النهاية الجزء ١

النهاية7%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225225 / تحميل: 6338
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

الآية

( وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) )

التّفسير

العداء الأبدي :

لقد تناولت الآية السابقة ظاهرة نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه الله منهم ، أمّا الآية الأخيرة ـ هذه ـ فهي تتحدث عن نقض العهد عند النصارى الذين نسوا قسما من أوامر الله التي كلّفوا بها ـ فتقول الآية في هذا المجال :( وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ النصارى ـ أيضا ـ كانوا قد عقدوا مع الله عهدا على أن لا ينحرفوا عن حقيقة التوحيد ، وأن لا ينسوا أوامر وأحكام الله ، وأن لا يكتموا علائم خاتم النّبيينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّهم تورطوا بنفس ما تورط به اليهود مع فارق واحد ، وهو أنّ القرآن الكريم يصرّح بالنسبة لليهود بأنّ القليل منهم كانوا من الصالحين ، بينما يذكر القرآن بأنّ مجموعة من النصارى اختارت طريق الانحراف ، حيث يفهم من هذه التعبير أنّ المنحرفين من اليهود كانوا أكثر من المنحرفين من

٦٤١

النصارى.

إنّ تاريخ تدوين الأناجيل المتداولة يدل على أنّها كتبت بعد المسيحعليه‌السلام بسنين طويلة وبأيدي بعض المسيحيين ، وهذا هو دليل وجود الكثير من التناقض الصريح فيها،ويدلنا هذا ـ أيضا ـ على أنّ كتبة الأناجيل قد نسوا ـ بصورة تامّة ـ أجزاء غير قليلة من الإنجيل الأصلي ، ووجود خرافات في الأناجيل المتداولة من قبيل قصة صنع المسيحعليه‌السلام للخمرة(1) الأمر الذي يرفضه العقل ويتنافى حتى مع بعض آيات التوراة والإنجيل المتداولين،وكذلك قصّة مريم المجدلية(2) وغيرها من القصص ، كلها دليل على ذلك التناقض.

أمّا كلمة «نصارى» التي وردت في الآية فهي صيغة جمع نصراني ، فقد وردت تفاسير مختلفة حولها ، ومنها أن المسيح قد تربى في صباه ببلدة الناصرة ، وقيل ـ أيضا ـ أنّ هذه الكلمة هي نسبة إلى نصران ، وهي قرية يوليها المسيحيون احتراما خاصا ، ويحتمل ـ أيضا ـ أن يكون وجه التسمية ناشئا عن قول المسيحعليه‌السلام كما تحكية الآية عنه إذ تقول :( كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ) (3) فسمّي المسيحيون لذلك بالنصارى.

ولما كان جمع من النصارى يقولون ما لا يفعلون ، ويزعمون أنّهم من أنصار المسيحعليه‌السلام يقول القرآن في هذه الآية :( وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ) وهم لم يكونوا صادقين في دعواهم هذه ، لذلك تستطرد الآية الكريمة فتبيّن نتيجة هذا الادعاء الكاذب،وهو انتشار عداء أبدي فيما بينهم حتى يوم القيامة ، كما تقول الآية :( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

__________________

(1) إنجيل يوحنا ، الإصحاح 2 ، الآيات 2 ـ 12.

(2) إنجيل لوقا ، الإصحاح 7 ، الآيات 36 ـ 47.

(3) يوسف ، 14.

٦٤٢

كما ذكرت الآية نوعا آخر من الجزاء والعقاب لهذه الطائفة النصرانية ، وهو أنّهم سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وسيرونها بأعينهم حيث تقول الآية :( سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وتجدر الإشارة هنا إلى عدّة أمور ، هي :

1 ـ إنّ عبارة «أغرينا» مشتقة من المصدر «إغراء» وتعني الصاق شيء بشيء آخر ، كما تعني الترغيب أو حمل الشخص على القيام بعمل معين ، بحيث يدفع الشخص إلى الارتباط بأهداف معينة.

وعلى هذا الأساس يكون مفهوم الآية ـ موضوع البحث ـ هو أن نقض النصارى لعهدهم وارتكابهم المعاصي أديا إلى أن تنتشر العداوة فيما بينهم ويعمهم النفاق والخلاف،(والمعلوم أن آثار الأسباب التكوينية والطبيعية تنسب إلى الله) وما نراه اليوم من صراعات كثيرة بين الدول المسيحية ، كانت في يوم ما سببا لاندلاع الحربين العالميتين ، وهي كذلك سبب للتكتلات المقترنة بالعدالة والبغضاء المستمرة فيما بينهم ، أضف إلى ذلك الخلافات المذهبية الكثيرة التي تسود بين الطوائف المسيحية التي ما زالت سببا لاستمرار الصراع والاقتتال فيما بينهم.

وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المراد من استمرار العداوة ، هو العداوة والبغضاء الموجودة بين اليهود والنصارى واستمرارها حتى فناء العالم ، ولكن الملاحظ من ظاهر الآية هو استمرار العداوة بين المسيحيين أنفسهم(1) .

وغني عن البيان أنّ مثل هذه العاقبة لا تقتصر على المسيحيين وحدهم ، فلو أن المسلمين ساروا في نفس هذا الطريق فإن مصيرهم سيكون مشابها لمصير المسيحيين أيضا.

2 ـ إنّ كلمة «العداوة» مشتقة من المصدر «عدو» وهي بمعنى التجاوز

__________________

(1) وعلى هذا الأساس فإن الضمير في كلمة «بينهم» تعود إلى كلمة «النصارى» المذكورة في بداية الآية.

٦٤٣

والانتهاك ، أمّا كلمة «البغضاء» المشتقة من المصدر «بغض» فهي تعني النفور والاستياء الشديد من شيء معين ، ويحتمل أن يكون الفرق بين الكلمتين المذكورتين هو أنّ لكلمة «بغض» طابع وجداني أكثر ممّا هو عملي ، كما في كلمة «العداوة» التي لها طابع عملي،وقد يكون لكلمة «بعض» أو «بغضاء» مفهوم أشمل يستوعب العملي منه والقلبي الوجداني.

3 ـ يستدل من الآية هذه على أنّ النصارى كطائفة دينية (أو اليهود والنصارى معا) سيكون لهم وجود في هذه الدنيا حتى يوم القيامة ، وقد يقول معترض في هذا المجال:أنّ الأخبار الإسلامية تفيد بأن دينا واحدا سيعم العالم كله بعد ظهور المهدي (عج) ولن تكون هناك أديان أخرى غير هذا الدين الذي هو الإسلام الحنيف ، فكيف إذن يمكن الجمع والتوفيق ورفع هذا التناقض الظاهر؟

والجواب هو أنّه يحتمل أن يبقى من المسيحية واليهودية حتى بعد ظهور المهدي (عج) شيء ضئيل على شكل أقلية ضعيفة جدا ، لأن ما نعلمه هو بقاء حرّية الإرادة للبشر حتى في عصر المهدي (عج) وإنّ الدين الإسلامي في ذلك العصر لا يأخذ طابعا إجباريا ، مع أن الأغلبية العظمى من البشر ستتبع طريق الحق وتميل إليه ، والأهم من هذا كله فإن الحكم في الأرض سيكون للإسلام وحده.

* * *

٦٤٤

الآيتان

( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) )

التّفسير

بعد أنّ تحدثت الآيات السابقة عن نقض اليهود والنصارى لميثاقهم ، جاءت الآية الأخيرة لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامّة وتدعوهم إلى الإسلام الذي طهر الديانتين اليهودية والمسيحية من الخرافات التي لصقت بهما ، والذي يهديهم إلى الصراط السّوي المستقيم ، والذي ليس فيه أي انحراف أو اعوجاج.

وتبيّن الآية ـ في البداية ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبعوث إليهم جاء ليظهر الكثير من الحقائق الخاصّة بالكتب السماوية التي أخفوها هم (أهل الكتاب) وكتموها عن الناس، وإن هذا الرّسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت الحاجة إليها وزال تأثيرها بزوال العصور التي نزلت لها ، فتقول الآية في هذا المجال :( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ

٦٤٥

الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) .

وتدلّ هذه الجملة القرآنية على أنّ أهل الكتاب كانوا قد أخفوا وكتموا الكثير من الحقائق ، لكن نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أظهر من تلك الحقائق ما يفي منها بحاجة البشرية في عصر الإسلام ، مثل بيان حقيقة التوحيد وطهارة الأنبياء وتنزههّم عمّا نسب إليهم في التوراة والإنجيل المزورين ، كما بيّن تحريم الربا ، والخمرة وأمثالهما ، بينما بقيت حقائق تخص الأمم السابقة والأزمنة الغابرة ممّا لا أثر لذكرها في تربية الأجيال الإسلامية ، فلم يتمّ التطرق إليها.

وتشير الآية الكريمة ـ أيضا ـ إلى أهمية وعظمة القرآن المجيد وآثاره العميقة في هداية وإرشاد وتربية البشرية ، فتقول :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ) النور الذي يهدي به الله كل من يبتغي كسب مرضاته إلى سبل السلام ، كما تقول الآية الأخرى :( يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) وينقذهم من أنواع الظلمات (كظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة التفرقة والنفاق وغيرها ...) ويهديهم إلى نور التوحيد والعلم والاتحاد،حيث تقول الآية :( وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) .

وإضافة إلى ذلك كلّه يرشدهم إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج ولا انحراف في جانبيه العقائدي والعملي أبدا ، كما تقول الآية :( وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

لقد اختلف المفسّرون في المعنى المراد من كلمة «النّور» الواردة في الآية ، فذهب البعض منهم إلى أنّها تعني شخص النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال مفسّرون آخرون : إنّ المعنى بالنور هو القرآن المجيد.

وحين نلاحظ آيات قرآنية عديدة تشبه القرآن بالنور ، يتبيّن لنا أنّ كلمة «النور» الواردة في الآية ـ موضوع البحث ـ إنّما تعني القرآن ، وعلى هذا الأساس فإنّ عطف عبارة «كتاب مبين» على كلمة (النور» يعتبر من قبيل عطف التوضيح ،

٦٤٦

كما نقرأ في الآية (57) من سورة الأعراف :( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وفي الآية (8) من سورة التغابن نقرأ ما يلي:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ) وآيات عديدة أخرى تشير إلى نفس المعنى،بينما لا نجد في القرآن آية أطلقت فيها كلمة النور على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وإضافة إلى ما ذكر فإنّ الضمير المفرد الوارد في عبارة «به» الواردة في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين ، يؤكّد هذا الموضوع أيضا ، وهو أن النور والكتاب المبين هما إشارتان لحقيقة واحدة.

ومع إنّنا نجد روايات عديدة تفسّر كلمة «النّور» على أنّها إشارة إلى الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام أو الأئمّة الإثني عشرعليهم‌السلام جميعهم ، لكن الواضح هو أنّ هذا التّفسير يعتبر من باب بيان بواطن الآيات ، لأنّنا كما نعلم أنّ للآيات القرآنية ـ بالإضافة إلى معانيها الظاهرية ـ معان باطنية يعبّر عنها بـ «بواطن القرآن» أو «بطون القرآن» ، ودليل قولنا هذا أنّ الأئمّةعليهم‌السلام لم يكن لهم وجود في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكي يدعو القرآن أهل الكتاب للإيمان بهم.

أمّا الأمر الثّاني الوارد في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين ، فهو أنّ القرآن يبشر أولئك الذين يسعون لكسب مرضاة الله بأنّهم سيحظون في ظل القرآن بنعم عظيمة ثلاثة هي:

أوّلا : الهداية إلى سبل السلامة التي تشمل سلامة الفرد والمجتمع ، والروح والجسد والعائلة ، والسلامة الأخلاقية ، وكل هذه الأمور تدخل في الجانب العملي من العقيدة.

وثانيا : نعمة النجاة من ظلمات الكفر والإلحاد.

وثالثا : الهداية إلى النور ، وفي هذا دلالة على الطابع العقائدي ، ويتمّ كل ذلك من خلال أقصر وأقرب الطرق وهو الذي أشارت إليه الآية ب( الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

٦٤٧

وبديهي أن هذه النعم لا يحظى بها إلّا من أسلم وجهه لله ، وخضع للحق بالعبودية والطاعة ، وكان مصداقا للعبارة القرآنية القائلة :( مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ ) بينما لا يحضى المنافقون والمعاندون وأعداء الحق بأيّ فائدة مطلقا ، كما تشير إلى ذلك آيات قرآنية عديدة.

وبديهي ـ أيضا ـ أنّ كل هذه النتائج والآثار ، إنّما تحصل بمشيئة الله وإرادته وحده دون سواه ، كما تشير عبارة «بإذنه» الواردة في الآية الأخيرة.

* * *

٦٤٨

الآية

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) )

التّفسير

كيف يمكن للمسيح أن يكون هو الله؟!

جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثا تطرقت إليه آيات سابقة ، فحملت بعنف على دعوى ربوبية المسيحعليه‌السلام ، وبيّنت أنّ هذه الدعوى ما هي إلّا الكفر الصريح ، حيث قالت :( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) .

ولكي يتّضح لنا مفهوم هذه الجملة ، يجب أن نعرف أنّ للمسيحيين عدّة دعاوي باطلة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى.

فهم أوّلا : يعتقدون بالآلهة الثلاث (أي الثالوث) وقد أشارت الآية (171) من سورة النساء إلى هذا الأمر حيث قالت :( لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ

٦٤٩

إِلهٌ واحِدٌ ) (1) .

وثانيا : إنّهم يقولون : إنّ خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة الثلاث ويسمونه بالإله الأب(2) والقرآن الكريم يبطل هذا الإعتقاد ـ أيضا ـ في الآية (73) من سورة المائدة حيث يقول :( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) وسيأتي بإذن الله تفسير هذه الآية قريبا في نفس هذا الجزء.

وثالثا : إنّ المسيحيين يقولون : إنّ الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم واحد،حيث يعبرون عن ذلك أحيانا بـ «الوحدة في التثليث» ، وهذا الأمر أشارت إليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين :( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) وقالوا:إنّ المسيح ابن مريم هو الله! وإن هذين الإثنين يشكلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ذوات ثلاثة متعددة!

وقد ورد كل جانب من جوانب عقيدة التثليث ، الذي يعتبر من أكبر انحرافات المسيحيين في واحدة من الآيات القرآنية ، ونفي نفيا شديدا (راجع تفسير الآية 171 ـ من سورة النساء من تفسيرنا هذا وفيه التوضيح اللازم في بيان بطلان عقيدة التثليث).

ويتبيّن ـ ممّا سلف ـ أنّ بعض المفسّرين مثل «الفخر الرازي» قد توهّموا في قولهم بعدم وجود أحد من النصارى ممن يصرح باعتقاده في اتحاد المسيح بالله ، وذلك لعدم إلمام هؤلاء المفسّرين بالكتب المسيحية ، مع أنّ المصادر المسيحية المتداولة تصرح بقضية «الوحدة في التثليث» ومن المحتمل أن مثل هذه الكتب لم تكن متداولة في زمن الرازي ، أو أنّها لم تصل إليه وإلى أمثاله الذين شاركوه

__________________

(1) لقد مضى تفسير هذه الآية في بداية هذا الجزء من تفسيرنا.

(2) نقرأ في المصادر المسيحية أنّ «الإله الأب» هو خالق جميع الكائنات (قاموس الكتاب المقدس ، الصفحة 345) كما نقرأ أنّ الرّب هو الموجود بنفسه ، وإن هذا هو اسم خالق جميع المخلوقات وحاكم كلّ الكائنات،وإنّه هو الروح اللامتناهية الأزلية الأبدية (قاموس الكتاب المقدس ، ص 344).

٦٥٠

في هذا الرأي.

بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة ألوهية المسيحعليه‌السلام تقول :( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) وهذه إشارة إلى أنّ المسيحعليه‌السلام إنّما هو بشر كأمه وكسائر أفراد البشر ، وعلى هذا الأساس فهو يعتبر ـ لكونه مخلوقا ـ في مصاف المخلوقات الأخرى يشاركها في الفناء والعدم ، ومن حاله كهذا كيف يمكنه أن يكون إلها أزليا أبديا؟! وبتعبير آخر : لو كان المسيحعليه‌السلام إلها لاستحال على خالق الكون أن يهلكه ، وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق،ومن كانت قدرته محدودة لا يمكن أن يكون إلها ، لأنّ قدرة الله كذاته لا تحدّها حدود مطلقا (تدبّر جيدا).

إنّ ذكر عبارة «المسيح بن مريم» بصورة متكررة في الآية ، قد يكون إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي اعتراف المسيحيين ببنوّة المسيحعليه‌السلام لمريم ، أي أنّه ولد من أم وأنّه كان جنينا في بطن أمّه قبل أن يولد ، وحين ولد طفلا احتاج إلى النموّ ليصبح كبيرا ، فهل يمكن أن يستقر الإله في محيط صغير كرحم الأمّ ، ويتعرض لجميع تحولات الوجود والولادة ويحتاج للأمّ حين كان جنيا وحين الرضاعة؟!

والجدير بالانتباه أنّ الآية الأخيرة تذكر بالإضافة إلى اسم المسيحعليه‌السلام اسم أمّه وتذكرها بكلمة «أمه» وبهذه الصورة تميز الآية أمّ المسيحعليه‌السلام عن سائر أفراد البشر،ويحتمل أن يكون هذا التعبير بسبب أنّ المسيحيين أثناء ممارستهم للعبادة ، يعبدون أمّ المسيح أيضا،والكنائس الموجودة اليوم تشتمل على تماثيل لأم المسيح ، حيث يقف المسيحيون أمامها تعظيما وتعبدا.

وإلى هذا الأمر تشير الآية (116) من سورة المائدة فتقول :( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) وهذا الخطاب حكاية عمّا يحصل من حوار في يوم القيامة.

وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال أولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح

٦٥١

من غير أب دليلا على ألوهيته فتقول :( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فالله قادر على أن يخلق إنسانا من غير أب ومن غير أم كما خلق آدمعليه‌السلام ، وهو قادر أيضا على أن يخلق إنسانا من غير أب كما خلق عيسى المسيحعليه‌السلام ، وقدرة الله هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وأمّهاتهم ، وهذا التنوع في الخلق دليل على قدرته ، وليس دليلا على أي شيء آخر سوى هذه القدرة.

* * *

٦٥٢

الآية

( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) )

التّفسير

استكمالا للبحوث السابقة التي تناولت بعض انحرافات اليهود والنصارى ، تشير الآية الأخيرة إلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء ، فتقول :( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) .

ولم يكن هذا الامتياز الوهمي الذي ادعاه اليهود والنصارى لأنفسهم هو الوحيد من نوعه ، إذ أن القرآن الكريم قد أشار في آيات عديدة إلى أمثال هذه الادعاء.

ففي الآية (111) من سورة البقرة ، أشار القرآن إلى ادعائهم الذي زعموا فيه أن أحدا غيرهم لا يدخل الجنّة ، وزعموا أن الجنّة هي حكر على اليهود والنصارى ، وقد فند القرآن هذه الادعاء.

كما جاء الآية (80) من سورة البقرة ادعاء آخر لليهود ، وهو زعمهم أن نار

٦٥٣

جهنم لن تمسهم إلا في أيّام معدودة ، وقد وبخهم القرآن على زعمهم هذا.

وفي الآية الأخيرة يشير القرآن الكرم إلى ادعائهم البنوة لله ، وزعمهم أنّهم أحباء لله،ولا شك أن هؤلاء لم يعرّفوا أنفسهم كأبناء حقيقيين لله ، بل إنّ المسيحيين وحدهم يدّعون أن المسيح هو الابن الحقيقي لله ، وقد صرحوا بهذا الأمر(1) وأنّهم حين اختاروا لأنفسهم صفة البنوة لله وأدعوا بأنّهم الله إنما ليظهروا بأن لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه ، وكأنّهم أرادوا كل من ينتمي إليهم انتماء قوميا أو عقائديا يصبح من أبناء الله وأحبائه حتى لو لم يقم بأي عمل صالح.(2)

وواضح لدينا أنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الامتيازات والدعاوى الوهمية ، فهو لا يرى للإنسان امتيازا إلّا بالإيمان والعمل الصالح والتقوى ، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإبطال الادعاء الأخير :( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) فهؤلاء ـ بحسب اعترافهم أنفسهم ـ يشملهم العذاب الإلهي حيث قالوا بأن العذاب يمسّهم لأيّام معدودة ، فكيف يتلاءم ذلك الادعاء وهذا الاعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب الله أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس ولا صحة لهذا الادعاء ، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإلهية ، ويعتبر هذا دليلا آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك.

ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول :( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) والقانون الإلهي عام ، فإن الله( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) .

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كل البشر هم من خلق الله ، وهم عباده وأرقاؤه ، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إطلاق اسم «ابن الله» على أي منهم ، حيث

__________________

(1) تقول المصادر المسيحية بأنّ عبارة «ابن الله» هي فقط من ألقاب منقذ المسيحيين وفاديهم ، وإنّ هذا اللقب لا يطلق على أحد غيره إلّا إذا دلت القرينة على أنّ المراد ليس البنوة الحقيقة لله (قاموس الكتاب المقدس، ص 345).

(2) ظهرت في الآونة الأخيرة لدينا مجموعة تبشر للمسيحية وتسمّي نفسها جماعة «ابن الله».

٦٥٤

تقول الآية :( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) .

وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إلى الله ، حيث تؤكد الآية هنا بقولها :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

وقد يسأل البعض : أين ومتى ادعى اليهود والنصارى أنّهم أبناء الله حتى لو كان معنى البنوة في هذه الآية هو معنى مجازي وغير حقيقي).

الجواب هو أنّ الأناجيل المتداولة قد ذكرت هذه العبارة ، ويلاحظ ذلك فيها بصورة متكررة ، من ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا في الإصحاح 8 ـ الآية 41 وما بعدها ، حيث نقرأ على لسان عيسى في خطابه لليهود قوله : «إنّكم تمارسون أعمال أبيكم ، فقال له اليهود : نحن لم نولد من الزنا وإن أبانا واحد وهو الله! فقال لهم عيسى : لو كان أبوكم هو الله لكنتم احببتموني ...».

وقد ورد في الروايات الإسلامية ـ أيضا ـ في حديث عن ابن عباس مضمونه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا جمعا من اليهود إلى دين الإسلام وحذّرهم من عذاب الله ، فقال له اليهود:كيف تخوفنا من عذاب الله ونحن أبناؤه وأحباؤه(1) !

وورد في تفسير مجمع البيان ، في تفسير الآية موضوع البحث ، حديث على غرار الحديث المذكور أعلاه ، مضمونه أنّ جمعا من اليهود حين هددهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعذاب الله قالوا : لا تهددنا فنحن أبناء الله وأحباؤه،وهو إن غضب علينا يكون غضبة كغضب الإنسان على ولده ، وهو غضب سريع الزوال.

* * *

__________________

(1) تفسير الرازي ، ج 11 ، ص 192.

٦٥٥

الآية

( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) )

التّفسير

تكرر هذه الآية الخطاب إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فتبيّن لهم أنّ النّبي المرسل إليهم مرسل من عند الله ، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة دون أن يكون لها نبيّ ، فبيّن لهم هذا النّبي الحقائق ، لكي لا يقولوا بعد هذا إنّ الله لم يرسل إليهم من يهديهم إلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف الله ورحمته ويحذرهم من الانحراف والاعوجاج ، وينذرهم بعذاب الله ، حيث تقول الآية :( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ) .

نعم ، فالبشير والنذير هو نبيّ الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات برحمة الله وثوابه ، وينذر الذين كفروا والعاصين بعذاب الله وعقابه ، وقد جاء ليبشر ولينذر أهل الكتاب والبشرية جمعاء ، حيث تؤكّد الآية هذا بقوله تعالى :( فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ) .

٦٥٦

أمّا كلمة «فترة» الواردة في الآية فهي تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين.

وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسىعليه‌السلام وعيسىعليه‌السلام عددا من الأنبياء والرسل، بينما لم يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسىعليه‌السلام والنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،ولذلكأطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة اصطلاح( فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) والمعروف أن هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريبا(1) .

أمّا ما جاء في القرآن ـ في سورة يس الآية 14 ـ وما ذكره المفسّرون ، فيدلان على أنّ ثلاثة من الرسل ـ على الأقل ـ قد بعثوا في الفاصلة الزمنية بين النّبي عيسىعليه‌السلام ونبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر البعض أنّ أربعة من الرسل بعثوا في تلك المدة ، وعلى أي حال لا بدّ أن تكون هناك فترة خلت من الرسل بين وفاة أولئك الرسل والنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،ولذلك عبّر القرآن عن تلك الفترة الخالية من الرسل بقوله :( عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) .

سؤال :

وقد يعترض البعض بأنّه كيف يمكن القول بوجود مثل تلك الفترة مع أنّ الإعتقاد السائد لدينا يقضي بأن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو ولو للحظة من رسول أو إمام معين من قبل الله سبحانه وتعالى؟

الجواب :

إنّ القرآن الكريم حين يقول :( عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) إنّما ينفي وجود الرسل في تلك المدّة ، ولا يتنافى هذا الأمر مع القول بوجود أوصياء للرسل في ذلك الوقت.

__________________

(1) ويرى البعض أنّ هذه الفترة تبلغ أكثر من ستمائة عام ، وآخرون يرون أنّها أقل من هذه المدّة واستنادا على قول البعض فإنّ الفاصلة الزمنية بين ولادة المسيحعليه‌السلام وهجرة نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفق التاريخ الميلادي تبلغ 621 عاما و 95 يوما (تفسير ابن الفتوح الرازي ، ج 4 ، هامش الصفحة 154).

٦٥٧

وبعبارة أخرى ، فإنّ الرسل هم أشخاص كانوا يمارسون الدعوة على نطاق واسع ، وكانوا يبشرون وينذرون الناس ، ويثيرون الحركة والنشاط في المجتمعات ، ويوقظونها من سباتها بهدف إيصال ندائهم الى الجميع ، بينما لم يكن جميع أوصياء الرسل ليحملوا مثل تلك المهمّة ، بل يحتمل ـ أيضا ـ إنهم لظروف وعوامل اجتماعية خاصّة ، كانوا يعيشون بين الناس أحيانا متخفين متنكرين.

ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في إحدى خطبه الواردة في كتاب «نهج البلاغة» في هذا المجال ما يلي : «اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم»(1) .

وواضح أن المجتمع البشري لو خلى من الرسل الثوريين والدعاة العالمين ، لعمت هذه المجتمع الخرافات والوساوس الشيطانية والانحرافات والجهل بالتعاليم الإلهية ، وتكون مثل هذه الحالة خير حجة بأيدي أولئك الذين يريدون الفرار والتخلي عن المسؤوليات ، لذلك فإن الله يبطل هذه الحجة عن طريق الرجال الرساليين المرتبطين به والموجودين دائما بين أبناء البشر.

وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة اللهعزوجل فتقول :( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وهذا بيان بأنّ إرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصيائهم أمر يسير بالنسبة لقدرة الله العزيز المطلقة.

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 147.

٦٥٨

الآيات

( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) )( قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) )

٦٥٩

التّفسير

بنو إسرائيل والأرض المقدسة :

جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إلى الحق والسعي لمعرفته أوّلا،وإيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي ارتكبوها ثانيا ، ولكي تحفزهم إلى السعي لتلافي اخطائهم والتعويض عنها ، ويذكرهم القرآن في الآية الأولى بما قاله النّبي موسىعليه‌السلام لأصحابه حيث تقول :( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) .

ولا يخفى أنّ عبارة (نعمة الله) تشمل جميع الأنعم الإلهية ، لكن الآية استطردت فبيّنت ثلاثا من أهم هذه النعم ، أوّلها نعمة ظهور أنبياء وقادة كثيرين بين اليهود ، والتي تعتبر أكبر نعمة وهبها الله لهم ، فتقول الآية :( إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ) .وقد نقل أنّ في زمن موسى بن عمران وحده كان يوجد بين اليهود سبعون نبيّا ، وإنّ السبعين رجلا الذين ذهبوا مع موسىعليه‌السلام إلى جبل «الطور» كانوا كلهم بمنزلة الأنبياء.

وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجى اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث ، لذلك أصبحت هذه النعمة أكبر النعم المعنوية التي أنعم الله بها على بني إسرائيل.

بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول :( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا ) وتعتبر هذه النعمة ـ أيضا ـ مقدمة للنعم المعنوية ، فقد عانى بنو إسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني ، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإرادة ، بل كانوا يعاملون معاملة البهائم المكبلة في القيود ، وقد أنقذهم الله من كل تلك القيود ببركة النّبي موسى بن عمرانعليه‌السلام وملكهم مصائرهم ومقدراتهم.

٦٦٠

وللأمّ الثّلث، وللأب ما يبقى، وهو السّدس.

وكذلك لو خلّف الرّجل امرأة وخالا أو خالة وعمّا أو عمّة، كان للزّوجة الرّبع من أصل المال، وللخال أو الخالة الثّلث، وما يبقى فهو للعمّ أو العمّة. فتكون الفريضة من اثنى عشر: للزّوجة الرّبع من ذلك ثلاثة، وللخال أو الخالة أو لهما الثّلث أربعة، وتبقى خمسة، فهي للعمّ أو العمّة أو لهما. وقد استوفيت الفريضة. وهذه المسألة أيضا مثل رجل مات وخلف زوجة وأبوين، يكون للزّوجة الرّبع وللأمّ الثلث، وما يبقى فيكون للأب مثل الأولى سواء.

وكذلك إن خلّفت المرأة أو الرّجل زوجا أو زوجة وبني خال أو بني خالة، وبني عمّ أو بني عمّة، كان للزّوج النّصف، وللزّوجة الرّبع، ولبني الخال أو الخالة الثّلث، وما يبقى فلبني العمّ أو العمّة. لأنّ النّقصان يدخل عليهم كما يدخل على الإخوة من قبل الأب وعلى الأب نفسه دون الإخوة من قبل الأمّ ودون الأمّ نفسها.

وكذلك إن خلّف الرّجل أو المرأة زوجا أو زوجة، وجدّا من قبل الأب أو جدّة، أو جدّا وجدّة من قبل الأمّ، أو جدّا وجدّة من قبلهما، كان للزّوج النّصف، أو للزّوجة الرّبع، والثّلث للجدّ أو الجدّة من قبل الأمّ أو لهما، وما يبقى فللجدّ

٦٦١

أو الجدّة أو لهما من قبل الأب، يدخل النّقصان عليهما كما دخل على الأب.

فإن خلّف الميّت عمّة لأب هي خالة لأمّ، وعمّة أخرى لأب، وخالة لأب وأمّ، كان للعمّتين من قبل الأب الثّلثان، اثنى عشر من ثمانية عشر سهما، لكلّ واحدة منهما ستّة، وللخالة من الأمّ التي هي إحدى العمّتين من الأب سدس الثلث، وهو واحد من ثمانية عشر، فيصير معها سبعة، وللخالة الأخرى من الأب والأمّ خمسة أسهم من ثمانية عشر سهما.

باب توارث أهل الملتين

الكافر لا يرث المسلم على حال من الأحوال، كافرا أصليا كان أو مرتدا عن الإسلام، ولدا كان أو والدا أو ذا رحم، زوجا كان أو زوجة.

والمسلم يرث الكافر على كلّ حال كائنا من كان، إلّا أن يكون هناك من هو أولى منه بالميراث، فمنعه إيّاه.

فإذا خلّف المسلم ولدا كافرا، ولم يخلّف غيره من ولد ولا والد ولا ذي رحم ولا زوج ولا زوجة، كان ميراثه لبيت المال.

فإن خلّف مع الولد الكافر ولدا آخر مسلما، كان المال له

٦٦٢

ذكرا كان أو أنثى دون الكافر.

فإن كان بدل الولد المسلم، والدا أو والدة أو أحد ذوي أرحامه، قريبا كان أو بعيدا، كان المال للمسلم كائنا من كان، وسقط الولد الكافر، ولا يستحقّ منه شيئا على حال.

فإن خلّف ولدين أو ثلاثة وما زاد عليهم مسلمين، وولدا كافرا، كان المال لولده المسلمين دون الكافر. فإن أسلم الولد الكافر قبل أن يقسم المال، كان له نصيبه معهم. وإن أسلم بعد قسمتهم المال، لم يكن له شي‌ء على حال.

فإن خلّف ولدا واحدا مسلما، وآخر كافرا، كان المال للمسلم دون الكافر. فإن أسلم الكافر، لم يكن له من المال شي‌ء، لأنّ المسلم قد استحقّ المال عند موت الميّت. وإنّما يتصوّر القسمة إذا كانت التّركة بين نفسين فصاعدا. فإذا أسلم قبل القسمة قاسمهم على ما بيّنّاه. وذلك لا يتأتى في الواحد على حال.

فإن خلّف أولادا مسلمين ووالدين كافرين، كان المال لأولاده المسلمين دون الوالدين. فإن أسلما أو واحد منهما قبل قسمة المال، كان له سهمه مع الأولاد. وإن أسلم بعد القسمة، لم يكن له شي‌ء على حال.

فإن خلّف والدين مسلمين وولدا كافرا، كان المال للوالدين المسلمين. فإن أسلم الولد قبل قسمة الوالدين المال، كان لهما

٦٦٣

سهمهما السّدسان. والباقي للولد. وإن أسلم الولد بعد قسمتهما المال لم يكن له شي‌ء على حال. وإن كان المسلم من الوالدين أحدهما، كان المال له. فإن أسلم بعد ذلك الولد، لم يقاسمه المال على الأصل الذي بيّنّاه.

وإن خلّف الميّت ولدا كافرا، أو والدين كافرين أو أحدهما وكان كافرا، وابن ابن ابن عمّ أو عمة، أو ابن ابن خال أو خالة، أو من هو أبعد منهم، وكان مسلما، كان الميراث للبعيد المسلم، دون الولد والوالدين الكفّار.

فإن أسلم الولد أو الوالدان أو أحدهما، قبل قسمتهم المال، رجع الميراث إليهم، وسقط ذوو الأرحام. وإن أسلموا بعد قسمة المال، لم يكن لهم شي‌ء على حال.

وإذا خلّفت المرأة زوجها وكان مسلما، وولدا أو والدا أو ذوي أرحام كفّارا، كان الميراث للزّوج كلّه، وسقط هؤلاء كلّهم. فإن أسلموا، ردّ عليهم ما يفضل من سهم الزوج.

وإن خلّف الرّجل امرأة مسلمة، ولم يخلّف وارثا غيرها مسلما، وخلّف ورّاثا كفّارا، كان ربع ما تركه لزوجته، والباقي لإمام المسلمين، وسقط هؤلاء كلّهم. فإن أسلموا بعد ذلك قبل قسمة المال، ردّ عليهم ما يفضل عن سهم الزّوجة وإن كان إسلامهم بعد ذلك، لم يكن لهم شي‌ء على حال.

وإذا خلّف الكافر وارثا مسلما، ولدا كان أو والدا، أو ذا

٦٦٤

رحم، قريبا كان أو بعيدا، ذكرا كان أو أنثى، أو زوجا أو زوجة ولم يخلّف غيره، كان المال له. فإن خلّف مع المسلم كائنا من كان، وارثا كافرا، قريبا أو بعيدا، أو زوجا أو زوجة كان الميراث للوارث المسلم دون الكافر. فإن أسلم الكافر قبل قسمة المال، كان له ميراثه على قدر استحقاقه. وإن أسلم بعد ذلك، لم يكن له شي‌ء على حال.

وإذا خلّف الكافر أولادا صغارا، وإخوة وأخوات من قبل الأب، وإخوة وأخوات من قبل الأمّ مسلمين، كان للإخوة والأخوات من قبل الأمّ الثّلث، وللإخوة والأخوات من قبل الأب الثّلثان، وينفق الإخوة من قبل الأمّ على الأولاد بحساب حقّهم ثلث النّفقة، وينفق الإخوة والأخوات من الأب بحساب حقهم ثلثي النّفقة. فإذا بلغ الأولاد، فأسلموا، سلّم الإخوة إليهم ما بقي من الميراث. وإن اختاروا الكفر، تصرّفوا في باقي التّركة، ولم يعطوا الأولاد منها شيئا.

وإن كان أحد أبوي الأولاد الصّغار مسلما، وخلّف إخوة وأخوات من قبل أب، أو من قبل أمّ، كان الميراث للأولاد الصّغار. فإذا بلغوا أجبروا على الإسلام. وقهروا عليه. فإن أبوا، كانوا بحكم المرتدّين، وجرى عليهم ما يجري عليهم سواء.

والمسلم إذا كان له أولاد ذمّيّون وقرابة كفّار ومولى نعمة مسلم،

٦٦٥

كان ميراثه لمولى نعمته المسلم دون أولاده وقراباته الكفّار.

والمسلمون يتوارث بعضهم من بعض، وإن اختلفوا في الآراء والدّيانات، لأنّ الذي به تثبت الموارثة، إظهار الشّهادتين، والإقرار بأركان الشّريعة من الصّلاة والزكاة والصّوم والحجّ، دون فعل الإيمان الذي يستحقّ به الثّواب.

والكفّار على اختلافهم يتوارث بعضهم من بعض، لأنّ الكفر كالملّة الواحدة، لقول ابي عبد الله،عليه‌السلام : « لا يتوارث أهل ملّتين، نحن نرثهم ولا يرثونا » فجعل من خالف الإسلام ملّة واحدة.

والمسلم الذي ولد على الإسلام، ثمَّ ارتدّ، فقد بانت منه امرأته، ووجب عليها عدّة المتوفّى عنها زوجها، وقسم ميراثه بين أهله. ولا يستتاب بل يقتل على كلّ حال.

فإن لحق بدار الحرب، ثمَّ مات، وله أولاد كفّار، وليس له وارث مسلم، كان ميراثه لإمام المسلمين.

ومن كان كافرا، فأسلم، ثمَّ ارتدّ، عرض عليه الإسلام. فإن رجع إليه، وإلّا ضربت عنقه. فإن لحق بدار الحرب، ولم يقدر عليه، اعتدّت منه امرأته عدّة المطلّقة، ثمَّ يقسم ميراثه بين أهله. فإن رجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدّتها، كان أملك بها. وإن رجع بعد انقضاء عدّتها، لم يكن له عليها سبيل. فإن مات على كفره، وله أولاد كفّار، ولم يخلّف

٦٦٦

وارثا مسلما، كان ميراثه لبيت المال. وقد روي: أنّه يكون ميراثه لورثته الكفّار. وذلك محمول على ضرب من التّقية لأنّه مذهب العامّة.

باب الحر المسلم يموت ويترك وارثا مملوكا

المملوك لا يرث الحرّ ما دام مملوكا، ولدا كان أو والدا أو ذا رحم مع وجود غيره من الورثة الأحرار، سواء كان ذلك الغير ولدا أو والدا، أو ذا رحم، قريبا أو بعيدا، ذكرا كان أو أنثى، على كلّ حال.

فإن خلّف الميّت الحرّ ولدا مملوكا وآخر حرّا، كان ميراثه لولده الحرّ دون المملوك. فإن أعتق المملوك قبل قسمة المال بين الورثة الأحرار، كان له نصيبه معهم، على حسب استحقاقه. وإن أعتق بعد قسمة الميراث، فلا ميراث له.

وكذلك إن كان الوارث الحرّ واحدا، لم يرث معه المملوك، وإن أعتق، لأنّ عند موت الميّت قد استحقّ الحرّ الميراث.

وإن خلّف الميّت ولدا مملوكا، وذا رحم، بعيد منه أو قريب حرّ، كان الميراث لذي رحمه. دون ولده المملوك. فإن أعتق الولد قبل قسمة المال، كان المال له دون ذي رحمه. وإن أعتق بعد قسمة الميراث، لم يكن له شي‌ء على حال.

فإن خلّف ولدا مملوكا، ولولده ولد حرّ، كان الميراث لولد

٦٦٧

ولده الحرّ دون ولده المملوك، ولم يمنع ولد الولد الميراث من حيث كان من يتقرّب به مملوكا. وكذلك الحكم في باقي ذوي الأرحام.

فإن كان للميّت وارث حرّ، وزوج أو زوجة مملوك، كان الميراث للحرّ، ولم يكن للزّوج والزّوجة شي‌ء على حال. فإن خلّف زوجا أو زوجة حرّا ووارثا آخر مملوكا، كان المال للزّوج أو الزّوجة على ما بيّنّاه ميراثهما مع فقد الوارث.

وإذا لم يخلّف الميّت وارثا حرّا على وجه، وخلّف وارثا مملوكا، ولدا كان أو والدا، أو أخا أو إخوة، أو واحدا من ذوي أرحامه، وجب أن يشترى من تركته، وأعتق، وأعطي بقية المال، ولم يكن لمالكه الامتناع من بيعه، بل يقهر عليه. هذا إذا كان قدر ما خلّفه بقيمة المملوك أو أكثر منه. فإن كانت التركة أقلّ من قيمة المملوك، لم يجب شراء الوارث على حال، وكان المال لبيت مال المسلمين. وحكم الزّوج والزّوجة حكم ذوي الأرحام في أنّه إذا لم يخلّف غيرهما اشتريا وأعتقا وورّثا على ما بيّنّاه. وقال بعض أصحابنا: « أنّه إذا كانت التّركة أقلّ من ثمن المملوك، استسعي في باقيه ». ولست أعرف بذلك أثرا. وينبغي أن يكون العمل على ما قلناه.

وكذلك إن خلّف وارثين مملوكين كلّ واحد منهما يرث مع صاحبه مثل ولدين، أو والدين، أو ولدا ووالدين، أو

٦٦٨

ولدا وأحد الأبوين، وما أشبه ذلك، ولم يخلّف إلّا مقدار ما يشترى به أحدهما، لم يجب شراء واحد منهما على حال. لأنّ القدر الذي يستحقّه قد نقص عن ثمنه. وذلك لا يوجب شراءه على ما بيّنّاه.

وأمّ الولد تجعل في نصيب ولدها، وتنعتق على ما بيّنّاه، وليس لها ميراث.

باب ميراث الموالي مع وجود ذوي الأرحام ومع فقدهم

إذا مات المعتق، وخلّف ذا رحم له حرّا مسلما، ولدا كان أو والدا، أو ذا رحم قريبا أو بعيدا، وعلى كلّ حال، كانت تركته له دون مواليه الذين أعتقوه. فإن لم يخلّف أحدا من ذوي أرحامه، فهو على ضربين: فإن كان سائبة، وهو الذي أعتق في الواجبات من النذور والأيمان والكفّارات، أو يكون قد أعتقه مولاه وتبرّأ من ضمان جريرته، وأشهد على ذلك، كان ميراث هؤلاء كلّهم لإمام المسلمين، إذا لم يكونوا توالوا إلى أحد يضمن عنهم جريرتهم وحدثهم، لأنّه من الأنفال وإن لم يكن المعتق سائبة، كان ميراثه لمن أعتقه رجلا كان أو امرأة.

٦٦٩

فإن كان الذي أعتقه لم يكن حيّا، وكان له أولاد ذكور وإناث، كان ميراث المعتق لولده الذّكور منهم دون الإناث. فإن لم يخلّف غير إناث من الأولاد، وخلّف معهنّ عصبة، كان ميراثه لعصبة مولاه دون بناته.

والوالدان يرثان المعتق إذا لم يكن للمعتق ولد. فإن لم يكن له والدان، وكان له إخوة وأخوات من قبل أب وأم أو من قبل أب، كان ميراث المولى لهم بينهم للذّكر مثل حظّ الأنثيين. فإن كانوا من قبل أمّ، لم يكن لهم من ميراث المعتق شي‌ء على حال وكان المال للعصبة. فإن لم يكن له عصبة ولا أحد ممّن ذكرناه كان المال لبيت المال.

هذا إذا كان المعتق رجلا. فإن كانت امرأة، فميراث مولاها لها، إن كانت حيّة. وإن لم تكن حيّة فميراثه لعصبتها دون ولدها، ذكورا كانوا أو إناثا. وقد بيّنّا في باب الولاء من كتاب العتق تعلّق الولاء بعضه ببعض. فعلى ذلك تجري أحكام المواريث.

وسهم الزّوج والزّوجة ثابت في المعتق مع وجود ذوي الأرحام ومع فقدهم، والباقي إمّا للمولى أو للإمام.

ومن توالى إلى غيره، فضمن جريرته وحدثه، ثمَّ مات وخلّف وارثا قريبا كان أو بعيدا، كان ميراثه له دون من توالى إليه. فإن لم يكن له أحد من قريب ولا بعيد، وكان له زوج

٦٧٠

أو زوجة، كان له حقه، والباقي لمولاه الذي ضمن جريرته.

وإن مات، ولا يعرف له وارث، ولا يكون قد توالى إلى أحد، كان ميراثه للإمام. وهو القسم الثّالث من أقسام الموالي، وهو ميراث من لا وارث له، وذلك خاصّ له، لأنّه من الأنفال على ما بيّنّاه. وكان أمير المؤمنين،عليه‌السلام ، يعطي ميراث من لا وارث له فقراء أهل بلده وضعفاءهم. وذلك على سبيل التبرّع منه،عليه‌السلام .

وإذا خلّف الميّت ولدا غائبا لا يعرف خبره، وورثة شهودا، غير أنّ الغائب أولى به من الحاضر، فإنّه توقف تركته إلى أن يجي‌ء الغائب. فإن تطاولت المدّة، قسم بين الحاضرين، وكانوا ضامنين له إن جاء. وإن مات في غيبته بعد الموروث منه، وله ورثة، كان هؤلاء ضامنين للمال لورثته.

ومتى خلّف إنسان مالا، وليس له وارث، ولم يتمكّن من إيصاله إلى سلطان الحق، قسم ذلك في الفقراء والمساكين، ولا يعطى سلطان الجور منه شيئا على حال، إلّا أن يتغلّب عليه أو يخاف سطوته، فيجوز حينئذ تسليمه إليه للتقيّة والخوف.

باب ميراث القاتل ومن يستحق الدية

القاتل على ضربين: قاتل عمد، وقاتل خطأ.

فإذا كان قاتل عمد، فإنّه لا يرث المقتول: لا من تركته، ولا من ديته، إن قبل أولياؤه الدّية، ولدا كان أو والدا،

٦٧١

قريبا كان أو بعيدا، زوجا كان أو زوجة. وتكون تركة المقتول وديته لمن عدا القاتل من ورثته قريبا كان أو بعيدا.

فإن لم يكن للمقتول أحد غير الذي قتله، كان ميراثه لبيت المال، ولا يعطى القاتل شيئا منه على حال.

فإن قتل الرّجل ابنه، لم يرثه. فإن كان للقاتل أب وابن، ورثا المقتول، وكان الميراث بينهما نصفين لأنّه جدّ المقتول وأخوه.

وإن قتل الرّجل أباه، لم يرثه على حال. فإن كان للأب أولاد غير القاتل، كان ميراثه لهم. فإن لم يكن له ولد غير القاتل، وكان لولده ولد، ورث جدّه المقتول دون أبيه القاتل، ولم يمنع المال حيث كان من يتقرّب به ممنوعا.

وإذا كان القاتل خطأ، فإنه يرث المقتول على كلّ حال، ولدا كان أو والدا أو ذا رحم، أو زوجا أو زوجة، من نفس التّركة ومن الدّية. وقد رويت رواية بأنّ القاتل لا يرث وإن كان خطأ. وهذه رواية شاذّة لا عمل عليها، لأنّ أكثر الرّوايات على ما قدّمناه. وكان شيخنا،رحمه‌الله ، يحمل هذه الرّواية على أنّه: إذا كان القاتل خطأ، فإنّه لا يرث من الدّية، ويرث من التّركة، ليجمع بين الأخبار. وعلى هذا أعمل، لأنّه أحوط.

وإذا كان للمقتول وارث كافر، كان ميراثه لبيت المال.

٦٧٢

فإن أسلم الكافر كان له الميراث والمطالبة بالدّم. وإن لم يسلم، وكان المقتول عمدا، كان الإمام وليّه، وهو مخيّر بين أن يأخذ الدّية، فيجعلها في بيت مال المسلمين، أو يقيد به القاتل. وليس له أن يعفو لأنّ ذلك ليس بحقّه، فيجوز له تركه، وإنّما هو حقّ لجميع المسلمين.

وإذا كان على المقتول دين، وجب قضاؤه من الدّية كما يجب قضاؤه من نفس التّركة، سواء كان المقتول عمدا أو خطأ وعلى كلّ حال.

وقاتل العمد إذا كان مطيعا بالقتل، لم يمنع الميراث ولم يحرمه. وإنّما يحرم، إذا كان ظالما. ومثال ما ذكرناه أن يقتل الرّجل أباه وهو كافر أو باغ على إمام عادل، أو قتله بأمر الإمام إمّا قودا أو لغير ذلك. فإن ميراثه منه ثابت، ولم يستحقّ الحرمان.

والدّية يستحقّها جميع ورثة المقتول على سهام الله تعالى: الوالدان والولد والإخوة والأخوات، وكلّ من يتقرّب من جهة الأب خاصّة ذكرا كان أو أنثى. ولا يستحقّها الإخوة والأخوات من قبل الأمّ ولا أحد من ذوي أرحامها.

والزّوج والزّوجة يرث كلّ واحد منهما الآخر من نفس الدّية كما يرثه من نفس التّركة ما لم يقتل أحدهما صاحبه. فإن قتله، منع الميراث من التّركة والدية معا على ما بيّنّاه.

٦٧٣

والمطلّقة طلاقا يملك رجعتها إذا قتلت، ورثها الزّوج من تركتها وديتها. وان قتل الزّوج، ورثته أيضا مثل ذلك، ما دامت في العدّة من التّركة والدّية وتكون عليها عدّة المتوفّى عنها زوجها. فإذا خرجت من العدة لم يكن لها ميراث على حال. وكذلك إن كان طلاقا لا يملك فيها الرّجعة، لم يكن لواحد منهما ميراث من صاحبه على ما بيّنّاه.

باب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم في وقت واحد ومن يشكل أمره من الناس

إذا غرق جماعة يتوارثون في وقت واحد، أو انهدم عليهم حائط، وما أشبه ذلك، ولم يعلم: أيّهم مات قبل صاحبه، ورّث بعضهم من بعض من نفس تركته لا ممّا يرثه من الآخر، يقدّم الأضعف في استحقاق الميراث ويؤخّر الأقوى ذلك.

مثال ذلك زوج وزوجة غرقا، فإنّه تفرض المسألة: كأنّ الزّوج مات أوّلا، وتورّث منه الزّوجة، لأنّ سهمها في الاستحقاق أقلّ من سهم الزّوج، ألا ترى أن أكثر ما تستحقّه المرأة الرّبع، والرّجل أكثر ما يستحقّه النّصف، فهو أقوى حظّا منها، فتعطى المرأة حقّها منه، والباقي لورثته. ثمَّ تفرض المسألة: بأنّها ماتت أوّلا، ويورّث الزّوج منها حقّه من نفس تركتها، لا ممّا ورثته، وتعطى ورثتها بقيّة المال.

ومثل أب وابن، فإنّه يفرض: كأنّ الابن مات أوّلا

٦٧٤

فيورّث الأب منه، لأنّ سهمه السّدس مع الولد، والباقي للابن فهو أضعف منه وتعطى ورثته ما يبقى من المال. ثمَّ تفرض المسألة أنّ الأب مات فيعطى الابن حقّه منه، والباقي لورثته. فإن فرضنا في هذه المسألة أنّ للأب وارثا، غير أنّ هذا الولد أولى منه، وفرضنا أنّ للولد وارثا، غير أنّ أباه أولى منه، فإنّه يصير ميراث الابن لورثة الأب، وميراث الأب لورثة الابن. لأنّا إذا فرضنا موت الابن أوّلا، صارت تركته للأب، وإذا فرضنا موت الأب بعد ذلك، صارت تركته خاصّة للولد، وصار ما كان ورثه من ابنه لورثته الأخر. وكذلك إذا فرضنا موت الأب تصير تركته خاصّة لورثة الابن، وعلى هذا يجري أصل هذا الباب.

فإن مات نفسان أحدهما لم يخلّف شيئا، والآخر خلّف، فالذي خلّف يرثه الآخر، وينتقل منه إلى ورثته دون ورثة الذي خلّف.

مثال ذلك المسألة الأولى: الأب والابن. فإنّه إن فرضنا أنّ الابن لم يخلّف شيئا، فالأب ليس له منه حظ. فإذا قدّرنا بعد ذلك موت الأب، ورثه الابن، فصارت تركة الأب لورثة الابن، وكذلك إن فرضنا انّ الابن له مال، وليس للأب مال، فإنّه إذا فرضنا موت الابن، انتقلت تركته إلى الأب. فإذا فرضنا بعد ذلك موت الأب لم يكن له شي‌ء إلى الابن. لأنّ الذي ورثه من الابن لا يرث الابن منه على ما بيّنّاه،

٦٧٥

فيصير ما ورثه من ابنه لورثته خاصة.

وللمسألة مثال آخر. وهو أن يفرض في أخوين معتقين ماتا، يرث كلّ واحد منهما صاحبه، ولأحدهما مال، وليس للآخر شي‌ء، ولهما موليان، ليس لهما غيرهما من الورّاث، فيصير ميراث الذي له مال لمولى الذي ليس له مال. لأنّا إذا فرضنا موت أحدهما الذي له مال، ورثه الآخر الذي ليس له مال. فإذا فرضنا بعد ذلك موته، لم يكن له شي‌ء له يرثه الآخر. والذي ورثه من أخيه ليس له وارث يرثه، فيصير لمولاه الذي أعتقه.

وهذه المسألة لا ترجيح فيها لتقديم أحدهما في التوريث على الآخر. لأنّه إن كانا أخوين من أب أو من أب وأم أو من أمّ، فإنّه يرث كلّ واحد منهما صاحبه مثل ما يرثه صاحبه من غير زيادة ولا نقصان، فليس أحدهما أقوى من الآخر. وإذا كانا كذلك، فأنت مخيّر في تقديم أيّهما شئت.

وإذا غرق نفسان ليس لكلّ واحد منهما وارث غير صاحبه، فميراثهما لبيت المال. لأنّ ما ينتقل إلى كلّ واحد منهما من صاحبه لا وارث له، فيصير ذلك لبيت المال. فإن كان أحدهما له وارث من ذي رحم أو مولى نعمة أو مولى ضامن جريرة أو زوج أو زوجة، فإنّ ميراث الذي له وارث لمن ليس له وارث، وينتقل منه إلى بيت المال، ويصير مال من ليس له وارث لمن له وارث، فينتقل منه إلى ورثته. وعلى هذا

٦٧٦

المثال يجري هذا الباب. فينبغي أن يتأمّل ما فيه، فإنّه يطلع منه على كلّ ما يرد من هذا الباب.

وإذا غرق نفسان في حالة واحدة يرث أحدهما صاحبه والآخر لا يرثه لا يورّث بعضهم من بعض، ويكون ميراث كلّ واحد منهما لورثته. مثال ذلك أن يغرق أخوان، ولأحد الأخوين أولاد، فإن مع وجود الأولاد لا يرثه الآخر، وأخوه ليس له ولد ولا والد إن صحّ أن يرثه هذا الأخ. فإذا كان كذلك، فينبغي أن يسقط هذا الحكم، لأنّه إنّما جعل ذلك بأن قيل: يورّث بعضهم من بعض. فإذا لم يصحّ ذلك فيه، فالحكم ساقط.

وإذا مات نفسان حتف أنفهما، لم يورّث بعضهما من بعض، ويكون ميراث كلّ واحد منهما لمن يرثه من الورّاث الأحياء، لأنّ هذا الحكم جعل في الموضع الذي يجوز فيه تقديم موت كلّ واحد منهما على صاحبه.

وإذا خلّف الميّت وارثا له ما للرّجال وما للنّساء، فإنّه يعتبر حاله بالبول، فأيهما سبق منه البول، ورّث عليه. فإن خرج من الموضعين سواء فأيّهما انقطع منه البول ورّث عليه. فإن انقطع منهما معا، ورّث ميراث الرّجال والنساء: نصف ميراث الرّجال ونصف ميراث النساء.

وقد روي عن أبي الحسن الثّالث،عليه‌السلام ، أنّه سأله

٦٧٧

يحيى بن أكثم عن هذه المسألة، وقال له: من ينظر إلى المبال: الرّجل أو المرأة؟ فإن نظر الرّجل، فإنّه لا يؤمن أن يكون الشّخص امرأة، ولا يحلّ له النّظر إلى فرجها. وان نظرت امرأة، فلا يؤمن أيضا أن يكون الشّخص رجلا، وليس لها أن تنظر إلى فرج رجل ليس بذي محرم لها ولا زوج. فأجاب،عليه‌السلام ، بأن قال: ينظر قوم عدول، يأخذ كلّ واحد منهم مرآة وتقوم الخنثى خلفهم عريانة، فينظرون في المرآة، فيرون شبحا فيها، فيحكمون عليه.

وقد روي أنّه تعدّ أضلاعه من الجانبين: فإن تساويا، ورّث ميراث المرأة، وإن زاد أحدهما على الآخر، ورّث ميراث الرّجال.

والأول أحوط وأكثر في الرّوايات.

فإن خلّف الميّت مولودا ليس له ما للرّجال ولا ما للنّساء، فإنّه يورّث بالقرعة، فيكتب على سهم « عبد الله » وعلى سهم آخر « أمة الله »، ويخلّطان بالرّقاع المبهمة، ثمَّ يستخرج واحد منهما، فأيهما خرج، ورّث عليه.

وإذا خلف الميّت شخصا له رأسان أو بدنان على حقو واحد، ترك حتّى ينام، ثمَّ ينبّه أحدهما: فإذا انتبه الآخر معه، ورّث ميراث شخص واحد، وإن لم ينتبه الآخر، ورّث ميراث شخصين.

٦٧٨

باب ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا والحميل واللقيط والمشكوك فيه

ولد الملاعنة لا يرثه أبوه سواء اعترف به بعد اللّعان أو لم يعترف به، ولا أحد من جهته من جدّ وجدّة وأخوات وعمومة وعمّات وأولادهم، وهو لا يرث واحدا منهم أيضا على حال. اللهمّ إلّا أن يعترف به أبوه بعد انقضاء اللّعان. فإن اعترف به، ورث الابن الأب دون غيره ممّن يتقرّب إليه من جهته، وميراثه لولده ومن يرث معهم من أمّ وزوج أو زوجة.

فإن لم يكن له ولد، فميراثه لأمّه إذا كانت حيّة. فإن لم تكن حيّة، فلإخوته وأخواته أو أولادهم من جهتها، الذّكر والأنثى فيه سواء.

فإن كان مع الإخوة والأخوات أو أولادهم جدّ أو جدّة، قاسمهم كواحد منهم. فإن لم يكن له إخوة ولا أخوات ولا أولادهم ولا جدّ ولا جدّة، فميراثه لأخواله وخالاته بينهم بالسّويّة. فإن لم يكن له أحد منهم، فميراثه لأقرب النّاس إليه من جهة أمّه، ويكون الذّكر والأنثى فيه سواء.

فإن لم يكن له أحد من قبل أمّه، وكان له أقارب من جهة أبيه الذي نفاه، كان ميراثه لإمام المسلمين، ولم يكن لأقاربه من جهة أبيه شي‌ء على حال.

وولد الملاعنة يرث أمّه وجميع من يتقرّب إليه من جهتها

٦٧٩

من إخوة وأخوات وجد وجدّة وخال وخالة وغيرهم من الأقارب منها.

وقد روي أنّه لا يرث أحدا منهم، وهم يرثونه. والأوّل أحوط، لأنّ نسبه من جهة الأمّ ثابت نسبا شرعيّا، وبه تثبت الموارثة في شريعة الإسلام.

وقد روي أنّ ميراث ولد الملاعنة ثلثه لأمّه، والباقي لإمام المسلمين، لأنّ جنايته عليه، والعمل على ما قدّمناه.

فإن ترك ولد الملاعنة أخوين له أو أختين أو أخا وأختين، أحدهما أخا كان أو أختا من قبل الأب والأمّ، والآخر من قبل الأمّ، فالمال بينهما نصفين، لأنّ نسب الأخ من جهة الأب غير معتدّ به. وإنّما يعتدّ بما كان من جهة الأمّ. فكأنّه خلّف أخوين لأمّ وأختين لها، أو أخا وأختا لها، فيكون المال بينهما نصفين. فإن خلّف ابن أخيه لأمّه وابنة أخته لها، كان المال أيضا بينهما نصفين. وكذلك إن ترك بنت أخيه لأمّه وابن أخته لها، كان المال بينهما نصفين. لأنّ كلّ واحد منهما يأخذ نصيب من يتقرّب به، ومن يتقرّبون به من الأخ والأخت متساويان في القسمة. وكذلك إن خلّف أخا وأختا أو ابن أخ أو ابن أخت مع جدّ وجدّة من قبلها، كان المال بينهما أثلاثا لمثل ما ذكرناه.

وعلى هذا الأصل يجري ميراث ولد الملاعنة، فينبغي أن

٦٨٠

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793