• البداية
  • السابق
  • 31 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21880 / تحميل: 6411
الحجم الحجم الحجم
الرجعة بين العقل والقرآن

الرجعة بين العقل والقرآن

مؤلف:
العربية

ثمّ أحياهم من جديد؟ فلكي لا يواجه مثل هذه التساؤلات والاعتراضات فسّر الموت والحياة في هذه الآية تفسيراً آخر، وذكر أنّ المقصود من الموت هو الموت الاجتماعي، وفسر الحياة بالحياة الاجتماعية.

ولكنّ نظرة للألفاظ الواردة في هذه الآية تثبت عدم استناد هذه الأقوال لأي أساس، إذ من المؤكد أنّنا لو عرضنا هذه العبارات على أي شخص عارف باللغة العربية - وذي ذهن مجرد ومنزّه عن هذه البحوث والأقاويل - فإنّه لن يفهم من الموت والحياة إلاّ الموت والحياة التكوينيين لا الاجتماعِيَين ويقول: (إنّ ما يراد من هذه الآية أنّ جماعة قد فروا خوفاً من الموت فماتوا في منتصف الطريق بأمر من الله ثمّ اُحيوا مرة ثانية بإذنه).

وبتعبير آخر: لا يمكن أبداً تحميل الكلمات معنى غير معناها الأصلي، وتبديل ذلك إلى ما نشتهيه من المعاني، فـ (الإحياء) يعني إحياء الموتى، وتستخدم في مقابلة كلمة (الإماتة)، وكلّما استخدمت بلا قرينة وجب بقاؤها على معناها الأصلي. ولكنّ هذا المفسّر القدير استنبط من هذا المعنى معاني مختلفة ليستخدم كلا منها فيما يراه مناسبا من المواضع، فحينا يرى أنّ الإحياء يعني الحيلولة دون إراقة دم شخص بريء(47) ، وحينا آخر يراه يعني النمو المتزايد بجيل خلّفته جماعة من الأموات(48) ، أمّا في هذه الآية فإنّه يرى أنّ المقصود من الإحياء هو النهضة والثورة، وهو لا يهدف من كل هذه التحريفات إلا التأويل المادي للمعاجز والأمور الخارقة للعادة، ومن البديهي أنّ هذه الطريقة ليست الطريقة الصحيحة لتفسير القرآن.

4 - البعث بعد مائة عام من الموت:

( أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى‏ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى‏ عُرُوشِهَا قَالَ أَنّى‏ يُحْيِيْ هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثمّ بَعَثَهُ ) (49) .

يعتقد معظم المفسّرين أنّ أحد أنبياء الله مرّ على قرية وهو في سَفر طويل فرأى آثار الموت والعدم ظاهرة عليها، فتذكر يوم القيامة وبعْث الأموات في هذا اليوم وتساءل مع نفسه متعجبا مع إيمانه بقدرة الله كاملاً: مَنْ ذا الذي يحيي أموات هذه القرية الخربة بعد مكثهم في القبر زماناً طويلاً؟ عند ذلك أماته الله تعالى ليجيب على تساؤله هذا، وهكذا مات وماتت دابّته وتفسخ جسدها ولكنّ الطعام الذي كان معه لم يتغير قط، ثمّ بُعث بعد مائة عام فظن أنّه كان نائما نصف

____________________

(47) المنار: ج1/ 351 في تفسير الآية 72 سورة البقرة.

(48) المصدر نفسه: ج1/ 322 في تفسير الآية 56 من سورة البقرة.

(49) البقرة: 259.

٢١

نهار فقط حيث قُبضت روحه عند الظهر وبُعث قبيل غروب الشمس، ولكنّه حين نظر إلى دابّته المتفسخة عرف أنّه مات ثمّ بعث من جديد، وحين أحييت دابّته أمام ناظريه صدق أنّ الله تعالى يحيي الأموات جميعا يوم القيامة(50) .

وعليه فإنّ هذه الآية تصرح بوضوح بأنّ الشخص المذكور قد رحل عن الدنيا مائة عام وأُحيي من جديد بإذن الله تعالى، وهذا في ذاته نموذج واضح لإمكانية عودة الأرواح إلى الدنيا ثانية، وهو أمر أشار إليه الله تعالى، حيث يقول في آخر الآية:( وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثمّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِير ) (51) .

إنّ هذا البيان القرآني الواضح غني عن أي نوع من التأويل والتبرير، حيث تَطّرق الحديث فيه إلى إحياء اثنين من المخلوقات هما:

1. الشخص نفسه، الذي قال:( أَنّى‏ يُحْيِيْ هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) .

2. حمار هذا الشخص، الذي فارق الحياة طوال هذه المدة ولم يبقَ منه سوى مجموعة من العظام المنفصلة عن بعضها ثمّ استعاد حياته أمام عيني صاحبه بارتباط عظامه ببعضها واكتسائها باللحم.

ولكنّ المفسّر الجديد واصل - كعادته - أسلوبه في نفي المعاجز والأمور الخارقة للعادة، فاهتمّ في هذه الآية بكلمة (الموت) فقال: (إنّ المقصود بالموت في هذه الآية هو فقدان الحواس الظاهرية مع الإبقاء على أصل الحياة، بحيث يقضي الإنسان أياماً بلا حسٍ ولا إدراكٍ ثمّ يعود إلى حالته الطبيعية، وقد حدث ما يشبه هذا مع أصحاب الكهف أيضاً حيث استغرقوا في النوم ثلاثمائة وتسعة أعوام ثمّ بعثهم الله تعالى من نومهم)(52) .

وهذا التفسير أيضاً لم يبتن على أساس، شأنه في ذلك شأن بقية تفاسيره وذلك لأنه:

أوّلاً: لقد استخدمت في هذه الآية كلمة (الموت) حيث قال تعالى:( فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ) وهذا شاهد على الموت وعلى مفارقة الروح للجسد، بينما جاء في قصة أهل الكهف:( فَضَرَبْنَا عَلَى‏ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) (53) .

وجاء في آية أخرى:

( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ) (54) .

____________________

(50) الكشّاف: ج1 / 295، تفسير الجلالَين: ج1 / 34، الدر المنثور: ج1 / 331، جامع البيان: ج3 / 19 - 21، تفسير القرآن العظيم: ج1/ 314.

(51) البقرة: 259.(52) المنار: ج3 / 49، 50.

(53) الكهف: 11.(54) الكهف: 18.

٢٢

إنّ هذه العبارات تدل على أنّ أصحاب الكهف كانوا قد غطوا في نوم عميق، ثمّ استيقظوا من نومهم، لذا فإنّ قياس الحَدَيثين على بعضهما لا مسوّغ له أبدا.

وثانيا: إنّ الله تعالى لم يبعثْ الشخص فقط، بل إنّه وهب حياة جديدة لحماره المتفسخ الذي مات مائة عام أيضاً، ولا يمكن أبداً تفسير تفسخ جسد كائن حي وفنائه بالنوم وقطع الاتصال بالعالم المادي، كما إنّ الشخص المذكور، وبعد أن شاهد هذا الحادث وتيقن من موته لمائة عام استنتج ما يلي:( أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . وعليه، فمن الأجدر بمؤلف (المنار) المحترم أن لا يصرَّ على رأيه بل يعترف بخطئه بإخلاص وهو أمر أقرب إلى الصواب.

5 - إحياء الموتى على يد عيسى (عليه السلام):

( وَأُحْيِي الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِ اللّهِ ) (55) .

يتحدّث القرآن في سورتي آل عمران والمائدة عن معاجز سيدنا عيسى (عليه السلام)، فيبيِّنُ أنّ هذا الرسول الإلهي كان يقوم - بإذن ربه - بأعمالٍ خارقة للعادة، فكان مثلاً يعالج المرضى المصابين بالبرص، ويعيد البصر إلى العميان، ويصنع تمثالاً من التراب ثمّ ينفخ فيه فتُبعث فيه الحياة ويحيي الموتى، ويُخبر بما كان يدّخره الناس في بيوتهم.

وقد ذكر المفسّرون المشهورون الكثير من هذه المعاجز، ونقلوا قصصاً حول إحياء الموتى على يد عيسى (عليه السلام).

كتب السيوطي في تفسيره الجلالَين قائلاً: لقد أحيا عيسى (عليه السلام) صديقه عازر، وأعاد الحياة إلى ابن امرأة عجوز، وأحيا فَتاةً، حيث بقي هؤلاء الثلاثة على قيد الحياة بعد إحيائهم، وخلّفوا أولاداً، وقد أحيا أيضاً سام بن نوح الذي مات بعد ذلك فوراً(56) .

ونقل أيضاً في تفسيره الآخر (الدُرالمنثور) أحداثاً أخرى من هذا القبيل وقال إنّ (ابن أبي الدنيا) قد ألّف كتابا حول عدد من الذين عادوا إلى الدنيا بعد موتهم(57) .

وبعد أن روى ابن جرير الطبري القصص المتعلقة بإحياء الأموات قال بشأن كيفية وقوع هذه المعجزة:

(كان إحياء الموتى على يد عيسى بأن يدعو الله أن يفعل ذلك فيستجيب

____________________

(55) آل عمران: 49.

(56) تفسير الجلالَين: ج1/ 43.

(57) الدر المنثور: ج3/ 33.

٢٣

له سبحانه)(58) . وقد تحدّث المؤرخ الشهير ابن الأثير في كتابه الموسوم (الكامل) عن إحياء عازر بعد مرور ثلاثة أيام على موته، وإحياء سام بن نوح، وإحياء امرأة شابة رزقت أولاداً بعد إحيائها، وإحياء النبي عُزير، والنبيّ يحيى بن زكريا, على يد عيسى (عليه السلام)(59) .

وعليه فإنّ جمهور المفسّرين متفقون على أنّ المسيح ابن مريم كان قادراً على إحياء الموتى، على إنّنا لا يمكننا أن نفهم من ظاهر الآية سوى أنّ عيسى(عليه السلام) كان فقط يعد بإحياء الموتى، ولكنّنا نفهم بوضوح من آية أخرى أنّ هذه المعجزة قد تحققت على يديه (عليه السلام) حيث قال تعالى:( إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى‏ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً... وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيّنَاتِ ) (60) . لقد تحدثت هذه الآية عن حصول المعاجز ومنها إحياء الموتى على يد سيدنا عيسى، بدرجة من الصراحة والوضوح عجز معها صاحب (المنار) عن إنكار ذلك، فبينما كان في الآيات السابقة يسعى إلى التأويل بأي شكل كان، نجده في تفسير الآية التي أوردناها من سورة آل عمران يقول: (إنّ هذه الآية تدل فقط على أن عيسى(عليه السلام) كان قد أُمر بأن يحتج بهذا الشكل، أمّا هل وقعت هذه الأمور أم لا؟ فذلك مما يحتاج إلى روايات معتبرة وموثوقة). ولكنّه بعد عدة سطور يعترف بصراحة بأنّ في سورة المائدة دلالة على وقوع هذه الأحداث، وبذلك يعترف بإمكانية إحياء الموتى، على أنّ روح عدم التصديق والشعور بالعجز أمام الأفكار المادية قد بعثت فيه الاضطراب وصار يبذل كل جهده في سبيل تبرير هذه المعاجز(61) . ولكنّ الذين يؤمنون بقدرة الله التي لا مجال لإنكارها يتقبلون هذه الحقيقة بكل سهولة ويسر، ولا حاجة بهم إلى أي تأويل أو تفسير لذلك.

ولنختصر حديثنا فنقول: إنّ ما عرفناه في هذا البحث المقتضب هو أنّ القرآن قد صرّح بوقوع الرّجعة - أي:عودة الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة - وضرب بعض الأمثلة كنماذج لهذا الأمر(62) ، وقَبِل به جمهور المفسّرين أيضاً، وعرفنا كذلك أنّ بعض الذين أُحيوا قد لبثوا في هذه الدنيا بعد إحيائهم مدة قصيرة , ولكنّ البعض الآخر بقي على قيد الحياة وعاش في هذه الدنيا سنين طويلة، وكذلك عرفنا

____________________

( 58) جامع البيان: ج3 / 192.(59) الكامل لابن الأثير: ج1 / 179، 180.

(60) المائدة: 110.(61) المنار: ج3 / 311، 312.

(62) فضلا عن الآيات الخمس التي أوردناها في هذه الصفحات، هناك آيات أخرى تدلّ أيضاً على إحياء الموتى في عالمنا المادي هذا، منها: الآية (84) من سورة الأنبياء، والآية (260) من سورة البقرة.

٢٤

أنّ بعضاً من هؤلاء الموتى قد أحيي بعد موته بمدة قصيرة، بينما أُحييّ البعض الآخر بعد سنوات من موته. بقي أن نقول: إنّنا قد امتنعنا عن نقل أقوال المفسّرين الشيعة وعدد من أقوال المفسّرين من أهل السنّة طلباً للاختصار.

أدلة وقوع الرّجعة في هذه الأمّة:

عرفنا لحد الآن أنّ مبدأ الرّجعة مبدأ صحيح تماماً وفق القواعد العلمية والأدلة الفلسفية، وأنّ القرآن قد أكّد بصراحة وقوع هذه المسألة في الأمم السابقة، وها نحن نقول الآن: أنّ الرّجعة ستحدث في الأمّة الإسلامية أيضاً وهو أمر لا يمكن إنكاره، ففضلا عن الروايات الواردة عن أئمة الشيعة والتي بلغت حد التواتر، فإنّ هناك إجماعاً بين علماء الشيعة بهذا الشأن، ولهذا يعتبر مبدأ الرّجعة من العقائد القطعية لدى الشيعة.

والآن، ولكي يعرف القارئ أنّ لقضية الرّجعة - كما يؤمن بها الشيعة - جذوراً قرآنية، وأنّ هذا الكتاب العظيم قد تطرق لوقوع هذا الحادث في المستقبل، سنراجع القرآن لنقرأ آيتين من سورة النحل:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ* وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمّةٍ فَوْجاً مّمّن يُكَذّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يوزَعُونَ ) (63) .

لا يوجد بين المفسّرين منْ يشك بأنّ هاتين الآيتين والآيات التي تعقبهما تتحدث عن يوم القيامة، فهم يعترفون جميعا بحقيقة مفادها أنّ الآية الأولى (الآية: 82) تتعلق بالحوادث التي ستقع قبل يوم القيامة، كما أنّ هناك بعض الروايات الواردة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تدل على أنّ خروج (دابّة الأرض) من علامات يوم القيامة(64) . إلاّ أنّ هناك خلافاً بين المفسرين حول المقصود من (دابّة الأرض)، وكيفية خروجها، وكيف تتحدث، وهو مما لا نرى حاجة إلى طرحه هنا، ومن طلب ذلك يمكنه مراجعة كتب التفسير والحديث.

أما الآية الثانية فقد ورد فيها الحديث عن ظاهرة يُحيا فيها بعض الناس وليس كلهم، إذْ يقول تعالى:( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمّةٍ فَوْجا ) وهذه الجملة تشهد بوضوح على عدم حشر الناس جميعا، والمفسّرون متفقون في آرائهم حول هذه المسألة

____________________

(63) النمل: 82، 83.

(64) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خَسْف بالمشرق، وخَسْف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والدخان، والدجّال، ودابّة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونار تخرج من قَعْرة عدن ترحل الناس). (صحيح مسلم: 8 / 179، كتاب الفتن وأشراط الساعة: باب في الآيات التي تكون قبل الساعة).

٢٥

إذ قالوا في شروحهم أنّ كلمة (مِنْ) قد وردت للتبعيض، وهي تَعني أنّه لا يحشر مِنْ كل أمّة إلاّ جماعة من الناس(65) إلاّ أنّهم لم يتعمّقوا في المفهوم الحقيقي للآية، ولم يحددوا ظروف هذه الحادثة وطريقة حشر الجماعة المذكورة، ولكنّ الطريق سالك أمامنا لفهم هذه الآية حيث يمكننا استنباط المقصود منها بالاستعانة بالقرائن الموجودة فيها وفي الآيات التي سبقتها وتلك التي أعقبتها.

والجدير بالتوضيح، أنّ الآية هذه تشير إلى حادثة من الحوادث التي ستقع قبل يوم القيامة، وذلك لأنّ:

أوّلاً: إنّ الناس سوف يبعثون جميعا في يوم القيامة إذْ يقول القرآن:

( وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) (66)

وعليه لا يمكننا أن نعتبر الآية التي أوردناها من سورة النّحل منطبقة على يوم القيامة.

ثانياً: الآية الأولى تذْكُر للناس علامة من علامات القيامة وهي خروج (دابّة الأرض) وهذا مما يؤمن به كافّة المفسّرين، ومن الطبيعي بعد ذلك أنّ حشر جماعة من الناس يرتبط بهذا الشأن أيضاً.

ثالثاً: ورد الحديث في الآية السابعة والثمانين، من سورة النحل - حول قضية (نفخ الصور) - ولا يشكّ أحد في أنّ نفخ الصور سيكون قبل يوم القيامة إذ يقول الله:( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) (67) .

إنّ هذه القرائن الثلاث تدلّ على أنّ حشْر فوجٍ من الذين يكذّبون بآيات الله حادثة ستقع حتما قبل يوم القيامة، وهي من علامات هذا اليوم، وستقع في الوقت نفسه الذي ستخرج فيه دابّة الأرض.

ومن هنا، يتوضَّح ضَعفُ آراء بعض المفسّرين، من أمثال الرازي، وغيره، حيث اعتقدوا أنّ هذا الحدث سيقع بعد قيام الساعة، فبعد أنّ يحشر الناس جميعا يُجمع جماعة من أئمة الكفر أمام الله لكي يحاسبوا على أعمالهم ثمّ يُلحق بهم أتباعهم، وبهذا الصدد كتب الفخر الرازي في تفسيره يقول جازماً: (اعلم أنّ هذا الأمر سيقع بعد قيام الساعة)(68) .

____________________

(65) يراجع - على سبيل المثال -: الدر المنثور: ج5 / 117، جامع البيان: ج20/ 12، تفسير القرآن العظيم: ج3/ 37، مفاتيح الغيب: ج24/ 218.

(66) الكهف: 47.

(67) النمل: 87 .

(68) مفاتيح الغيب: ج34 / 218.

٢٦

ولكنّ هذا الكلام خاوٍ ولا يستند إلى أيّ أساسٍ فترتيب الآيات وارتباطها ببعضها ينفي آراء مثل هؤلاء المفسّرين، ويؤكد ما ذهب إليه الشيعة من أنّ الآية تشير إلى حدث سيقع قبل يوم القيامة، ذلك لأنّ الآيات قبل هذه الآية وبعدها تتحدث جميعا عن الحوادث التي ستقع قبل يوم القيامة، فكيف يمكن أن تتحدثُ آيةٌ تقع بين هذه الآيات عن حادثةٍ ستقع بعد هذا اليوم ودون وجود سابقة على ذلك؟ وفضلاً عن ذلك، لا يوجد هناك أدنى شك في أنّ جميع الأموات سَيُحيون في يوم القيامة دُفعة واحدة ، ولن يكون هناك أيّ تقدم أو تأخر لكي يبقى مجال لتبرير هذا الاعتقاد ونسبته إلى القرآن.

إنّ الرازي وأمثاله لم يبرزوا أيّ دليل لإثبات آرائهم، وقد أدّى بهم عدم إيمانهم بالرّجعة إلى تفسير الآية خلافاً لما يدل عليه ظاهرها حيث استخدمت في هذه الآية كلمة (الحشر) التي يقصد منها طبقا للآيات الأخرى الإحياء بعد الإماتة(69) ولكنّ هؤلاء رأوا أنّ الحشر يعني اجتماع جماعة من الأحياء أمام الله تعالى، وهكذا نجدهم قد ابتلوا بالتفسير بالرأي.

كتب العلامة الطباطبائي يقول: (وظاهر الآية أنّ هذا الحشر في غير يوم القيامة ؛ لأنه حشر للبعض من كل أمة لا لجميعهم،... ويؤيد ذلك أيضاً وقوع الآية والآيتين بعدها بعد نبأ دابّة الأرض، وهي مِنْ أشراط الساعة، وقبل قوله: ونُفخ في الصور... إلى آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، ولا معنى لتقديم ذِكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذِكر شروعه ووقوع عامة ما يقع فيه فإنّ الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كل امّة، لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين... فقد بان أنّ الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة)(70) .

وهكذا، نرى أنّ ترتيب الآيات الأخيرة من سورة النمل تشهد على صحة ما ذهب إليه المفسّرون الشيعة، وما الأحاديث المروية عن أئمة هذا المذهب - استدلالاً بهذه الآية - إلاّ دليلٌ واضح على صحة هذا الرأي، فلابدّ إذاً من أن نقول أنّ الآية( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمّةٍ فَوْجاً ) تدلّ على رجعة بعض الناس إلى الدنيا قبل يوم القيامة. إلا أنّ هذه الآية قد تحدثت فقط عن حشر المكذّبين وأشارت إلى محاسبتهم، أمّا رجعة جماعة أخرى من المؤمنين والصالحين فإنّنا نفهمها من

____________________

(69) يقول تعالى في سورة البقرة:( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) الآية 203، ويقول في الآية 158 من سورة آل عمران:( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُون ) وبهذا الشأن أيضاً وردت الآيات: التكوير: 81، سورة ق: 44، فصلت: 19، المؤمنون: 79، سبأ : 40، الأنعام: 22.

(70) الميزان: ج 15، ص 435 (ص 397 طبعة إسماعيليان - قم).

٢٧

الروايات المتعلقة بالرّجعة، وبتعبير آخر: إنّ القرآن الكريم يدلّ فقط على صحة الرّجعة وحتميتها في الأمّة الإسلامية، حيث يعجز المنكرون مع وجود آية كهذه عن طرح استحالة الإيمان بالرّجعة، أما كيفية وقوع الرّجعة وخصوصياتها فلم يتحدث عنها القرآن، وينبغي تلقي هذه الأمور من العارفين بحقائق عالم الخليقة، كما هو الحال عندما يتحدّث القرآن كثيراً عن المعاد والجنّة والنار دون ذكره لجميع التفاصيل المتعلقة بها، حيث ينبغي معرفة هذه التفاصيل من الروايات الواردة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

إضافة لِما تقدم، لا نجد بين الفِرق المختلفة للأمّة الإسلامية أيّة فرقة تؤمن برجعة الكافرين فقط، أي: إنّهم إمّا أن ينكروا الرّجعة أساساً، وإمّا أن يؤمنوا بها كما يؤمن الشيعة، ولمّا كان إنكار الرّجعة لا يتوافق مع القرآن الكريم بأيّ شكل من الأشكال، فإنّنا نستنتج أنّ الرّجعة لا تنحصر بالمكذبين بآيات الله، بل إنّ أفراداً آخرين مِن المؤمنين سوف يعودون إلى الدنيا أيضاً.

دليل آخر على الرّجعة:

وردت في كتب الحديث التي ألّفها المسلمون رواية عن نبي الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تحكي أنّ هناك تشابهاً تاماً بين الأمّة الإسلامية والأمم السابقة، وأنّ الحوادث المهمة التي وقعت لتلك الأمم ستقع لهذه الأمّة أيضاً وقد نقلت هذه الرواية بأشكال مختلفة وهي تحظى بتأييد كافة المحدثين والعلماء المسلمين، وسنورد - على سبيل المثال - ثلاث روايات مختلفة:

1 - رواية أبي سعيد الخدري:

(عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: لتَتْبَعُنَّ سنن مَن كان قبلكم شِبراً بشِبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جُحر ضَبّ لتبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)(71)

2 - رواية أبي هريرة:

(عن أبي هريرة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: لا تقومُ الساعةُ حتى تأْخَذ أُمتي بأَخذ القرون قبلها شِبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل يارسول الله كفارس والروم؟ قال: ومَنْ الناس إلاّ أولئك؟)(72)

3 - رواية الشيخ الصدوق:

____________________

(71) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بقول النبي: 9 / 112 ، سُنن ابن ماجة - باب افتراق الأمم - الحديث الأخير. جامع الأصول، الكتاب الثالث في الفتن والأهواء - النوع الثالث - رقم 7472.

(72) البخاري: 9 / 102، كنز العمال 11 / 133.

٢٨

(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلّ ما كان في الأمم السالفة فانّه يكون في هذه الأمّة مثله حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة)(73)

ولكثرة ما روي هذا الحديث في كتب الحديث السنّية والشيعية لم يبقَ هناك أيّ شكٍ في صحته، فصار من المؤكد أنّ نبي الإسلام الأعظم قد قال هذا الكلام لأمَّته، وعليه فإنّ الأمّة الإسلامية ستواجه جميع الأحداث التي جرت للأمم السابقة وستقع جميع أحداث تلك الأمم لهذه الأمّة دون أن تقل أو تنقص.

بقي أن نقول: إنّ الآيات القرآنية والأخبار التاريخية تخبرنا عن حدوث الرّجعة عند الأمم السابقة، وقد نقلنا نحن بدورنا بعض هذه الأحداث لذا لابد من وقوع مثل هذه الأحداث في أمّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يدّعي المعتقدون بالرّجعة أكثر من هذا ، حيث اعتقدوا بمبدأ الرّجعة في زمن يسبق يوم القيامة، ويعاصر الموعود الذي وعدنا الإسلام به وهو سيدنا ولي العصر والزمان (عجل الله فرجه)، وفقاً لهذا الحديث المؤكد واستناداً إلى وقوع الرّجعة في ما سبق من الزمان.

ولهذا السبب وجدنا حين سَأل المأمون العباسي ثامن أئمّة الشيعة الإمام الرضا (عليه السلام) حول الرّجعة والدليل عليها، أنّ الإمام أجابه بالقول:

(إنّها الحق، قد كانت في الأمّم السالفة ونطق بها القرآن، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يكون في هذه الأمّة كلّ ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة)(74)

حصيلة بحثنا ما يلي:

1. إنّ الإيمان بالرّجعة يستند إلى الأدلّة القرآنية والروائية، ولا يخالف القواعد الفلسفية والمقاييس العلمية أبداً.

2. إنّ الشيعة - في إيمانهم بالرّجعة - يتبعون أئمتهم (الذين قال عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّهم يعادلون القرآن ويدلّون عليه) ولا يتخذون الأديان والاتجاهات الأخرى مقياسا لذلك أبداً.

3. إنّ الرّجعة تعني بعث جماعة من الأطهار وعددٍ من الكفار وتقع في غير يوم القيامة لذا يعبر عنها بالقيامة الصغرى أيضاً.

(انتهى)

____________________

(73) كمال الدين 9 / 576، بحار الأنوار 28 / 10 رقم 15.

(74) بحار الأنوار: ج53 ص 59 / ح 45.

٢٩

فهرست مصادر الكتاب بعد القرآن الكريم

1. أصالة الروح في نظر القرآن، جعفر سبحاني، إصدارات أميد / قم.

2. الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرّجعة، الشيخ الحر العاملي، المطبعة العلمية/ قم.

3. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، الطبعة الجديدة / إيران.

4. تاريخ الطبري، محمّد بن جرير الطبري، مؤسسة الأعلمي/ لبنان.

5. تفسير أنوار التنزيل، ناصر بن عبد الله البيضاوي، طبعة إيران.

6. تفسير التبيان، الشيخ الطوسي، طبعة النجف.

7. تفسير البيان، محمّد بن جرير الطبري، دار المعرفة - لبنان.

8. تفسير الجلالَين، جلال الدين السيوطي، طبعة بومباي.

9. تفسير الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، طبعة بيروت.

10. تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن كثير الدمشقي، دار المعرفة - لبنان.

11. تفسير الكشّاف عن حقائق التنزيل، جار الله الزمخشري، طبعة مصر.

12. تفسير مجمع البيان، أمين الدين الطبرسي، طبعة صيدا.

13. تفسير مفاتيح الغيب، الإمام الفخر الرازي، دار إحياء التراث - بيروت.

14. تفسير المنار، محمّد رشيد رضا، طبعة مصر - 1373 هجرية.

15. تفسير الميزان، العلامة محمّد حسين الطباطبائي، الطبعة الأولى - إيران.

16. التوراة، ترجمة فاضل خان الهَمَداني (إلى الفارسية)، طبعة لندن.

17. جامع الأصول، ابن الأثير الجزري، دار إحياء التراث - بيروت.

٣٠

الفهرس

مقدمة الناشر:5

تمهيد 6

1. مفهوم الرّجعة:9

2. الشيعة والرّجعة:10

3. الرّجعة وظهور المهدي المنتظر (عجل الله فرجه):12

4. إمكانية حدوث الرّجعة:13

5 - الرّجعة عند الأمم السابقة:16

1 - إحياء جماعة من بني إسرائيل:16

2. إحياء قتيل بني إسرائيل:18

3. موت عدّة آلاف من الناس وبعثهم من جديد:20

4 - البعث بعد مائة عام من الموت:21

5 - إحياء الموتى على يد عيسى (عليه السلام):23

أدلة وقوع الرّجعة في هذه الأمّة:25

دليل آخر على الرّجعة:28

فهرست مصادر الكتاب بعد القرآن الكريم 30

٣١