النهاية الجزء ١

النهاية7%

النهاية مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الجزء ١ المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 224702 / تحميل: 6302
الحجم الحجم الحجم
النهاية

النهاية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتاب العربي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

يكون من العسير تشخيصها ، إلّا المؤمنين المتوكّلين على الله والمشمولين برحمته وحمايته :( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (1) .

ولا بدّ من الانتباه إلى أنّ كلمة الشيطان تستبطن التمرّد والعناد والبعد عن كلّ خير وبركة. إلّا أنّ ذكر كلمة «مريد» (الفاقد لكلّ خير وسعادة) بعد كلمة الشيطان مباشرة ، هو تأكيد لتوضيح مصير من يتّبعه.

4 ـ تفسير عبارة( كُتِبَ عَلَيْهِ ) (2) .

واضح أنّ هذه العبارة تعني «الإلزام» ، سواء كانت في عالم الخلق أم في عالم التشريع. إلّا أنّه يجب أن لا نتصوّر أنّها تعني «الجبر» وأنّ الشياطين مجبورون على إضلال أتباعهم ليرسلوهم إلى دار البوار. بل إنّها نتيجة مؤكّدة لبرنامج اختاروه بمحض إرادتهم. فإبليس قائد الشياطين وكبيرهم خالف أمر الله وعنده بملء إرادته ، حتّى بلغت به الجرأة أن يعترض على ذات الله. فهو ضالّ ومضلّ وكذلك سائر الشياطين من الجنّ والإنس. وذلك كما نقول للمدمن على المخدرات : كتب على جبينه سوء الطالع والتعاسة ، فهل يعني ذلك جبرا؟!

* * *

__________________

(1) سورة الحجر ، 40.

(2) قال البعض : إنّ ضمير «عليه» يعود إلى الشيطان ، وقال آخرون : إنّه يعود إلى اتّباع الشيطان. كما يستنتج ذلك من عبارة «ومن الناس» أيضا ، إلّا أنّ ظاهره يؤكّد أنّه يعود إلى الشيطان ، لا سيّما وأنّ الضمير المتّصل بـ «من تولّاه» يعود إلى الشيطان أيضا.

٢٨١

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) )

التّفسير

دليل المعاد في عالم الأجنّة والنّبات :

بما أنّ البحث في الآيات السابقة كان يدور حول تشكيك المخالفين للمبدأ والمعاد ، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويّين لإثبات المعاد

٢٨٢

الجسماني : أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين ، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات.

والقرآن شرح صورا للمعاد ممّا يلمسه الناس في هذه الدنيا ، ويرونه بامّ أعينهم ، إلّا أنّهم لم ينتبهوا لذلك ، ليعلموا أنّ الحياة بعد الموت ليست ضربا من الخيال ، بل هي حادثة فعلا مشهودة للعيان ، والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) (1) كلّ ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأي عمل( لِنُبَيِّنَلَكُمْ ) .

فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها. ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل( وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ثمّ تبدأ الأجنّة مرحلة تطوّر جديدة. لنخرجكم أطفالا من أرحام أمّهاتكم.

( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون أمّهاتكم.

فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء ، وإمكانات واسعة جدّا ، إلّا أنّ تكاملكم يستمرّ في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف ، ألا وهو الرّشد والكمال الجسمي والعقلي.( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) .

وهنا يتبدّل الجهل إلى علم ، والضعف إلى قوّة ، والتبعيّة إلى الاستقلال ، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمرّ آخرون حتّى المرحلة الأخيرة من الحياة ، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم :( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) .

أجل ، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكّر فيها شيئا ، حيث يسيطر عليه النسيان ،

__________________

(1) «المضغة» مشتقة من «المضغ» وتعني مقدارا من اللحم يمكن للإنسان مضغه في لقمة واحدة. وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.

٢٨٣

ويصبح في وضع وكأنّه طفل( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة انتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج ممّا يدلّ على وصولها إلى مرحلة الانفصال.

وهذه التغيّرات المدهشة المتلاحقة التي تتحدّث عن قدرة الله تعالى غير المحدودة ، توضّح أنّ إحياء الموتى يسير على الله جلّت عظمته. وهناك بحوث تعرض لمراحل الحياة المختلفة هذه ، سنذكرها في الملاحظات القادمة.

ثمّ تتناول الآية بيان الدليل الثّاني أي حياة النباتات ، فتبيّن ما يلي : تنظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة ، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع ، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت( وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (1) .

الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصّلنا إليه ، وذلك باستعراض خمس

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ ما استعرضته الآيات الخاصّة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات ، من أجل أن تعلموا أنّ الله تعالى حقّ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ ) وبما أنّه هو الحقّ ، فالنظام الذي خلقه حقّ أيضا ، لهذا لا يمكن أن يكون

__________________

«الهامدة» تعني في الأصل النّار التي أطفئت ، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة «مفردات الراغب الاصفهاني» والبعض الآخر قال : إنّ كلمة «هامدة» تطلق على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال القرآن).

«اهتزّت» مشقّة من «الهزّ» وتعني تحرّكت بشدّة.

«ربت» مشقّة من «الربو». وتعني الزيادة والنمو ، كما أنّ كلمة «ربا» مشتقّة أيضا من «الربو».

«بهيج» تعني الجميل السّاحر السارّ.

٢٨٤

هذا الخلق دون هدف ، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنى في مورد آخر :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (1) .

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثا ، وأنّ لها هدفا ، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا ، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتما.

2 ـ إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا( وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) .

إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة ، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل ، ويمنح الحياة للأرض الميتة ، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى ، فهل يمكن التردّد في قبول فكرة المعاد مع وجود كلّ هذه التشكيلات الحيّة الدائمة للخالق جلّ وعلا في هذا العالم(2) ؟

3 ـ الهدف الآخر هو أن نعلم( وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ولا يستحيل على قدرته شيء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة؟ ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة؟ ويلبسها كلّ يوم لباسا جديدا من الحياة! ويجعل الأرض الجافّة العديمة الروح خضراء زاهية تعلوها بهجة الحياة؟! أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4 ـ إنّ كلّ هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر ، ستحلّ بلا شكّ فيها( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) .

5 ـ ثمّ إنّ كلّ هذا مقدّمة لنتيجة أخيرة هي( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

__________________

(1) سورة ص ، 27.

(2) يرى بعض المفسّرين في عبارة( أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) إشارة إلى حياة الناس في القيامة. مع أنّ هذا المعنى تضمّنته عبارة( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أيضا ، مع فارق هو أنّ العبارة الأولى إشارة إلى أصل الحياة ، والثّانية إشارة إلى كيفية إحياء الموتى.

إلّا أنّ التّفسير الآخر الذي استندنا إليه بصورة أكثر ، هو أنّ عبارة ( أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) إشارة إلى منح الله الحياة بشكل مستمر في هذه الدنيا ، ليكون دليلا على إمكان تحقّق ذلك يوم البعث.

٢٨٥

وهذه النتائج الخمس بعضها مقدّمة ، وبعضها ذو المقدّمة ، البعض منها إشارة إلى الإمكان ، والآخر إشارة إلى الوقوع ، ومترتّبة بعضها على بعض وكلّ يكمل صاحبه ، وجميعها ينتهي إلى نقطة واحدة ، هي أنّ البعث ليس ممكن فحسب ، بل إنّه سيقع حتما.

فالذين يشكّون في إمكان الحياة بعد الموت يشاهدون الصور المشابهة لها في حياة البشر والنباتات بامّ أعينهم. وهي تتكرّر كلّ يوم وكلّ عام.

وإذا شكّوا في قدرة الله فإنّ قدرة الله جعلتهم يشاهدون أمثلة بارزة لها بأعينهم. ألم يخلق الإنسان من تراب؟ ألا نشاهد كلّ عام احياء الأرض الميتة؟

فهل عجيب أمر حياة الأموات ثانية ونهوضهم من تراب؟

وإن شكّوا في وقوع مثل هذه الأمور ، فعليهم أن يعلموا أنّ النظام المسيطر على الخلق في العالم يدلّ على وجود هدف له ، وإلّا فإنّه باطل تافه ، والحياة القصيرة المملوءة بالآلام وخيبة الآمال غير جديرة بأن تكون هي الهدف الأخير لعالم الخلق.

وعلى هذا يجب أن يكون هناك عالم آخر ، وسيع ، خالد ، جدير بأن يعدّ هدفها للخلق.

* * *

بحوث

1 ـ مراحل حياة الإنسان السبع

الآيات السابقة شرحت حركة الإنسان في مسيرة ذات مراحل سبع ، لتبيّن البعث وتثبت إمكانه :

المرحلة الأولى : عند ما كان الإنسان ترابا ، وقد يراد به التراب الذي خلق منه آدمعليه‌السلام . كما قد يكون إشارة إلى أنّ جميع البشر ـ من تراب ، لأنّ جميع المواد

٢٨٦

الغذائية التي تكوّن النطفة وغذاءها ـ من بعد ـ من تراب. ولا شكّ في أنّ الماء يشكّل جزءا ملحوظا من جسم الإنسان ، والجزء الآخر من الأوكسجين والكاربون ، وليس من التراب ، إلّا أنّ العنصر الأساس الذي تتشكّل منه أعضاء الجسم مصدره التراب. إذن عبارة خلق الإنسان من تراب صحيحة حتما.

المرحلة الثّانية : (النطفة) : يتحوّل التراب ، هذا الموجود البسيط المهمل العديم الحسّ والحركة ، يتحوّل إلى نطفة تتألّف من أحياء مجهولة مثيرة تسمّى عند الرجل «أسپر» أو الحيمن وعند المرأة «أوول» أو البويضة وهي غاية في الصغر حتّى أنّها تبلغ الملايين في نطفة الرجل!

والمثير أنّ الإنسان يواصل عقب ولادته حركة تدريجيّة هادئة ، تأخذ في الغالب شكل «التكامل الكمّي» في الوقت الذي كانت حركته في الرحم «كيفيّة» ترافقها طفرات سريعة مغيّرة. والتغيّرات المتعاقبة للجنين في الرحم مدهشة إلى درجة يمكن تشبيهها بحشرة صغيرة بسيطة تتطوّر بعد أشهر قليلة إلى طائرة نفّاثة!

وقد تطوّرت وتوسّعت الدراسات عن «علم الأجنة» اليوم بحيث تمكّن علماؤه من دراسة الجنين في مراحله المختلفة ، وكشفوا عن أسرار هذه الظاهرة العجيبة في عالم الوجود. وعرضوا النتائج الباهرة التي توصّلوا إليها في دراساتهم عن الجنين.

وفي المرحلة الثّالثة يصبح الجنين علقة ، وتكون خلاياه كحبّات التوت ، بشكل قطعة دم خاثر متلاصقة ، يطلق عليها علميّا «مورولا». وبعد مضي مدّة قصيرة تظهر أخاديد التقسيم الصغيرة كبداية لتقسيم أجزاء الجنين ، ويطلق على الجنين في هذه المرحلة اسم «لاستولا».

وفي المرحلة الرّابعة يتّخذ الجنين شكل قطعة لحم ممضوغ ، دون أن تتّضح معالم الأعضاء فيه ، وفجأة تحدث تغييرات في قشرة «الجنين» وتتّخذ شكلا يلائم العمل المطلوب منه القيام به ، فتظهر أعضاء الجسم تدريجيّا ، ويسقط كلّ جنين

٢٨٧

لا يمكنه المرور بهذه المرحلة ، ويمكن أن تكون عبارة( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) إشارة إلى هذه المرحلة ، أي أنّ الجنين يكون «كامل الخلقة» أو «ناقص الخلقة».

ومن المثير أنّ القرآن المجيد ذكر عبارة( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) بعد ذكر هذه المراحل الأربع ، مؤكّدا أنّ هذه التغييرات السريعة المدهشة التي تغيّر قطرة ماء صغيرة إلى إنسان كامل ، لدليل واضح على أنّ الله قادر على كلّ شيء.

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى مرحلة الجنين الخامسة والسّادسة والسّابعة ، التي تلي الولادة أي «الطفولة» و «البلوغ» و «الشّيخوخة»(1) .

والجدير بالذكر أنّ ولادة الإنسان ـ من التراب ـ كائنا حيّا ، قفزة كبيرة ، ومراحل الجنين المختلفة قفزات متعاقبة ، وولادة الإنسان من بطن أمّه قفزة مهمّة جدّا ، وهكذا البلوغ والشيخوخة.

وتعبير القرآن عن يوم القيامة بالبعث ، قد يكون إشارة إلى مفهوم القفزة ذاتها التي تحدث يوم البعث أيضا. وما أجدرنا بالانتباه إلى أنّ القرآن تحدّث عن مراحل تكوّن الجنين قبل أن يظهر علم الأجنّة ، وحديثه عنها في ذلك الزمن دليل حيّ على أنّ هذا الكتاب العظيم إنّما هو وحي يوحى من قدرة قادرة هي التي أبدعت الطبيعة وما وراءها.

2 ـ المعاد الجسماني

ممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم أينما تحدث عن البعث قصد بعث الإنسان جسما وروحا في العالم الأخروي ، والذين حصروا البعث في الروح وقالوا ببقائها هي وحدها لم يفقهوا آيات القرآن قطّ.

__________________

(1) الذي يثير الانتباه أنّ تعبير القرآن( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) عن ولادة الإنسان لم يرد بصيغة الجمع (أطفال) وفقا للقاعدة ، إلّا أنّ هذا التعبير (طفلا) يمكن أن يكون مصدرا يتساوى فيه المفرد والجمع ، أو أن يكون الهدف بيان النوع. وليس خصائص الأطفال ، فالفروق بين البشر في هذه المرحلة مخفية تبرز في المراحل اللاحقة.

٢٨٨

فهذه الآيات المباركة كالآية السابقة تصرّح بالمعاد الجسماني. وإلّا فما هو وجه التشابه بين المعاد الروحي ، ومراحل الجنين وإحياء الأرض الموات بنمو النباتات؟ ويؤكّد ذلك ختام الآيات التي نحن بصددها إذ تقول :( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) والقبر موضع جسم الإنسان وليس روحه.

وأساسا فانّ تعجّب المشركين إنّما هو من البعث الجسماني ، فهم يقولون : كيف يمكن للإنسان أن يعود للحياة ثانية بعد ما صار ترابا؟ وبقاء الروح لم يكن شيئا عجبا ، لأنّه كان موضع قبول ورضى الأقوام الجاهلية.

3 ـ ما هو «أرذل العمر»؟

«الأرذل» مشتقّة من «رذل» أي المنحطّ وغير المرغوب فيه. ويقصد بـ «أرذل العمر» تلك المرحلة من عمر الإنسان التي هي أكثر انحطاطا وغير مرغوب فيها لما يفقده فيها الإنسان من القوّة والذاكرة ، ولما يغلبه فيها من الضعف والانفعال ، حتّى تراه يغتاظ من أدنى شيء ، ويرضى ويفرح لا يسر شيء ، ويفقد سعة صدره وصبره ، وربّما قام بحركات طفولية. مع فارق بينه وبين الطفل وهو أنّ الناس لا يتوقّعون منه ذلك ، لأنّه ليس طفلا ، مضافا إلى أنّ الطفل يؤمل في أن يكبر وينضج جسديّا ونفسيّا وتزول عنه هذه الحركات الصبيانية ، لهذا يتركوا أحرارا في ممارستها ، وليس كذلك في الفرد المسنّ ، أي أنّ الطفل ليس لديه شيء ليفقده ، ولكن المسنّ يفقد رأس مال حياته بذلك. وعلى هذا فإنّ وضع الشيوخ المعمّرين يثير الشفقة والأسى عند مقارنته بوضع الأطفال.

وجاء في بعض الأحاديث أنّ أرذل العمر هو الذي يبلغ مائة عام وأكثر(1) وقد تعني هذه العبارة نوع الأشخاص ، وإلّا فهناك من يبلغ هذه الحالة وسنّهم أقل من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، الصفحة 472.

٢٨٩

مائة عام. كما أنّ هناك أشخاصا تجاوزت أعمارهم مائة عام وهم بكامل وعيهم وذكائهم. وتندر مشاهدة من يصابون بهذه الحالة بين العلماء الذين شغلتهم المعارف والبحوث.

وما أولانا بدعاء الله تعالى أن يحفظنا من هذه الحالة! وما أجدرنا أن ننهي غرورنا وغفلتنا بمجرد الفكر بهذه العاقبة! علينا أن نفكّر ماذا كنّا وعلى ماذا أصبحنا وماذا سنكون؟

* * *

٢٩٠

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) )

التّفسير

الجدال بالباطل مرّة أخرى :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاويا لا أساس له ، في البداية يقول القرآن المجيد :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) .

وعبارة( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة ، وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأولى إشارة إلى مجموعة من الناس ، والثّانية إلى مجموعة أخرى. وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين ، في

٢٩١

وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(1) .

وعبارة( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) تبيّن هدف هذه المجموعة ، ألّا وهو تضليل الآخرين ، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما ، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة( يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.

ولكن ما الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ «العلم» إشارة إلى الاستدلال العقلي. و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الرّبانيين. و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماويّة ، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي». وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقا لدراسات العلماء ، وقد جمعت هذه الأدلّة الأربعة في هذه العبارة أيضا.

ويحتمل بعض المفسّرين أنّ «الهدى» إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي يكتسبها الإنسان في ظلّ بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه. «وبالطبع يمكن ضمّ هذا المعنى إلى ما تقدّم آنفا».

ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمرا إذا استند إلى أحد الأدلّة : العقل ، أو الكتاب ، أو السنّة.

ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة ، فيقول :( ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم اهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني» مشتقّة من «ثني» بمعنى التواء و «عطف» تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب ، أي الإعراض عن الشيء وعدم الاهتمام به.

__________________

(1) تفسير الميزان ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآيات موضع البحث.

٢٩٢

ويمكن أن تكون عبارة «ليضلّ» هدف هذا الإعراض ، أي إنّهم (قادة الضلال) يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس. ويمكن أن تكون نتيجة لذلك. أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الاهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة :( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

ونقول له :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ) و( أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) لا يعاقب الله أحدا بلا ذنب ، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب ، فهو العدل المطلق سبحانه(1) .

وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبريّة ، وتثبت مبدأ العدالة في أفعال الله تعالى. (للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل عمران).

* * *

__________________

(1) «ظلّام» صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ الله لا يظلم أبدا لا كثيرا ولا قليلا ، ويمكن أن يكون استخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل الله تعالى ـ جلّ عن ذلك وعلا علوّا كبيرا ـ مصداق ظلم كبير.

٢٩٣

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) )

التّفسير

الواقف على حافّة وادي الكفر

تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين : الأتباع الضالّين ، والقادة المضلّين.

أمّا هذه الآيات ، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان. قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ) أي إنّ بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان ، وإنّ إيمانه ضعيف جدّا. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.

٢٩٤

وعبارة «على حرف» ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط ، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصا من نوره إلّا قليلا ، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه ، فأحد معاني «الحرف» هو حافّة الجبل والأشياء الاخرى. والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا ، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة ، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.

ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص( فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ) (1) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام.

إلّا أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر ، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا ، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّا ، وإلّا فلا.

وذكر «ابن عبّاس» ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية : «أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا. وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته ، رضي به واطمأنّ إليه ، وإن أصابه وجع وولدت امرأته أنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان وقال له : ما جاءتك هذه الشور إلّا بسبب هذا الدين. فينقلب عن دينه»(2) .

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الامتحان) ولم يطلق عليها كلمة

__________________

(1) كلمة «انقلب» في جملة «انقلب على وجهه» تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماما ، حتّى إنّه لا يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوما.

(2) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرون ، ص 13 ، وتفسير القرطبي ، المجلّد السادس ، ص 4409.

٢٩٥

الشّر ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّا ولا سوءا وإنّما هي وسيلة للامتحان.

ويضيف القرآن المجيد في الختام ـ( خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ) و( ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) مؤكّدا أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران ، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة ، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع ، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام ، إلّا أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم ، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!

وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين ، لكن إذا اعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّة من الإيمان ، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية ، فعبارة «يعبد الله» و «اطمأنّ به» و «انقلب على وجهه» تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا.

أمّا إذا قصد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان ، فلا يعارض ما قلناه ، ويمكن قبوله.

وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك ، خاصة بعد الانحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله ، فتقول :( يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ) أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والابتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه ، وبطلانه في إدبارها عنه. فلما ذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير ، ولا يخاف منها ضرر.

فهي أشياء لا فائدة فيها ، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل( ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) . إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بعدا حتّى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلّا رجاء ضعيفا جدّا.

ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول :( يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ) .

لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا ، ويدفعهم

٢٩٦

نحو الخرافات والجهل ، ويدعهم في الآخرة في نار جهنّم ، بل هم كما تقول الآية 98 من سورة الأنبياء :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) .

وتضيف الآية في الختام( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) فما أسوأه ناصرا ومعينا ، وما أسوأه مؤنسا ومعاشرا.

وهنا يثار سؤال ، فالآية السابقة تنفي كلّ فائدة ونفع من هذه الأصنام وكلّ ضرر ، وهذه الآية تقول إنّ ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟

في الجواب عن ذلك نقول : إنّ ذلك أمر اعتيادي في المخاطبة ، ففي مرحلة لا يعتبرون لشيء فائدة وتأثير يذكر ثمّ يترقّى إلى الحال في مرحلة أخرى فيعدّونه مصدر الضرر. كأن نقول : لا تصادق فلانا ، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك.

وبعدها نتقدّم فنقول إنّما هو : (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وافتضاحك. وهنا تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين ، لأنّها غير قادرة على الإضرار بأعدائهم كما يتوقّعون منها ، ولكنّها تتضمّن ضررا حتميّا لأتباعها.

كما أنّ صيغة «أفعل التفضيل» في كلمة «أقرب» كما قلنا سابقا : تعني عدم اتّصاف طرفي المقارنة بصفة معينّة. وقد يكون الطرف الأضعف فاقدا لأيّة صفة ، كأن نقول : ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنّم (وليس معنى ذلك أنّ نار جهنّم فيها خير ، إلّا أنّ الصبر أفضل منها ،).

وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان».

واحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأنّ كلّ واحدة من هاتين الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام ، فالآية الأولى تخصّ الأصنام الحجرية والخشبية ، وأمّا الآية الثّانية فتخصّ الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام.

فالمجموعة الأولى لا تضرّ ولا تنفع ، بل هي بالتأكيد خالية من أيّة صفة. أمّا المجموعة الثّانية «أئمّة الضلال» فإنّهم يضرّون ولا ينفعون. وإذا كان فيهم خير

٢٩٧

قليل فضرّهم كبير جدّا ، وعبارة( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) تؤكّد ذلك ، وعليه فلا تناقض بين الآيتين(1) .

وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر ، فتقول الآية :( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) . فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكير هم وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى ، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة ، وأنّ الله سبحانه يثيب المؤمنين العاملين للصالحات ، جنّات تجري من تحتها الأنهار ، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء استقامتهم على الحقّ واستجابتهم له في الحياة الدنيا( إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) .

وثوابهم يسير عليه ـ جلّ وعلا ـ يسر عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحقّ ، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.

وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلّا بلسانهم ، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة ، وليس لهم عمل صالح ، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة ومن جهة أخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير. ولئن خسر الظالمون كلّ شيء ، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.

* * *

__________________

(1) بعض المفسّرين الأفاضل كمفسّر الميزان فسّر عبارة «يدعو» بمعنى «يقول» إلّا أنّ ذلك لا يطابق ظاهر الآية.

٢٩٨

الآيات

( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) )

سبب النّزول

روى بعض المفسّرين حول سبب نزول الآية الأولى من هذه الآيات ، أنّها نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أنّ الله لا ينصر محمّدا ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا. فحذّرتهم هذه الآية ووبّختهم بشدّة.

وقال آخرون : إنّها نزلت في قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين ، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر ، فنزلت هذه الآية(1) تلومهم

__________________

(1) أبو الفتوح الرازي ، وكذلك الفخر الرازي في تفسير هما الآيات موضع البحث.

٢٩٩

على عدم صبرهم.

التّفسير

البعث نهاية جميع الخلافات :

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن ضعفاء الإيمان ، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة أخرى عن هؤلاء فتقول :( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ ) .

أي من يظنّ أنّ الله لا ينصر نبيّه في الدنيا والآخرة ، وهو غارق في غضبه ، فليعمل ما يشاء ، وليشدّ هذا الشخص حبلا من سقف منزله ويعلّق نفسه حتّى ينقطع نفسه ويبلغ حافّة الموت ، فهل ينتهي غضبه؟!

لقد اختار هذا التّفسير عدد كبير من المفسّرين ، أو ذكروه كاحتمال يستحقّ الاهتمام به(1) .

الضمير في قوله سبحانه :( لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ) بحسب هذا التّفسير يعود إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «السّماء» تعني سقف المنزل (لأنّ كلّ شيء فوقنا يطلق عليه سماء). أمّا عبارة «ليقطع» فتعني قطع النفس والوصول إلى حافّة الموت.

واحتمل البعض احتمالات أخرى في تفسير هذه الآية لا حاجة لذكرها ، ما عدا تفسيرين منها يستحقّان الاهتمام ، وهما :

1 ـ إنّ السّماء يقصد بها السّماء الحقيقيّة ، وبناء على هذا الرأي : فإنّ الأشخاص الذين يظنّون أنّ الله لا ينصر نبيّه ، ليذهبوا إلى السّماء وليشدّوا بها حبلا ويعلّقوا أنفسهم بينها وبين الأرض حتّى تنقطع أنفسهم. (أو يقطعوا الحبل الذي تعلّقوا به كي يسقطوا) ولينظروا إلى أنفسهم هل انتهى غضبهم؟!

__________________

(1) تراجع تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «الميزان» و «الفخر الرازي» و «أبو الفتوح الرازي» و «تفسير الصافي» و «القرطبي» في تفسير الآية التي يدور حولها البحث.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

واللّصّ أيضا محارب. فإذا دخل اللّصّ على إنسان، جاز له أن يقاتله ويدفعه عن نفسه. فإن أدّى ذلك إلى قتل اللّصّ، لم يكن على قاتله شي‌ء من قود ولا دية، وكان دمه هدرا.

وإذا قطع جماعة الطّريق، فأقرّوا بذلك، كان حكمهم ما قد ذكرناه. فإن لم يقرّوا، وقامت عليهم بذلك بيّنة، كان الحكم أيضا مثل ذلك سواء. فإن شهد اللّصوص بعضهم على بعض، لم تقبل شهادتهم. وكذلك إن شهد الّذين أخذت أموالهم بعضهم لبعض، لم تقبل شهادتهم. وإنّما تقبل شهادة غيرهم لهم.

والمصلوب لا يترك على خشبته أكثر من ثلاثة أيّام، ثمَّ ينزل بعد ذلك، ويصلى عليه، ويدفن.

والخنّاق يجب عليه القتل، ويسترجع منه ما أخذ، فيردّ على صاحبه. فإن لم يوجد بعينه أغرم قيمته أو أرش ما لعلّه نقص من ثمنه إلّا أن يعفو صاحبه عنه.

ومن بنّج غيره، أو أسكره بشي‌ء احتال عليه في شربه أو أكله، ثمَّ أخذ ماله، عوقب على فعله ذلك بما يراه الإمام، واسترجع عنه ما أخذ. فإن جنى البنج أو الإسكار عليه جناية، كان المبنّج ضامنا لما جناه.

والمحتال على أموال النّاس بالمكر والخديعة وتزوير الكتب والشّهادات الزّور والرّسالات الكاذبة وغير ذلك، يجب عليه

٧٢١

التّأديب والعقاب، وأن يغرّم ما أخذ بذلك على الكمال، وينبغي للسّلطان أن يشهّره بالعقوبة لكي يرتدع غيره عن فعل مثله في مستقبل الأوقات.

والمختلس هو الّذي يستلب الشي‌ء ظاهرا من الطّرقات والشّوارع، ولا يجب عليه قطع، بل يجب عليه عقاب مردع حسب ما يراه الإمام أو من نصبه.

ومن سرق حرّا فباعه، وجب عليه القطع، لأنّه من المفسدين في الأرض.

ومن نبش قبرا، وسلب الميّت كفنه، وجب عليه القطع كما يجب على السّارق سواء. فإن نبش، ولم يأخذ شيئا، أدّب بغليظ العقوبة، ولم يكن عليه قطع على حال. فإن تكرّر منه الفعل وفات الإمام تأديبه، كان له قتله، كي يرتدع غيره عن إيقاع مثله في مستقبل الأوقات.

باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير

إذا قال الرّجل أو المرأة، كافرين كانا أو مسلمين، حرّين أو عبدين، بعد أن يكونا بالغين، لغيره من المسلمين البالغين الأحرار: « يا زاني » أو « يا لائط » أو « يا منكوحا في دبره » أو « قد زنيت » أو « لطت » أو « نكحت »، أو ما معناه معنى هذا الكلام، بأي لغة كانت، بعد أن يكون عارفا بها

٧٢٢

وبموضوعها وبفائدة اللّفظة، وجب عليه الحدّ ثمانون جلدة، وهو حدّ القاذف.

فإن قال له شيئا من ذلك، وكان غير بالغ، أو المقول له كان غير بالغ، لم يكن عليه حدّ، وكان عليه التّعزير.

فإن قال له شيئا من ذلك، وهو لا يعلم فائدة تلك اللّغة ولا موضوع اللّفظة، لم يكن عليه شي‌ء.

وكذلك إذا قال لامرأة: « أنت زانية » أو « قد زنيت » أو « يا زانية »، كان عليه أيضا مثل ذلك، لا يختلف الحكم فيه.

فإن قال لكافر أو كافرة أو أمة شيئا من ذلك، لم يكن عليه الحدّ، ويعزّر، لئلّا يؤذي أهل الذّمّة والمماليك.

وإذا قال لغيره: « يا بن الزانية » أو « يا بن الزّاني » أو « قد زنت بك أمّك » أو « ولدت من الزّنا »، وجب أيضا عليه الحدّ، وكان المطالبة في ذلك إلى أمّه. فإن عفت عنه، جاز عفوها، ولا يجوز عفو غيرها مع كونها حيّة. فإن كانت ميّتة، ولم يكن لها ولي غير المقذوف، كان إليه المطالبة والعفو. فان كان لها وليّان أو أكثر من ذلك، وعفا بعضهم أو أكثرهم، كان لمن بقي منهم المطالبة بإقامة الحدّ عليه على الكمال. ومن كان له العفو فعفا في شي‌ء من الحدود، لم يكن له بعد ذلك المطالبة ولا الرّجوع فيه.

فإن قال له: « يا بن الزّاني » أو « زنا بك أبوك » أو « لاط »

٧٢٣

كان عليه الحدّ لأبيه. فإن كان حيّا كان له المطالبة والعفو. وإن كان ميّتا، كان لأوليائه ذلك حسب ما ذكرناه في الأمّ سواء. فإن قال له: « يا بن الزّانيين » أو « أبواك زانيان » أو « زنى بك أبواك »، كان عليه حدّان: حدّ للأب وحدّ للأمّ. فإن كانا حيّين، كان لهما المطالبة والعفو. وإن كانا ميّتين، كان لأوليائهما ذلك حسب ما قدّمناه.

وإن قال له: « أختك زانية » أو « أخوك زان »، كان عليه الحدّ لأخيه أو أخته، إذا كانا حيّين. فإن كانا ميّتين، كان لأوليائهما ذلك على ما رتّبناه.

وحكم العمّ والعمّة والخال والخالة وسائر ذوي الأرحام، حكم الأخ والأخت في أنّ الأولى بهم يقوم بمطالبة الحدّ، ويكون له العفو على ما بيّنّاه.

فإن قال: « ابنك زان أو لائط » أو « بنتك زانية » أو « قد زنت »، كان عليه الحدّ، وللمقذوف المطالبة بإقامة الحدّ عليه، سواء كان ابنه أو بنته حيّين أو ميّتين، وكان إليه أيضا العفو، إلّا أن يسبقه الابن أو البنت إلى العفو. فإن سبقا إلى ذلك، كان عفوهما جائزا.

فإن قال لغيره: « يا زاني »، فأقيم عليه الحدّ، ثمَّ قال له ثانيا: « يا زاني »، كان عليه حدّان. فإن قال له: « إنّ الّذي قلته لك، كان صحيحا »، لم يكن عليه حدّ، وكان عليه

٧٢٤

التّعزير، وإن قال له: « يا زاني » دفعة بعد أخرى مرّات كثيرة ولم يقم عليه فيما بينها الحدّ لشي‌ء من ذلك، لم يكن عليه أكثر من حدّ واحد.

ومن أقيم عليه الحدّ في القذف ثلاث دفعات، قتل في الرّابعة.

وإذا قال لجماعة رجال ونساء، أو رجال أو نساء: « هؤلاء زناة » أو « قد زنوا » أو « يا زناة »، فإن جاؤا به مجتمعين، كان عليه حدّ واحد، وإن جاؤا به متفرّقين كان عليه لكلّ واحد منهم حد.

ومن قال لغيره من الكفّار أو المماليك: « يا بن الزّاني » أو « يا بن الزّانية »، وكان أبواه مسلمين أو حرّين، كان عليه الحدّ كاملا، لأنّ الحدّ لمن لو واجهه بالقذف، لكان له الحدّ تامّا.

وكذلك إن قال لمسلم: « أمّك زانية » أو « يا بن الزّانية »، وكانت أمّه كافرة أو أمة، كان عليه الحدّ تامّا لحرمة ولدها المسلم الحرّ.

وإذا تقاذف أهل الذّمّة أو العبيد أو الصّبيان بعضهم في بعض، لم يكن عليهم حدّ، وكان عليهم التّعزير.

وإذا قال لغيره: « قد زنيت بفلانة »، وكانت المرأة ممّن يجب لها الحدّ كاملا، وجب عليه حدّان، حدّ للرّجل

٧٢٥

وحدّ للمرأة. وكذلك إن قال: « لطت بفلان »، كان عليه حدّان: حدّ للمواجه، وحدّ لمن نسبه إليه. فإن كانت المرأة أو الرّجل غير بالغين، أو مع كونهما بالغين لم يكونا حرّين أو لم يكونا مسلمين، كان عليه الحدّ تامّا لقذفه إيّاه، ويجب مع ذلك عليه التّعزير لنسبته له إلى هؤلاء.

وإذا قال له: « زنت زوجتك » أو « يا زوج الزّانية »، وجب عليه الحدّ لزوجته، وكان إليها المطالبة والعفو. فإن كانت ميّتة، كان ذلك لأوليائها.

ولا يرث الزّوج من الحدّ شيئا.

ومن قال لولد الملاعنة: « يا بن الزّانية » أو « زنت بك أمّك » كان عليه الحدّ لأمّه تامّا.

فإن قال لولد الزّنا الّذي أقيم على أمّه الحدّ بالزّنا: « يا ولد الزّنا » أو « زنت بك أمّك »، لم يكن عليه الحدّ تامّا، وكان عليه التّعزير. فإن قال له: « يا بن الزّانية »، وكانت أمّه قد تابت، وأظهرت التّوبة، كان عليه الحدّ تامّا.

ويثبت الحدّ بالقذف. بشهادة شاهدين عدلين مسلمين، أو إقرار القاذف على نفسه مرّتين بأنّه قد قذف. فإذا ثبت ذلك، أقيم عليه الحدّ. ولا يكون الحدّ فيه، كما هو في شرب الخمر والزّنا في الشدة، بل يكون دون ذلك.

ويجلد القاذف من فوق الثّياب، ولا يجرّد على حال.

٧٢٦

وليس للإمام أن يعفو عن القاذف على حال، بل ذلك إلى المقذوف على ما بيّنّاه، سواء كان أقرّ على نفسه أو قد قامت به عليه بيّنة، أو تاب القاذف أو لم يتب. فإنّ العفو في جميع هذه الأحوال إلى المقذوف.

ومن قذف محصنا أو محصنة، لم تقبل شهادته بعد ذلك، إلّا أن يتوب ويرجع. وحدّ التّوبة والرّجوع عمّا قذف هو أن يكذّب نفسه في ملأ من النّاس في المكان الّذي قذف فيه فيما قاله. فإن لم يفعل ذلك، لم يجز قبول شهادته بعد ذلك.

ومن قذف مكاتبا، ضرب بحساب ما عتق منه حدّ الحرّ، ويعزّر بالباقي الّذي كان رقّا.

وإذا قال الرّجل لامرأة: « يا زانية، أنا زنيت بك »، كان عليه حدّ القاذف لقذفه إيّاها، ولم يكن عليه لإضافته الزّنا إلى نفسه شي‌ء، إلّا أن يقرّ أربع مرّات. فإن أقرّ أربع مرّات، كان عليه حدّ الزّنا مع ذلك على ما بيّنّاه.

وإذا قال الرّجل لولده: « يا زاني » أو « قد زنيت »، لم يكن عليه حدّ. فإن قال له: « يا بن الزّانية »، ولم ينتف منه، كان عليه الحدّ لزوجته أمّ المقذوف، إن كانت حيّة. فإن كانت ميّتة، وكان وليّها أولاده، لم يكن لهم المطالبة بالحدّ. فإن كان لها أولاد من غيره أو قرابة، كان لهم المطالبة بالحد.

٧٢٧

فإن انتفى من ولده كان عليه أن يلاعن أمّه على ما بيّنّاه في باب اللّعان. فإن انتفى منه بعد أن كان أقرّ به، وجب عليه الحدّ. وكذلك إن قذفها بعد انقضاء اللّعان، كان عليه الحدّ. وإذا تقاذف نفسان بما يجب فيه الحدّ، سقط عنهما الحدّ، وكان عليهما جميعا التّعزير لئلّا يعودا إلى مثل ذلك.

وإذا قال الإنسان لغيره: « يا قرنان » أو « يا كشحان » أو « يا ديّوث » وكان متكلّما باللّغة الّتي يفيد فيها هذه اللّفظة، وهو رمي الرّجل بزوجة أو أخت، وكان عالما بمعنى اللّفظة عارفا بها، كان عليه الحدّ، كما لو صرّح بالقذف بالزّنا على ما بيّنّاه. فإن لم يكن عارفا بمعنى اللّفظة، لم يكن عليه حدّ القاذف، ثمَّ ينظر في عادته في استعماله هذه اللفظة. فإن كان قبيحا غير أنّه لا يفيد القذف، أدّب وعزّر. وإن كان يفيد غير ذلك في عادته، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن قال لغيره: « يا فاسق » أو « يا خائن » أو « يا شارب خمر »، وهو على ظاهر العدالة، لم يكن عليه حدّ القاذف، وكان عليه التّأديب.

وإذا قال له: « أنت ولد حرام »، أو « حملت بك أمّك في حيضها »، لم يكن عليه حدّ الفرية، وكان عليه التّعزير.

وإذا قال للمسلم: « أنت خسيس » أو « وضيع » أو « رقيع » أو « خنزير » أو « كلب » أو « مسخ » وما أشبه ذلك، كان عليه

٧٢٨

التّعزير. فإن كان المقول له كافرا مستحقّا للاستخفاف والإهانة لم يكن عليه شي‌ء.

ومن قال لغيره: « يا كافر » وهو على ظاهر الإسلام، ضرب ضربا وجيعا. فإن كان المقول له جاحدا لفريضة عامّة معلومة في شريعة الإسلام، لم يكن عليه شي‌ء، بل أجر في ذلك.

وإذا واجه الإنسان غيره بكلام يحتمل السّبّ. ويحتمل غير ذلك، عزّر وأدّب، لئلّا يعرّض بأهل الإيمان.

ومن عيّر إنسانا بشي‌ء من بلاء الله تعالى، مثل الجنون والجذام والبرص والعمى والعور وما أشبه ذلك، أو أظهر عنه ما هو مستور من بلاء الله تعالى، كان عليه بذلك التّأديب، إلّا أن يكون المعيّر به ضالّا كافرا.

وكلّ كلام يؤذي المسلمين، فإنّه يجب على قائله به التّعزير. وقد روي أنّ أمير المؤمنين،عليه‌السلام ، عزّر إنسانا كان قد قال لغيره: « أنا احتلمت بأمّك البارحة ». وإنّما فعل،عليه‌السلام ، ذلك، لما فيه من أذاه له، ومواجهته إيّاه بما يؤلمه، لئلّا يعود اليه فيما بعد، لا أنّ ذلك قول قبيح يوجب الحدّ أو التّعزير.

ومن نبز مسلما أو اغتابه، وقامت عليه بذلك البيّنة، أدّب.

وشاهدا الزّور يجب أن يؤدّبا ويشهّرا في قبيلتهما أو قومهما،

٧٢٩

ويغرّما بما شهدا به، إن كانا قد أتلفا بشهادتهما شيئا على ما بيّنّاه في كتاب ( تهذيب الأحكام ) لئلّا يعودا إلى مثل ذلك، ويرتدع به غيرهما.

وإذا قال الرّجل لامرأته بعد ما دخل بها: « لم أجدك عذراء »، كان عليه بذلك التّعزير.

ومن هجا غيره من أهل الإسلام، كان عليه بذلك التّأديب. فأن هجا أهل الضّلال، لم يكن عليه شي‌ء على حال.

ومن سبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو واحدا من الأئمّةعليهم‌السلام ، صار دمه هدرا، وحلّ لمن سمع ذلك منه قتله، ما لم يخف في قتله على نفسه أو على غيره. فإن خاف على نفسه أو على بعض المؤمنين ضررا في الحال أو المستقبل، فلا يتعرّض له على حال.

ومن ادّعى أنّه نبيّ، حلّ دمه ووجب قتله.

ومن قال لا أدري: النّبيّ،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صادق أو كاذب، وأنا شاكّ في ذلك، وجب قتله على كل حال، إلّا أن يقرّ به.

ومن أفطر في شهر رمضان يوما متعمّدا، وجب عليه التّعزير والعقوبة المردعة. فإن أفطر ثلاثة أيام، سئل: « هل عليك في ذلك شي‌ء أم لا؟ »، فإن قال: لا، وجب قتله، وإن قال

٧٣٠

نعم، زيد في عقوبته بما يرتدع معه عن مثله. فإن لم يرتدع وجب قتله.

والمرتدّ عن الإسلام على ضربين:

مرتدّ كان ولد على فطرة الإسلام، فهذا يجب قتله على كلّ حال من غير أن يستتاب.

ومرتدّ كان أسلم عن كفر، ثمَّ ارتدّ، وجب أن يستتاب. فإن تاب، وإلّا ضربت عنقه.

والمرتدّة عن الإسلام لا يجب عليها القتل، بل ينبغي أن تحبس أبدا، ويضيّق عليها في المأكول والمشروب والملبوس، وتضرب في أوقات الصّلوات.

ومن تزوّج بأمة على حرّة من غير إذنها، فرّق بينهما، وكان عليه اثنا عشر سوطا ونصف ثمن حدّ الزّاني.

ومن أتى امرأته، وهي حائض، كان عليه خمسة وعشرون سوطا.

ومن وطئ امرأته في شهر رمضان نهارا متعمّدا، كان عليه خمسة وعشرون سوطا، وعلى المرأة أيضا مثل ذلك، إن طاوعته على ذلك. فإن كان أكرهها، كان عليه خمسون جلدة، وعليه كفّارة واحدة، وعليها أيضا مثل ذلك، إن كانت مختارة. فإن كانت مكرهة، كان على الرّجل كفّارتان.

ومن قامت عليه البيّنة بالسّحر، وكان مسلما، وجب عليه

٧٣١

القتل. فإن كان كافرا، لم يكن عليه إلّا التّأديب والعقوبة، لأنّ ما هو عليه من الكفر أعظم من السّحر.

والّذي يضرب الحدود، إذا زاد على المقدار الّذي وجب على المضروب، وجب أن يستفاد منه.

والصّبيّ والمملوك إذا أخطئا، أدّبا بخمس ضربات إلى ستّ، ولا يزاد على ذلك. فإن ضرب إنسان عبده بما هو حدّ، كان عليه أن يعتقه كفّارة لفعله.

ويقيم الحدود من إليه الأحكام.

٧٣٢

كتاب الديات

باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية

القتل على ثلاثة أضرب: عمد محض، وخطأ محض، وخطأ شبيه العمد.

فالعمد المحض هو كلّ من قتل غيره، وكان بالغا كامل العقل، بأيّ شي‌ء كان: بحديد أو خشب أو حجر أو مدر أو سمّ أو خنق وما أشبه ذلك، إذا كان قاصدا بذلك القتل، أو يكون فعله ممّا قد جرت العادة بحصول الموت عنده، حرّا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، ذكرا كان أو أنثى. ويجب فيه القود والدّية على ما نبيّنه فيما بعد. ومتى كان القاتل غير بالغ، وحدّه عشر سنين فصاعدا، ويكون مع بلوغه زائل العقل، إمّا أن يكون مجنونا أو مؤوفا، فإنّ قتلهما وإن كان عمدا، فحكمه حكم الخطأ.

والخطأ المحض هو أن يرمي الإنسان شيئا كائنا ما كان، فيصيب غيره، فيقتله، فإنّه يحكم له بالخطإ، ويجب فيه ما يجب فيه من الدّية، ولا قود فيه على حال.

٧٣٣

والخطأ شبيه العمد هو أن يقصد الإنسان إلى تأديب ولده أو غلامه أو من له تأديبه، بما لم تجر العادة أن يموت الإنسان بمثله، فيموت، أو يعالج الطبيب غيره، بما قد جرت العادة بحصول النفع عنده، أو يفصده، فيؤدي ذلك إلى الموت. فإن جميع ذلك يحكم فيه بالخطإ شبيه العمد، ويلزم فيه الدّية مغلّظة، ولا قود فيه أيضا على حال.

وقاتل العمد إذا كان ظالما متعدّيا، يجب عليه القود. ولا يجوز أن يستفاد منه إلا بالحديد، وإن كان هو قد قتل صاحبه بغير الحديد من الضّرب أو الرّمي وما أشبه ذلك. ولا يمكن أيضا من التّمثيل به ولا تعذيبه ولا تقطيع أعضائه، وإن كان هو فعل ذلك بصاحبه، بل يؤمر بضرب رقبته، وليس له أكثر من ذلك.

وليس في قتل العمد الدّية، إلا أن يبذل القاتل من نفسه الدّية، ويختار ذلك أولياء المقتول. فإن لم يبذل القاتل الدّية من نفسه، لم يكن لأولياء المقتول المطالبة بها، وليس لهم إلا نفسه. ومتى بذل الدّية، ولم يأخذها أولياء المقتول، وطلبوا القود، كان لهم أيضا ذلك. فإن فادى القاتل نفسه بمال جزيل أضعاف أضعاف الدّية الواجبة، ورضي به أولياء المقتول، كان ذلك أيضا جائزا.

فإن اختلف أولياء المقتول، فبعض يطلب القود وبعض

٧٣٤

يطلب الدّية، كان للّذي طلب القود أن يقتل القاتل، إذا ردّ على الّذي طلب الدّية ماله منها من ماله خاصة، ثمَّ يقتل القاتل. وكذلك إن اختلفوا، فبعض عفا عن القاتل، وبعض طلب القود أو الدّية، فإنّ الّذي طلب القود يجب عليه أن يردّ على أولياء القاتل سهم من عفا عنه ثمَّ يقتله. وان طلب الدّية، وجب على القاتل أن يعطيه مقدار ما يصيبه من الدّية.

وأولياء المقتول هم الّذين يرثون ديته سوى الزّوج والزّوجة وقد ذكرناهم في باب المواريث، ويكون للجميع المطالبة بالقود، ولهم المطالبة بالدّية، ولهم العفو على الاجتماع والانفراد، ذكرا كان أو أنثى على التّرتيب الّذي رتّبناه. وإذا مات وليّ الدّم، قام ولده مقامه في المطالبة بالدّم.

والزّوج والزّوجة ليس لهما غير سهمهما من الدّية، إن قبلها أولياء المقتول، أو العفو عنه بمقدار ما يصيبهما من الميراث، وليس لهما المطالبة بالقود.

ومن ليس له من الدّية شي‌ء من الإخوة والأخوات من الأمّ، ومن يتقرّب من جهتها، فليس لهم المطالبة بالدّم ولا الدّية.

وإذا كان للمقتول أولياء صغار وأولياء كبار، فاختار الكبار الدّية، كان لهم حظّهم منها. فإذا بلغ الصّغار، كان لهم مطالبة القاتل أيضا بقسطهم من الدّية، أو المطالبة له بالقود بعد أن يردّوا عليه ما أعطي الأولياء الكبار من الدّية، ولهم

٧٣٥

أيضا العفو عنه على كلّ حال.

ودية العمد ألف دينار جيادا إن كان القاتل من أصحاب الذّهب، أو عشرة آلاف درهم إن كان من أصحاب الورق جيادا، أو مائة من مسانّ الإبل إن كان من أصحاب الإبل، أو مائتا بقرة مسنّة إن كان من أصحاب البقر، أو ألف شاة.

وقد روي: ألف كبش إن كان من أصحاب الغنم، أو مائتا حلّة إن كان من أصحاب الحلل.

ويلزم دية العمد في مال القاتل خاصّة، ولا تؤخذ من غيره إلّا أن يتبرع إنسان بها عنه. فإن لم يكن له مال، فليس لأولياء المقتول إلا نفسه: فإما أن يقيدوه بصاحبهم، أو يعفوا عنه، أو يمهلوه إلى أن يوسّع الله عليه.

ومتى هرب القاتل عمدا، ولم يقدر عليه إلى أن مات، أخذت الدّية من ماله. فإن لم يكن له مال، أخذت من الأقرب فالأقرب من أوليائه الّذين يرثون ديته، ولا يجوز مؤاخذتهم بها مع وجود القاتل.

ويجب على قاتل العمد أن يتوب إلى الله تعالى ممّا فعله. وحدّ التّوبة أن يسلّم نفسه إلى أولياء المقتول. فإمّا أن يستقيدوا منه، أو يعفوا، أو يقبلوا الدّية، أو يصالحهم على شي‌ء يرضون به عنه، ثمَّ يعزم بعد ذلك على ألّا يعود إلى مثل ما فعل في المستقبل، ويعتق بعد ذلك رقبة، ويصوم شهرين

٧٣٦

متتابعين، ويطعم ستّين مسكينا، فإذا فعل ذلك، كان تائبا.

وأمّا دية قتل الخطإ، فإنّها تلزم العاقلة الّذين يرثون دية القاتل إن لو قتل، ولا يلزم من لا يرث من ديته شيئا على حال.

وقال بعض أصحابنا: « أن العاقلة يرجع بها على القاتل إن كان له مال. فإن لم يكن له مال، فلا شي‌ء للعاقلة عليه ».

ومتى كان للقاتل مال، ولم يكن للعاقلة شي‌ء، ألزم في ماله خاصّة الدّية.

ومتى لم يكن للقاتل خطأ عاقلة ولا من يضمن جريرته من مولى نعمة أو مولى تضمن جريرة، ولا له مال، وجبت الدّية على بيت مال المسلمين.

ولا يلزم العاقلة من دية الخطإ إلّا ما قامت به البيّنة. فأمّا ما يقرّ به القاتل، أو يصالح عليه، فليس عليهم منه شي‌ء، ويلزم القاتل ذلك في ماله خاصّة.

وحكم الجراح وكسر الأعضاء مثل قتل النّفس، سواء في أنّ ما كان منه عمدا، كان فيه إمّا القصاص أو الدّية في مال الجارح خاصّة. وما كان منه خطأ، فإنّه يكون على العاقلة، غير أنّه لا يحمل في الجراح على العاقلة، إلا الموضحة فصاعدا. فأمّا ما كان دون ذلك، فإنّه على الجارح نفسه. وما كان منه شبيه العمد، فيلزم من يلزمه دية القتل شبيه العمد على ما نبيّنه فيما بعد إن شاء الله.

٧٣٧

والدّية في قتل الخطإ مائة من الإبل: عشرون منها بنت مخاض وعشرون منها ابن لبون ذكر، وثلاثون منها بنت لبون وثلاثون منها حقّة.

وقد روي: « أنّ خمسا وعشرين منها بنت مخاض، وخمسا وعشرين منها بنت لبون، وخمسا وعشرين منها حقّة، وخمسا وعشرين منها جذعة ». أو ألف من الشّاة أو مائتان من البقر أو ألف دينار أو عشرة آلاف درهم أو مائتا حلّة كما ذكرناه في قتل العمد سواء.

وتستأدى دية العمد في سنة واحدة، ودية الخطإ في ثلاث سنين. وأمّا دية قتل الخطإ شبيه العمد، فإنّها تلزم القاتل نفسه في ماله خاصّة. فإن لم يكن له مال، استسعي فيها، أو يكون في ذمّته الى أن يوسّع الله عليه.

فإن مات أو هرب، أخذ أولى النّاس اليه بها ممّن يرث ديته. فإن لم يكن له أحد، أخذت من بيت المال.

والدّية في ذلك مغلّظة مائة من الإبل: ثلاث وثلاثون منها بنت لبون، وثلاث وثلاثون منها حقّه، واربع وثلاثون منها خلفة، كلّها طروقة الفحل.

وقد روي: « أنّها تكون أثلاثا: ثلاثون منها بنت مخاض، وثلاثون منها بنت لبون، وأربعون خلفة، كلّها طروقة الفحل » أو مائتان من البقر كذلك أثلاثا، أو ألف شاة مثل ذلك، أو ألف

٧٣٨

دينار، أو عشرة آلاف درهم، أو مائتا حلّة، لا يختلف الحكم فيه.

وقال بعض أصحابنا: إن هذه الدّية تستأدى في سنتين.

وعلى قاتل الخطإ المحض والخطإ شبيه العمد بعد إعطائه الدّية كفارة عتق رقبة مؤمنة. فإن لم يجد، كان عليه صيام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع، أطعم ستّين مسكينا. فإن لم يقدر على ذلك أيضا، تصدّق بما استطاع، أو صام ما قدر عليه.

ومن قتل عمدا، وليس له ولي، كان الإمام وليّ دمه: إن شاء، قتل قاتله، وإن شاء، أخذ الدّية، فتركها في بيت المال. وليس له أن يعفو، لأنّ ديته لبيت المال، كما أنّ جنايته على بيت المال.

ومن قتل خطأ أو شبيه عمد، ولم يكن له أحد، كان للإمام أخذ ديته، وليس له أكثر من ذلك.

ومن عفا عن الدّم، فليس له بعد ذلك المطالبة به. فإن قتل بعد ذلك القاتل، كان ظالما متعدّيا. ومن قبل الدّية، ثمَّ قتل القاتل، كان كذلك، وكان عليه القود.

وإذا قتل الأب ولده خطأ، كانت ديته على عاقلته، يأخذها منهم الورثة دون الأب القاتل، لأنّا قد بيّنّا: أن القاتل إن كان عمدا، فإنّه لا يرث من التّركة شيئا، وإن كان خطأ، فإنّه لا يرث من الدّية شيئا على ما بيّنّاه. ومتى لم يكن له وارث غير الأب، فلا دية له على العاقلة على حال.

٧٣٩

وإن قتله عمدا أو شبيه عمد، كانت الدّية عليه في ماله خاصّة، ولا يقتل به على وجه، وتكون الدّية لورثته خاصّة.

فإن لم يكن له وارث غير الأب القاتل كانت الدّية عليه لبيت المال.

وإذا قتل الابن أباه عمدا، قتل به. وإن قتله خطأ، كانت الدّية على عاقلته، ولم يكن له منها شي‌ء على ما بيّنّاه.

وإذا قتل الولد أمّه، أو قتلت الأمّ ولدها عمدا، قتل كلّ واحد منهما بصاحبه. وإن قتلها خطأ، كانت الدّية على عاقلته على ما بيّنّاه. ولا يرث شيئا من الدية على ما بيّنّا القول فيه وشرحناه.

باب البينات على القتل وعلى قطع الأعضاء

الحكم في القتل يثبت بشيئين: أحدهما قيام البيّنة على القاتل بأنّه قتل، والثّاني إقراره على نفسه بذلك، سواء كان القتل عمدا أو خطأ أو شبيه عمد.

والبيّنة نفسان مسلمان عدلان، يشهدان على القاتل بأنّه قتل صاحبهم. فإن لم يكن لأولياء المقتول نفسان يشهدان بذلك، كان عليهم القسامة: خمسون رجلا منهم يقسمون بالله تعالى أنّ المدّعى عليه قتل صاحبهم، إن كان القتل عمدا. وإن كان خطأ، فخمسة وعشرون رجلا يقسمون مثل ذلك.

فأمّا إذا قامت البيّنة بشهادة غيرهم، فليس فيه أكثر من

٧٤٠

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793