الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ٢

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية0%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 343

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: الصفحات: 343
المشاهدات: 216807
تحميل: 7899


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 216807 / تحميل: 7899
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

محمد بن المنكدر ضعّفوه وقال بن عدي أرجو أنّه لا بأس به ، وأخرجه بن أبي عاصم في آداب الحكماء بسند أحسن منه )(١) .

٢ـ قوله أيضاًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس ) (٢) .

٣ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رأس العقل بعد الإيمان بالله التودّد إلى الناس ) (٣) .

٤ـ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( المداراة رأس الحكمة ) (٤) .

٥ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( الرفق رأس الحكمة ) (٥) قال العجلوني : ( إنّه حديث حسن )(٦) .

٦ـ وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن عاش مدارياً مات شهيداً ) (٧) .

٧ـ وأيضاً قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بُعثت بمداراة الناس ) (٨) .

٨ـ وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض ) (٩) .

ــــــــــــــ

(١) فتح الباري : ج١٠ ص٤٣٧ .

(٢) الجامع الصغير : ج٢ ص٣ ح٤٣٧٠ ؛ كشف الخفاء ، العجلوني : ج١ ص٣٩٩ ؛ الدر المنثور : ج٣ ص٢٥٦ .

(٣) المعجم الأوسط : ج٦ ص١٥٦ ؛ سنن البيهقي : ج١٠ ص١٠٩ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج١ ص٦٧٠ .

(٤) قضاء الحوائج ، ابن أبي الدنيا : ص٣١ ـ ٣٢ .

(٥) الجامع الصغير : ج٢ ص٢٥ ح٤٥٢٩ .

(٦) كشف الخفاء ، العجلوني : ج١ ص٤٣٤ .

(٧) حاشية رد المحتار ، ابن عابدين : ج٢ ص٢٧٤ ؛ كنز العمال : ج٣ ص٤٠٧ ح٧١٧٣ .

(٨) الجامع الصغير : ج١ ص٤٨٦ ؛ الدر المنثور : ج٣ ص٢٠٩ ؛ كنزل العمال : ج٣ ص٤٠٧ ح٧١٦٩ .

(٩) الجامع الصغير : ج١ ص٢٥٩ ح١٦٩٥ ؛ تفسير ابن كثير : ج١ ص٤٢٩ ؛ الدر المنثور : ج٢ ص٩٠ ؛ كنزل العمال : ج٣ ص٤٠٧ ح٧١٦٨ ؛ .

٢٦١

٩ـ وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) (١) .

إلى غير ذلك من الروايات الصريحة والمتواترة التي يجزم الباحث بصدورها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي تأمر وتحث على المداراة وحسن معاشرة الناس والصبر على أذاهم بجميع مذاهبهم وطوائفهم ، وهذه هي التقية المداراتية التي يقول بها الشيعة ، وهذا ما فهمه محدّثوا السنّة ومفسّروهم وفقهاؤهم ، وينصّون عليه تحت ذيل تلك الروايات المتقدمة ، وإليك نبذة عن أقوالهم في هذا المجال :

التقية المداراتية في كلمات أعلام السنّة

١ ـ قال المناوي تحت ذيل قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض ) : ( أي أمرني بملاطفتهم قولاً وفعلاً والرفق بهم وتألّفهم ؛ ليدخل مَن يدخل منهم في الدين ، ويتقي المسلمون شرّ مَن قدّر عليه الشقاء وهذه هي المداراة ، أمّا المداهنة وهي بذل الدين لصلاح الدنيا فمحرمة مذمومة )(٢) .

٢ ـ قال ابن حجر في فتح الباري : ( قال ابن بطال : المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول ، وذلك من أقوى أسباب الإلفة ، وظن بعضهم أنّ المداراة هي المداهنة

ــــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج٥ ص٣٦٥ ؛ تفسير ابن كثير : ج٢ ص٧ ؛ سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج٤ ص٥٥٠ وقال : ( سنده قوي ) ؛ سنن ابن ماجة : ج٢ ص١٣٣٨ .

(٢) فيض القدير : ج٢ ص٢٧٢ .

٢٦٢

فغلط ؛ لأنّ المداراة مندوب إليها ، والمداهنة محرّمة ، والفرق أنّ المداهنة من الدهان ، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه ، وفسّرها العلماء بأنّها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه ، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم ، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه ، حيث لا يظهر ما هو فيه والإنكار عليه بلطف القول والفعل ، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك )(١) .

٣ـ قال القرطبي في تفسيره تحت ذيل قوله تعالى :( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) (٢) قال : ( والأظهر أنّه ليس بمنسوخ ، فإنّ الجدال بالأحسن والمداراة أبداً مندوب إليها ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم ، ويصفح عن المنافقين ، وهذا بيّن )(٣) .

٤ـ وقال المباركفوري في التحفة بعد نقل حديث عائشة المتقدّم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ولكنّه لمّا جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبه بالمكروه وليقتدي به أمته في اتقاء شرّ مَن هذا سبيله وفي مداراته ليسلموا من شرّه وغائلته ، وقال القرطبي فيه : جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء شرّهم ما لم يؤدّ ذلك إلى المداهنة ، ثم قال تبعاً للقاضي حسين : والفرق بين المداراة والمداهنة ، أنّ المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً وهي

ــــــــــــــ

(١) فتح الباري ، ابن حجر : ج١٠ ص٤٣٨ .

(٢) آل عمران : ١٨٦ .

(٣) تفسير القرطبي : ج٤ ص٣٠٤ .

٢٦٣

مباحة ، وربّما استحسنت ، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا انتهى ، وهذه فائدة جليلة ينبغي حفظها والمحافظة عليها ، فإنّ أكثر الناس عنها غافلون وبالفرق بينهما جاهلون )(١) .

والأقوال في ذلك كثيرة جداً ، وجميعها تصب في لزوم حسن العشرة ومداراة الناس وخصوصاً مَن يُتقى شرّهم ومَن يرجى استمالتهم إلى الحق وغير ذلك من الموارد ، بل نجد أنّ علماء السنّة يعتبرون الشخص الذي يتصف بصفة المداراة من موجبات مدحه وتقويته إذا وقع في سند الروايات ، وكذلك يستحسنون من الحفّاظ والعلماء سكوتهم عن بعض الأمور مداراةً للدولة والحكومة ، وهذا ما نجده كثيراً في كتب الجرح والتعديل ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال ـ في صدد الحديث عن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي الأمير ، وأنّه نقل عن أبيه حديث ( أكرموا الشهود ) ـ : ( وهذا منكر وما عبد الصمد بحجّة ، ولعلّ الحفّاظ إنّما سكتوا عنه مداراة للدولة )(٢) .

إذن تقية المداراة عبارة عن إنشاء علاقات ودّيّة واجتماعية ودولية ، ومراعاة مشاعر الآخرين وأحاسيسهم ، وترك التنازع والشقاق والتشرذم ، وفتح الحوار وملاحظة الرأي والرأي الآخر ، مع الود والتعايش السلمي ، ولا شك أنّ في ذلك إظهاراً لوحدة المجتمع الإسلامي وتماسكه وتراحمه ووقوفه كالبنيان المرصوص أمام دول الاستكبار التي تتربّص السوء بالمجتمع الإسلامي .

والتقية مبدأ فطري حكم به العقل وسارت عليه العقلاء بصورة عامة ، وهذه هي الأعراف الدولية والاجتماعية والحياتية قائمة على مثل تلك الأخلاق والرسومات .

وقد اتضح من الروايات السابقة أنّ المداراة قد تكون مع خوف الضرر وهذه هي التقية بعينها ، وقد يكون من دون ذلك وهذه هي التقية المداراتية التي ندب إليها العقل والشرع .

لماذا عُرفت الشيعة بالتقية ؟

كان من المفروض أن تقع اللائمة والذم على الظلمة والطغاة ، الذين ما فتئوا على مرّ التاريخ في محاربة الشيعة بشتّى الوسائل ويقتلونهم تحت كل حجر ومدر ، وقد صُودرت حرياتهم في الرأي والعقيدة من قِبل الأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم ، حتى أصبح التشيّع ومودة أهل البيتعليهم‌السلام ذنب لا يغتفر .

ــــــــــــــ

(١) تحفة الأحوذي ، المباركفوري : ج٦ ص١١٣ .

(٢) ميزان الاعتدال ، الذهبي : ج٢ ص٦٢٠ ؛ لسان الميزان ، ابن حجر : ج٤ ص٢٢ .

٢٦٤

ولكنّ المؤسف أنّ الأقلام توجّهت بالنقد واللائمة نحو الشيعة ، الذين استخدموا التقية وتسلّحوا بها كسلاح مشروع ، شرّعه القرآن والسنّة النبوية إلى مثل الظروف الصعبة والحرجة التي مرّ بها التشيّع عبر التاريخ .

ولذا نجد أنّ أهل البيتعليهم‌السلام رفعوا شعار التقية واتخذوه ديناً وشعاراً ودثاراً ، لما تعرضوا له من الظلم والاضطهاد والجور والسجن والإقامة الجبرية ومحاولات الاغتيال ، ولم يخرجوا من هذه الدنيا إلاّ بالقتل أو السمّ .

وهكذا حثّ أهل البيتعليهم‌السلام شيعتهم بالتمسّك بالتقية وجعلها شعاراً ودثاراً للتحصّن ولحفظهم من القتل والإبادة .

وهذا هو ديدن كل أقلية تكون السلطة الحاكمة قاهرة لها ، تمنعها من إبداء رأيها بحرية ، بل يقتل الشخص إذا تبنّى خلاف ما تتبناه الحكومة ، كما هو الحال في محنة خلق القرآن وغيرها ، فتلجأ تلك الأقلية بفطرتها إلى التقية المشروعة .

ولأجل شدّة الفتن والابتلاءات التي مرّت بها الشيعة جاءت الروايات عن أهل البيتعليهم‌السلام متناسبة مع ذلك ، وذلك يفسّر لنا كثرة الاهتمام بمبدأ التقية ووفرة الأحاديث فيها مع التأكيد عليها ، فقد جاء عنهمعليهم‌السلام أنّ التقية حصن وصون وشعار ودثار وسدّ وردم وحرز وخباء وحزم وضرورة وعزة وكرامة ورفعة وسعة وترس وصبر ووقاية وسلامة وغير ذلك من التعابير ، التي تؤكّد على ضرورة التحصّن بالتقية لحفظ الشيعة من الإبادة والمقابر الجماعية .

بل نجد أنّ أهل البيتعليهم‌السلام استثنوا من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حالات التقية .

كما ورد ذلك عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال : ( التارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره ، إلاّ أن يتقي تقاة ، قيل : وما تقاته ؟ قال : يخاف جبّاراً عنيداً ، يخاف أن يفرّط أو أن يطغى )(١) .

فالذي يؤسف أنّ بعض الأقلام نزّهت ساحة المجرم وأصبح المظلوم والمضطهد هو المجرم الذي لا بد أن يحاكم .

ــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ج٥ ص٢١٣ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج٩ ص١٣٤ .

٢٦٥

ثم إنّ الشيعة وبتوجيه من أهل البيتعليهم‌السلام حافظوا بتقيّتهم على تماسك الأمّة الإسلامية ، وبقائها بنياناً مرصوصاً أمام المدّ الصليبي واليهودي الذي كان يهدد الأُمّة الإسلامية ويضربها في العمق .

ومع ذلك كلّه لم يتخل الشيعة عن دورهم الجهادي ، بل تاريخهم مليء بالجهاد والتضحية والثورة ومحاربة الظالمين وهزّ عروشهم ، تأسّياً بسيّد الشهداء وسيّد شباب أهل الجنة الحسين بن عليعليه‌السلام .

فكانت حركتهم سواء على مستوى التقية أو الثورة أو غير ذلك كلّها على ضوء ما يتطلّبه منهم الموقف الشرعي ، الذي يوجب إعلاء كلمة الدين وترسيخ قواعده وأركانه .

ومن ذلك كله يتضح أنّ الشيعة لم يختصوا بمبدأ التقية ، بل هو مبدأ إسلامي عام ، شُرع في الدين لحفظ المسلمين ، وإنّما عرفت الشيعة بالتقية للظروف الحرجة التي واجهوها ويواجهونها إلى يومنا الحاضر ، ولا شك أنّ أي فرقة من الفرق الإسلامية لم تكن لتتخط ذلك المبدأ فيما إذا واجهوا ما واجهته الشيعة من ظلم الظالمين وجور الجائرين ، والتاريخ شاهد على ذلك كما في محنة خلق القرآن.

ثم إنّ أكثر موارد التقية لم تمارسها الشيعة مع إخوتهم السنّة المسالمين الذين يتحمّلون الطرف المقابل ويتعايشون مع الرأي الآخر ، وإنّما مُورست التقية في كثير من الأحيان مع حكّام الجور ومَن لا يتحمل مَن يخالفه في الرأي والعقيدة ولا يتعايش معه .

٢٦٦

ثمار التقية وفوائدها

لا شك أنّ الشريعة الإسلامية بكافة مبادئها وأحكامها تنطوي على غايات وأهداف سامية ، ومن تلك الأحكام ذات الغايات الرفيعة في الإسلام مبدأ وقانون التقية ؛ إذ أنّ الله عزّ وجل عندما شرّع التقية في الشرائع السابقة ، وفي القرآن الكريم ، وعلى لسان نبيّه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لابد وأن تكون له تعالى أهداف ذات ثمار وفوائد تعود على البشرية فرداً ومجتمعاً ، وعلى كافّة المستويات الدنيوية والأخروية .

ومن الواضح أنّ الكثير من الأحكام الشرعية الإلهية التعبدية قد تخفى علينا ملاكاتها وحِكَمها وتأثيرها الإيجابي في الفرد والمجتمع ، كما هو الحال في الحركات الصلاتية وبعض مناسك الحج وغيرها ، ومن تلك الأحكام الشرعية حكم التقية ، فلا ضير أن تخفى علينا الكثير من ملاكاتها وفوائدها ، وهذا لا يؤثّر على وجوب التعبّد بها إذا بلغت حدّ الوجوب ، وتعاطيها إذا كانت مستحبة أو مباحة بنحو من الرخصة الراجحة أو المتساوية الأطراف .

ولكن مع ذلك كلّه هنالك الكثير من الفوائد والثمار لقانون التقية يمكن أن نحصي بعضها في هذا المقال ، سواء الثمار العقلية أو العقلائية أو الشرعية الأديانية ؛ وذلك لأنّ مبدأ التقية ـ كما سبق في مقالات أخرى ـ من المبادئ العقلية والعقلائية التي أقرّها الشارع المقدّس قبل الإسلام وبعده .

وفيما يلي بعض تلك الثمار والفوائد ، ندرجها ضمن العناوين التالية :

٢٦٧

١ ـ المحافظة على النفس والعرض والمال

لقد اهتمّت الشريعة الإسلامية والشرائع التي سبقتها بمسألة الدماء والأعراض والأموال اهتماماً بالغاً ، وهذا الأمر واضح حيث تطالعنا به مجمل الأبواب الفقهية ، سواء في قسم المسائل العبادية أو قسم القضايا المعاملاتية والحقوقية والجنائية ، وقد احتل حق الحياة مكانة مهمة ومساحة واسعة في القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى :( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (١) وقوله عزّ وجل :( مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْر نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) (٢) .

وهكذا نجد أنّ الأهمية ذاتها أولاها القرآن الكريم الحصانة الفردية والأسرية والحفاظ على كرامة أعراض الناس وأموالهم ، وعدم انتهاكها من جهة التجسّس أو القذف أو ابتزاز الحقوق وسرقة الأموال ومطلق التجاوز على الأملاك الشخصية والحقوق المالية للآخرين .

قال تعالى : ( يَا َيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ) (٣) .

وقال عزّ وجل :( قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (٤) .

وقال تعالى أيضاً :( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي

ــــــــــــــ

(١) النساء : ٢٩ .

(٢) المائدة : ٣٢ .

(٣) الحجرات : ١٢ .

(٤) النور : ٣٠ .

٢٦٨

الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١) .

هذا في أعراض الناس وكرامتهم .

وأمّا أموالهم وأملاكهم الشخصية ، فقال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) (٢) ، وفي آية أخرى قال تعالى :( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ) (٣) ، وقال تعالى أيضاً :( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً منْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٤) .

أمّا الروايات في هذا المجال فهي فوق حدّ الإحصاء ، حيث أكّدت على حرمة أعراض الناس وأنفسهم وأموالهم ، وأوجبت درجة الشهادة والمقامات الرفيعة لمَن يدافع عن نفسه وعرضه وماله ، وحثّت على أن يكون المؤمن غيوراً حريصاً على كرامته ، ففي الحديث عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :( إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف بمنىً حتى قضى مناسكها في حجّة الوداع ، فقال : أيّ يوم أعظم حرمة ؟ فقالوا : هذا اليوم ، فقال : فأيّ شهر أعظم حرمة ؟ فقالوا : هذا الشهر ، قال : فأيّ بلد أعظم حرمة ؟ قالوا : هذا البلد .

قال : فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ، فيسألكم عن أعمالكم ، ألا هل بلّغت ؟ قالوا : نعم ، قال : اللّهمّ اشهد ، ألا مَن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى مَن ائتمنه

ــــــــــــــ

(١) النور : ٢٣ .

(٢) النساء : ٢٩ .

(٣) النساء : ٢ .

(٤) البقرة : ١٨٨ .

٢٦٩

عليها ، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه ، ولا تظلموا أنفسكم ولا ترجعوا بعدي كفّاراً ) (١) .

كذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (مَن أريد ماله بغير حق فقاتل فقُتل فهو شهيد ) (٢) .

وأخرج البخاري عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :( مَن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله ) (٣) .

وعن أبي مريم عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال :( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن قتل دون مظلمته فهو شهيد ، ثم قال :يا أبا مريم ، هل تدري ما دون مظلمته ؟ قلت : جُعلت فداك الرجل يقتل دون أهله ودون ماله وأشباه ذلك ، فقال :يا أبا مريم إنّ من الفقه عرفان الحق ) (٤) .

وجاء عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام قوله :( ومَن قاتل فقُتل دون ماله ورحله ونفسه فهو شهيد ) (٥) .

وأخرج الكليني عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كان إبراهيم عليه‌السلام غيوراً وأنا أغير منه ، وجدع الله أنف مَن لا يغار من المؤمنين والمسلمين ) (٦) .

ــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٩ ص ١٠ .

(٢) مسند أحمد : ج٢ ص١٩٤ ؛ سنن أبي داود ، السجستاني : ج٢ ص٤٣٠ ح٤٧٧١ ؛ سنن النسائي : ج٧ ص١١٥ ؛ السنن الكبرى ، البيهقي : ج٨ ص١٨٧ ؛ المصنف الصنعاني : ج ١٠ ص ١١٤ .

(٣) البخاري : ج ٢ ص ١١٧ ، كتاب الكسوف لا صدقة إلاّ عن ظهر غني .

(٤) الكافي : ج ٥ ص ٥٢ .

(٥) الوسائل : ج ١٥ ص ٤٩ .

(٦) الكافي : ج ٥ ص ٥٣٦ .

٢٧٠

كذلك عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :( إنّ الله تبارك وتعالى غيور يحب كل غيور ، ولغيرته حرّم الفواحش ظاهرها وباطنها ) (١) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً :( إنّ الله يغار والمؤمن يغار ) (٢) .

كذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الغيرة من الإيمان ) (٣) .

وبناءً على عظمة مبدأ الغيرة في الإسلام ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن قاتل دون عياله فهو شهيد ) (٤) .

وقال أيضاًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن كفّ نفسه عن أعراض الناس أقال الله نفسه يوم القيامة ) (٥) .

والحاصل : إنّ قانون المحافظة على دماء الناس وأعراضهم وكرامتهم وأموالهم من القوانين العليا في الدستور الإسلامي .

ومن هنا جاءت الأحكام الشرعية والمبادئ الإسلامية منسجمة ومتناغمة مع ذلك القانون الدستوري في الإسلام ، فجعلت على هذا الضوء الكثير من الحدود والضوابط التي تحفظ حياة الفرد المسلم والإنسان عموماً ، والتي تحرص على توفير الحصانة والكرامة الاجتماعية .

ولا شك أنّ من تلك الأحكام والضوابط الإسلامية الأصيلة مبدأ التقية ، حيث جاء منسجماً مع الغيرة الإلهية على كرامة الإنسان ، الذي خلقه

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ج ٥ ص٥٣٥ – ٥٣٦ ؛ سنن الدارمي : ج ٢ ص٢٠٠ (عن رسول الله - بألفاظ أخرى) .

(٢) سنن الترمذي : ج ٢ ص ٣١٧ ؛ صحيح مسلم : ج٨ ص١٠١ .

(٣) الوسائل : ج ٢٠ ص ١٥٤ .

(٤) الوسائل : ج ١٥ ص ١٢٠ .

(٥) الكافي : ج ٢ ص ٣٠٥ ؛ مسند الشهاب ، ابن سلامة : ج١ ص٢٧٩ .

٢٧١

كريماً وسخر له كل شيء ، قال تعالى :( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم منَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (١) ، وقال تعالى أيضاً :( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) (٢) .

وانطلاقاً من هذه الحقيقة الناصعة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مطلع البعثة لعمّار بن ياسر وهو يمسح عينيه :( ما لك ؟ إن عادوا لك فعد لهم لما قلت ) (٣) .

وذلك عندما أخذه المشركون وعذبوه ، فجاراهم على بعض ما أرادوا ، وجاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي وشكا ما جرى عليه .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المضمار وتحت شعار الكرامة الإنسانية :( لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه ، فقال ابن عمر : يا رسول الله ، كيف يذل نفسه ؟ قال :يتعرّض من البلاء ما لا يطيق ) (٤) ولا شك أنّ موارد التقية تشتمل على فنون الإذلال والإهانة التي لا تنبغي للمؤمن ، ولذا قال ابن عمر : ( سمعت الحجاج يخطب فذكر كلاماً أنكرته ، فأردت أن أغيّر ، فذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٧٠ .

(٢) لقمان : ٢٠ .

(٣) التفسير الكبير ، الرازي : ج٢٠ ص ١٢٤ .

(٤) كشف الأستار ، الهيثمي : ج ٤ ص ١١٢ ؛ تفسير ابن كثير : ج٢ ص٧٣ ، وقال : ؛ سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج٨ ص١٧٥ .

(٥) المعجم الأوسط ، الطبراني : ج٥ ص٢٩٤ ؛ كشف الأستار ، الهيثمي : ج٤ ص١١٢ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج٧ ص٢٧٤ .

٢٧٢

إذن التقية التي هي حكم عقلي عقلائي فطري ، حكم به الشارع قرآناً وسنّة انطلاقاً من قانون ضرورة حفظ أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم من اعتداء المعتدين والظالمين والكافرين وولاة الجور وسفّاكي الدماء ؛ ولذا نجد أنّ القرآن الكريم يستثني من النهي عن مولاة الكافرين موارد التقية ، كما في قوله تعالى :( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) (١) .

فقد جوّز الله عزّ وجل في هذه الآية مولاة الكافرين بحسب الظاهر بالمقدار الذي يندفع به خوف الضرر ، وليس ذلك إلاّ للمحافظة على كرامة الفرد المؤمن ، ولكي لا يتعرّض المسلم إلى ألوان الإذلال والإهانة بين يدي الكافرين .

وقد سار المسلمون على هذا المنهج القويم ، وتمسّكوا بحكم التقية في مجمل الفتن والحروب والابتلاءات التي مرّوا بها ، كما في تقية الكثير من علماء المسلمين في محنة خلق القرآن ، والحروب البربرية التي شنّها الأسود العنسي في بلاد اليمن وغيرها .

وقام بالتحصّن بمبدأ التقية كثير من الصحابة والتابعين والعلماء ، كما في تقية عمار بن ياسر ، وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير ورجاء بن حيوة وأبي حنيفة والحسين بن داود بن سليمان القرشي وسعيد بن سليمان وأبي نصر التّمار وإبراهيم بن المنذر بن عبد الله ويحيى بن

ــــــــــــــ

(١) آل عمران : ٢٨ .

٢٧٣

معين وإسماعيل بن حمّاد وغيرهم ممّن نصّت على ذكرهم وذكر مواقفهم كتب التاريخ والسِيَر ، كما سبق ذكر ذلك في مقالات سابقة .

ومن هنا يتحصّل : إنّ الملاك الحقيقي والثمرة البارزة للتقية [هو] الحفاظ على حياة الناس وأعراضهم وكرامتهم وأموالهم .

وأمّا تهجّم البعض على تمسّك الطوائف الإسلامية باتخاذ التقية شعاراً ودثاراً وسلاحاً ضد الظلمة والطغاة ، فليس هو إلاّ دعوة للإبادة الشاملة والمقابر الجماعية والتفرقة بين المسلمين وتسليط الظالمين عليهم .

والتقية ديدن كل أقلية تكون السلطات الحاكمة قاهرة لها ، تمنعها من إظهار عقيدتها وإبداء رأيها بحرية ، بل نجد أنّ الشخص إذا تبنّى خلاف ما تتبنّاه الحكومات الجائرة يقتل ويعتدى على عرضه وكرامته ، فتلجأ تلك الأقلية إلى التقية المشروعة والمشرّعة في الإسلام .

٢ ـ المحافظة على الدين ودرء الفتنة

ذكرنا في مقال آخر حول التقية أنّ الظالم لو كان يكتفي من المظلوم بالقتل ونهب الأموال مع صمود المظلوم وثباته على عقيدته لكان من الممكن التشكيك في اتخاذ التقية شعاراً ودثاراً .

ولكن الظالم يستخدم كافّة الأساليب الملتوية وغير الإنسانية في مجال التعذيب والاضطهاد ، والابتزاز عن طريق التجاوز على العرض والأهل والولد ، ممّا يجعل المكره والمضطر عرضة لافتقاد دينه ، كأن يشكك في حكمة الله تعالى أو عدله أو رحمته ، ممّا يؤول إلى التشكيك في ذات الله عزّ وجل ورسله وشرائعه ، كما حاولت قريش ذلك في مطلع البعثة النبوية ،

٢٧٤

حيث قامت بتعذيب أتباع النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومارست معهم أقسى أشكال الاضطهاد ، فارتدّ بعض الأصحاب ، وثبت على الدين بعض آخر ، فقتل بعض وبعض آخر اتخذ سلاح التقية لينجو بنفسه ودينه ، كما فعل ذلك عمّار ، الذي قال النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّه :( ما خيّر عمار بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما ) (١) ، وحرصاً من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حفظ دين أتباعه وأنصاره أمرهم باتخاذ التقية والتحصّن بالكتمان ؛ ولذا قال لعمّار :( فإن عادوا فعد ) .

وقد أمر الله تعالى المسلمين بتقصير الصلاة التي هي عمود الدين لئلاّ يفتنهم الكافرون عن دينهم ، قال الله عزّ وجل :( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مبِيناً ) (٢) .

كذلك نصّ القرآن الكريم على أنّ الذين آمنوا مع موسىعليه‌السلام كانوا قد اتخذوا التقية سلاحاً ، خوفاً من فتنة فرعون وملئهم ، قال تعالى :( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ من قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ من فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) (٣) .

وقد كانت سيرة المسلمين جارية على ممارسة التقية مع الظالمين والمتجبّرين من حكّام الجور ؛ لئلاّ يفتنوهم ويخرجونهم عن دينهم ، ومن تلك المواقف موقف مسروق الأجدع مع معاوية بن أبي سفيان ، حيث روي أنّ معاوية بن أبي سفيان كان قد بعث بتماثيل من صفر لكي تباع

ــــــــــــــ

(١) تفسير القرطبي : ج ١٠ ص١٨١ .

(٢) النساء : ١٠١ .

(٣) يونس : ٨٣ .

٢٧٥

بأرض الهند ، فمرّ بها على مسروق ، فقال : ( والله لو أنّي أعلم أنّه يقتلني لغرقتها ، ولكنّي أخاف أن يعذّبني فيفتنني ، والله لا أدري أي الرجلين معاوية : رجل قد زيّن له سوء عمله ، أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا )(١) .

والحاصل : إنّ الفتنة في الدين من الأسباب الأساسية في تشريع التقية ، وحفاظ الفرد على عقيدته ودينه من الثمار المهمّة التي تترتّب عليها .

ومن هذا المنطلق قال النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا دين لمن لا تقية له ) (٢) .

فمعنى كون التقية دين : أنّ ديمومة عقيدة الشخص أو المجتمع والمحافظة على استمرارية الدين في تلك الأوساط ، وعدم الخروج عنه جرّاء الفتن إنّما يحصل عن طريق استخدام التقية وغيرها من الأسلحة الوقائية ، التي شرّعها الإسلام ، وفي حال تركها يكون الدين في معرض الضياع .

وعلى هذا الضوء كانت تقية حذيفة بن اليمان ، قال السرخسي في المبسوط : ( وقد كان حذيفة ممّن يستعمل التقية ، على ما رُوي أنّه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق ! فقال : لا ، ولكنّي أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه )(٣) .

وقال ابن مسعود في هذا المجال : ( ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عنّي سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلّماً به )(٤) .

ــــــــــــــ

(١) المبسوط ، السرخسي : ج ٢٤ ص ٤٦ .

(٢) كنز العمال ، المتقي الهندي : ج٣ ص٩٦ ؛ ينابيع المودة ، القندوزي : ج٢ ص٨٤ .

(٣) المبسوط : ج ٢٤ ص ٤٦ .

(٤) المحلى ، ابن حزم : ج ٨ ص ٣٣٦ .

٢٧٦

٣ ـ المحافظة على حياة الآخرين

لقد أفتى كافّة فقهاء الإسلام بمشروعية الكذب ، بل وجوبه في بعض الموارد ، كما لو أدّى الصدق وعدم الكذب على الظالم إلى سفك دم مسلم من المسلمين .

قال النووي : ( اتفق الفقهاء على أنّه لو جاء ظالم يطلب إنساناً مختفياً ليقتله ، أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصباً ، وسُئل عن ذلك وجب على مَن علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به ، وهذا كذب جائز ، بل واجب لكونه في دفع الظالم )(١) .

وقال في موضع آخر : ( ولا خلاف أنّه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنّه لا يعلم )(٢) .

وقال الغزالي في إحياء العلوم : ( إنّ عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم ، فالكذب فيه واجب )(٣) .

ونقل الحطّاب الرعيني في المواهب عن ابن ناجي في باب جمل من الفرائض ، قوله : ( إنّ الكذب الواجب هو الذي لإنقاذ مسلم أو ماله )(٤) .

ومن الواضح أنّ هذه الأمثلة المذكورة في جواز ووجوب الكذب من أوضح موارد ومصاديق التقية ؛ وذلك لأنّ الكذب إظهار ما هو خلاف الحق والواقع بسبب الخوف من ضرر الغير ، وهذه هي التقية بعينها كما ذكر في تعريفها ، ولكن مورد التقية وثمرتها هنا هي حفظ حياة الآخرين وأموالهم وأعراضهم .

ــــــــــــــ

(١) شرح صحيح مسلم : ج ١٥ ص ١٢٤ .

(٢) شرح صحيح مسلم : ج ١٦ ص ١٥٨ .

(٣) إحياء علوم الدين ، الغزالي : ج ٣ ص١٣٧ .

(٤) مواهب الجليل ، الرعيني : ج ٧ ص ٣١٤ .

٢٧٧

إذن التقية أسلوب من أساليب الدفاع عن الآخرين وتضليل الظالمين عن النيل من كرامتهم ، وقد تمسّك المسلمون بالتقية في كثير من المواقف للتستّر على بعض المسلمين من بطش الحكومات ، حيث خاض المجتمع الإسلامي فتناً مظلمة راح ضحيتها الأبرياء من المسلمين ، ومن أمثلة ذلك تقية رجاء بن حيوة مع الوليد بن عبد الملك ، كما أخرج ذلك القرطبي وغيره عن إدريس بن يحيى قال : ( كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسّسون الخلق ويأتونه بالأخبار فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة ، فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه .

فقال : يا رجاء ! أُذكر بالسوء في مجلسك ولم تُغيّر ؟!

فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين .

فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلاّ هو .

قال : الله الذي لا إله إلاّ هو .

فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً ، فكان يلقى رجاء ، فيقول : يا رجاء ، بك يستقى المطر وسبعون سوطاً في ظهري ؟!

فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن يُقتل رجل مسلم )(١) .

ــــــــــــــ

(١) الجامع لأحكام القرآن ، محمد بن أحمد القرطبي : ج ١٠ ص١٩٠ .

٢٧٨

٤ ـ نشر ثقافة التعايش المدني

إنّ التقية قد يستعمل لفظها ويكون المقصود منها المداراة وحسن المعاشرة ، ونشر ثقافة التعايش بين الأديان والمذاهب المختلفة ، بل قد تكون بين التيّارات والتوجّهات والشخصيات المتفاوتة في كيفية التفكير والمستوى العلمي والثقافي .

ومعنى هذا النوع من التقية هو احترام الرأي الآخر وعدم التجاوز على أعرافه وتقاليده المشروعة ، والتعايش معه بالأخلاق الحسنة والطيبة ، وإن كان هناك اختلاف في العقيدة والرأي ووجهة النظر .

وثمار هذا النوع من التقية كثيرة جداً ، وفي وقتنا الحاضر نرى أنّ العالم بأجمعه يدعو إليها ويحثّ على التخلّق بها ويرفض العنف والخشونة والإرهاب في طريقة التعايش بين كل أبناء المجتمع باختلاف أطيافه وقوميّاته .

إذن من أوضح فوائد التقية والمداراة نشر ثقافة التعايش المدني ، والدعوة إلى مبدأ السلام ونبذ البغض والعداوات الشخصيّة التي لا تمتّ إلى الإسلام بصلة .

وقد دعا إلى هذا النحو من التقية القرآن الكريم في آيات عديدة ، كما في قوله تعالى :( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (١) ، وقوله تعالى :( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ

ــــــــــــــ

(١) النحل : ١٢٥ .

٢٧٩

كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (١) ، وكذا قوله عز وجل :( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) .

فإنّ هذه الآيات القرآنيّة وغيرها صريحة في ضرورة حسن العشرة والمجادلة والتعامل مع الناس بالتي هي أحسن ، مع الرفق واللين والمداراة مع الشخص المخالف في الرأي والمعتقد ، ولذا قال القرطبي تحت ذيل قوله تعالى :( وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ) : ( وهذا كلّه حض على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليّناً ، ووجهه منبسطاً ، طلقاً مع البرّ والفاجر ، والسنّي والمبتدع ، من غير مداهنة )(٣) .

ومن هنا نجد أنّ الروايات أكّدت على ذلك ، وقد عقد المحدِّثون والعلماء عموماً أبواباً خاصّة في فضل المداراة مع الناس(٤) .

وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مداراة الناس صدقة ) (٥) .

وقال أيضاً :( رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس ) (٦) .

وقال :( بُعثت بمداراة الناس ) (٧) و( مَن عاش مدارياً مات شهيداً ) (٨) .

إلى غير ذلك من الروايات التي تؤكّد ما ذكرناه من لزوم المداراة وحسن العشرة ، هذا هو المنهج الذي تدعو إليه الشيعة ، ولا شك أنّه لا ينسجم مع بعض النفوس التكفيريّة التي اتخذت قتال المسلمين وهتك نفوسهم وأعراضهم وكرامتهم شعاراً وعقيدة يدافعون عنها .

ــــــــــــــ

(١) فصلت : ٣٤ .

(٢) العنكبوت : ٤٦ .

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، محمد بن أحمد القرطبي : ج ٢ ص ١٦ .

(٤) صحيح البخاري ، محمد بن إسماعيل البخاري : ج٧ ص١٠٢ ؛ وصحيح مسلم بشرح النووي : ج ١٦ ص ١٤٥ ؛ مجمع الزوائد ، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي : ج٨ ص١٧ .

(٥) صحيح ابن حبّان ، محمد بن حبان بن أحمد البُستي : ج٢ ص٢١٦ .

(٦) الجامع الصغير ، جلال الدين السيوطي : ج ٢ ص ٣ .

(٧) المصدر نفسه : ج ١ ص ٤٨٦ .

(٨) حاشية رد المحتار ، ابن عابدين : ج٢ ص٢٧٤ .

٢٨٠