النهاية الجزء ١

النهاية7%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225281 / تحميل: 6343
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

صاحبه حيّا، وجب أن يذكّيه. فإن لم يكن معه ما يذكّيه، فليتركه حتّى يقتله، ثمَّ ليأكل إن شاء.

وإذا انفلت كلب، فصاد من غير أن يرسله صاحبه، وسمّى لم يجز أكل ما يقتله. ومن نسي التّسمية عند إرسال الكلب، وكان معتقدا لوجوب ذلك عليه، جاز أكل ما يقتله. ولا يجوز أن يسمّي غير الذي يرسل الكلب. فإن أرسل واحد الكلب، وسمّى غيره، لم يجز أكل ما يقتله. وصيد الكلب إذا غاب عن العين، ثمَّ وجد مقتولا، لا يجوز أكله.

وإذا رمى إنسان سهما، وسمّى عند الرّمي، فأصاب وقتل، جاز أكله. وإن ظنّ أنّ غير السّهم قتله، لم يجز له أكله. وإن أصاب الصّيد سهم فتدهده من جبل، أو وقع في الماء، ثمَّ مات، لم يجز أكله. لأنّه لا يأمن أن يكون قد مات في الماء، أو من وقوعه من الجبل. وإذا طعن الصّيد برمح أو ضربه بسيف، فقتله، ويكون قد سمّى، جاز له أكله.

فإن قدّه بنصفين، ولم يتحرّك واحد منهما، جاز له أكلهما، إذا خرج منه الدّم. وإن تحرّك أحد النّصفين، ولم يتحرّك الآخر، أكل الذي تحرّك، ورمي بما لم يتحرّك. وإن قطع منه قطعة بسيف، أو أخذت الحبالة منه ذلك، فليرم بالقطعة، وليذكّ الباقي، ويأكله.

وإذا أخذ الصّيد جماعة، فتناهبوه، وتوزّعوه قطعة قطعة،

٥٨١

جاز أكله. ومتى رمى الإنسان صيدا بعينه، وسمّى، فأصاب غير ما رماه، فقتله، جاز اكله. وإذا وجد لحما لا يعلم: أذكيّ هو أم ميّت، فليطرحه على النّار: فإن انقبض، فهو ذكيّ، وإن انبسط، فليس بذكيّ.

وصيد الجراد أخذه، ولا يراعى فيه التّسمية، وإن سمّي كان أفضل. ولا يؤكل من الجراد ما مات في الماء، أو الصّحراء قبل أن يؤخذ. ولا يؤكل منه الدّبا، وهو الذي لا يستقلّ بالطّيران وإذا كان الجراد في أجمة أو قراح، فأحرق الموضع، فاحترق الجراد، لم يجز أكله.

باب الذبح وكيفيته ووجوب التسمية

الذّباحة لا يجوز أن يتولّاها غير المسلمين. فمتى تولّاها كافر من أي أجناس الكفّار كان يهوديّا أو نصرانيّا أو مجوسيّا أو عابد وثن، سمّي على ذبيحته أو لم يسمّ، فلا يجوز أكل ذبيحته. ومن المسلمين لا يتولّاها إلّا أهل الحقّ. فإن تولّاها غير أهل الحقّ، ويكون ممّن لا يعرف بعداوة لآل محمّد،عليهم‌السلام ، لم يكن بأس بأكل ذبيحته. وإن كان ممّن ينصب لهم العداوة والشّنآن، لم يجز أكل ذبيحته إلّا في حال التّقيّة. وكلّ ما يباع في أسواق المسلمين جاز شراؤه. وليس على من يبتاعه التّفتيش عنه. ولا بأس أن يتولّى الذّبيحة المرأة أو الغلام، وإن لم يكن قد بلغ،

٥٨٢

إذا قوي على ذلك، وكان يحسن الذّباحة، وكذلك المرأة. فإن لم يحسنا الذّباحة، لم يجز أكل ما ذبحاه.

والتّسمية واجبة في حال الذّباحة. فمن تركها متعمّدا، لم يجز أكل ذبيحته. وإن تركها ناسيا، لم يكن به بأس.

وينبغي أن توجّه الذّبيحة إلى القبلة. فمن لم يستقبل بها القبلة متعمّدا لم يجز أكل ذبيحته. فإن فعل ذلك ناسيا، لم يكن به بأس.

ولا يجوز الذّباحة إلّا بالحديد. فإن لم توجد حديدة، وخيف فوت الذّبيحة، أو اضطرّ الى ذباحتها، جاز له أن يذبح بما يفري الأوداج من ليطة أو قصبة أو زجاجة أو حجارة حادّة الأطراف.

وذكاة ما يذبح أجمع لا يكون إلّا في الحلق. فإن ذبح في غير الحلق، كان حراما. اللهمّ إلّا أن يكون في حال لا يتمكّن فيه من ذباحته في الحلق، بأن يكون وقع في بئر لا يقدر على موضع ذكاته، أو يكون ثور يستعصي فلا يقدر عليه، جاز أن يذبح في غير الحلق، ويؤخذ الثّور بالسّيوف والحراب، وكان ذكيّا.

وحكم ما ينحر من الإبل في أنه متى ذبح لا يجوز أكله، حكم ما ينبغي أن يذبح إذا نحر على السّواء، ولا يحلّ أكله على حال. وكلّ ما ذبح، وكان ينبغي أن ينحر، أو نحر وكان ينبغي أن يذبح في حال الضّرورة، ثمَّ أدرك ذكاته، وجب تذكيته بما يجوز ذلك فيه. فإن لم يفعل، لم يجز أكله.

٥٨٣

ومن السّنّة إلا ينخع الذّبيحة إلّا بعد أن تبرد، وهو ألّا يبين الرّأس من الجسد ويقطع النّخاع. فإن سبقته السّكّين، وأبان الرّأس، جاز أكله، إذا خرج منه الدّم. فإن لم يخرج الدّم، لم يجز أكله. ومتى تعمّد ذلك، لم يجز أكله. ولا يجوز أن يقلب السّكّين فيذبح الى فوق. بل ينبغي أن يبتدي من فوق الى أن يقطع الحلقوم.

وإذا أراد ذبح شي‌ء من الغنم، فليعقل يديه وفرد رجله، ويطلق فرد رجله، ويمسك على صوفه أو شعره الى أن يبرد. ولا يمسك على شي‌ء من أعضائه. وإذا أراد ذبح شي‌ء من البقر فليعقل يديه ورجليه، ويطلق ذنبه. وإذا أراد نحر شي‌ء من الإبل، شدّ أخفافه إلى آباطه، ويطلق رجليه. وإذا أراد ذبح شي‌ء من الطّير، فليذبحه، وليرسله، ولا يمسكه، ولا يعقله. فإن انفلت منه الطّير، جاز أن يرميه بالسّهم بمنزلة الصّيد. فإذا لحقه، ذكّاه.

ولا يجوز ذبح شي‌ء من الحيوان صبرا، وهو أن يذبح شيئا وينظر اليه حيوان آخر. ولا يجوز سلخ الذّبيحة إلّا بعد بردها. فإن سلخت قبل أن تبرد، أو سلخ شي‌ء منها، لم يحلّ أكله.

وإذا ذبحت الذّبيحة، فلم يخرج الدّم، أو لم يتحرّك شي‌ء من أعضائه: يده أو رجله أو غير ذلك، جاز أكله.

وإذا ذبح شاة أو غيرها، ثمَّ وجد في بطنها جنين، فإن كان قد أشعر أو أوبر، ولم تلجه الرّوح، فذكاته ذكاة أمّه، وإن لم

٥٨٤

يكن تامّا، لم يجز أكله على حال، وإن كان فيه روح، وجبت تذكيته، وإلّا فلا يجوز أكله.

ويكره الذّباحة بالليل إلّا عند الضّرورة والخوف من فوتها، وكذلك يكره الذّباحة بالنّهار يوم الجمعة قبل الصّلاة.

باب ما يحل من الميتة ويحرم من الذبيحة وحكم البيض والجلود

يحرم من الإبل والبقر والغنم وغيرها ممّا يحلّ أكله، وإن كانت مذكّاة: الدّم والفرث والطّحال والمرارة والمشيمة والفرج ظاهره وباطنه والقضيب والأنثيان والنّخاع والعلباء والغدد وذات الأشاجع والحدق والخرزة تكون في الدّماغ. وتكره الكليتان، وليستا بمحظورتين. ويحلّ من الميّتة: الصّوف والشّعر والوبر والرّيش إذا جزّ. ولا يحلّ شي‌ء منه إذا قلع منها. ويحلّ أيضا العظم والنّاب والسّنّ والظلف والقرن والإنفحة واللّبن والبيض إذا كان قد اكتسى الجلد الفوقانيّ. فإذا لم يكتس ذلك الجلد، فلا يجوز أكله. وإذا جعل الطّحال في سفّود مع اللّحم، ثمَّ جعل في التّنّور، فإن كان مثقوبا، وكان فوق اللّحم، لم يؤكل اللّحم ولا ما كان تحته، وإن كان تحته، أكل اللّحم، ولم يؤكل ما تحته، وإن لم يكن مثقوبا، جاز أكل جميع ما يكون تحته.

٥٨٥

وإذا اختلط اللّحم الذّكيّ بالميتة، ولم يكن هناك طريق الى تمييزه منها، لم يحلّ أكل شي‌ء منه، وبيع على مستحلّي الميتة، ولا يجوز أن يأكل الميتة، إلّا إذا خاف تلف النّفس. فإذا خاف ذلك، أكل منها ما أمسك رمقه، ولا يتملّأ منه. والباغي الذي يبغي الصيد بطرا ولهوا، والعادي الذي يخرج لقطع الطّريق، لم يحلّ لهما أكل الميتة، وإن اضطرّا اليه.

ويؤكل من البيض ما كان بيض ما يؤكل لحمه على كلّ حال. وإذا وجد بيض، ولم يعلم أهو بيض ما يؤكل لحمه، أم بيض ما لا يؤكل لحمه، اعتبر: فما اختلف طرفاه، أكل، وما استوى طرفاه، اجتنب.

والجلود على ضربين: فضرب منها جلد ما يؤكل لحمه. فمتى ذكّي جاز استعمال جلده ولبسه والصّلاة فيه، إذا كان خاليا من دم أو نجاسة، قبل الدّباغ وبعده وعلى كلّ حال. وما لم يذكّ ومات، لم يجز استعمال جلده في شي‌ء من الأشياء، لا قبل الدّباغ ولا بعده.

وما لا يؤكل لحمه فعلى ضربين: ضرب منه لا يجوز استعماله لا قبل الذّكاة ولا بعدها دبغ أو لم يدبغ، وهو جلد الكلب والخنزير.

والضّرب الآخر يجوز استعماله إذا ذكّي ودبغ، غير أنّه لا يجوز الصّلاة فيه، وهي جلود السّباع كلّها مثل النّمر

٥٨٦

والذّئب والفهد والسّبع والسّمور والسّنجاب والأرنب وما أشبه ذلك من السّباع والبهائم. وقد رويت رخصة في جواز الصّلاة في السّمور والسّنجاب والفنك. والأصل ما قدّمناه. ولا يجوز استعمال شي‌ء من هذه الجلود ما لم يذكّ. فإن استعمله إنسان قبل الذّكاة، نجست يده، ووجب عليه غسلها عند حضور الصّلاة. وكذلك شعر الخنزير لا يجوز له أن يستعمله مع الاختيار. فإن اضطرّ الى استعماله، فليستعمل منه ما لم يكن بقي فيه دسم، ويغسل يده عند حضور الصّلاة، ويجوز أن يعمل من جلود الميتة دلو يستقى به الماء لغير وضوء الصّلاة والشرب. وتجنّبه أفضل.

وإذا قطع شي‌ء من أليات الغنم، وهنّ أحياء، لم يجز أكله، ولا الاستصباح به، لأنّه ميتة.

ويكره للإنسان أن يربّي شيئا من النّعم، ثمَّ يذبحه بيده. بل إذا أراد ذبح شي‌ء من ذلك، فليشتره في الحال، وليس ذلك بمحظور.

٥٨٧

كتاب الأطعمة والأشربة

باب الأطعمة المحظورة والمباحة

كلّ طعام حصل فيه شي‌ء من الخمر أو النّبيذ المسكر أو الفقّاع قليلا كان ما حصل فيه أو كثيرا، فإنّه ينجس ذلك الطّعام، ولا يجوز استعماله على حاله. وإذا كانت القدر تغلي على النّار، فوقع فيها شي‌ء من الخمر، أهريق ما فيها من المرق، وغسل اللّحم، وأكل بعد ذلك. فإن حصل فيها شي‌ء من الدّم، وكان قليلا، ثمَّ غلى، جاز أكل ما فيها، لأنّ النّار تحيل الدّم. وإن كان كثيرا، لم يجز أكل ما وقع فيه.

وكلّ طعام حصل فيه شي‌ء من الميتات ممّا له نفس سائلة، فإنّه ينجس بحصوله فيه، ولا يحلّ استعماله. فإن كان ما حصل فيه الميتة جامدا، مثل السّمن والعسل، ألقي منه ما حوله، واستعمل الباقي. وإن كان ما حصل فيه الميتة مائعا، لم يجز استعماله، ووجب إهراقه. فإن كان دهنا مثل البزر والشّيرج، جاز الاستصباح به تحت السّماء. ولا يجوز الاستصباح به تحت الظّلال، ولا الادّهان به.

وكلّ ما ليس له نفس سائلة مثل الجراد والنّمل والزّنبور

٥٨٨

والخنافس وبنات وردان، إذا مات في شي‌ء من الطّعام والشّراب، جامدا كان أو مائعا، فإنّه لا ينجس بحصوله فيه.

ولا يجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم ولا استعمال أوانيهم إلّا بعد غسلها بالماء. وكلّ طعام تولّاه بعض الكفّار بأيديهم، وباشروه بنفوسهم، لم يجز أكله، لأنّهم أنجاس ينجس الطّعام بمباشرتهم إيّاه. وقد رخّص في جواز استعمال الحبوب وما أشبهها ممّا لا يقبل النّجاسة، وإن باشروه بأيديهم.

ولا يجوز استعمال أواني الشراب المسكر إلّا بعد أن يغسل بالماء ثلاث مرّات ويجفّف. وإذا حصلت ميتة لها نفس سائلة في قدر، أهريق ما فيها، وغسل اللّحم، وأكل بعد ذلك.

ولا بأس بأكل ما باشره الجنب والحائض من الخبز والطّبيخ وأشباه ذلك من الإدام إذا كانا مأمونين. ويكره أكله، إذا عالجه من لا يتحفّظ، ولا يؤمن عليه إفساد الطّعام بالنّجاسات.

ولا يجوز الأكل والشّرب في أواني الذّهب والفضّة. فإن كان هناك قدح مفضّض، يجتنب موضع الفضّة منه عند الشّرب. ولا بأس بما عدا الذّهب والفضّة من الأواني من صفر كان أو من نحاس أو أيّ شي‌ء كان.

ولا بأس بطعام أو شراب أكل منه سنّور. ويكره أكل ما أكل منه الفأر وليس بمحظور.

ويكره أن يدعو الإنسان أحدا من الكفّار الى طعامه، فيأكل

٥٨٩

معه. فإن دعاه فليأمره بغسل يديه، ثمَّ يأكل معه إن شاء.

ولا يجوز أكل شي‌ء من الطّين على اختلاف أجناسه إلا طين قبر الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، فإنّه يجوز أن يؤكل منه اليسير للاستشفاء به. ولا يجوز الإكثار منه على حال.

ولا بأس أن يأكل من بيت من ذكره الله تعالى، في قوله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا ) الآية، بغير إذنه. ولا يجوز أن يحمل منه شي‌ء، ولا إفساده.

ولا بأس بأكل الثّوم والبصل مطبوخا ونيّا غير أنّ من يأكلهما يكره له دخول المسجد، لئلّا يتأذّى النّاس برائحته.

وإذا نجس الماء بحصول شي‌ء من النّجاسات فيه، ثمَّ عجن به، وخبز منه، لم يجز أكل ذلك الخبز. وقد رويت رخصة في جواز أكله، وذكر أن النّار طهّرته. والأحوط ما قدّمناه.

وإذا وجد الإنسان طعاما، فليقوّمه على نفسه، ثمَّ يأكل منه. فإذا جاء صاحبه، ردّ عليه ثمنه.

ولا بأس بألبان الأتن والإبل حليبا ويابسا وعلى كلّ حال. ولا بأس بأن يستشفى بأبوال الإبل.

باب الأشربة المحظورة والمباحة

كلّ ما أسكر كثيره، فالقليل منه حرام، لا يجوز استعماله بالشّرب والتصرّف فيه بالبيع والهبة. وينجس ما يحصل فيه

٥٩٠

خمرا كان أو نبيذا أو بتعا أو نقيعا أو مزرا أو غير ذلك من أجناس المسكرات. وحكم الفقّاع حكم الخمر على السّواء في أنّه حرام شربه وبيعه والتصرّف فيه.

والعصير لا بأس بشربه وبيعه ما لم يغل. وحدّ الغليان الذي يحرّم ذلك، هو أن يصير أسفله أعلاه. فإذا غلى، حرم شربه وبيعه الى أن يعود الى كونه خلّا. وإذا غلى العصير على النّار، لم يجز شربه الى أن يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه. وحدّ ذلك هو أن يراه صار حلوا، أو يخضب الإناء ويعلق به، أو يذهب من كلّ درهم ثلاثة دوانيق ونصف، وهو على النّار، ثمَّ ينزل به، ويترك حتى يبرد. فإذا برد، فقد ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه. ولا يجوز أن يؤتمن على طبخ العصير من يستحلّ شربه على أقلّ من الثّلث، وإن ذكر أنّه على الثّلث. ويقبل قول من لا يشربه إلّا على الثّلث، إذا ذكر أنّه كذلك، وإن كان على أقلّه، ويكون ذلك في رقبته. ويكره الاستسلاف في العصير، فإنّه لا يؤمن أن يطلبه صاحبه، ويكون قد تغيّر الى حال الخمر، بل ينبغي أن يبيعه يدا بيد. وإن كان لو فعل ذلك، لم يكن محظورا.

ولا بأس أن يبيع العنب والتّمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا أو نبيذا، لأنّ الإثم على من يجعله كذلك، وليس على البائع شي‌ء، غير أنّ الأفضل أن يعدل عنه الى غيره.

وإذا خاف الإنسان على نفسه من العطش، جاز أن يتناول شيئا

٥٩١

من الخمر بقدر ما يمسك رمقه. ولا يجوز أن يتداوى بشي‌ء من الأدوية، وفيها شي‌ء من المسكر، وله عنه مندوحة. فإن اضطرّ الى ذلك، جاز ان يتداوى به للعين. ولا يجوز له أن يشربه على حال.

ولا بأس بشرب النّبيذ غير المسكر، وهو أن ينقع التّمر أو الزّبيب ثمَّ يشربه وهو حلو قبل أن يتغيّر.

ويكره أن يسقى شي‌ء من الدّوابّ والبهائم الخمر أو المسكر.

ويكره الاستشفاء بالمياه الحارّة التي تكون في الجبال.

ومن شرب الخمر ثمَّ بصق على ثوب، فإن علم: أنّ معه شيئا من الخمر، لم يجز الصّلاة فيه، وإن لم يعلم ذلك، جازت الصّلاة فيه.

وأواني الخمر ما كان من الخشب أو القرع وما أشبههما، لم يجز استعمالها في شي‌ء من المائعات حسب ما قدّمناه. وما كان من صفر أو زجاج أو جرار خضر أو خزف، جاز استعمالها، إذا غسلت بالماء ثلاث مرّات حسب ما قدّمناه. وينبغي أن تدلك في حال الغسل.

والذّميّ إذا باع خمرا أو خنزيرا، ثمَّ أسلم، جاز له أن يقبض ذلك الثّمن، وكان حلالا له.

والخمر إذا صار خلّا، جاز استعماله، سواء صار كذلك من قبل نفسه أو بعلاج، غير أنّه يستحبّ أن لا يغيّر بشي‌ء يطرح فيه، بل يترك حتّى يصير خلّا من قبل نفسه. وإذا وقع شي‌ء

٥٩٢

من الخمر في الخلّ، لم يجز استعماله إلّا بعد أن يصير ذلك الخمر خلّا.

ويجوز أن يعمل الإنسان لغيره الأشربة من التّمر والزّبيب والعسل وغير ذلك، ويأخذ عليها الأجرة، ويسلّمها اليه قبل تغيّرها. ولا بأس بربّ التّوت والرّمان والسّفرجل والسّكنجبين والجلّاب، وإن شمّ منه رائحة السّكر لأنّه ممّا لا يسكر كثيره.

باب آداب الأكل والشرب

يستحبّ أن يغسل الإنسان يديه قبل أن يأكل الطّعام ويغسلهما بعد الأكل، وليس ذلك بواجب. ويستحبّ أيضا أن يسمّي الله تعالى، عند تناول الطّعام والشّراب، ويحمد الله تعالى، عند الفراغ. وإن كان على مائدة عليها ألوان مختلفة، فليسمّ عند تناول كلّ لون منها. وإن قال بدلا من ذلك: « بسم الله على أوّله وآخره » كان جائزا. وإن سمّى واحد من الجماعة أجزأ عن الباقين.

ولا يجوز الأكل على مائدة يشرب عليها شي‌ء من المسكرات أو الفقّاع.

ولا ينبغي أن يقعد الإنسان متّكئا في حال الأكل، بل ينبغي أن يقعد على رجله. وكثرة الأكل مكروه، وربّما بلغ حدّ الحظر. ويكره الأكل على الشّبع. ويكره الأكل والشّرب باليسار.

٥٩٣

وينبغي أن يتولّى ذلك باليمين، إلّا عند الضّرورة. ولا بأس بالأكل والشرب ماشيا واجتنابه أفضل. ويكره الشّرب بنفس واحد، بل ينبغي أن يكون ذلك بثلاثة أنفاس.

ويستحبّ أن يبدأ صاحب الطّعام بالأكل، ويكون هو آخر من يرفع يده منه. فإذا أرادوا غسل أيديهم يبدأ بمن هو عن يمينه حتّى ينتهي إلى آخرهم. ويستحبّ أن تجمع غسالة الأيدي في إناء واحد.

وإذا حضر الطّعام والصّلاة، فالبداءة بالصّلاة أفضل. فإن كان هناك قوم ينتظرونه للإفطار معه، وكان أوّل الوقت، فالبداءة بالطّعام أفضل. وإن كان قد تضيّق الوقت، لا يجوز إلّا البداءة بالصّلاة. ويستحبّ لمن أكل الطّعام أن يستلقي على قفاه، ويضع رجله اليمنى على اليسرى.

٥٩٤

كتاب الوقوف والصدقات

باب الوقوف وأحكامها

شرائط الوقوف شيئان:

أحدهما أن يكون ما يقفه ملكا للواقف يجوز له التّصرّف فيه والثّاني أن يقبّض الوقف ويخرجه من يده.

فمتى وقف ما لا يملكه، كان الوقف باطلا. وإن وقف ما يملك، ولا يخرجه من يده، ولم يقبّضه الموقوف عليه أو من يتولّى عنهم، لم يصحّ أيضا الوقف، وكان باقيا على ما كان عليه من الملك. فإن مات، والحال ما ذكرناه، كان ميراثا.

وإذا وقف على ولده الكبار فلا بدّ من تقبيضهم الوقف، وإلّا لم يصحّ على ما بيّنّاه في الأجنبيّ. وإن كان أولاده صغارا، جاز الوقف، وإن لم يقبّضهم إيّاه، لأنّه الذي يتولّى القبض عنهم وإذا وقف ملكا، وأخرجه عن يده وملكه، لم يجز له بعد ذلك الرّجوع فيه، ولا تغيير شرائطه ولا نقله عن وجوهه وسبله.

ومتى شرط الواقف أنّه: متى احتاج الى شي‌ء منه، كان له بيعه والتّصرّف فيه، كان الشّرط صحيحا، وكان له أن يفعل

٥٩٥

ما شرط. إلّا أنّه إذا مات، والحال ما ذكرناه، رجع ميراثا، ولم يمض الوقف.

ولا يصحّ الوقف إلّا بعد أن يذكر الموقوف عليه. فإن لم يذكر الموقوف عليه، كان الوقف باطلا.

وكلّ ما يملكه الإنسان، جاز له أن يقفه سواء كان مشاعا أو مقسوما وعلى كلّ حال. والوقف والصّدقة شي‌ء واحد، ولا يصحّ شي‌ء منهما إلّا ما يتقرّب به الى الله تعالى. فإن لم يقصد بذلك وجه الله، لم يصحّ الوقف. والوقف لا بدّ أن يكون مؤبّدا، ولا يجوز أن يكون موقّتا. فإن جعله موقّتا، لم يصحّ، إلّا أن يجعله سكنى على ما نبيّنه فيما بعد، إن شاء الله.

والوقف يجري على حسب ما يقفه الإنسان ويشترط فيه. فإن وقف على قوم مخصوصين، كان لهم ذلك، وليس لغيرهم معهم شي‌ء على حال. وإن وقف عامّا، كان على حسب ذلك أيضا، يجرى على من يتناوله ذلك الاسم.

ولا يجوز أن يقف على من لم يوجد بعد. فإن وقف كذلك، كان الوقف باطلا. فإن وقف على ولده الموجودين وكانوا صغارا، ثمَّ رزق بعد ذلك أولادا، جاز أن يدخلهم معهم فيه، ولا يجوز له أن ينقله عنهم بالكليّة إليهم.

وإذا وقف الوقف على ولده، وكانوا ذكروا وإناثا، فإن شرط تفضيل بعضهم على بعض، كان على حسب ما شرط، وإن

٥٩٦

لم يذكر شيئا من ذلك، كان الذّكر والأنثى فيه سواء من ولده وولد ولده، لتناول الاسم لهم. فإن قال: الوقف بينهم على كتاب الله، كان بينهم( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) . وإذا وقف على والديه، كان أيضا مثل ذلك، يكون بينهما بالسّويّة، إلّا أن يفضّل أحدهما على الآخر بالتّعيين.

ولا بأس أن يقف المسلم على والديه أو ولده أو من بينه وبينه رحم، وإن كانوا كفّارا. ولا يجوز وقفه على كافر لا رحم بينه وبينه على حال. وكذلك إن أوصى لهم بشي‌ء، كان ذلك جائزا.

ولا بأس أن يقف الإنسان على المساجد والكعبة والمشاهد والمواضع التي يتقرّب فيها الى الله تعالى، على مصالحها ومراعاة أحوالها وسكّانها. ولا يجوز وقف المسلم على البيع والكنائس وبيوت النّيران ومواضع قرب سائر أصناف الكفّار.

وإذا وقف الكافر على أحد المواضع التي يتقرّبون فيها الى الله تعالى، كان وقفه صحيحا. وإذا وقف الكافر وقفا على الفقراء، كان ذلك الوقف ماضيا في فقراء أهل ملّته دون غيرهم من سائر أصناف الفقراء.

وإذا وقف المسلم شيئا على المسلمين، كان ذلك لجميع من أقرّ بالشّهادتين وأركان الشريعة من الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والجهاد، وإن اختلفوا في الآراء والدّيانات.

فإن وقف على المؤمنين، كان ذلك خاصّا لمجتنبي الكبائر

٥٩٧

من أهل المعرفة بالإمامة دون غيرهم، ولا يكون للفسّاق منهم معهم شي‌ء على حال.

وإذا وقف على الشّيعة، ولم يميّز منهم قوما دون قوم، كان ذلك ماضيا في الإماميّة والجاروديّة، دون البتريّة. ويدخل معهم سائر فرق الإماميّة من الكيسانيّة والنّاوسيّة والفطحيّة والواقفة والاثنى عشريّة.

فإن وقفه على الإمامية خاصّة، كان ذلك فيمن قال بإمامة الاثنى عشر منهم. وإن وقف على الزيديّة، كان على القائلين بإمامة زيد بن عليّ وإمامة كلّ من خرج بالسّيف من ولد فاطمة،عليها‌السلام .

وإذا وقف على الهاشميّين، كان ذلك على ولد هاشم بن عبد مناف وولد ولده، الذّكور منهم والإناث. وإذا وقفه على الطّالبيّين، كان ذلك على أولاد أبي طالب، رحمة الله عليه، وولد ولده من الذّكور والإناث. وإذا وقفه على العلويّة، كان ذلك على ولد أمير المؤمنين عليّ،عليه‌السلام ، من الحسنيّة والحسينيّة والمحمّدية والعبّاسيّة والعمريّة وولد ولدهم، الذّكور منهم والإناث.

فإن وقفه على ولد فاطمة، كان ذلك على ولد الحسن والحسينعليهما‌السلام ، الذكور منهم والإناث. فإن وقفه على الحسنيّة، لم يكن للحسينيّة معهم شي‌ء. وإن وقف على الحسينيّة لم يكن

٥٩٨

للحسنيّة معهم شي‌ء على حال. فإن وقفه على الموسويّة، كان ذلك على أولاد موسى بن جعفر،عليهما‌السلام ، الذّكور منهم والإناث.

وإذا وقف الإنسان شيئا على جيرانه، أو أوصى بشي‌ء، ولم يسمّهم بأسمائهم، ولا ميّزهم بصفاتهم، كان مصروفا إلى أربعين ذراعا من أربع جوانبها. وليس لمن بعد عن هذا الحدّ شي‌ء. وإن وقف على قومه، ولم يسمّهم، كان ذلك على جماعة أهل لغته من الذّكور دون الإناث. فإن وقفه على عشيرته، كان على الخاصّ من قومه الذين هم أقرب النّاس إليه في نسبه.

فإن وقفه على مستحقّ الخمس، كان ذلك على ولد أمير المؤمنين،عليه‌السلام ، وولد العبّاس وجعفر وعقيل. فإن وقفه على مستحقّ الزّكاة، كان ذلك على الثّمانية أصناف المذكورة في القرآن.

ومتى وقف الإنسان على أحد الأجناس ممّن ذكرناهم، وكانوا كثيرين في البلاد منتشرين، كان ذلك مقصورا على من يحضر البلد الذي فيه الوقف دون غيره من البلدان.

ومتى وقف الإنسان شيئا في وجه من الوجوه أو على قوم بأعيانهم، ولم يشترط بعد انقراضهم عوده على شي‌ء بعينه، فمتى انقرض أرباب الوقف، رجع الوقف إلى ورثة الواقف.

ولا يجوز بيع الوقف ولا هبته ولا الصّدقة به، إلّا أن يخاف

٥٩٩

على الوقف هلاكه أو فساده، أو كان بأرباب الوقف حاجة ضروريّة كان معها بيع الوقف أصلح لهم وأردّ عليهم، أو يخاف وقوع خلاف بينهم، فيؤدّي ذلك الى وقوع فساد بينهم، فحينئذ يجوز بيعه، وصرف ثمنه فيهم على ما يستحقّونه من الوقف. ولا يجوز بيع الوقف مع عدم شي‌ء من ذلك.

وإذا وقف المسلم شيئا على مصلحة، فبطل رسمها، جعل في وجه البرّ. وإذا وقف في وجوه البرّ، ولم يسمّ شيئا بعينه، كان للفقراء والمساكين ومصالح المسلمين.

وإذا وقف إنسان مسكنا، جاز له أن يقعد فيه مع من وقفه عليه، وليس له أن يسكن غيره فيه.

باب السكنى والعمرى والرقبى والحبيس

لا بأس أن يجعل الإنسان داره أو منزله أو ضيعته أو عقاره سكنى لإنسان حسب ما أراد. فإن جعله له مدّة من الزّمان، كان ذلك ماضيا، ولم يجز له نقله عنه، إلّا بعد مضيّ تلك المدّة. وكذلك لا يجوز له بيعه إلّا بعد انقضاء المدّة، أو يشترط على المشتري مقدار ذلك الزّمان. ومتى مات، والحال ما ذكرناه، لم يكن لورثته نقل السّاكن عنه، إلّا بعد أن تمضي المدّة المذكورة.

ومتى أسكنه إيّاه مدّة عمره، كان ذلك ماضيا مقدار زمان

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793