغنم، ولا يكون بالطّعام.

والمعاهدة أن يقول: عاهدت الله تعالى، أو يعتقد ذلك: أنّه متى كان كذا، فعليّ كذا. فمتى قال ذلك، أو اعتقده، وجب عليه الوفاء به عند حصول ما شرط حصوله، وجرى ذلك مجرى النّذر سواء. ومتى قال: هو محرم بحجّة أو عمرة، إن كان كذا وكذا، لم يكن ذلك شيئا.

والنّذر والعهد معا، إنّما يكون لهما تأثير إذا صدرا عن نيّة. فمتى تجرّدا من النّية، لم يكن لهما تأثير على حال.

باب أقسام النذور والعهود

النّذر على ضربين: ضرب يجب الوفاء به، وضرب يجب ذلك فيه.

٥٦٣

فالذي يجب الوفاء به، هو أن ينذر: أنّه متى فعل واجبا أو ندبا أو مباحا، كان عليه شي‌ء بعينه من صيام أو صدقة أو حجّ أو غير ذلك من أفعال البر. فمتى فعل ذلك، وجب عليه الوفاء به. وكذلك من نذر: أنه متى عوفي من مرضه، أو قدم من سفره، أو ربح في تجارته، أو سلم من يد ظالم، أو كان شي‌ء من ذلك بولد له أو أخ أو مؤمن، كان لله عليه شي‌ء معلوم، وجب أيضا عليه الوفاء به. ومتى نذر الإنسان: أنّه إن عوفي ولد له من مرضه وهو غائب عنه، ثمَّ سمع بصلاحه، فإن كان برؤه بعد النّذر، وجب عليه الوفاء به، وإن كان برؤه قبل النّذر، لم يجب عليه ذلك.

ومتى نذر: أنّه لا يتزوّج حتّى يحجّ، ثمَّ تزوّج قبل الحجّ، وجب عليه الوفاء بالنّذر، سواء كانت حجّته حجّة الإسلام أو حجّة التّطوع، لأنّه عدل عن طاعة إلى مباح. ومتى وجب عليه ما نذر، فإن كان علّقه بشرط، وأنّه يفعله في وقت معيّن، وجب عليه الوفاء به عند حصول الشّرط أو دخول الوقت. فإن خالفه. كان عليه الكفّارة. وإن لم يكن علّقه بشرط. ولا بوقت معيّن، كان ذلك ثابتا في ذمّته إلى أن يفي به.

ومن نذر: أن يصوم شهرا أو سنة أو أقلّ أو أكثر، ولم يعلّقه بوقت معيّن، وجب عليه الوفاء به أيّ وقت كان، غير

٥٦٤

أنّ الأحوط إتيانه به على الفور. وإن أخّره، لم تلزمه كفّارة. ومتى علّقه بوقت معيّن، فمتى لم يصمه في ذلك الوقت، وجب عليه القضاء والكفّارة. ومتى وجب عليه صيام نذر، فمرض أو سافر أو اتّفق أن يكون يوم العيدين، وجب عليه أن يفطر ذلك اليوم، ويقضيه، وليس عليه كفّارة. اللهمّ إلّا أن يكون قد نذر أن يصومه على كلّ حال، سواء كان مسافرا أو حاضرا فإنّه يجب عليه الوفاء به، وكان عليه صيامه. فأمّا صيام يوم العيدين فلا يجوز له على كلّ حال، وإن ذكر ذلك في حال النّذر، لأنّ ذلك نذر في معصية.

ومن نذر: أن يعتق رقبة بعينها، لم يجزأه غيرها، سواء كانت كافرة أو مؤمنة وعلى أيّ وجه كانت. ومن نذر أن يصوم حينا من الدّهر، ولم يسمّ شيئا معيّنا، كان عليه صيام ستة أشهر. ومن نذر: أن يصوم زمانا، ولم يسمّ شيئا، فليصم خمسة أشهر. ومن نذر: أن يعتق كلّ عبد له قديم في ملكه، ولم يعيّن شيئا، أعتق كلّ عبد قد مضى عليه في ملكه ستّة أشهر. ومن نذر: أن يتصدّق من ماله بمال كثير، ولم يسمّه، تصدّق بثمانين درهما فما زاد.

ومن نذر: أن يحجّ ماشيا، أو يزور أحد المشاهد كذلك، فعجز عن المشي، فليركب ولا كفّارة عليه. وإن ركب من غير عجز، كان عليه إعادة الحجّ أو الزّيارة، يمشي ما ركب منه،

٥٦٥

ويركب ما مشي. وإذا أراد أن يعبر ناذر المشي في زورق نهرا فليقم فيه قائما، ولا يجلس حتّى يخرج إلى الأرض.

ومن نذر: أن يخرج شيئا من ماله في سبيل من سبل الخير ولم يسمّ شيئا، كان بالخيار: إن شاء، تصدّق به على فقراء المؤمنين، وإن شاء، جعله في حجّ أو زيارة أو وجه من وجوه البر ومصالح الإسلام. ومن جعل جاريته أو عبده أو دابّته هديا لبيت الله الحرام، أو لمشهد من مشاهد الأئمّة،عليهم‌السلام ، فليبع العبد أو الجارية أو الدّابّة، ويصرف ثمنه في مصالح البيت أو المشهد أو في معونة الحاج أو الزّائرين.

ومن نذر: أن يصلّي صلاة معروفة تطوّعا في وقت مخصوص وجب عليه أن يصلّيها في ذلك الوقت، في سفر كان أو حضر ليلا كان أو نهارا. ومن نذر: أن يتصدّق بدراهم على الفقراء أو في موضع مخصوص، لم يجزأ عنه الانصراف إلى غيره فإن صرفها في غير ذلك الوجه، كان عليه إعادتها. ومن نذر: أنّه متى رزق ولدا، حجّ به أو حجّ عنه، ثمَّ مات النّاذر، وجب أن يحجّ بالولد، أو عنه من صلب ماله الذي ترك.

ومتى نذر في طاعة: أنّه يتصدّق بجميع ما يملكه، وجب عليه الوفاء به. غير أنّه إذا خاف الضّرر على نفسه في خروجه من جميع ما يملكه، فليقوّم جميع ما يملكه على نفسه، ثمَّ

٥٦٦

ليتصدّق معه، ويثبته إلى أن يعلم أنّه استوفى ما كان قد وجب عليه، وبرأت ذمّته. ومن نذر، ولم يسمّ شيئا، إن شاء صلّى ركعتين، وإن شاء صام يوما، وإن شاء تصدّق بدرهم فما فوقه أو دونه. ومن نذر: ألّا يبيع مملوكا له أبدا، فلا يجوز له بيعه، وإن احتاج إلى ثمنه.

ومن نذر في شي‌ء فعجز عنه، ولم يتمكّن من الوفاء، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن نذر: أن يحرم بحجّة أو عمرة من موضع بعينه، وإن كان قبل الميقات، وجب عليه الوفاء به. وإذا حاضت المرأة في حال صيام نذرته، وجب عليها أن تفطر، ثمَّ تقضي، وليس عليها شي‌ء. ومن نذر: أن يحجّ، ولم يكن له مال، فحجّ عن غيره، أجزأه عمن حجّ عنه وعمّا نذر فيه.

وأمّا ما لا يجب الوفاء به من النّذور، فهو أن ينذر: أنّه متى لم يترك واجبا أو ندبا، كان عليه كيت وكيت، فليفعل الواجب أو النّدب، ولا شي‌ء عليه. وكذلك ان نذر: أنّه متى لم يفعل قبيحا، كان عليه كيت كيت، فليترك القبيح، ولا شي‌ء عليه. ومن نذر شكرا لله تعالى: أنّه متى فعل قبيحا، كان عليه كيت وكيت، ثمَّ فعل القبيح، لم يلزمه بما نذر به، لأنّ هذا نذر في معصية. اللهمّ إلّا أن يجعل ذلك على نفسه على سبيل الكفّارة لما يرتكبه من القبيح، فيجب عليه حينئذ

٥٦٧

الوفاء به. ومن نذر: أنّه متى فعل واجبا أو ندبا، أو قدم من سفر، أو ربح في تجارة، أو برأ من مرض، وما أشبه ذلك شرب خمرا، أو ارتكب فجورا، أو قتل مؤمنا، أو ترك فرضا، فعليه أن يترك الشّرّ، ويفعل الخير، ولا كفّارة عليه.

ومن عاهد الله: أن يفعل واجبا أو ندبا، أو ما يكون به مطيعا، وجب عليه الوفاء به. فإن لم يفعل، كان عليه الكفّارة فإن عاهد على: أن لا يفعل قبيحا، أو لا يترك واجبا أو ندبا، ثمَّ فعل القبيح، أو ترك الواجب أو النّدب، وجبت عليه الكفّارة. ومن عاهد الله: أن يفعل فعلا كان الأولى إلّا يفعله في دينه أو دنياه، أو لا يفعل فعلا الأولى أن يفعله، فليفعل ما الأولى به فعله، وليترك ما الأولى به تركه، وليس عليه كفّارة.

باب الكفارات

كفّارة اليمين إمّا عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم: أيّ هذه الثلاثة فعل، فقد أجزأه، مخيّر فيها. فمتى لم يقدر على واحدة منها، وعجز عن جميعها، وحدّ العجز عن ذلك هو ألّا يكون له ما يفضل عن قوته وقوت عياله، كان عليه صيام ثلاثة أيّام متتابعات. فإن لم يقدر على

٥٦٨

الصّوم، فليستغفر الله تعالى ولا يعود.

ومتى أراد أن يعتق رقبة، فليعتق من كان ظاهره ظاهر الإسلام، أو بحكم الإسلام، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا كان أو كبيرا. ولا يجوز له أن يعتق مدبّرا، إلّا بعد أن ينقض تدبيره. ولا أن يعتق مكاتبا له، وقد أدّى من مكاتبته شيئا.

ولا بأس أن يعتق مملوكا قد أبق منه، إذا لم يعرف منه الموت. ولا بأس أن يعتق أعرج أو أعور أو أشل. ولا يجوز أن يعتق أعمى ولا أجذم ولا مقعدا، لأنّ هؤلاء ينعتقون بهذه الآفات من غير أن يعتقهم صاحبهم. ويجوز عتق أمّ الولد في الكفّارة.

وإذا أراد أن يطعم المساكين، فليطعم لكلّ مسكين مدّين من طعام. فإن لم يقدر على ذلك، أطعم كلّ واحد مدّا من طعام. وإن جمعهم في مكان واحد، وأطعمهم ذلك الطّعام، لم يكن به بأس. ويجوز أن يكون في جملتهم من هو صغير، ولا يجوز أن يكونوا كلّهم صغارا. ومتى كانوا كلّهم صغارا، احتسب كلّ اثنين منهم بواحد.

ولا يطعم إلّا فقراء المؤمنين أو من هو بحكمهم. ومتى لم يجد تمام العدد من المؤمنين، ووجد بعضهم، كرّر من الموجودين حتّى يستوفي العدد. وإن لم يجد إلّا واحدا، أطعمه

٥٦٩

عشر مرّات يوما بعد يوم، إلى أن يستوفي العدد.

ومتى لم يجد أحدا من المؤمنين أصلا ولا من أولادهم، أطعم المستضعفين ممّن خالفهم. ولا يجوز أن يطعم النّاصب شيئا من ذلك.

وأرفع ما يطعمهم الخبز واللّحم، وأوسطه الخبز والخلّ والزّيت، وأدونه الخبز والملح.

ومتى أراد كسوتهم، فليعط كلّ واحد منهم ثوبين يواري بهما جسده. فإن لم يقدر عليهما، جاز أن يقتصر على ثوب واحد لكلّ واحد منهم.

وكفّارة اليمين لا تجب إلّا بعد الحنث. فإن كفّر قبل الحنث، لم يجزأه، وكان عليه قضاؤها بعد الحنث. ومن حلف بالبراءة من الله أو من رسوله أو من واحد من الأئمّة،عليهم‌السلام ، كان عليه كفّارة ظهار. فإن لم يقدر على ذلك، كان عليه كفّارة اليمين.

وكفّارة نقض النّذور والعهود عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستّين مسكينا مخيّر فيها: أيّها شاء فعل، فقد أجزأه. ومتى عجز عن ذلك كلّه، كان عليه صيام ثمانية عشر يوما. فإن لم يقدر على ذلك، أطعم عشرة مساكين، أو قام بكسوتهم. فإن لم يقدر على ذلك، تصدّق بما استطاع

٥٧٠

فإن لم يستطع شيئا أصلا، استغفر الله تعالى ولا يعود. ومن كان عليه صيام يوم قد نذر صومه، فعجز عن صيامه، أطعم مسكينا مدّين من طعام كفّارة لذلك اليوم، وقد أجزأه.

وكفّارة الظهار عتق رقبة. فإن لم يجد رقبة، كان عليه صيام شهرين متتابعين. فإن لم يقدر على الصّيام، أطعم ستّين مسكينا. فإن جامع قبل أن يكفر، كان عليه كفّارة أخرى حسب ما قدّمناه. وكلّما جامع، كان عليه كفارة أخرى إلى أن يكفّر.

وكفّارة من أفطر يوما من شهر رمضان، إمّا عتق رقبة، رقبة، أو إطعام ستّين مسكينا، أو صيام شهرين متتابعين: أي الثّلاثة فعل، فقد أجزأه، وهو مخيّر فيها.

وكفّارة قتل الخطإ عتق رقبة. فإن لم يجد، كان عليه صيام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع، أطعم ستّين مسكينا.

وكفّارة قتل العمد، عتق رقبة، وإطعام ستّين مسكينا، وصيام شهرين متتابعين بعد رضا أولياء المقتول بالدّية أو العفو عنه.

وكفّارة من وطي زوجته في حيض، إن كان وطؤه لها في أوّل الحيض، كان عليه دينار، قيمته عشرة دراهم جيادا، وإن كان في وسطه، نصف دينار، وإن كان في آخره، ربع دينار على حساب ما قدّمناه. وإن وطئ أمته في الحيض، كان

٥٧١

عليه ثلاثة أمداد من طعام، يفرّقها على ثلاثة مساكين.

ومن وجب عليه صيام شهرين متتابعين في شي‌ء ممّا ذكرناه من الكفّارات، فصام شهرا ومن الثّاني شيئا، ثمَّ أفطر من غير علّة، كان مخطئا، وجاز له البناء عليه. وإن صام شهرا، ولم يكن قد صام من الثّاني شيئا، وجب عليه الاستيناف. وإن كان إفطاره قبل الشّهر لمرض، كان له البناء عليه على كلّ حال. ومن عجز عن صيام شهرين وجبا عليه، صام ثمانية عشر يوما، وقد أجزأه. وإن لم يقدر على ذلك، تصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام. فإن لم يستطع، استغفر الله تعالى، وليس عليه شي‌ء.

وكفّارة الإيلاء كفّارة اليمين سواء. ومن أفطر يوما قد نوى صومه قضاء لشهر رمضان بعد الزّوال، كان عليه كفّارة يمين. فإن لم يجد، صام ثلاثة أيّام. ومن تزوّج بامرأة في عدّتها، فارقها، وكفّر عن فعله بخمسة أصوع من دقيق. ومن نام عن عشاء الآخرة حتّى يمضي النّصف الأوّل من اللّيل، صلاها حين يستيقظ ويصبح صائما كفّارة لذنبه في النّوم عنها إلى ذلك الوقت. ومن نام عن صلاة الكسوف متعمّدا، وقد احترق القرص كلّه، فليغتسل كفّارة لذنبه، وليقض الصّلاة بعد الغسل. ومن سعى إلى مصلوب بعد ثلاثة أيّام ليراه، فليستغفر الله من ذنبه، ويغتسل كفّارة لسعيه اليه.

٥٧٢

ولا يجوز للرّجل أن يشقّ ثوبه في موت ولده ولا في موت زوجته. فإن فعل ذلك، كان عليه كفّارة يمين. ولا بأس أن يشقّ ثوبه على أبيه وفي موت أخيه.

ولا يجوز للمرأة أن تلطم وجهها في مصاب، ولا تخدشه، ولا تجزّ شعرها. فإن جزّته، كان عليها كفّارة قتل الخطإ: عتق رقبة، أو إطعام ستّين مسكينا، أو صيام شهرين متتابعين فإن خدشت وجهها، حتى تدميه، وجب عليها كفّارة اليمين. فإن لطمت وجهها، استغفرت الله تعالى، ولا كفّارة عليها أكثر من الاستغفار.

ومن وجبت عليه كفّارة مرتّبة، فعجز عن الرّقبة، فانتقل إلى الصّوم، فصام شيئا، ثمَّ وجد الرّقبة، لم يلزمه الرّجوع إليها، وجاز له البناء على الصّوم. وإن رجع إلى الرّقبة، كان ذلك أفضل له.

ومن ضرب مملوكا له فوق الحدّ، كانت كفّارة أن يعتقه. فإن قتله، كان عليه عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكينا، وعليه التّوبة ممّا فعل.

٥٧٣

كتاب الصيد والذبائح

باب ما يستباح أكله من سائر أجناس الحيوان وما لا يستباح

الحيوان على ضروب: منها ما يكون في الحضر خاصّة، ومنها ما يكون في البرّ، ومنها ما يكون في البحر. وكلّ واحد من هذه الأجناس ينقسم أقساما ثلاثة، قسم منها مباح طلق، وقسم مكروه، وقسم محظور.

فأمّا حيوان الحضر، فالإبل والبقر والغنم وما ولد منها، فإنها أجمع مباحة، ويجوز استعمالها على كلّ حال، إلّا ما كان منه جلّالا، فإنّه محظور لا يجوز أكله.

وحدّ الجلّال الذي لا يجوز أكله إلّا بعد الاستبراء، هو أن يكون غذاؤه أجمع عذرة الإنسان لا يخلطها بغيرها. فإذا كان مخلّطا بأكل العذرة وغيرها، فإن لحمها مكروه، وليس بمحظور. ويستبرأ الجلّال: الإبل منه بأربعين يوما، يربط ويعلف حتّى يزول عنه حكم الجلل، والبقر بعشرين يوما كذلك، والشّاة بعشرة أيّام.

٥٧٤

وإذا شرب شي‌ء من هذه الأجناس خمرا، ثمَّ ذبح، جاز أكل لحمه بعد أن يغسل بالماء. ولا يجوز أكل شي‌ء ممّا في بطنه ولا استعماله.

وإذا رضع شي‌ء من هذه الأجناس من خنزيرة، حتّى اشتدّ على ذلك، لم يجز أكل لحمه، ولا ما كان من نسله. فإن شرب من خنزيرة دفعة أو دفعتين، كان أكل لحمه مكروها غير محظور، إلّا أنّه يستبرأ بسبعة أيّام: إن كان ممّا يأكل العلف: كسبا وغيره، أطعم ذلك، وإن لم يأكل، سقي من لبن ما يجوز شرب لبنه سبعة أيّام.

وإذا شرب شي‌ء من هذا الحيوان بولا، ثمَّ ذبح، لم يؤكل ما في بطنه، إلّا بعد غسله بالماء.

ومتى شرب شي‌ء من هذه الأجناس من لبن امرأة، واشتدّ، كره أكل لحمه، ولم يكن محظورا.

وأمّا الخيل والبغال والحمير، فإن لحومها مكروهة، وليست بمحظورة، وإن كان بعضها أشدّ كراهة من بعض، لأن لحم البغل أشدّ كراهة من لحم الحمار، ولحم الحمار أشدّ كراهة من لحم الخيل، ولحم الخيل أدونهنّ كراهة. ولا يجوز أكل لحم الفيل.

ومتى وطئ شيئا من هذه الأجناس التي يحلّ أكل لحومها حرّم ذلك لحومها ولحم ما يكون من نسلها بعد ذلك، ووجب

٥٧٥

إحراقها بالنار. فإن اختلطت بغيرها، واشتبهت، استخرجت بالقرعة: بأن يقسم القطيع قسمين، ويقرع على كلّ واحد منهما، ثمَّ يقسم كذلك أبدا، إلى أن لا يبقى إلّا واحدة.

وأمّا حيوان البحر، فلا يستباح أكل شي‌ء منه، إلّا السّمك خاصة. والسّمك يؤكل منه ما كان له فلس، ويجتنب ما ليس له فلس. والجرّيّ لا يجوز أكله على حال، وكذلك الطّافي، وهو الذي يموت في الماء فيطفو عليه. وأمّا المارماهي والزّمّار والزّهو، فإنّه مكروه شديد الكراهية، وإن لم يكن محظورا. ولا بأس بالكنعت، ولا بأس بالربيثا.

ولا يؤكل من السّمك ما كان جلّالا، إلّا بعد أن يستبرأ يوما إلى اللّيلة في ماء طاهر يطعم شيئا طاهرا. ولا يجوز أكل ما نضب عنه الماء من السّمك. وإذا شقّ جوف سمكة، فوجد فيها سمكة، جاز أكلها إذا كانت من جنس ما يحل أكلها. فإن شقّ جوف حيّة فوجد فيها سمكة، فإن كانت على هيئتها لم تتسلّخ، لم يكن بأس بأكلها، وإن كانت قد تسلّخت، لم يجز أكلها على حال.

وإذا وثبت سمكة من الماء، فماتت، فإن أدركها الإنسان وهي تضطرب، جاز له أكلها، وإن لم يدركها كذلك، تركها، ولم يجز له أكلها.

ولا بأس بالطّمر والطّبرانيّ والإبلاميّ من أجناس السّمك.

٥٧٦

وأمّا حيوان البرّ، فإنّه يجوز أكل شي‌ء من السّباع، سواء كان ذا ناب أو غير ذي ناب، مثل السّبع والفهد والنّمر والكلب والخنزير والثّعلب والأرنب والدّب والذّئب، وما أشبه ذلك من السّباع والمسوخ. ولا بأس بأكل لحم الظّبي والغزال والبقر الوحشي والحمار الوحشيّ، وإن كان لحم الحمار مكروها.

والقرد والسّنّور لا يجوز أكلهما. ولا يجوز أكل السّلحفاة والضّبّ واليربوع والفأر والحيّات والعقارب والضّفادع والسّرطان والخنافس وبنات وردان والزّنابير. ولا يجوز أكل لحم الخزّ والسّمور والسّنجاب والفنك وما أشبهها.

وأمّا الطّير، فيؤكل منه ما دفّ، ويترك منه كلّ ما يصفّ فإن كان طيرا يدفّ ويصفّ، يعتبر: فإن كان دفيفه أكثر من صفيفه، أكل، وإن كان صفيفه أكثر من دفيفه، اجتنب. فإن لم يكن هناك طريق إلى اعتباره، بأن يوجد مذبوحا، أكل منه ما كانت له قانصة أو حوصلة أو صيصية، ويجتنب ما لم يكن له شي‌ء من ذلك.

ولا يجوز أكل شي‌ء من سباع الطّير مثل النّسر والعقاب والرّخمة والحدأة، وما كان له مخلب يأكل اللّحم. ويكره أكل الغربان والقنابر والهدهد. ولا يجوز أكل الخطّاف والخشّاف. ويكره لحم الحبارى، وليس بمحظور.

٥٧٧

ولا بأس بأكل طير الماء، وإن كان ممّا يأكل السّمك، إذا اعتبر بما ذكرناه. ولا يجوز أكل لحم الطّواويس. ويكره أكل لحم الصّرد والصّوام والشّقراق. والطّير إذا كان جلّالا، لم يجز أكله إلّا بعد استبرائه وحبسه من ذلك. وتستبرأ البطّة وما أشبهها بخمسة أيّام، والدّجاجة وما أشبهها بثلاثة أيّام.

باب الصيد وأحكامه

صيد السّمك، أخذه وإخراجه من الماء حيّا، على أيّ وجه كان، سواء كان من أخرجه مسلما أو كافرا، من أيّ أجناس الكفّار كان، لأنّه لا يراعى في صيده وجوب التّسمية، وإن كانت التّسمية أفضل، إلّا أن ما يصيده غير المسلم، لا يجوز أكله، إلّا إذا شوهد إخراجه من الماء حيّا، ولا يوثق بقوله في ذلك.

وإذا نصب الإنسان شبكة في الماء يوما وليلة أو ما زاد على ذلك، ثمَّ قلعها، وقد اجتمع فيها سمك كثير، جاز له أكل جميعه، وإن كان يغلب على ظنّه: أنّ بعضه مات في الماء، لأنّه لا طريق له إلى تمييزه من غيره. فإن كان له طريق إلى تمييز ما مات في الماء ممّا لم يمت فيه، لم يجز له أكل ما مات فيه. وكذلك ما يصاد في الحظائر ويجتمع فيه، جاز أكل جميعه مع فقد الطّريق إلى تمييز الميّت من الحيّ. وإذا صيد

٥٧٨

سمك، وجعل في شي‌ء، وأعيد في الماء، فمات فيه، لم يجز أكله.

ويكره صيد السّمك يوم الجمعة قبل الصّلاة. ويكره صيد الوحش والطّير باللّيل، وليس ذلك بمحظور. ويكره أخذ الفراخ من أعشاشهنّ. والطّير إذا كان مالكا جناحيه، لا بأس بصيده بسائر أنواع الصّيد ما لم يعرف له صاحب. فإن عرف له صاحب، وجب ردّه عليه. والمقصوص الجناح لا يجوز أخذه، لأن ذلك لا يكون إلا لمالك.

ولا يؤكل من الطّير ما يصاد بسائر أنواع آلات الصيد إلّا ما أدرك ذكاته، إلّا ما يقتله السّهم، ويكون مرسله قد سمّى عند إرساله. فإن لم يكن صاحبه سمّى، أو صيد بالبندق أو المعراض أو الحجارة وما أشبه ذلك، فمات فيه، لم يجز أكله. وإذا رمى إنسان طيرا بسهم، فأصابه، وأصاب فرخا لم ينهض بعد، فقتلهما، جاز أكل الطّير، ولم يجز أكل الفرخ، لأنّ الفرخ ليس بصيد بعد. وإنّما يكون صيدا، إذا نهض وملك جناحيه.

وكلّ ما تصيده الجوارح من الطّير مثل البازي والصّقر والعقاب، فلا يجوز أكله، إلّا إذا أدرك ذكاته. فما لم تلحق ذكاته، لم يجز له أكله على حال. وأدنى ما يكون معه لحاق الذّكاة أن يجده وعينه تطرف أو ذنبه يتحرّك أو رجله تركض.

٥٧٩

وإذا قتل الصّيد بسهم يصيبه، ولا تكون فيه حديدة، لم يجز أكله. وإن كان فيه حديدة، غير أنّه أصابه معترضا، فقتله، جاز أكله. ولا يجوز أن يرمى الصّيد بشي‌ء أكبر منه. فإن رمي بشي‌ء أكبر منه، فقتله، لم يجز أكله. وإذا لم يكن مع الصّائد سهم فيه حديدة، ومعه سهم حادّ ينفذ ويخرّق، جاز أكل ما يصيده به، إذا خرّق. فإذا لم يخرّق، لم يجز أكله.

وصيد الوحش يجوز بسائر أنواع آلات الصيد من الجوارح والشّباك والمصائد والحبالات، إلّا أنّه لا يجوز أكل شي‌ء من ذلك، إلّا ما أدرك الإنسان ذكاته، إلّا ما يقتله الكلب خاصة. فإن ما يقتله الكلب، جاز أكله، إذا سمّى صاحبه عند إرساله فإن لم يسمّ صاحبه عند إرساله، لم يجز أكله. وإذا سمّى عند إرساله، فقتله، وأكل منه الكلب، فإن كان معتاد الأكل ما يصيده، لم يجز أكل ما بقي، وإن لم يكن معتادا، وكان ذلك شاذا منه، جاز أكله. وإذا أرسل الإنسان كلبا، وسمّى وشاركه كلب آخر لم يسمّ صاحبه عند إرساله، لم يجز أكل ما قتله. ولا يجوز أن يؤكل ما قتله الفهد وغيره من السّباع، إلّا ما أدرك ذكاته.

وأدنى ما تلحق معه الذّكاة أن يجده تطرف عينه أو يتحرّك يده أو رجله. وكلّ كلب لا يكون معلّما، فلا يجوز أكل صيده، إلّا ما أدرك ذكاته. وإذا أخذ الكلب المعلّم صيدا، فأدركه

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793