الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ٢

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية0%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 343

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: الصفحات: 343
المشاهدات: 217013
تحميل: 7905


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 217013 / تحميل: 7905
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١ـ ما تقدّم من تقية عمار بن ياسر وجماعة مع المشركين وقد أمضاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له :( إن عادوا فعد ) .

٢ـ الصحابي الذي شهد بالنبوّة تقية لمسيلمة الكذاب وقد تقدم ، وقال في حقّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه) ، وهذا يكشف عن أنّ الترخيص في التقية كان متعارفاً على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ـ تقية حذيفة بن اليمان وقد تقدمت أيضاً فلاحظ

٤ـ تقية حذيفة أيضاً مع عثمان بن عفان ، قال السرخسي في المبسوط : ( عن النزال بن سيدة ، قال : جعل حذيفة يحلف لعثمان على أشياء بالله ما قالها ، وقد سمعناه يقولها ، فقلنا له : يا أبا عبد الله ، سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها وقد سمعناك قلتها ، فقال : إنّي أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه ) ، ثم قال السرخسي : ( وإنّ حذيفة من كبار الصحابة وكان بينه وبين عثمان بعض المداراة ، فكان يستعمل معاريض الكلام فيما يخبره به )(١) .

و في لفظ آخر : ( دخل ابن مسعود وحذيفة على عثمان ، فقال عثمان لحذيفة : بلغني أنّك قلت كذا وكذا ؟ قال : لا والله ما قلته ، فلمّا خرج قال له عبد الله : مالك فلم تقوله ما سمعتك تقول ؟ قال : إنّي أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه )(٢) .

٥ـ تقية أبي هريرة وقد سبق ذكرها أيضاً .

ــــــــــــــ

(١) المبسوط : ج٣٠ ص ٢١٤ ؛ تأويل مختلف الحديث ، ابن قتيبة : ص٢٧ ؛ المحصول ، الرازي : ج٤ ص٣١٠ – ٣١١.

(٢) المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : ج٧ ص ٦٤٣ .

٢٢١

٦ـ تقية مجموعة من الصحابة من معاوية بن أبي سفيان ، حيث أخرج النسائي في سننه وغيره عن سعيد بن جبير ، قال : ( كنت مع ابن عباس بعرفات ، فقال : مالي لا أسمع الناس يلبّون ؟ قلت : يخافون من معاوية ! ، فخرج ابن عباس من فسطاطه ، فقال : لبّيك اللّهمّ لبّيك لبّيك ، فإنّهم قد تركوا السنّة من بغض عليّ )(١) .

٧ـ تقية سعيد بن جبير ، قال أبو عبيد بن سلام : ( حدثنا مروان بن معاوية عن حسان بن أبي يحيى الكندي ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال : ادفعها إلى ولاة الأمر ، فلمّا قام سعيد تبعته ، فقلت : إنّك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر وهم يصنعون بها كذا ويصنعون بها كذا ؟ فقال : ضعها حيث أمرك الله ، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لأخبرك )(٢) .

٨ـ تقية رجاء بن حيوة مع الوليد بن عبد الملك ، وهو ما أخرجه القرطبي وغيره عن إدريس بن يحيى قال : ( كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسّسون الخلق يأتونه بالأخبار فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة ، فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه .

فقال : يا رجاء ، أُذكر بالسوء في مجلسك ولم تُغيّر ؟!

فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين .

فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلاّ هو .

قال : الله الذي لا إله إلاّ الله .

ــــــــــــــ

(١) سنن النسائي : ج٥ ص ٢٥٣ .

(٢) كتاب الأموال ، أبو عبيد القاسم بن سلام : ص ٥٦٧ .

٢٢٢

فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً ، فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ، بك يستسقى المطر وسبعون سوطاً في ظهري !!

فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك ، خير لك من أن يقتل رجل مسلم )(١) .

٩ـ تقية واصل بن عطاء مع الخوارج ، حيث أخرج ابن الجوزي وغيره عنه أنّه خرج يريد سفراً في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج ، فقال واصل : ( لا ينطقنّ أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا ، فقال : كيف تستحلّون هذا وما تدرون مَن نحن ، ولا لأي شيء جئنا ؟ فقالوا : نعم ، مَن أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله ، قال : فكفّوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلمّا أمسك ، قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين ، فقال : هذا واجب ، سيروا ، قال : فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا )(٢) .

١٠ـ تقية أبي حنيفة مع ابن أبي ليلى ، حيث أخرج الخطيب البغدادي وغيره عن جابر ، قال : ( بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة ، فسأله عن القرآن .

فقال : مخلوق .

فقال : تتوب ، وإلاّ أقدمت عليك !

قال : فتابعه

فقال : القرآن كلام الله .

ــــــــــــــ

(١) تفسير القرطبي : ج١٠ ص١٩٠ .

(٢) كتاب الأذكياء ، ابن الجوزي : ص ١٣٦ .

٢٢٣

قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق .

فقال أبي : فقلت لأبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟

قال : يا بني خفت أن يُقدم عليّ فأعطيته التقية )(١) .

١١ـ تقية الحسين بن داود بن سليمان القرشي ، قال : ( كنت أقرئ الناس القرآن بالكوفة ، وكان جماعة القطعية يجتمعون إلى إصطوانة في الجامع قريبة من الحلقة التي أعلّم الناس فيها ، وكانوا يقولون هذا الشيخ يُعلًّم الناس القرآن من كذا وكذا سنة لا يؤجره الله ولا يثيبه ؛ لأنّ هذا القرآن قد غُيّر وبُدّل ، ويخوضون في هذا ، فكان يألم قلبي ، ويمنعني من أذيّتهم التقية ، فطال ذلك عليّ ، فلمّا كان عشية يوم خميس اجتمعوا على العادة وتكلّموا كما كانوا يتكلّمون وأكثروا في ذلك وأسرفوا في القول وانصرفوا ، فرحت عشية ذلك اليوم وأنا مغموم مهموم لكلامهم ، فلمّا أخذت مضجعي ونمت ، رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت : إلى الله وإليك المشتكى يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : مم ؟ فقلت : من قوم يجيئون فيقولون أنّي ألقّن القرآن من سبعين سنة لا يأجرني الله عليه وأنّ هذا القرآن قد غُيّر وبُدّل ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عقب ، فعقبت ، وابتدأت ، فقرأت القرآن عليه من الحمد إلى قل أعوذ برب الناس ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هكذا أنزل علي وهكذا أقرأت القرآن ، فانتبهت والفجر قد اعترض ، فخررت لله ساجداً شكراً له ، وحمدته كثيراً ، وقمت إلى المسجد فصليت الفجر ، وانثنيت فحدثت أصحابي بما رأيت ، وقلت : قد كان يمنعني من هؤلاء القوم التقية وبعد هذا فلا تقية )(٢) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد : ج١٣ ص٣٧٦ ـ ٣٧٧ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج١٣ ص٣٦١ ـ ٣٦٢ .

٢٢٤

١٢ـ تقية سعدويه ، سعيد بن سليمان حول محنة خلق القرآن ، حيث قال الذهبي عند ترجمته لسعدويه : ( وأمّا أحمد بن حنبل فكان يغض منه ولا يرى الكتابة عنه ، لكونه أجاب في المحنة تقية ـ إلى أن قال ـ قيل لسعدويه بعدما انصرف من المحنة : ما فعلتم ؟ قال كفرنا ورجعنا )(١) .

١٣ـ تقية أبي نصر التمّار ، حيث أجاب في محنة خلق القرآن تقية ، وقال الذهبي في حقّه : ( أجاب تقية وخوفاً من النكال ، وهو ثقة بحاله ولله الحمد )(٢) .

١٤ـ تقية إبراهيم بن المنذر بن عبد الله في تلك المحنة ، حيث قال السبكي في حقّه : ( كان حصل عند الإمام أحمد منه شيء ؛ لأنّه قيل : خلط في مسألة القرآن كأنّه مجمج في الجواب ، قلت : وأرى ذلك منه تقيةً وخوفاً )(٣) .

١٥ـ تقية يحيى بن معين ، أخرج الذهبي عن الحافظ أبي زرعة الرازي قوله : ( كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمّار ، ولا عن يحيى بن معين ولا عن أحد ممّن امتحن فأجاب ) ثم يُعلق الذهبي على ذلك قائلاً : ( قلت : هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة ، بل ولا على من أكره على صريح الكفر عملاً بالآية ، وهذا هو الحق ، وكان يحيى رحمه الله من أئمّة السنّة ، فخاف من سطوة الدولة وأجاب تقية )(٤) .

ــــــــــــــ

(١) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج١٠ ص ٤٨٢ .

(٢) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج١٠ ص٥٧٣ .

(٣) طبقات الشافعية : ج٢ ص٨٢ ، نقلاً عن حاشية تهذيب الكلام ، للمزي ، بقلم الدكتور بشار عواد معروف : ج٢ ص ٢١١ .

(٤) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج١١ ص ٨٧ .

٢٢٥

١٦ـ تقية إسماعيل بن حمّاد في محنة القرآن ، قال ابن حجر في لسان الميزان : ( قال يوسف في المرآة : وكان إسماعيل بن حمّاد ثقة ، صدوقاً لم يغمزه سوى الخطيب فذكر المقالة في القرآن ، قال السبط : إنّما قاله تقية كغيره )(١) .

١٧ـ يدعي الذهبي أنّ تشيّع علي بن موسى بن الحسين ابن السمسار الدمشقي كان على سبيل التقية وتوخّي الضرر ، حيث قال في هذا المجال : ( ولعلّ تشيّعه كان تقية لا سجية ، فإنّه من بيت الحديث ، ولكن غلت الشام في زمانه بالرفض ، بل ومصر والمغرب بالدولة العبيدية ، بل والعراق وبعض العجم بالدولة البويهية ، واشتدّ البلاء دهراً ، وشمخت الغلاة بأنفها ، وتواخي الرفض والاعتزال حينئذ )(٢) .

١٨ـ وادعى أيضاً ابن حجر في لسان الميزان أنّ علي بن عيسى الرمّاني أظهر التشيّع حذراً وتقية ، ثم ذكر قول ابن النديم : ( إنّ مصنفات علي بن عيسى الرمّاني التي صنّفها في التشيّع لم يكن يقول بها ، وإنّما صنّفها تقية لأجل انتشار مذهب التشيّع في ذلك الوقت ، وذكر له مع البسري الرفّاء حكاية مشهورة في ذلك )(٣) .

١٩ـ تقية الجمّ الغفير من العلماء وعامة الناس في محنة خلق القرآن ، وتقدم بعض شواهدها ، ومن هنا قال الذهبي في تلك المحنة : ( مَن أجاب تقية فلا بأس عليه )(٤) .

ــــــــــــــ

(١) لسان الميزان ، ابن حجر : ج١ ص ٣٩٩ .

(٢) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج١٧ ص ٥٠٧ .

(٣) لسان الميزان ، ابن حجر : ج٤ ص٢٤٨ .

(٤) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج١٣ ص ٣٢٢ .

٢٢٦

٢٠ـ تقية كثير من العلماء في حكم من الأحكام الشرعية .

حيث ذكر القرطبي في تفسيره ثلاث مسائل في بيان قوله تعالى :( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) وقال في المسألة الثالثة : ( قال ابن العربي : ولامتنان البارئ سبحانه ، وتعظيم المنّة في التين ، وأنّه مقتات مدّخر ؛ فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه ، وإنّما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه ، تقية جور الولاة ؛ فإنّهم يتحاملون في الأموال الزكاتية فيأخذونها مغرماً )(١) .

هذه نبذة يسيرة حول تعامل المسلمين مع مبدأ التقية ، وأنّ التقية كانت سلاحاً وعلاجاً ناجعاً يتعاطاه الفرد المسلم عندما يشعر بالخوف من ضرر الغير .

التقية في نظر العقل والعقلاء

لا شك أنّ العقل يدرك ويحكم بوجوب دفع الضرر وإن كان محتملاً ، بل العقلاء طبعهم وسيرتهم جارية على دفع الضرر والفرار منه وجلب ما فيه السلامة والأمن والنجاة ، وقد تقدم أنّ موارد التقية هي خوف الضرر ؛ ولذا نجد العقلاء يلجئون في كثير من الأحيان إلى مجاراة الغير ومداراته إذا كانوا يخافون ضرره وعدوانه ، ومن هنا يُعدّ ترك التقية في بعض الأحيان في الأوساط العقلائية خلاف العقل ، فيما إذا كانت المنفعة المتوخّاة في الدين أو الدنيا على خلاف المواجهة والتحدّي .

نعم ، الموارد التي تندرج ضمن مبادئ التضحية والفداء والدفاع عن العقيدة أو الوطن ، أو أي مواجهة تتضمّن مدح العقل والعقلاء وتحسينهم لها ، ففي مثل هذه الحالات يحكمون بحسن تلك المواجهة ويخرجونها عن مواطن حكمهم بوجوب دفع الضرر والحذر منه .

ــــــــــــــ

(١) تفسير القرطبي : ج٢٠ ص١١٢ .

٢٢٧

والشريعة الإسلامية لم تخالف حكم العقل ولا سيرة العقلاء ، بل أمضتها قولاً وفعلاً وتقريراً ، وليست التقية إلاّ شعبة من شعب حكم العقل بوجوب دفع الضرر بما يتناسب مع ذلك الضرر المحتمل ، وليست موارد المواجهة الحسنة إلاّ استثناء من حكم العقل وسيرة العقلاء ، وفي غير ذلك لا تكون التقية إلاّ ضرورة عقلية جرى عليها العقلاء في سيرتهم وتعاملهم مع الآخرين ، وخصوصاً ولاة الجور وسفّاكي الدماء ، وهذا ما لوحظ بوضوح في محنة خلق القرآن الكريم كما تقدم بعض أمثلة ذلك ، حيث التجأ المسلمون إلى التقية ؛ حفظاً على دمائهم وأعراضهم وأموالهم .

ويجد الإنسان أمثلة ذلك كثيرة جداً في نفسه ويومياته ، بل يتجلّى ذلك بوضوح لمَن راجع التاريخ ولاحظ كيفية تعايش المستضعفين والمضطهدين مع جبابرة عصرهم وطغاة زمانهم .

ومن هنا نفهم أنّ التقية لم تكن معاصرة للشرائع السماوية فحسب ، بل هي فطرة غرزها الله تبارك وتعالى في البشرية منذ أن كوّنها وخلقها .

والحاصل : أنّ التقية حكم عقلي وعقلائي أمضاه الشارع وعمل بها المسلمون .

الفطرة قاضية بجواز ومشروعية التقية

لم تكن التقية حكماً عقلياً وعقلائياً فحسب ، بل هي حكم فطري ، فكل إنسان فطره الله عزّ وجل على حفظ حياته وكلّ ما يتعلّق به من أموال أو عرض أو معتقد ، ولذا يحاول أن يتستّر بفطرته على بعض تلك الأمور إذا أحس بالخطر في الإعلان عنها والإدلال عليها ، فهو يُخفي بمقتضى تلك الفطرة أي كمال من الكمالات إذا وجد أنّ إخفائه أبقى لوجوده من الإعلان عنه

وهذه الفطرة سلاح زوّده الله تعالى المستضعفين لمواجهة الجبابرة والطغاة الظالمين ، ومن هنا نجد أنّ العقل السليم والعقلاء لم يلغوا هذه الفطرة ، بل أقرّوها وساروا على هديها ، وأقرّهم الشارع على ذلك ؛ لأنّ الدين الإسلامي لم يأت لإلغاء العقول أو التعدّي على مقتضيات الفطرة البشرية أو إلغاء دور العقلاء في السير الاجتماعي ، بل جاء لتهذيب بعض الانحرافات التي قد تحصل بسبب ما تمليه النفس الأمّارة بالسوء على الفرد أو المجتمع .

٢٢٨

ترك التقية افتتان في الدين

لو كان الظالم يكتفي من المظلوم بالقتل أو نهب الأموال مع صمود المظلوم وحفاظه على دينه ومعتقده لكان من الممكن النقاش في مشروعية التقية ، ولكنّ الظالم يتوسّل بكافة الأساليب التي تستخدم في مجال التعذيب والاضطهاد والابتزاز ، وذلك عن طريق التجاوز على العرض والأهل والولد ، ممّا يجعل المكره والمضطر عرضة لافتقاد دينه ، كأن يشكّك في حكمة الله تعالى أو عدله أو رحمته ، ممّا قد يؤدّي إلى التشكيك في الله تعالى ورسُله وشرائعه .

إذن ترك التقية قد يكون في بعض الأحيان موجباً للافتتان في الدين ، فيكون إخفاء الدين وكتمانه في مثل هذه الموارد أفضل من فقدانه من الأساس بالإعراض عن التقية ، كما جاءت الإشارة إلى ذلك في بعض الآيات القرآنية ، كقوله تعالى :( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ) (١) .

وقوله عزّ وجل :( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

ولا شك أنّ الظالم قد يفتن المؤمن المضطهد في دينه بما هو مجال للفتنة كالأولاد والأموال .

وهكذا قوله تعالى :( فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ من قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ من فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) (٣) ، وهذه الآية صريحة في التقية والخوف والكتمان لأجل عدم الافتتان في الدين .

ولذا كان المسلمون يتّقون الظالمين والمتجبّرين لئلاّ يفتنوهم ويخرجونهم عن دينهم ، ومن تلك المواقف موقف مسروق الأجدع مع معاوية بن أبي سفيان ، حيث رُوي أنّ معاوية بن أبي سفيان كان قد بعث بتماثيل من صفر لكي تباع بأرض الهند ، فمرّ بها على مسروق بن الأجدع ، فقال : ( والله لو أنّي أعلم أنّه يقتلني لغرقتها ، ولكنّي أخاف أن يعذبني فيفتنني ، والله لا أدري أي الرجلين معاوية ، رجل قد زُين له سوء عمله ، أو رجل قد

ــــــــــــــ

(١) النساء : ١٠١ .

(٢) الأنفال : ٢٨ .

(٣) يونس :٨٣ .

٢٢٩

يئس من الآخرة ، فهو يتمتّع في الدنيا )(١) .

هل تبلغ التقية مرحلة الضرورة والوجوب ؟

بعد أن ثبت جواز التقية عن طريق القرآن والسنّة النبوية القطعية والصريحة ، وكذا العقل وسيرة العقلاء والمسلمين وأقوال العلماء ، محدّثيهم ومفسّريهم وفقهائهم ، ننتقل إلى بحث جديد وحكم آخر للتقية وهو الوجوب ، فهل يبلغ الحكم الشرعي للتقية إلى درجة الوجوب أم لا ؟

ولأجل الوقوف على حقيقة الأمر لا بد من طرح هذا السؤال بنحو آخر ، وهو :

هل الضرر من الغير يبلغ بملاك التقية إلى حتمية الفعل وضرورته ووجوب الإتيان به ، أو لا ؟

ولكي يتضح الجواب عن هذا التساؤل لا بد من ملاحظة بعض الجوانب التي تؤثر على الاستدلال وإثبات وجوب التقية في بعض مواردها :

الجانب الأول :

تقدم مفصّلاً أنّ الإكراه من موارد التقية ، وأنّ ما يقوم به المكره ـ الذي لا حول له ولا قوّة ـ ليس هو إلاّ التقية والخوف والحذر ممّن أكرهه ، ومن هنا تكون أدلة الإكراه والأقوال فيه نافعة في بيان حكم التقية ، وكذا موارد الاضطرار بنفس البيان ؛ لأنّ التقية إلجاء من الغير يبلغ بالمكره حدّ الضرورة والاضطرار إلى الإتيان بفعل يوجب حفظ النفس والمال والعرض والدين ، كما في أكل الميتة ، فهو فعل يأتي به المضطر من أجل الحفاظ على نفسه من الهلاك ، وإذا كانت التقية من شُعب الاضطرار وأمثلته ، فتكون أدلة وجوب رفع الضرر وأدلة الاضطرار دالّة وناصّة على حكم التقية أيضاً .

الجانب الثاني :

إذا كانت مسألة وجوب التقية وعدم وجوبها في بعض الموارد مسألة خلافية بين العلماء والفقهاء ، فسوف يكون باب إدلاء الرأي فيها مفتوحاً ، وعليه يمكن للباحث أن يدلي برأيه حول وجوب التقية على ضوء ما ثبت لديه صحّته من التراث الإسلامي من حيث الدلالة والسند ، وهذا ما سوف يتضح لاحقاً .

ــــــــــــــ

(١) المبسوط ، السرخسي : ج٢٤ ص٤٦ .

٢٣٠

الجانب الثالث :

إنّ خوف الضرر الذي يبلغ بالتقية إلى مرحلة الوجوب لا يشترط أن يكون ضرراً بحسب ما هو الواقع ، بل يكفي احتمال الضرر أو الظن به بحسب درجات قوّة الضرر المحتمل ، وهذا قانون يحكم به العقل في ضمن قاعدة دفع الضرر التي أمضاها الشرع والدين الإسلامي ، فكلّما كان المحتمل أقوى كان الاحتمال كافياً بنحو طردي .

وجوب التقية في القرآن الكريم :

١ـ قوله تعالى : ( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١) ، ولفظ الآية الكريمة عام وشامل لكل مورد تؤدّي عاقبته إلى الهلاك ، إلاّ ما كان مستثنى من هذا العموم بدليله الخاص .

ولذا نقل عن البرّاء بن عازب أنّه قال في تفسير هذه الآية المباركة : ( أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع ، ولا يكون لكم فيه إلاّ قتل أنفسكم فإنّ ذلك لا يحل ، وإنّما يجب أن يُقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأمّا إذا كان آيساً من النكاية وكان الأغلب أنّه مقتول فليس له أن يُقدم عليه )(٢) .

وهذا بعينه ما نقوله في التقية ، فلا يجوز للشخص أن يقتحم فيما يؤدّي إلى هلاكه بإظهار عقيدته ودينه من دون أي مطمع ديني راجح .

ولذا ورد عن أبي هريرة في تفسير هذه الآية أيضاً : ( هو الرجل يستقل بين الصفين )(٣) أي : في معركة القتال .

ولا شك أنّ ما ذكره البراء بن عازب وأبو هريرة ، هو من موارد الآية المباركة ، ومن مواردها أيضاً الهلكة التي يتعرّض لها الشخص في حال التقية .

ثم إنّ ابن عربي في تفسيره ذكر أقوالاً في الآية المباركة ، الرابع منها هو : ( لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها )(٤) ، ثم نقل قول الطبري :

ــــــــــــــ

(١) التفسير الكبير ، الفخر الرازي : ج٥ ص١٤٩ .

(٢) التفسير الكبير ، الفخر الرازي : ج٥ ص١٤٩ .

(٣) أحكام القرآن ، ابن عربي : ج١ ص١٦٦ .

(٤) أحكام القرآن ، ابن عربي : ج١ ص١٦٦ .

٢٣١

 ( هو عامٌ في جميعها لا تناقض فيه )(١) وقال الطبري في معرض تفسيره للآية المباركة بعد أن ذكر عدّة من المعاني للآية :

(فإذا كانت هذه المعاني كلّها يحتملها قوله :( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ولم يكن الله عزّ وجل خصّ منها شيئاً دون شيء ، فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا )(٢) .

وعليه يكون عموم الآية شاملاً لموارد التقية بلا إشكال .

٢ ـ آيات الجهاد

كقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً ) (٣) .

قال الطبري في تفسير هذه الآية : ( خذوا جُنتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوكم لغزوهم وحربهم )(٤) .

وقال المراغي في تفسيره : ( بين في هذه الآيات بعض الأحكام الحربية والسياسية ، ورسم لنا الطريق التي نسير عليها في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول من الأعداء ـ إلى أن قال : ـ أي احترسوا واستعدّوا لاتقاء شر العدوّ واعرفوا الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا واعملوا بتلك الوسائل ، ويدخل في ذلك معرفة حال العدو حتى لا يهاجمكم على غرّة أو يهددكم في دياركم ، وحتى لا يعارضكم في إقامة دينكم أو دعوتكم إليه )(٥) .

ولا شك أنّ التقية تعتبر من تلك الأحكام السياسية ، وسلاح من أسلحة الحذر الذي تأمر به هذه الآية المباركة ، وكذا الآيات الآتي ذكرها ، فالآية الكريمة تأمر باتخاذ وسائل الحذر والتوسّل لأجل الحذر من العدو بكل ما هو مشروع ، وقد تقدّم مشروعية التقية ، فإذا كانت أداة نافعة للحذر من العدو تكون حينئذٍ مندرجة تحت إطلاق الأمر بالحذر من الأعداء .

ــــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، ابن عربي : ج١ ص١٦٦ .

(٢) تفسير الطبري : ج٢ ص٢٨٠ .

(٣) النساء : ٧١ .

(٤) تفسير الطبري : ج٥ ص٢٢٧ .

(٥) تفسير المراغي : ج٢ ص٢٥٥ ـ ٢٥٦ .

٢٣٢

وآيات الجهاد والحذر من الأعداء كثيرة ، وهي تتطابق مع مضمون الآية المذكورة ؛ ولذا اقتصرنا عليها في مقام الاستدلال .

٣ ـ آيات صلاة الخوف

كقوله تعالى :( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ منْهُم معَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى من مطَرٍ أَوْ كُنتُم مرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) (١) .

وكقوله تعالى :( فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم ما لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ) (٢) .

قال السيوطي : ( أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق والبخاري وابن جرير والبيهقي من طريق نافع قال : كان ابن عمر إذا سُئل عن صلاة الخوف ، قال :

يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلّي بهم الإمام ركعة ، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلّوا ، فإذا صلّى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلّوا ولا يسلّمون ، ويتقدم الذين لم يصلّوا فيصلون معه ركعة ، ثم ينصرف الإمام وقد صلّى ركعتين ، فتقوم كل واحدة من الطائفتين فيصلّون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام ، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلّى ركعتين ، وإن كان خوف هو أشد من ذلك صلّوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها

ــــــــــــــ

(١) النساء : ١٠٢ .

(٢) البقرة : ٢٣٩ .

٢٣٣

قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلاّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

وقال المراغي في تفسيره : ( أي وإذا سافرتم أيّ سفر فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجّة الدين إذا قصّرتم الصلاة : أي تركتم شيئاً منها فتكون قصيرة ، بشرط أن تخافوا فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما ، وليس هذا خاصاً بزمن الحرب ، بل إذا خاف المصلّي قُطّاع الطريق كان له أن يقصر هذا القصر ، وليس هذا هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبيّن في كتب الفقه ، إذ هذا مأخوذ من السنّة المتواترة ، بل المراد هنا القصر في صلاة الخوف المذكور في الآية )(٢) ، ففي هذه الآية الكريمة أمر وجوبي بتقصير الصلاة والإتيان بها على غير الهيئة والصورة التي يأتي بها المكلّف في حال الاختيار ، كل ذلك خوف فتنة الكافرين وقُطّاع الطرق وغيرهم من الظالمين ، فالحكم الشرعي الإلهي يتغيّر في حال الخوف من الكافرين والظالمين ، وهذا هو بعينه مورد التقية ، فتكون التقية مورداً ومصداقاً من مصاديق عموم الآية المباركة ، وهو تغيير الحكم الشرعي في حال الخوف والحذر .

والأمر في هذه الآية المباركة أوجب التغيير في الصلاة في حال الخوف مع كونها عمود الدين ، فكيف بك فيما دون ذلك ؟!

فتحصّل من الآيات المذكورة أنّ الكتمان والحذر تقية من الكافرين قد يبلغ مرحلة الوجوب .

ــــــــــــــ

(١) الدر المنثور : ج١ ص٣٠٨ .

(٢) تفسير المراغي : ج٢ ص٢٩٩ .

٢٣٤

وجوب التقيّة في السنّة النبوية

١ـ ما تقدم من قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا إيمان لمَن لا تقيّة له ) (١) ، وفي كنز العمّال نقل المتقي الهندي عن عليعليه‌السلام أنّه قال :( لا دين لمَن لا تقيّة له ) (٢) وهذا المضمون في الرواية صريح في قوّة ملاك التقية كما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا دين لمَن لا ورع له ) (٣)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا دين لمَن لا أمانة له ) (٤) وغيرها من المسائل التي استدلّ على وجوبها بمثل هذا اللسان من الروايات .

٢ـ قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار وهو يمسح عينيه :( ما لك ؟ إن عادوا لك فعد لهم لما قلت ) (٥) وهذا أمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار باتخاذ التقية ، وقد حقق في علم الأصول أنّ الأمر ظاهر في الوجوب ، خصوصاً وأنّ رسول

ــــــــــــــ

(١) المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : ج٧ ص٦٤٣ .

(٢) كنز العمال ، المتقي الهندي : ج٣ ص٩٦ ح٥٦٦٥ .

(٣) ينابيع المودة : القندوزي : ص٢٩٧ .

(٤) المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : ج٧ ص٢١٢ .

(٥) تقدم ذكر المصادر .

٢٣٥

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصف عمّاراً بأنّه( ما خيّر عمار بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما ) (١) .

٣ـ ما تقدّم من تقية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قريش في مسألة بناء الكعبة ، وكذا تقيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل إعلان دعوته بخمس عشرة سنة ، حيث كان يدعو إلى الإسلام سرّاً وهو خائف ، ولا شك أنّ ذلك كان بأمر وإيجاب من الله تبارك وتعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن يتخذ ما هو الأصلح للدين والشريعة الإسلامية .

٤ـ ما تقدّم أيضاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة وشبك بين أصابعه ، قلت : يا رسول الله ، ما تأمرني ، قال :اصبر اصبر اصبر ، خالقوا الناس بأخلاقهم وخالفوهم في أعمالهم )(٢) ، فيجب على المؤمن أن لا يتقصّد فعل القبائح التي يمارسها حثالة الناس ، وإن كان من الواجب عليه أيضاً التسلّح بسلاح التقية في أوساطهم ، إذ لا يمكن مخالقة تلك الحثالة بأخلاقهم من غير تقية ، وهذه الرواية أيضاً جاءت بلسان الأمر الدال على الوجوب .

٥ـ ما نقلناه أيضاً عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه ، قيل يا رسول الله ، وكيف يذل نفسه ؟قال أن يتعرّض من البلاء لما لا يطيق )(٣) والتعبير بلا ينبغي لا شك في ظهوره في الوجوب .

ــــــــــــــ

(١) تفسير القرطبي : ج١٠ ص١٨١ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص٣٤٣ .

(٣) المعجم الكبير ، الطبراني : ج١٢ ص٣١٢ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج٧ ص٢٧٤ ـ ٢٧٥ .

٢٣٦

وجوب التقيّة عند علماء أهل السنّة

لا شك أنّ التعبير عن حكم شيء بـ (الرخصة) لا يعني الإباحة وعدم الوجوب في كلمات أعلام السنّة ، بل قسّموا الرخصة إلى واجبة ومندوبة ومباحة :

١ـ كما ذكر ذلك النووي في كتابه الفقهي المجموع ، حيث قال : ( فرع في بيان أقسام الرخص الشرعية ، هي أقسام ، أحدهما : رخصة واجبة ولها صور ، منها مَن غص بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إلاّ خمراً وجبت إساغتها به ، وهي رخصة نصّ الشافعي على وجوبه ، واتفق الأصحاب عليه ، ومنها أكل الميتة للمضطر رخصة واجبة على الصحيح )(١) .

٢ـ وبنفس المضمون ما ذكره الفقيه الحجاوي في الإقناع ، حيث إنّه قال ، وهو في صدد تعداد الموارد التي يجوز فيها شرب الخمر : ( وبالمختار المصبوب في حلقه قهراً ، والمكره على شربه ؛ لحديث :( رُفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وبغير ضرورة ما لو غصّ ، أي شرق بلقمة ولم يجد غير الخمر فأساغها بها فلا حدّ عليه ؛ لوجوب شربها إنقاذاً للنفس من الهلاك والسلامة بذلك قطعية بخلاف الدواء ، وهو رخصة واجبة )(٢) .

٣ـ وبنفس المضمون أيضاً ما ذكره الخطيب الشربيني في كتابه الفقهي مغني المحتاج(٣) .

ــــــــــــــ

(١) المجموع ، النووي : ج٤ ص٣٣٦ .

(٢) الإقناع ، محمد بن أحمد الشربيني : ج٢ ص١٨٧ .

(٣) مغني المحتاج : ج٤ ص١٨٦ .

٢٣٧

٤ـ وكذا ما ذكره البكري الدمياطي في كتابه الفقهي إعانة الطالبين(١) .

وهذا يعني أنّ العلماء والفقهاء من أهل السنّة عندما يعبّرون عن التقية بأنّها رخصة لا يعني ذلك أنّها ليست واجبة أو لا تصل إلى مرتبة الوجوب في بعض أمثلتها ومواردها ، بل هي عندهم تنقسم بحسب الأحكام الشرعية ، فقد تكون واجبة في بعض أمثلتها ومواردها وقد تكون مندوبة وراجحة وقد تكون مرجوحة وقد تكون مباحة بلا راجحية أو مرجوحية ؛ ولذا نجدهم عندما وصلوا إلى مبحث الإكراه الذي هو من أوضح مصاديق وموارد التقية قسموا أمثلته إلى واجبة وراجحة من غير وجوب ومرجوحة ، وهكذا الاضطرار ـ الذي تعدّ التقية مثالاً من أمثلته في بعض الموارد ـ حيث ذكروا لوجوب الإتيان بما اضطر إليه أمثلة عديدة وقد سبق ذكر بعضها .

وبناءً على ذلك يكون قول الفقهاء المتقدمين وغيرهم بوجوب شرب المكره للخمر وكذا المضطر ـ لأجل السلامة وحفظ النفس من الهلاك ـ نصّاً منهم على وجوب التقية وبلوغ ملاكها حدّ الإلزام ، وإن لم يُسمّه بعضهم اصطلاحاً بالتقية ولا تشاحّ في الاصطلاح .

٥ ـ وقد نصّ على ذلك الجصاص في ( أحكام القرآن ) ناسباً ذلك إلى كافة الأصحاب ، حيث قال : ( وقال أصحابنا فيمَن أكره بالقتل وتلف بعض الأعضاء على شرب الخمر أو أكل الميتة لم يسعه أن لا يأكل ولا يشرب ، وإن لم يفعل حتى قتل كان آثماً ؛ لأنّ الله تعالى قد أباح ذلك في حال

ــــــــــــــ

(١) إعانة الطالبين : ج٤ ص١٧٦ .

٢٣٨

الضرورة عند الخوف على النفس ، فقال :( إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) (١) والذي يُفهم من كلام الجصاص هو ما أكدناه سابقاً ، من أنّ الإباحة والرخصة في الإكراه قد تكون واجبة ، وهذا ما فهموه أيضاً من آيات رفع الحرج عن المضطر وكذا حديث رفع الإكراه والاضطرار

والحاصل من مجموع كلماتهم : إنّ التقية الواجبة ذات الملاك الملزم هي الناتجة عن دفع الضرر الذي يجب دفعه ، كالقتل أو تلف بعض الأعضاء أو غيرها .

ويمكن فهم ذلك أيضاً من اتفاقهم على القول بوجوب الكذب في بعض الموارد ، كما لو أدى الصدق وعدم الكذب على الظالم إلى سفك دم مسلم من المسلمين ، كما تقدم نقل ذلك عن ميمون بن مهران .

٦ـ وقال الغزالي في إحياء العلوم : ( إنّ عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم اختفى من ظالم ، فالكذب فيه واجب )(٢) .

٧ـ وقال النووي : ( اتفق الفقهاء على أنّه لو جاء ظالم يطلب إنساناً مختفياً ليقتله أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصباً وسأل عن ذلك وجب على مَن علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به ، وهذا كذب جائز ، بل واجب لكونه في دفع الظالم )(٣) .

وقال في موضع آخر : ( ولا خلاف أنّه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده

ــــــــــــــ

(١) أحكام القرآن : ج٣ ص٢٤٩ .

(٢) إحياء العلوم : ج٣ ص١٣٧ .

(٣) شرح صحيح مسلم : ج١٥ ص١٢٤ .

٢٣٩

مختف وجب عليه الكذب في أنّه لا يعلم أين هو )(١) .

٨ـ ونقل الحطّاب الرعيني في المواهب عن ابن ناجي في باب جمل من الفرائض قوله : ( إنّ الكذب الواجب هو الذي لإنقاذ مسلم أو ماله )(٢) .

ولا شك أنّ هذه الأمثلة ونظائرها من أوضح مصاديق التقية ؛ لأنّ الكذب إظهار ما هو خلاف الحق والواقع ، بسبب الخوف من ضرر الغير الظالم ، وهذه هي التقية بعينها كما تقدم ذلك في تعريفها وبيان حقيقتها ومناشئها ، غاية ما في الأمر أنّ ضرر الغير الظالم في المثال المذكور ينصبّ على مال المسلم أو عرضه أو نفسه ، فيخاف صاحب التقية عليه ، فيكذب دفعاً لذلك الضرر ، وحكم هذا الكذب هو الوجوب كما سبق آنفاً دعوى الإجماع والاتفاق عليه ، وبنفس المناط والملاك ومناسبات الحكم والموضوع يشمل ذلك الكذب الواجب ، ما لو كان كذبه يدفع الضرر عن نفسه أو عرضه أو ماله ، والتقية لا تزيد على ذلك في حقيقتها وماهيتها .

فعندما يعبّر بعض العلماء والفقهاء عن التقية بأنّها رخصة لا يريد من ذلك عدم الوجوب ، بل قد تصل في بعض مراتبها إلى الوجوب ، كما في المثال المتقدم عن ميمون بن مهران ، الذي لا شك في كونه من أمثلة التقية ، كما لا شك في اتفاقهم على وجوبه .

ومن هنا يتضح أنّ حكم التقية يختلف باختلاف أمثلته ، فقد تكون التقية في بعض أمثلتها مباحة فقط ، وذلك فيما لو لم يكن ملاكها أرجح من ملاك تركها ، وقد تكون واجبة فيما إذا كان ملاك أرجحيتها على نحو

ــــــــــــــ

(١) شرح صحيح مسلم : ج١٦ ص١٥٨ .

(٢) مواهب الجليل ، الحطاب الرعيني : ج٧ ص٣١٤ .

٢٤٠