الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ٢

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية0%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 343

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: الصفحات: 343
المشاهدات: 216808
تحميل: 7899


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 216808 / تحميل: 7899
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اللزوم كما سبق ذكره ، وقد تكون محرمة إذا أوجبت مفسدة كبيرة يجب تركها ، ومثاله ما لو أُكره على قتل مؤمن مثلاً ، وهكذا باقي الأحكام الأخرى ، فقد تكون مستحبة فيما لو كانت الرخصة فيها على سبيل الندب والأرجحية ، كما أشار إلى ذلك النووي في المجموع ، حيث قال في معرض ذكره لأقسام الرخصة : ( الثالث : رخصة يندب فعلها )(١) وقد تكون التقية رخصة أيضاً ولكن تركها أفضل من فعلها ، فيما لو كان ملاكها مرجوحاً لا على نحو الإفساد الذي يوجب الحرمة ؛ ولذا قال النووي أيضاً في معرض ذلك التقسيم : ( الثاني : رخصة تركها أفضل )(٢) .

٩ ـ ممّا يكشف أيضاً عن كون الجواز في التقية لا يعني عدم الوجوب في كلمات أعلام السنّة ما ذكره الفخر الرازي ، حيث قال بعد أن صرح بجواز التقية : ( وروى عوف عن الحسن أنّه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى ؛ لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان )(٣) ، فاستدلاله على مشروعية التقية بمواردها الواجبة واضح في أنّ ذكره لجواز التقية إنّما هو لبيان أصل مشروعيتها لا نفي وجوبها في بعض الأحيان

أدلة الإكراه ووجوب دفع الضرر شرعاً

ذهب الفقهاء إلى أنّ الإكراه والاضطرار إذا بلغ ضرره على النفس يجب على المكره والمضطر فعل ما أُكره عليه أو اضطرّ إليه ، ولا نريد الدخول في أدلة ذلك ، ولكن نقول تقدّمت الإشارة إلى بعض أقوال العلماء في ذلك ، وذكروا أيضاً أنّ مَن انقطع به الطريق وأشرف على الهلاك ولم يكن بين يديه إلاّ الميتة أو الماء النجس أو البول أو غير ذلك من المحضورات وجب عليه ـ حفظاً لنفسه من الهلاك ـ تناول الميتة أو غيرها ، ولا شك أنّ صاحب التقية قد تصل به الحال إلى أنّه قد يقتل إذا لم يُظهر التقية ، فبنفس ملاك حفظ النفس من الهلاك الذي بلغ بالإكراه والاضطرار إلى مرتبة الوجوب ، قد يبلغ أيضاً بالتقية مبلغ الوجوب والإلزام .

ــــــــــــــ

(١) المجموع ، النووي : ج٤ ص٣٣٦ .

(٢) المجموع ، النووي : ج٤ ص٣٣٦ .

(٣) تفسير الفخر الرازي : ج٨ ص١٥ .

٢٤١

وجوب التقية في نظر العقل والعقلاء

سبق أنّ للعقل والعقلاء دوراً مهمّاً في ترسيخ مبدأ التقية في الأوساط الاجتماعية ؛ لأنّ التقية ودفع الضرر بصورة عامة فطرة بشرية رافقت الإنسان والشرائع السماوية ، وقد أمضت الشرائع تلك الفطرة ولم تصطدم معها ، بل أكّدتها وحكمت بحكمها ، ومن الواضح أنّ الفطرة والعقل والعقلاء يدركون أنّ الضرر قد يبلغ لزوم رفعه مبلغ الوجوب بحسب نوع الضرر المحتمل ؛ ولذا من جملة ما استدلّ به على وجوب البحث عن الخالق والعقائد الدينية بصورة عامة هو وجوب دفع الضرر المحتمل ، وليس ذلك إلاّ لكون الضرر المحتمل عظيماً جداً ، وهو ما أخبر به الأنبياء والرسل من النار والعذاب والحرمان لمَن لم يؤمن بالعقائد السماوية الحقّة ، وهكذا استدل على جملة من الأمور الفرعية في الفقه بما حكم به العقل والعقلاء من وجوب دفع الضرر .

وهكذا العقل وكذا العقلاء يدركون أنّ الضرر في موارد التقية قد يكون دفعه أو رفعه واجباً ، كالتكلّم ببعض الكلمات التي تكون مخالفة للواقع وبها يدفع عن نفسه أو عرضه أو ماله الضرر

وهذا الحكم العقلي والعقلائي قد أقرّه الشارع في القرآن والسنّة النبوية وجاء في أقوال العلماء والفقهاء .

فوجوب التقية شرعاً إنّما هو إمضاء لحكم العقل بوجوب دفع الضرر في الدنيا وما بعد الموت ، حيث إنّ العقل يُلزم الإنسان بالبحث عمّا يحصل بعد الموت ؛ وذلك لأنّ المحتمل ملاكه شديد جدّاً ، وهو الهلاك والعذاب الدائم الأبدي .

وبناءً على ذلك يحكم العقل بوجوب التقية حتى وإن كان الضرر محتملاً مع خطورة وشدّة ذلك الضرر ، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ إظهار الحقيقة ـ من دون أن يحتوي ذلك الإظهار على أي مبدأ من المبادئ السامية كالجهاد والتضحية ونحوهما ـ قد يكون موجباً للفتنة والخروج عن تلك الحقيقة وعن الدين ، بسبب ما يلاقيه من عذاب واضطهاد من قِبل الظالمين .

٢٤٢

وجوب التقية في سيرة المسلمين

الذي يتصفّح تاريخ المسلمين سواء على المستوى الفردي أو الجماعي ، يجد أنّهم قاموا بتلبية نداء الفطرة والعقل بوجوب التقية ووجوب دفع الضرر ؛ وذلك عندما كانوا يمرون بمنعطفات حادّة وخطيرة ، فنلاحظهم ينسابون مع تلك الفطرة بإخفاء عقيدتهم وإظهار خلافها أمام الظالمين .

وقد وقفنا سابقاً على النزر اليسير من سيرة المسلمين في هذا المضمار ، سواء في المواقف الفردية التي كان يتخذها العلماء أو عامة الناس ، أم في المواقف الاجتماعية والعامة ، التي وقفها المسلمون أمام المحن الشديدة والفتن العارمة ، التي كانوا يمرون بها في التاريخ العصيب الذي مرّت به الأمة الإسلامية ، والطغاة والظالمين الذين حكموا رقاب الناس ، وأمثلة ذلك كثيرة جداً .

منها ما سبقت الإشارة إليه ، وهي محنة خلق القرآن ، حيث أجاب جلّ المسلمين ـ الذين آمنوا بعدم خلق القرآن الكريم ـ بأنّ القرآن مخلوق عندما امتحنوا في تلك المسألة .

ومن تلك المواقف أيضاً فتنة الأسود العنسي ، حيث قال ابن كثير وغيره في تلك الفتنة : ( واستوثقت اليمن بكاملها للأسود العنسي ، وجعل أمره يستطير استطارة الشرارة واشتدّ ملكه واستغلظ أمره ، وارتدّ خلق من أهل اليمن ، وعامله المسلمون الذين هناك بالتقية )(١) .

وليست هذه السيرة وتلك المواقف إلاّ إجابة لنداء الفطرة وإدراك العقل القاضيان بوجوب التقية ولزوم التمسّك بها في مثل هذه الفتن والابتلاءات ، ولو كان هناك ردع نبوي أو قرآني عن مثل تلك التقية لما كانت التقية سلوكاً عامّاً يتبعه الفرد والمجتمع الإسلامي ، خصوصاً وأنّ مثل تلك المحن كانت توجب الافتتان في الدين والارتداد عن الإسلام ، كما حصل ذلك من بعض أهل اليمن عندما افتتنهم الأسود العنسي بشدّته وغلظته .

ــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ج٦ ص٣٣٩ ؛ تاريخ ابن خلدون : ج٢ ق٢ ص٦٠ .

٢٤٣

منزلة التقيّة في الإسلام

لا دين لمَن لا تقيّة له :

من الشبهات التي تُثار حول الشيعة في بحث التقية هي أنّهم يجعلون التقية في مصاف أصول الدين وأركانه ، استناداً إلى بعض مرويّاتهم التي يروونها عن أهل بيت العصمة والطهارة ، كقول الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :( التقية ديني ودين آبائي ولا دين لمَن لا تقيّة له ) (١) ؛ حيث استنكر البعض مثل هذه التعابير حول مبدأ التقية ، وقال : كيف تُجعل التقية من الدين وأنّ مَن لا تقية له لا دين له ؟!

وللإجابة عن هذا التساؤل وجوه عديدة نشير إلى بعضها :

١ـ إنّ المضمون السابق الذي ورد حول التقية عن أهل البيتعليهم‌السلام ورد بذاته عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( لا دين لمَن لا تقية له ) (٢) ، ولم تكن التقية هي المفردة الوحيدة التي عبّر عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك التعبير ، بل هناك الكثير من المفردات الدينية التي عبّر عنها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتعبير ذاته ، وذلك كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا دين لمَن لا ثقة له ) (٣) ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا دين لمَن لا أمانة له ) (٤) ، و :( لا دين لمَن لا عهد له ) (٥) ، و :( لا دين لمَن لا

ــــــــــــــ

(١) المحاسن ، البرقي : ج١ ص٢٥٥ .

(٢) المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : ج٧ ص٦٤٣ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج٣ ص٩٦ ؛ ينابيع المودة ، القندوزي : ج٢ ص٨٤ .

(٣) تاريخ جرجان ، السهمسي : ص٢٠٠ .

(٤) السنن الكبرى ، البيهقي : ج٦ ص٢٨٨ ؛ المصنف ، الصنعاني : ج١١ ص١٥٧ ؛ المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : ج٧ ص٨٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج٨ ص٢٤٧ .

(٥) مسند أحمد : ج٣ ص١٣٥ ؛ صحيح ابن حبان : ج١ ص٤٢٣ .

٢٤٤

ورع له ) (١) ، و :( لا دين إلاّ بمروءة ) (٢) ، فمثل هذه التعابير في التقية وفي غيرها كثيرة جدّاً ومتواترة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يسع الباحث إنكارها والتهجّم عليها ، بل لا بد من فهم معانيها والوقوف على المراد منها ، كما سوف يتضح ذلك في الوجوه اللاحقة .

٢– إن تلك المفردات الدينية جعلها الشارع للمحافظة على الفرد المسلم وعلى دينه من خلال التحلّي والتسلّح به ؛ لأنّ ترك التقية ـ مثلاً ـ قد يوجب الافتتان في الدين والردّة عن الإسلام ، فمعنى كون التقية دين ، هو أنّ ديمومة عقيدة الشخص أو المجتمع والمحافظة على استمرارية الدين في تلك الأوساط ، وعدم الخروج عنه جرّاء الفتن والبلاء ، إنّما يكون عن طريق استخدام التقية ونظائرها والتسلح بها كسلاح وقائي ، من أجل الدفاع عن النفس والمال والعرض ، وبالتالي الحفاظ على دين الشخص من كيد الظالمين .

وهكذا الكلام في بقيّة المفردات الأخرى كالورع والأمانة وحفظ العهد والغيرة والمروءة وغيرها ، كل تلك الأمور تعتبر أسلحة مؤثّرة تساعد الفرد على حفظ دينه من خلال التمسّك بها ، وفي غير ذلك يكون دينه في معرض التلف والضياع كما ستأتي الإشارة إلى ذلك لاحقاً .

٣ ـ لا ريب أنّ أي مفردة وأي عقيدة أو حكم شرعي جاءت به الشريعة الإسلامية يوجب إنكاره الكفر والخروج عن الدين الإسلامي ، إذا كان ذلك الفرد عالماً بثبوته في الشريعة الإسلامية ، بمعنى أنّ الله عزّ وجل

ــــــــــــــ

(١) ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ج٣ ص٢٩٧ .

(٢) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج١٨ ص١٢٨ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج٩ ص٢٩٨ .

٢٤٥

لا يقبل من الفرد المسلم أن يؤمن ببعض الشريعة الإسلامية ويكفر ببعضها الآخر ، ولذا ذمّ الله سبحانه الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه الآخر ، حيث عدّهم من المنافقين أو الكافرين الخارجين عن الشريعة الإسلامية ، قال تعالى :( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (١) وغير هذه الآية من الآيات المباركة التي تؤكّد على ضرورة الإيمان بالشريعة الإسلامية بكاملها ، فإذا ثبت أنّ مفردة هي من المفردات الإسلامية ، فإنّ إنكارها مع العلم بثبوتها في الشريعة الإسلامية يوجب الكفر والخروج عن الدين وتكذيب سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمَن ينكر التقية بعد علمه بكونها من الشريعة الإسلامية الحقّة عن القرآن والسنّة النبوية يكون خارجاً عن الدين ، فيصح أن يقال في حقّه :( لا دين لمَن لا تقية له ) أي مَن أنكر التقية بعد علمه بثبوتها شرعاً يكون خارجاً عن الدين .

ولذا ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :( يا أيّها الناس ، إنّه لا دين لمَن دان بجحود آية من كتاب الله ، يا أيّها الناس ، إنّه لا دين لمَن دان بفرية باطل ادعاها على الله تبارك وتعالى ، يا أيّها الناس ، إنّه لا دين لمَن دان بطاعة مَن عصى الله تبارك وتعالى ) (٢)

٤ـ إنّ هذه المضامين التي وردت في التقية وفي غيرها ، تشير إلى

ــــــــــــــ

(١) البقرة : ٨٥ .

(٢) طبقات المحدثين باصبهان ، ابن حبان : ج٣ ص٢٥ ؛ ذكر اخبار اصبهان ، الحافظ الاصبهاني : ج١ ص٢٢٧ .

٢٤٦

المضمون الذي ورد في قوله تعالى :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١) ، فحيث ثبت أنّ التقية بدفع الضرر وجلب الكمال من مقتضيات الفطرة التي فطر الله عزّ وجل الناس عليها ، فلا شك حينئذٍ في كون الفطرة من الدين القيّم ، ويصح عندها قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا دين لمَن لا تقية له ) ويصح قول الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :( التقية ديني ودين آبائي ) ؛ وذلك لأنّ مَن يحافظ على فطرته بصورة سليمة وصافية كالمعصوم يشاهد وبوضوح كيف أنّ التقية فطرية ، وكيف أنّ الفطرة هي دين الله القيّم الذي لا تبديل له .

وهذا لا يعني جعل التقية في عداد أصول الدين وأركانه التي بُني عليها كالتوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد والعدل أو كالصلاة والحج والخمس والزكاة وغيره ؛ وذلك لتفاوت الأمور الفطرية في درجاتها سعةً وضيقاً وتأثيراً ، وكم هي الأمور الفطرية التي تُعد فروعاً لفطرة وشجرة التوحيد الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، فلتكن التقية من تلك الفروع المباركة لتلك الشجرة الطيبة ، مع الحفاظ على أصالة التوحيد ومحوريته في الدين ، والحفاظ أيضاً على كون التقية فرعاً من الفروع الفطرية وحكماً من الأحكام العقلية والعقلائية والشرعية ؛ ولذا نحن نؤمن بأنّ التقية من الأحكام الشرعية الفرعية ولا تبلغ أصول الدين في الرتبة ، ومع ذلك نؤمن بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(لا دين لمَن لا تقية له ) وذلك قضاء لنداء الفطرة وتلبية لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا جارٍ أيضاً في المفردات الأخرى التي ذكرت في الروايات ، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا دين لمَن لا ورع له ) وغيرها ممّا تقدم .

ــــــــــــــ

(١) الروم :٣٠ .

٢٤٧

ومن جميع ما سبق يظهر لنا مقام التقية في الإسلام وأنّها من الدين ولا دين لمَن لا تقية له ، وبها يتسلّح المسلم للحفاظ على دينه ونفسه وماله وعرضه ، ومَن ينكرها مع تصريح الآيات القرآنية بها ونص الروايات النبوية عليها يكون منكراً لضروري من ضروريات الدين ورادّاً على الله عزّ وجل في قرآنه وعلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنّته .

بل نجد أنّ بعض مَن تركها منكراً لها ارتدّ عن الدين وكفر بالإسلام ، كما تقدّم ذلك في أهل اليمن وفتنة الأسود العنسي .

وبعد ذلك كلّه كيف يشنّع على الشيعة تعظيمهم لمقام التقية وتمسّكهم بها للحفاظ على دينهم ، خصوصاً إذا لاحظنا ما تعرّضت له هذه الطائفة من الظلم والاضطهاد والتشريد والقتل على مرّ التاريخ وإلى يومنا هذا .

ولم يقتصر تعظيم التقية وبيان مقامها في الدين على الشيعة أو أئمّتهمعليهم‌السلام ، بل سبق قول التابعي مكحول الدمشقي في التقية : ( ذلّ مَن لا تقية له ) ، وقد جعلها الصحابي أبو الدرداء من علامات العاقل عندما قال : ( ألا أنبئكم بعلامة العاقل ؟ يتواضع لمَن فوقه ، ولا يزري بمَن دونه ، ويمسك الفضل من منطقه ، يخالق الناس بأخلاقهم ، ويحتجز الإيمان فيما بينه وبين ربّه جلّ وعَزّ ، وهو يمشي في الدنيا بالتقية والكتمان )(١) .

والتقية هي ما اختاره عمار بن ياسر ، والرشد فيما اختاره عمار .

وقد كان حذيفة بن اليمان يعتبر التقية شراء للدين وحفظاً للشخص عن الفتنة والارتداد والخروج عن الدين .

ــــــــــــــ

(١) تقدّم ذكر المصدر .

٢٤٨

وقد اعتبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك التقية في بعض المواطن ذلاًّ وهواناً للمؤمن ، كما فهم ذلك ابن عمر والتزم به تحت منبر الحجّاج عندما كان يتحدث بالمنكرات على منبر الإسلام(١) .

وغير ذلك ممّا ذكرناه وممّا لم نذكره رعايةً للاختصار .

التقيّة في القول والفعل

من الجدير بالذكر أنّ إطلاق الآيات والروايات المتقدمة كما أنّها تشمل القول تشمل الفعل أيضاً ، دون كبائر المحرمات كالقتل وما هو بمرتبته ، وهذا أيضاً ما تحكم به الفطرة ويؤيّده العقل ، فلا ريب أنّ الأمر لو دار بين القتل وبين بذل مقدار من المال أو الإتيان ببعض الأفعال فإن العقل يحكم بضرورة الإتيان بذلك الفعل ، وأن لا يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة ، وهذا ما تشهد على صحته الآيات والروايات ، وأقوال العلماء حول مبحث الإكراه والاضطرار ، كأكل الميتة وشرب الخمر وغيرهما .

وكل ذلك يدور مدار تقديم الأهم على المهم ، وهو مبدأ عقلائي لا شك في ضرورته ومشروعيته.

وهذا ما تقدّم وسيأتي أيضاً في كلام النووي من أنّ العلماء عمّموا عدم مؤاخذة المكره لكل ما أُكره على الإتيان به ، بعد أن سمح الله عزّ وجل بالكفر الذي هو أصل الشريعة .

ــــــــــــــ

(١) المعجم الأوسط ، الطبراني : ج٥ ص٢٩٤ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج٧ ص٢٧٤ .

٢٤٩

وقال الشوكاني فيما سبق من كلامه في هذا المجال في تفسيره : ( وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أنّ هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنّما جاءت في القول ، وأمّا في الفعل فلا رخصة ، مثل أن يكره على السجود لغير الله ، ويدفعه ظاهر الآية ، فإنّها عامة فيمَن أكره من غير فرق بين القول والفعل ، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول ، وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرّر في علم الأصول )(١) ، بل نقول إضافة إلى ما ذكره الشوكاني : أنّ جميع أدلة التقية مطلقة وشاملة للفعل ، ولكن فيما لم يبلغ مبلغ القتل مثلاً .

سعة دائرة التقيّة

لماذا يتقي المسلم أخاه المسلم ؟

في المقدمة لا بد أن يعلم أنّ حكم التقية ومشروعيتها باقٍ إلى يوم القيامة لم يُنسخ ولم يُغيّر ، وقد اتفقت كلمة العلماء على ذلك ، وسبق وأن نقلنا قول الحسن البصري : ( التقية جائزة إلى يوم القيامة ) ، وهذا واضح لم ينكره أحد .

ولكن هل يختص حكم التقية بالتقية مع الكافرين ، أو أنّه يشمل المسلمين فيما بينهم ، إذا تشاكلت الحالة في الظلم والجور والاضطهاد ؟

ومن الواضح أنّ روايات أهل البيتعليهم‌السلام وأقوال وفتاوى علماء الشيعة تنصّ على جواز تقيّة المسلم مع المسلم الآخر ، إذا كان ذلك المسلم ظالماً يضطهد كل مَن يخالفه في الرأي والمعتقد ويعتدي عليه بالقتل والفتك وألوان العذاب .

ــــــــــــــ

(١) فتح القدير ، الشوكاني : ج٣ ص١٩٧ .

٢٥٠

وهذا هو مذهب الشافعي أيضاً ، حيث يقول : ( إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس )(١) .

وكذلك هو مذهب كل مَن يعمّم بحث الإكراه والاضطرار ووجوب الكذب في بعض موارده إلى الإكراه والاضطرار فيما بين المسلمين ، إذا أكره بعضهم البعض الآخر أو اضطره على فعل المحرم أو أجبره على الكذب .

ولا ريب أنّ إجماع الفرق الإسلامية قائم على أنّ المكره يباح له الإتيان بما أكره عليه وإن كان الشخص الذي أكرهه مسلماً ، لكنّه ظالم جائر ، وهكذا المضطر ؛ ولذا أجمعوا على وجوب الكذب لإنقاذ المسلم أو ماله أو عرضه أو بعض أعضائه من الظالم وإن كان مسلماً ، ولم يقيّدوا الظالم بما إذا كان كافراً .

وحيث تقدم أنّ ذلك كلّه من شعب التقية ومواردها ، فيكون عموم التقية ـ ولو في تلك الموارد ـ من المسائل الاتفاقية ، وهذا إجماع على جواز التقية فيما بين المسلمين ، إلاّ أنّ الاختلاف في مواردها وحدودها ، ولا بد أن نرجع في التحديد إلى الأدلة كما سيأتي لاحقاً .

تقية المسلم مع المسلم في القرآن الكريم

إنّ الآيات السابقة التي أثبتنا بها مشروعية التقية شاملة بإطلاقها وعمومها للتقية مع كل ظالم ومتجبّر قاهر ، وإن كان مسلماً في العقيدة ، فالآيات الكريمة وخصوصاً الأولى والثانية ، وإن كان مورد نزولها هو التقية مع الكافرين ، إلاّ أنّ علماء الأصول عموماً يثبتون أنّ مورد النزول لا يخصص الآية الواردة إذا كانت عامة ومطلقة ، ولا شك أنّ قوله تعالى :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) شامل لإكراه مطلق الظالم وإن كان مسلماً بحسب الظاهر ، وكذا قوله تعالى :( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) فهو في مقام بيان أساس مشروعية التقية وموردها وإن كان مع الكافرين ، إلاّ أنّه لا يخصّص الوارد ، وأيضاً قوله تعالى :( يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) ، فهو في صدد إثبات مشروعية كتمان الإيمان وأرجحيته حفاظاً على النفس وخوفاً من الفتنة ، وكونها واردة في الكتمان مع فرعون الكافر لا يوجب تقييد الآية وتخصيصها .

ــــــــــــــ

(١) نقلاً عن تفسير الفخر الرازي : ج٨ ص١٥ .

٢٥١

وبناءً على ذلك يكون تخصيص التقية عند بعض علماء السنّة بالتقية مع الكافرين استناداً إلى تلك الآيات المباركة في غير محلّه ، ومنافياً لصريح ما أثبته جملة الأصوليين ، من أنّ المورد لا يخصّص الوارد.

وهكذا يمكن الاستدلال على ذلك بإطلاق آيات الاضطرار ، كقوله تعالى :( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) ، وقد تقدّم أنّ مورد التقية نوع من أنواع الاضطرار .

وأيضاً يمكن التدليل على ما ذكرناه بآيات الحذر من المنافقين ، مع أنّهم يجري عليهم حكم الإسلام ظاهراً ، كقوله تعالى :( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (١) .

فالآية المباركة تحث المسلمين على الحذر من المنافقين ، الذين هم مسلمون بحسب الظاهر ، ولا شك أنّ التقية نوع من أنواع الحذر ، فتكون الآية شاملة بإطلاقها للتقية .

تقيّة المسلم مع المسلم في السنّة النبوية

الروايات التي تقدم ذكرها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاملة وعامة لجميع موارد الحذر والتقية وإن كان الظالم مسلماً ، بل بعضها صريح في الشمول ، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( اللّهمّ أظهر عليهم أفضلهم تقية ) ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة : ( لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت ) وقوله أيضاً :صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقية ) وغيرها من الروايات التي تقدّمت ، وهي ظاهرة بل صريحة في مشروعية تقية المسلمين بين بعضهم البعض ، وتخصيصها بالكافرين بلا موجب ، بل لا وجه له .

وهكذا يدل على الشمول حديث رفع الإكراه الذي تقدّم نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــــ

(١) المنافقون : ٤ .

٢٥٢

تقيّة المسلم مع المسلم في سيرة المسلمين وأقوال العلماء

الذي يلاحظ سيرة المسلمين يجد أنّهم مارسوا مبدأ التقية مع الظلمة الذين هم على ظاهر الإسلام ، وهكذا العلماء والفقهاء حكموا بذلك قديماً وحديثاً ، وقد سبق ذكر الكثير من الشواهد الدالة على ذلك ، وإليك الإشارة إلى بعضها مع الاختصار :

١ـ قول عبد الله بن مسعود المتقدم : ( ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عنّي سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلّماً به )(١) ، فلم يخص عبد الله بن مسعود التقية بالتقية مع الكافرين فحسب .

٢ـ تقية أبي هريرة مع المسلمين في الحديث ، حيث بثّ وعاءاً وكتم الآخر .

٣ـ تقية حذيفة بن اليمان مع عثمان بن عفان المتقدمة .

٤ـ تقية عبد الله بن عمر مع الحجاج وقد تقدمت أيضاً ، حيث استفاد ابن عمر عموم التقية مع المسلم الظالم من قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه ) (٢) .

٥ ـ ما تقدم من فهم عبد الله بن عباس عموم قول الله عزّ وجل :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، حيث فهم شمولها لمطلق العدو ، إذ قال : ( فأمّا مَن أُكره فتكلّم به لسانه وخالفه قلبه لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه )(٣) وقال أيضاً في موضع آخر : ( التقية باللسان من حمل على أمر يتكلّم به وهو لله معصية ، فتكلّم مخافة على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه )(٤) ، فلم يفهم ابن عباس من آيات التقية اختصاصها بالكافرين ، بل عمّمه للإكراه على كل ما فيه معصية لله تعالى ولكل عدو يُكرهه على ذلك .

٦ـ تعميم ميمون بن مهران التقية مع كل مَن يتبع مسلماً بالسيف وقد تقدّم ذكره .

ــــــــــــــ

(١) المحلى ، ابن حزم : ج٨ ص٣٣٦ .

(٢) المعجم الأوسط ، الطبراني : ج٥ ص٢٩٤ ؛ كشف الأستار ، الهيثمي : ج٤ ص١١٢ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج٧ ص٢٧٤ .

(٣) جامع البيان تفسير الطبري ، الطبري : ج١٤ ص٢٣٨ .

(٤) جامع البيان ، الطبري : ج٣ ص٣١٠ .

٢٥٣

٧– ما سبق من استدلال النووي على مبحث الإكراه بآيات التقية ، إذ قال بعد ذلك : ( فلمّا سمح الله عزّ وجل بالكفر به لمَن أكره ، وهو أصل الشريعة ولم يؤاخذ به ، حمل عليه أهل العلم فروع الشريعة كلّها ، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتّب عليه حكم ، وبه جاء الأثر المشهور عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رُفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه ) )(١)

وكلامه هذا صريح في التعميم ، وكذا التعميم صريح في كل مَن جعل الإكراه مورداً للتقية كالبخاري وغيره ؛ وذلك لإجماعهم على عمومية بحث الإكراه وعدم اختصاص مشروعيته مع الكافرين فقط .

٨ ـ ما سبق عن الشافعي من تعميم التقية فيما بين المسلمين .

٩ـ وشمول التقية فيما بين المسلمين أيضاً ظاهر كل مَن استدل على مشروعية التقية بوجوب دفع الضرر ؛ ولذا قال الجصاص فيما تقدم من كلامه : ( وقال أصحابنا فيمَن أكره بالقتل وتلف بعض الأعضاء على شرب الخمر أو أكل الميتة ، لم يسعه أن لا يأكل ولا يشرب ، وإن لم يفعل حتى قتل كان آثم ؛ لأنّ الله تعالى قد أباح ذلك في حال الضرورة عند الخوف على النفس ، فقال : ( ما اضطررتم إليه ) )(٢) ، فهذا تعميم منه ومن الأصحاب لمبحث التقية .

١٠ـ تقية مجموع من الصحابة مع معاوية وقد سبق نقله ؛ فلاحظ .

١١ـ تقية سعيد بن جبير السابقة مع عامة الناس من جلسائه من المسلمين .

١٢ـ تقية رجاء بن حيوة مع الوليد بن عبد الملك .

١٣ـ تقية واصل بن عطاء مع الخوارج .

١٤ـ تقية أبي حنيفة مع ابن أبي ليلى القاضي في مسألة خلق القرآن .

١٥ـ تقية الحسين بن داود بن سليمان القرشي مع جماعة القطعية من المسلمين .

ــــــــــــــ

(١) المجموع ، النووي : ج١٨ ص٩ .

(٢) أحكام القرآن ، الجصاص : ج٣ ص٢٥١ .

٢٥٤

١٦ـ تقية سعدويه بن سليمان وأبي نصر التمار وإبراهيم بن المنذر ويحيى بن معين وإسماعيل بن حماد وغيرهم من المسلمين في محنة خلق القرآن ، مع أنّ المحنة والفتنة كانت بين المسلمين خاصّة ، وقد تقدم قول الذهبي فيها : ( مَن أجاب تقية فلا بأس عليه )(١) .

١٧ـ التقية التي نسبها ابن حجر والذهبي إلى علي بن موسى بن الحسين بن السمسار الدمشقي ، وكذا علي بن عيسى الرمّاني ، حيث ادّعوا أنّهما كانا يتقيان الشيعة في إظهار تشيّعهم ، مع أنّ الشيعة طائفة من طوائف المسلمين .

١٨ـ تقية الكثير من علماء السنّة من التصريح بوجوب الزكاة في الزيتون خوفاً من جور الولاة ، مع أنّ الولاة كانوا من المسلمين بحسب الظاهر .

ــــــــــــــ

(١) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج١٣ ص٣٢٢ .

٢٥٥

١٩ـ أُمّ سلمة تأمر جابر بن عبد الله الأنصاري بالتقية ومبايعة بسر بن أبي أرطأة العامري ، الذي بعثه معاوية إلى المدينة من أجل أخذ البيعة من أهلها ، حيث قالت لجابر عندما استنصحها : ( بايع ) ، وذلك ما أخرجه اليعقوبي في تاريخه ، حيث قال في صدد نقل تلك الفتنة : ( فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أُمّ سلمة زوج النبي ، فقال : إنّي قد خشيت أن أُقتل ، وهذه بيعة ضلال ، قالت : إذاً فبايع ، فإنّ التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ويحضرون الأعياد مع قومهم )(١) .

٢٠ـ ما ذكره القرطبي عن خويز منداد ، أنّه قال في ولاة الجور من المسلمين : ( لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى غزوا ، والحكم من قبلهم وتولية الإمامة والحسبة ، وإقامة ذلك على وجه الشريعة ، وإن صلّوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم ، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم ، إلاّ أن يخافوا فيصلّي معهم تقية وتعاد الصلاة )(٢) .

ومن ذلك يتضح أنّ سيرة الصحابة والتابعين وأقوالهم وأقوال العلماء والفقهاء ، وكذا سيرة عامة المسلمين شاملة للتقية بين المسلمين إذا اقتضى الأمر ذلك .

واتضح أيضاً أنّ اللوم إنّما يُلقى على المسلم الظالم ، الذي يجعل المسلم الآخر في موقف التقية والمظلومية والاضطهاد .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي : ج٢ ص١٩٧ ـ ١٩٨ .

(٢) تفسير القرطبي ، القرطبي : ج٥ ص٢٥٩ .

٢٥٦

المداراة وحسن المعاشرة وثقافة التعايش

إنّ أكثر الأبحاث التي سبقت كانت في التقية بمعنى خوف الضرر من الغير ، وهي التي قال عنها الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام :( إنّما جُعلت التقية ليحقن بها الدماء ، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة ) (١) ، وقالعليه‌السلام فيها أيضاً :( التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له ) (٢) و( التقية في كل ضرورة ) (٣) و( التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به ) (٤) ، فقد يبلغ بها الملاك وشدّة المصلحة إلى الوجوب والإلزام ، وقد تكون بنحو الندب والمحبوبية ، وقد يتساوى طرفي فعلها وتركها ، وقد تكون مرجوحة ، وقد تكون محرّمة كما سبق .

أمّا التقيّة بمعنى مداراة الآخرين وحسن معاشرتهم وعدم التجاوز على أعرافهم وتقاليدهم المشروعة لهم فمّما لا إشكال في مشروعيتها ، بل القرآن الكريم والسنّة النبوية والعقل الصريح وسيرة العقلاء والمسلمين جميعها تثبت مشروعية ذلك وكونه راجحاً ومطلوباً ، ولا شك أنّها من الأخلاق التي بعث النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإتمامها .

التقية المداراتية في القرآن الكريم

قوله تعالى :( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) المحاسن ، أحمد بن محمد بن خالد البرقي : ج١ ص٢٥٩ .

(٢) الكافي : ج٢ ص٢٢٠ .

(٣) المحاسن : ج١ ص٢٥٩ .

(٤) الكافي ، الكليني : ج٢ ص٢١٩ .

(٥) الأعراف : ١٩٩ .

٢٥٧

وقوله تعالى:( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (١) .

وقوله تعالى :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى :( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٣) .

وقوله تعالى :( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (٤) .

وقوله تعالى لموسى وهارونعليهما‌السلام :( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولا لَهُ قَوْلاً ليِّنًا لعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) (٥) .

فهذه الآيات الكريمة وغيرها صريحة في ضرورة حسن العشرة والمجادلة والتعامل مع الناس بالتي هي أحسن ، مع الرفق واللين والمداراة مع الشخص المخالف في الرأي والمعتقد ، بل مع عموم الناس ، كما في قوله تعالى :( وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناًً ) ، قال القرطبي في تفسيره : ( وهذا كلّه حض على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليّناً ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر ، والسنّي والمبتدع ، من غير مداهنة ، ومن غير أن يتكلّم معه بكلام يظن أنّه يرضى مذهبه ؛ لأنّ الله تعالى قال لموسى وهارون :

ــــــــــــــ

(١) النحل : ١٢٥ .

(٢) المؤمنون : ٩٦ .

(٣) العنكبوت : ٤٦ .

(٤) فصلت : ٣٤ .

(٥) طه : ٤٣ – ٤٤ .

٢٥٨

  ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً ليِّناً ) ، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون ، والفاجر ليس بأخبث من فرعون ، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه ، وقال طلحة بن عمر : قلت لعطاء : إنّك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة ، وأنا رجل فيّ حدّة فأقول لهم بعض القول الغليظ ، فقال : لا تفعل ! يقول الله تعالى :( وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ) ، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى ، فكيف بالحنيفي ؟! وروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعائشة :( لا تكوني فحّاشة ، فإنّ الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء ) )(١) .

وقد حمل أكثر المفسّرين من علماء السنّة الروايات السابقة على مداراة الناس ، كما في قوله تعالى :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَة ) ، فقد قال ابن الجوزي في كتابه نواسخ القرآن بعد أن نقل قولاً بنسخ تلك الآية المباركة : ( وقال بعض المحققين من العلماء لا حاجة بنا إلى القول بالنسخ ؛ لأنّ المداراة محمودة ما لم تضر بالدين ولم يؤدّ إلى إبطال حق وإثبات باطل )(٢) .

والحاصل : إنّ الآيات المباركة مدحت حسن المعاشرة والأخلاق الحميدة مع الناس ، وأمرت باتقاء السيئة بالحسنة وجدال المخالف في الرأي بالتي هي أحسن ، من أجل رفع العداوات الشخصية التي لا تمتّ إلى الدين بصلة ، فهذه التقية المداراتية من مكارم الأخلاق التي دعى القرآن الكريم المسلمين إلى التخلّق بها .

ــــــــــــــ

(١) تفسير القرطبي : ج٢ ص١٦ .

(٢) نواسخ القرآن ، ابن الجوزي : ص١٩٧ .

٢٥٩

التقية المداراتية في السنّة النبوية الشريفة

فقد عقد المحدثون والعلماء عموماً أبواباً خاصة في فضل المداراة مع الناس ، وقد خصّص البخاري في صحيحه باباً في فضل المداراة مع الناس ، وأخرج فيه العديد من الروايات التي تنصّ على فضيلة التقية المداراتية ، حيث قال : ( باب المداراة مع الناس : ويُذكر عن أبي الدرداء : إنّا لنكشّر في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتلعنهم ـ إلى أن قال : ـ عن ابن المنكدر حدّثه عن عروة ابن الزبير : أنّ عائشة أخبرته أنّه استأذن على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل ، فقال : ائذنوا له فبئس بن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة فلمّا دخل ألان له الكلام ، فقلت : يا رسول الله قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول؟ فقال : أي عائشة ! إنّ شر الناس منزلة عند الله مَن تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه )(١) .

وهكذا ما في صحيح مسلم(٢) ، وسنن الترمذي(٣) ، ومجمع الزوائد للهيثمي(٤) وغيرهم .

وقد وردت روايات عديدة جدّاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل المداراة مع الناس ، نقتصر على ذكر بعضها :

١ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مداراة الناس صدقة ) (٥) ، قال ابن حجر العسقلاني : ( أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط وفي سنده يوسف بن

ــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري : ج٧ ص١٠٢ ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس .

(٢) صحيح مسلم : ج٨ ص٢١ .

(٣) سنن الترمذي : ج٣ ص٢٤٢ .

(٤) مجمع الزوائد : ج٨ ص١٧ .

(٥) صحيح بن حبان : ج٢ ص٢١٦ ؛ المعجم الأوسط ، الطبراني : ج١ ص١٤٦ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج٢ ص٥٣٤ ح٨١٧٠ .

٢٦٠