الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ٢

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية0%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 343

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: الصفحات: 343
المشاهدات: 216736
تحميل: 7899


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 216736 / تحميل: 7899
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

البحر ) (١) .

٧ ـ وأخرج سبط ابن الجوزي عن ابن الهبارية الشاعر أنّه اجتاز بكربلاء فجلس يبكي على الحسين وأهله (رضي الله عنهم) وأنشد شعراً :

أحسين والمبعوث جدك بالهدى

قسماً يكون الحق عنه مسائلي

لو كنت شاهد كربلا لبذلت في

تنفيس كربك جهد بذل الباذلِ

وسقيت حدّ السيف من أعدائكم

عللاً وحد السمهري الذابلِ

لكنّني أخرّت عنك لشقوتي

فبلابلي بين الغريّ وبابلِ

هبني حرمت النصر من أعدائكم

فأقل من حزن ودمع سائلِ

ثم نام في مكانه فرأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فقال له : جزاك الله عني خيراً ، وأبشر فإنّ الله قد كتبك ممّن جاهد بين يدي الحسين )(٢) .

الدليل السادس : اندراج الشعائر الحسينية تحت عنوان تعظيم الشعائر

لا شك أنّ الحسينعليه‌السلام ونهضته والمبادئ التي خرج من أجلها من شعائر الله ، بل الحسينعليه‌السلام الذي هو عدل القرآن الكريم وثاني الثقلين وسيّد شباب أهل الجنّة من أعظم شعائر الله ، التي لابد من التمسّك بها وتعظيمها وإحياء أمرها ، كما تقدّم مفصّلاً وجوب تعظيم شعائر الله بنص الآيات والروايات الشريفة وفتاوى العلماء والفقهاء ؛ ولا ريب أنّ إقامة المآتم والمجالس والبكاء والرثاء يعد رافداً مهمّاً من روافد الثقافة ، لما تضطلع به من دور مهم وكبير في الحركة الإعلامية والثقافية للدين الإسلامي ، ولمّا تتضمّنه من رصيد ضخم في التبليغ والإرشاد ، الذي يشكل عنصراً مهماً من عناصر الصمود والتضحية والمقاومة .

ويكمن سرّ قوّة هذه الشعائر في إثارة المشاعر الإنسانية ، فحينما تتحوّل هذه الأفكار إلى متبنّيات لدى الإنسان وتشكّل جزءاً من شخصيته ، تصبح عملية المساس بها مساساً بشخصيته ؛ لأنّ هذه الأفكار مستوحاة من الرسالة ، وبذلك يكون الانتصار لها والدفاع عنها دفاعاً عن الشخصية الرسالية ، وبذلك يهتز الإنسان بكل مشاعره متى ما مست رسالته وأهدافه ، ومن ثمّ يتحوّل هذا الإحساس المرهف إلى رصيد رسالي يصون الرسالة ، وهذا يعد من أبرز الأساليب التربوية والثقافية لإحياء الرسالة الإسلامية التي أُمرنا بالمحافظة عليها .

ــــــــــــــ

(١) ينابيع المودة ، القندوزي : ج ٣ ص ١٠٢ .

(٢) نظم درر السمطين ، الزرندي : ص ٢٢٥ ؛ ينابيع المودة ، القندوزي : ج ٣ ص ٤٩ .

٦١

الدليل السابع : إنّ الحزن والبكاء والرثاء ممّا تقتضيه الفطرة البشرية

من الواضح أنّ التركيبة الإنسانية مليئة بالعواطف والأحاسيس ، ويعد هذا الجانب من العناصر الأساسية في الفطرة الإنسانية التي أودعها الله تعالى في النفوس :( فِطْرَتَ اللهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) .

وقد قنّنت الشريعة حدود هذه الفطرة بحيث لا تصل إلى حدّ الإفراط والتعدّي للحدود الإلهية ، وكذلك لا تصل إلى حد التفريط وإماتة هذه الفطرة ، والشريع الإسلامية وفقاً لمتطلبات تلك الفطرة سمحت بالحزن والبكاء ؛ ولذا نجد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال حينما فقد ابنه إبراهيم :( العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) (١) .

فإنّ إهمال هذا الجانب العاطفي واضمحلاله وإماتته يؤدّي إلى مضاعفات وآثار سلبية على الشخصية ، وهذا ما يؤكّده علماء النفس (السيكولوجيا) حيث إنّهم يؤكّدون على ضرورة اتخاذ البكاء وسيلة للتنفيس عن النفس لما ألمّت بها من المصائب ، ومَن يتخذ البكاء وسيلة يكون أبعد من غيره في احتمال وقوعه وأصابته بالاختلال العقلي والنفسي ، فإنّ الذي يمتنع عن البكاء يكون عرضة للإصابة بأنواع من العقد النفسية والانفصام في الشخصية ، بخلاف مَن يتخذ من البكاء وسيلة لتهدئته والتخفيف عنه ، والتهوين عن شدّة وطأة المصائب فإنه يكون أقل عرضة للإصابة بتلك الأمراض ، فالبكاء يخلق حالة من التوازن الروحي في النفس الإنسانية .

وهذا لا يعني أنّ البكاء يقلل من العزم والهمّة في نصرة الحق ، وإنّما البكاء من خلال توجيهه الوجهة الصحيحة وجعله ضمن الغاية المرسومة له ، يجعل الشخص ساعياً لتحصيل ما افتقده أو الثأر له ـ مثلاً ـ المظلوم يبكي ويحزن ويأسف على فقد حق من حقوقه فإنّه وإن خفّف عن نفسه ببكائه من جهة الضغط المتراكم عليه نتيجة ذلك الفقدان ، لكن لا زال البكاء والحزن يزيد المظلوم شوقاً إلى حقّه المغتصب ، فإنّنا نشاهد بالوجدان أنّ ذلك المظلوم يزداد عزماً وتصميماً وإرادة لتحصيل حقّه المهدور ، وأنّ بكاءه لا يقف عائقاً أمام حركته بتاتاً .

ــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ، البخاري : ج ٢ ص ٨٥ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ١٩٤ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير ، المناوي : ج ٢ ص ٧١٧ ؛ ونحوه مستدرك ، الحاكم : ج ٤ ص ٤٠ ؛ سنن أبي داود : ج ٢ ص ٦٤ .

٦٢

وعلى ضوء ما سلف نجد أنّ علماء الاجتماع يدركون مفارقة بين بلدان الشرق ـ لا سيّما الشرق الأوسط ـ وبين بلاد الغرب ، ويلاحظون في الشرق وجود مزيد من العاطفة والإحساس أكثر منها في الغرب ، وكأنّما ما هو الموجود في الغرب مجرّد قوالب إدراكية عقلية خالية من الجانب العاطفي والروحي ؛ ولذا تشير الإحصائيات في مجالات عديدة إلى بروز الأمراض الروحية والنفسية والعقد وتفكّك الأسر وكثرة الحالات الانتحارية وغيرها ، ممّا هو مرتبط بجانب العاطفة .

إذن طمس هذه النعمة التي أنعم بها الباري علينا وإلقاؤها يعتبر طمساً لفطرة الله تعالى .

معطيات إقامة المجالس والعزاء على الإمام الحسينعليه‌السلام

لعلّ نافلة القول التحدّث عن معطيات المجالس والمآتم الحسينية ودورها الإيجابي في تكامل الفرد والمجتمع ، وترسيخ القيم الروحية والأخلاقية .

فإنّ ما تحمله تلك المآتم والمجالس من القيم والمعاني الإنسانية الرفيعة ، فضلاً عن مشاهدها وأحداثها الملحمية الدامية ، كلّ ذلك جعل من ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام رمزاً يتجاوز في دلالاته حدود الزمان والمكان ، ويعلو على حواجز الانتماء إلى مذهب أو طائفة ؛ لذا صار الإمام الحسينعليه‌السلام إرثاً ورمزاً إنسانياً عاماً يستنطقه ويستلهم منه الجميع .

ولأجل إلقاء المزيد من الضوء نستعرض بعض تلك المعطيات ضمن النقاط التالية :

أوّلاً : إبراز الجانب المأساوي في واقعة عاشوراء

الذي يتصفّح كتب التاريخ التي تسرد تفاصيل حركة عاشوراء الأليمة ، يهتز ضميره وينتابه الحزن والألم الشديد ، وتسيل دموعه عندما يمر بكل مفردة من مفردات تلك الواقعة المأساوية ، فقد رافقت المأساة يوم عاشوراء عندما مال الأعداء على كثرتهم وشراستهم على معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام على قلّة أصحابة وخذلان الناصر ، فما غابت شمس يوم العاشر من محرّم إلاّ وهم مجزّرون على رمضاء كربلاء مسلّبون تصهرهم الشمس بحرارتها ، وليتهم أكتفوا بذلك ، بل عمدوا إلى ذلك الجسد الطاهر ورضّوه بحوافر خيولهم ، وهجموا على حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلبوهن ، وروّعوهن هذا ، والسياط تعلوا متونهن ضرباً وتلويعاً ، ثم ساقوهم كما تساق الأسارى من بلد إلى بلد ، ومن مجلس إلى مجلس يتصفّح وجوههم الدنيء والشريف ، وغير ذلك من الفجائع والرزايا التي تكشف عن

٦٣

عظمة المأساة وجليل الخطب والمصاب ؛ فكيف لا يبكي ويجزع مَن يسمع أو يقرأ أنّ الحسينعليه‌السلام يأتي في لحظات الوداع يقبّل ويودّع ولده الرضيع ، فيتقدم : ( إلى باب الخيمة فقال : ناولوني ذلك الطفل حتى أودعه فناولوه الصبي ، فجعل يقبّله وهو يقول : يا بني ويل لهؤلاء القوم إذا غداً خصمهم جدّك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا بسهم قد أقبل حتى وقع في لبّة الصبي فقتله فنزل الحسينعليه‌السلام عن فرسه وحفر له بطرف السيف وصلّى عليه ودفنهعليه‌السلام ، ثم بعد ذلك أصبح وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين ( فحملوا عليه من كلّ جانب وأوثقته الجراح بالسيوف ، فضربه رجل يقال له زرعة بن شريك التميمي ضربة على يده اليسرى ، وضربه عمرو بن طلحة الجحفي بسهم ووقع في نحره ، وطعنه صالح بن وهب اليزني طعنة في خاصرته فسقط الحسينعليه‌السلام عن فرسه إلى الأرض واستوى قاعداً ونزع السهم من نحره وأقرن كفّيه فكلّما امتلأتا من دمه خضّب به رأسه ولحيته ، وهو يقول :هكذا حتى ألقى ربّي بدمي مغصوباً على حقّي ... وأقبل بعد ذلك فرس الحسينعليه‌السلام وكان قبل ذلك غار من بين أيديهم أن لا يؤخذ ، فوضع رأسه في دم الحسينعليه‌السلام وأقبل يركض إلى خيمة النساء ، وهو يصهل ، فلمّا نظرت أخوات الحسينعليه‌السلام وبناته وأهل بيته إلى الفرس وليس عليه أحد رفعوا أصواتهم بالصراخ والعويل ، وأقبل القوم حتى أحدقوا بالخيمة ، وأقبل الشمر بن ذي الجوشن حتى وقف قريباً من خيمة النساء ، قال لقومه أدخلوا فاسلبوا بُزيهن ، فدخل القوم فأخذوا كلّ ما كان في الخيمة حتى أفضوا إلى قرط كان في أذن أم كلثوم فأخذوه وخرموا أذنها ، وخرج القوم من الخيمة وأضرموها بالنار وساق القوم حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كربلاء كما تساق الأسارى )(١) ، هذا ما نَقله المحدّثون والمؤرّخون ، وقد نقلوا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ينبئ عن شدة هذه المأساة ، وتقدم نقل بعضها من بكائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإقامته للمآتم على الإمام الحسين بين أصحابه ، وقد شوهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يجمع دماء القتلى في كربلاء ومن تلك الروايات :

ــــــــــــــ

(١) الفتوح ، ابن أعثم الكوفي : ج ٥ ص ١١٥ ـ ١٢٠ .

٦٤

١ ـ عن ابن عباس قال : ( رأيت رسول الله في المنام نصف النهار أشعث أغبر ، معه قارورة فيها دم ، فقلت بأبي وأُمّي يا رسول الله ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين وأصحابه ، لم أزل التقطه منذ اليوم ! قال : عمار فأحصيت ذلك اليوم فوجدناه قد قتل فيه )(١) .

٢ ـ عن رزين قال حدثتني سلمى ، قالت : ( دخلت على أم سلمة وهي تبكي ، فقلت ما يبكيك ؟ قالت رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تعني في المنام ـ وعلى رأسه ولحيته التراب ، فقلت مالك يا رسول الله ؟ قال : شهدت قتل الحسين آنفاً )(٢) .

٣ ـ عن أبي النّضر الحرمي ، قال : ( رأيت رجلاً سَمج العمى فسألته عن سبب ذهاب بصره ، فقال : كنت فيمن حضر عسكر ابن سعد ، فلمّا جاء الليل رقدت فرأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وبين يديه طشت فيها دم وريشة في الدم ، وهو يؤتى بأصحاب عمر بن سعد فيأخذ الريشة فيخط بها أعينهم فأتى بي ، فقلت : يا رسول الله ! والله ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم ، فقال : أفلم تكثّر عدونا ؟ فأدخل أصبعيه في الدم السبّابة والوسطى وأهوى بها إلى عيني فأصبحت ، وقد ذهب بصري )(٣) .

ــــــــــــــ

(١) مسند أحمد ، ج ١ ص ٢٤٢ ص ٢٨٣ ؛ المعجم الكبير : ج ٢ ص ١٤٤ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٨ ص ٢١٨ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ١٤ ص ٢٣٧ ؛ مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٩٤ ، وقال فيه ، ( رجاله رجال الصحيح ) .

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٢٣ ص ٣٧٣ ؛ التاريخ الكبير ، البخاري : ج ٣ ص ٣٢٤ ؛ المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٤ ص ١٩ ؛ سنن الترمذي : ج ٥ ص ٣٢٣ ؛ سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ٣ ص ٣١٦ ؛ تهذيب التهذيب ، ابن حجر : ج ٢ ص ٣٠٧ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٨ ص ٢١٩ ؛ تهذيب الكمال ، المزي : ج ٦ ص ٤٣٩ .

(٣) مناقب علي بن أبي طالب ، ابن المغازلي : ص ٤٠٥ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ١٤ ص ٢٥٩ ؛ ونحوه مقتل الحسين ، الخوارزمي : ج ٢ ص ١٧١ ـ ١١٨ ؛ ونحوه التذكرة ، ابن الجوزي : ج ٢ ص ٢٥ ؛ ينابيع المودة ، القندوزي : ص ٣٢٣ .

٦٥

أمّا شدّة أثرها على مَن شهد تلك الواقعة من الصحابة والتابعين فكثير جداً ، فعن زيد بن أرقم : ( قال كنت عند عبيد الله بن زياد (لعنه الله) إذ أتي برأس الحسين بن علي فوضع في طست بين يديه ، فأخذ قضيباً فجعل يفتر به عن شفته وعن أسنانه فلم أر ثغراً قط كان أحسن منه كأنّه الدر فلم أتمالك أن رفعت صوتي بالبكاء ، فقال ما يبكيك أيّها الشيخ ؟! قال يبكيني ، رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّل بعض موضع هذا القضيب ويلثمه ويقول اللّهم إنّي أحبّه )(١) .

وهذا يدلك على عظمة هذه الواقعة في نفوس المسلمين ودورها في تأجيج عواطفهم .

إذن من معطيات إقامة هذه المجالس والمآتم إبراز ذلك الجانب المأساوي لتلك الواقعة من أجل حفظ المبادئ الحسينية في وسط الأُمّة .

ثانياً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لقد ارتبطت أهداف وغايات إقامة المآتم والعزاء على الإمام الحسينعليه‌السلام بأهداف الإمام الحسينعليه‌السلام في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما أعلنعليه‌السلام عن ذلك في بداية تحرّكه بقوله :( إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ) (٢) ، وقولهعليه‌السلام للمسيب بن نجبة الفزاري وعدّة معه :( إنّي لأرجو أن يعطي الله أخي على نيّته وأن

ــــــــــــــ

(١) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ١٤ ص ٢٣٦ ؛ سير أعلام النبلاء : ج ٣ ص ٣١٥ .

(٢) الفتوح ، ابن أعثم : ج ٥ ص ٢١ .

٦٦

يعطيني على نيّتي في حبّي جهاد الظالمين ) (١) ، وقوله أيضاً في كتابه ليزيد :( وما أظن لي عند الله عذراً في تركي جهادك ، وما أعظم فتنة أعظم من ولايتك هذه الأُمّة ) (٢) .

ومن هنا ارتبطت المشاعر والشعائر الحسينية بأهداف الثورة الحسينية ، وساهم ذلك في تحديد هدفها الأعظم ، وهو الإصلاح في أُمّة الإسلام ؛ وبذلك أصبحت هذه المآتم الحسينية والعزاء الحسيني هتافاً ضد الظالمين ، وأصبح الزخم الحسيني تياراً عارماً ضد الطواغيت .

فحين يتعبأ أبناء الأمة بهذه الأحاسيس يزداد وعيهم وشعورهم بالمسؤولية تجاه مبادئ الإسلام ، عند ذلك يتولّى هذا التيار الجماهيري الواعي عملية تغيير الواقع المنحرف ، ومقاومة الظلمة .

ومن هنا نجد أن الطواغيت عمدوا لمحاربة هذه المآتم ومنعها ، وقد حدثنا التاريخ عن الكثير من المحاولات التي استهدفت القضاء على قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ومنع زيارته ، والاعتداء على زواره منها :

١ ـ الطبري في تاريخه : ( أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين بن عليعليهما‌السلام وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يحرث ويبذر ويسقي موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه فذكر أنّ عامل صاحب الشرطة نادى الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثناه إلى المطبق فهرب الناس وامتنعوا من

ــــــــــــــ

(١) سير أعلام النبلاء، الذهبي : ج ٣ ص ٢٩٤ ؛ تاريخ الذهبي ، حوادث وفيات (٦١ ـ ٨٠ هـ) ، ص ٦ ؛ تاريخ مدينة دمشق : ج ١٤ ص ٢٠٥ ؛ تهذيب الكمال ، المزي : ج ٦ ص ٤١٣ .

(٢) تاريخ الذهبي ، حوادث وفيات ( ٦١ ـ ٨٠ هـ) ، ص ٦ .

٦٧

المصير إليه وحرث ذلك الوضع وزرع ما حواليه )(١) .

٢ ـ قال ابن الضحاك حدثنا هشام بن محمد قال : ( لمّا أجرى الماء على قبر الحسين نضب بعد أربعين يوماً وامتحى اثر القبر ، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة ويشمه حتى وقع على قبر الحسين وبكى(٢) ، وقال بأبي وأُمّي ما كان أطيبك وأطيب تربتك ميتاً ثم بكى وأنشأ يقول :

أرادوا ليخفوا قبره عن وليّه

فطيب تراب القبر دل على القبرِ

٣ ـ وذكر الذهبي في تاريخه وقوله : ( وفيها ـ سنة ٢٣٦ هـ ـ أمر المتوكل بهدم قبر السيد الحسين بن علي (رضي الله عنهما) وهدم ما حوله من الدّور، وأن تعمل مزارع ، ومنع الناس من زيارته ، وحُرِث وبقي صحراء )(٣) .

ثالثاً : التفاعل الإيجابي بين الفكرة والعاطفة

إنّ هذه المآتم ومراسم العزاء على الإمام الحسينعليه‌السلام لم تقف عند البكاء والتباكي ، وإنّما هي ناتج الارتباط الوثيق بين المعلومة والإحساس العاطفي لدى الفرد ، فإنّه كلّما ارتبطت الفكرة والمعلومة ارتباطاً وثيقاً مع عواطف الإنسان وأحاسيسه ، يكون تأثير الفكرة في النفس أوقع وأشد ، وكلما ازدادت أواصر هذا الارتباط كانت الثمار المرجوة من تلك الفكرة أكثر نضجاً وأشد تأثيراً ورسوخاً ، فيزداد الفرد المؤمن عزماً وقوّة وتمسّكاً بمبدئه ورسالته ؛ ولذا نرى ذلك التفاعل الإيجابي بين الأمة وشخصية الشهيد والأسوة ، حيث تخلق لنا أبطالاً ومضحّين لهم الدور الفاعل في مسيرة تلك الأمة .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ، الطبري : ج ٧ ص ٣٦٦ ؛ ونحوه في الكامل في التاريخ ، ابن الأثير : ج ٧ ص ٥٥ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ١٠ ص ٣٤٧ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ١٤ ص ٢٤٥ .

(٣) تاريخ الإسلام ، الذهبي ؛ حوادث سنة ٢٣١ ـ ٢٤٠ ، ص ١٨ ؛ تاريخ الطبري : ج ٧ ص ٣٦٥ ؛ ونحوه البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ١٠ ص ٣٤٧ .

٦٨

لذا نجد أنّ المخرجين الكبار في فن العرض والإخراج السينمائي يبحثون عن المؤثّرات العاطفية ، التي تثير المشاهدين والسامعين لأجل أن يجعلوا من الفكرة التي يريدون تسويقها فكرة حيّة وفعّالة وراسخة في النفوس ، فإن كل عقيدة إذا لم تقترن بالعاطفة ، فهي عقيدة هشّة واهية لا تصمد أمام الفتن والمغريات ؛ لذا مزجت السماء الشريعة الإسلامية بالعاطفة من خلال الحب ( وهل الدين إلا الحب في الله )(١) ، ولا يمكن للإنسان أن يكون مؤمناً ما لم يكن محبّاً لله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وقال تعالى :( قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (٢) ، فقد جعلت الآية الحب لله تعالى المحور للطاعة والإيمان ، وكذلك قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ ) (٣) ، وقوله تعالى :( مُحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (٤) ، وقد ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : (لكل شيء أساس وأساس الدين حبنا أهل البيت)(٥) ، وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أحبوا الله لما يغدوكم به

ــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٢ ص ٢٩١ ؛ الدر المنثور ، السيوطي : ج ٢ ص ١٧ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ٢ ص ٨٥ ؛ فتح القدير : ج ١ ص ٣٣٤ .

(٢) آل عمران ، ٣١ .

(٣) المائدة ، ٥٤ .

(٤) الفتح ، ٢٩ .

(٥) لسان الميزان ، ابن حجر ، ج ٥ ص ٣٨٠ ؛ ميزان الاعتدال للذهبي : ج ٤ ص ٣٥ .

٦٩

من نعمة وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي ) (١) . وقد سبق ذكر الكثير من الروايات في المجال .

إذن للعاطفة دور كبير في حفظ العقيدة والفكرة ؛ لأنّ لغة المشاعر والعاطفة يفهمها الكبار والصغار والواعون والأقل وعياً ، على العكس من الأفكار الجامدة ، فهذه الأحاسيس والعواطف التي تثيرها المآتم الحسينية ثروة الجميع الناس ، فهي حالة تربوية تنمي لدى الأجيال حالة من الوعي الفكري الممزوج بالأحاسيس التي تحث على المبادئ السامية التي أكد عليها الدين الإسلامي ، كضرورة نصرة المظلوم ، والتضحية من أجل الحق ، فإنّ أجلى صورة تجسدها ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام هي الفداء والتضحية من أجل الإسلام بالنفس والأهل والأصحاب ، وأيّ نفس كنفس الحسينعليه‌السلام ، وأيّ أهل كأهله ، وأصحاب كأصحابه ، وقد هزّ الإمام الحسين في حركته ضمير وعاطفة الأُمّة الإسلامية من خلال مجيئه بعياله ونسائه وأطفاله ، وإصراره على المسير في الطريق الأعظم ، كذلك نفس إدارة الإمام الحسينعليه‌السلام للمعركة من تقديم الصبيان والرضعان قرابين للمبادئ السامية لحركته .

كذلك ما قامت به أُخته الحوراء زينبعليها‌السلام بعد المعركة من دور إعلامي كبير ، ومشاركة ميدانية رائعة ، وموقف رسالي فذ ، حيث أثارت المشاعر وهزّت الضمائر ، وأظهرت بشاعة الصورة الإجرامية التي ارتكبها بنو أمية بحق الحسينعليه‌السلام وأهله وأطفاله وأصحابه ، حيث جعلت من مصرع أخيها مأساة خالدة على مر الدهور والأعوام .

وهذا الموقف الزينبي العظيم وما ينطوي عليه من وعي رسالي وبطولي منقطع النظير ، فقد شاطرت وشاركت أخاها الحسينعليه‌السلام في بلوغ الثورة الحسينية ووصولها إلى تحقيق غاياتها وأهدافها.

ــــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٣ ص ٤٦ وج ١٠ ص ٢٨١ ؛ مستدرك الحاكم : ج ٣ ص ١٥٠ ، وقال فيه (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ؛ أسد الغابة ، ابن الأثير : ج ٢ ص ١٣ ؛ ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد الله الطبري : ص ١٨ .

٧٠

مضافاً إلى ما يعطيه الموقف الزينبي ، من درس عظيم للمرأة المسلمة في تحمّلها للمسؤولية والعمل في خدمة الإسلام .

إذن العواطف والأحاسيس والمشاعر التي التي تثيرها المآتم الحسينية لها الدور الكبير في تمسّك الإنسان بعقيدته ومبادئه ؛ وذلك من خلال تعميق هذه العقيدة في النفس الإنسانية ، عن طريق مزجها بالعاطفة .

فللعواطف الدور الكبير في حل الكثير من المشاكل والمعضلات التي يعجز منطق الاستدلال عن حلها ؛ ولذلك حينما نراجع تاريخ الأنبياءعليهم‌السلام ترى أنّهم كانوا في أوائل بعثتهم يلتف حولهم أُناس لم يكن المنطق والبرهان هما الدافع الوحيد لإيمانهم والتفافهم حول الأنبياء ، وهكذا نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الأولى من دعوته ، كان عمله يرتكز على كسب المشاعر والعواطف الصادقة لدى الناس .

ولا ريب أنّ حادثة عاشوراء تنطوي بطبيعتها على بحر زاخر من العواطف الصادقة ؛ لأنّها جاءت نتيجة لثورة إنسان عظيم ومعصوم ، لا يمكن التشكيك في شخصيته المتسامية ، وقد أقرّ جميع المنصفين في العالم بتعالي هدفه ، ورفعة مبادئه السامية التي قامت على إنقاذ المجتمع الإسلامي من براثن الظلم والاستعباد .

إذن على ضوء ما سلف يتحصل أنّ هذه المآتم والمجالس الحسينية والبكاء والعزاء ليس الغرض منها إلغاء دور العقل وتجميده ، وعزل البرهان والمنطق ، وإنّما دورها مكمّل لدور العقل ، فهي تساهم في ترسيخ ما أثبته العقل في النفس الإنسانية ، فإنّ الأهداف التي قام بها الإمام الحسينعليه‌السلام والتي من أبرزها الحفاظ على الخط الإسلامي الأصيل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الظالمين ، كانت لإثارة المشاعر والعواطف دور بارز في تحقيقها وترسيخها في الوسط الإسلامي ، بل الإنساني بصورة عامة .

فالعقل والفطرة يلتقيان في تأييد هذه المآتم ومباركتها ؛ وبذلك يتضح بطلان وزيف القول بأنّ المآتم تثبت العقائد من خلال العواطف لا العقل .

٧١

رابعاً : إبراز جانب القدوة في المجتمع

إنّ في إقامة هذه المآتم حثّاً على معرفة أهل الفضل والصفات السامية ، ومن ثمّ الإقتداء بهم ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ في هذه المآتم إبراز لدور القدوة والأسوة في حياة المجتمع ، فإنّ الإنسان إذا علم أنّ القدوة قد جسّد المبادئ الإسلامية التي كان يأمر ويدعو للإتيان بها ، فسيكون تأثيرها أوقع ممّا لو كانت مبادئ فارغة عن التجسيد في الواقع الخارجي ، فلو لم يقدّم الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه وأهل بيته وأصحابه في سبيل الله ، لما كان لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد والتضحية في سبيل الله وغيرها من مبادئ الإسلام ذلك التأثير البالغ الذي أعطته الثورة الحسينية لتلك المبادئ .

إذن هذه المآتم تقوم بإبراز ذلك الدور الأساس الذي قام بتجسيده إمامنا الحسينعليه‌السلام تجسيداً حيّاً وفعّالاً ، ولا يخفى ما لهذا من الأثر الكبير في نفوس المؤمنين .

خامساً : الحفاظ على استقلالية المذهب وتعبئة الجماهير

إنّ في إقامة المجالس حفظاً للمذهب من كيد الأعداء الذين طالما سعوا للقضاء على مذهب أهل البيت بالقتل والتشريد والتطريد وأنواع الظلم والجور والمكر والكيد ؛ لأنّ هذه الجالس ـ التي تعرض رزايا أهل البيتعليهم‌السلام وما جرى عليهم من المصائب ـ تقوّي من عزيمة المؤمن على ما يحل به من رزايا ومصائب ومحن إلى قيام دولة الحق والعدل على يد الإمام المهديعليه‌السلام ، كل ذلك من خلال طرح المفاهيم الإسلامية الصحيحة وبلورة الأسس الفكرية الصائبة وتوضيحها للناس ، من خلال ذكر أقوالهم وسيرتهم ومواقفهم في شتّى المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية على مر الدهور ، وجعل أقوالهم وسيرتهم وما جرى عليهم نبراساً ينير الدرب ، ويُعبّد للمؤمنين طريقاً لا يمكن سلكه لو لا التزود من سيرتهم الحقّة ، فالمآتم والمجالس لها الدور الكبير في نشر علوم وفضائل أهل البيتعليهم‌السلام على مختلف المستويات والأصعدة ؛ لذا قيل : إنّ المذهب الشيعي يمتلك محورين أساسين لا يمتلكها أي مذهب آخر وهما نظام المرجعية في أمور الدين ، والمجالس الحسينية .

وهذان المحوران تفتقر إليهما المذاهب الأخرى ممّا جعلها تفقد حالة الاستقلالية ؛ ولذا احتاجت إلى الدعم السياسي لها من قِبل السلطات الحاكمة ، على عكس مذهب أهل البيتعليهم‌السلام الذي كان يتمتع باستقلالية تامة عن الحكومات الجائرة على رغم المحاربة التي لا هوادة فيها من قِبل تلك السلطات تجاه مذهب أهل البيتعليهم‌السلام .

٧٢

فللمنبر والمحاضرات الحسينية من التأثير الجماهيري الواسع ، ما ليس لغيرها من الوسائل التبليغية والإعلامية الأخرى ؛ لأنّها كانت ولا زالت محل اجتماع المؤمنين على اختلاف طبقاتهم وميولهم ، ولا يستطيع أي خط سياسي مهما أُوتي من تنظيم وتخطيط تعبئة هذه الجماهير وجمعها ـ من دون إجبار ـ بالشكل الذي نراه في مجالس الحسينعليه‌السلام فتراها مكتظّة بالحاضرين يسوقهم الشوق إلى الحسينعليه‌السلام ويقودهم حبّه ومبادؤه السامية ، لا يبالون في سبيل ذلك بحرٍّ ولا بردٍ ولا عناء .

ومن ثمّ تكون هذه المجالس والمآتم وسيلة أساسية من وسائل تربية المجتمع ـ بطريقة لا شعورية ـ على حسن الاجتماع والتزاور والتعاون ؛ وبذلك تساهم في تأليف القلوب وتواددها وتعاطفها وتراحمها .

الخلاصة

١ ـ إنّ السنّة في اللغة تعني الطريقة والسيرة ، وسنّة الله طريقته ، وفي الاصطلاح الشرعي : هي قول وفعل وتقرير المعصومعليه‌السلام .

٢ ـ إنّ البدعة لغةً هي إنشاء الشيء لا على على مثال سابق واختراعه وابتكاره بعد أن لم يكن ، كما في قوله تعالى( بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) وفي الاصطلاح الشرعي : هي إدخال ما ليس من الدين في الدين ، أي نسبة شيء إلى الدين وليس منه .

٣ ـ إنّ الشعيرة لغةً هي الإعلام من طريق الحس ، ومنه المشاعر وهي المعالم واحدها مشعر ، والمعنى الجامع بين كلام اللغويين هو الإعلام الحسّي لكل معنى من المعاني ، وهكذا المعنى الاصطلاحي للشعيرة ، فهي أيضاً الإعلام الحسّي لكل معنى ، أو سلوك ديني ، أو حكم من الأحكام الدينية ، فكل ذلك يسمّى شعاراً ، فالشعيرة إذاً هي العلامة .

٤ ـ إنّ الشارع لم يتصرّف في عنوان الشعائر ، بل أبقاها على ما هي عليه في اللغة وهي الإعلام ، وكذلك لم يتدخل في كيفية تحقيقها ووجودها في الخارج ، فأبقاها على ما عليه العرف ، وهذه قاعدة أُصولية مفادها أنّ الشارع إذا لم يتصرّف في مرحلة التطبيق في العنوان الوارد في لسان الدليل ، فإنّ القاعدة والأصل الأوّلي أن يبقى على وجوده ومعناه العرفي ، كما في أحلّ الله البيع .

٧٣

فالشارع لم يتصرّف ولم يتعرّض لكيفية تطبيق الشعائر في الخارج إلاّ في بعض الموارد ، كما في قوله تعالى :( إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ) (١) فالتعبير بلفظ (من) التبعيضية يكشف عن كون البُدن والصفا من مصاديق الشعائر من دون التعرّض نفياً أو إثباتاً إلى المصاديق والأفراد الأخرى للشعائر ، وهذا يدل على إيكال ذلك إلى العرف في تحديد المصاديق ، وكذا قوله تعالى :( ذلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (٢) حيث دلّت الآية على مطلوبية ورجحان التعظيم للشعائر من دون التعرّض لكيفية حصول التعظيم ، وموكلة ذلك إلى العرف .

وهنالك جملة من علماء السنّة من فقهاء ومحدّثين فهموا الشمول والعمومية لمفهوم الشعيرة بالنحو الذي ذكرناه .

ــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٥٨ .

(٢) الحج : ٣٢ .

٧٤

الفصل الثاني : إبطال دعوى أنّ التوسّل بغير الله شرك وعبادة لغير الله

جواز التوسّل في الشريعة الإسلامية

الشبهة

إنّ التوسّل بغير الله تعالى شرك ؛ لأنّه عبادة لغير الله عزّ وجلّ ، فكيف تتوسّل الشيعة بالنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام ؟

الجواب

هل التوسّل والاستعانة بغير الله شرك ؟

إنّ سيرة المسلمين على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد وفاته قائمة على التوسّل إلى الله عزّ وجلّ بأوليائه وعباده الصالحين ، والتبرّك بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثاره وغير ذلك ـ كما سيأتي ـ ولم يعترض على ذلك أحد من المسلمين إلى زمن ابن تيمية .

فالمنحى القائل إنّ التوسّل بغير الله شرك رأي ابتدعه ابن تيمية في الإسلام ، ولم يسبقه إليه أحد قبله من المسلمين .

فمن الجدير بالملاحظة أنّ الشبهة التي يتردّد ذكرها في كلام ابن تيمية ترجع ـ بحسب زعمه ـ إلى أنّ جعل الواسطة بين العبد وبين ربّه شرك منافٍ للتوحيد .

إلاّ أنّنا نذكّر ابن تيمية وأتباعه ، أنّ هذا التوحيد الذي يتحدث عنه ، ليس هو التوحيد المرضي عند الله تعالى ، بل إنّ توحيد ابن تيمية ، ما هو إلاّ وليد استنتاجات واستنباطات خاطئة ، لا تمتّ إلى الدين بصلة ، ولكي يكون الجواب وافياً ، وخالياً من اللّبس في الدلالة على المطلوب ، لابد من البحث في العناوين التالية :

١ ـ العلل والأسباب .

٢ ـ معنى كلمات الله .

٣ ـ هل الواسطة ضرورية ؟

٤ ـ الفرق بين التوسّل والشفاعة والاستغاثة والتبرّك .

٧٥

نظام الخلق نظام الأسباب والوسائط

من المسائل المهمّة التي ينبغي الوقوف عليها ، هي كيفية الخلق ، وكيفية صدور الكائنات عن ذات الباري تعالى ، وكيفية ارتباط بعضها مع البعض الآخر .

ومجمل القول في هذه المسألة : إنّ نظام الخلق الإلهي ، إمّا دفعي ( كن فيكون ) ، وإمّا خلقي تدريجي ، أي بواسطة وسائل وأسباب .

وبعبارة أخرى : إنّ مشيئة الله تعالى وحكمته اقتضت أن يكون نظام الخلق عن طريق سلسلة من العلل والوسائط .

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقه في جملة وافره من الآيات المباركه :

قال تعالى :( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (١) .

وقال تعالى :( وَأَنْزَلَ مِنَ الْسّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا

ــــــــــــــ

(١) الحجرات : ١٣ .

٧٦

للهِ‏ِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١) .

فالباء في قوله تعالى ( به ) بمعنى السببية ، فالآية الكريمة صريحة في كون الماء سبباً لإخراج الثمرات.

وقال تعالى :( اللهُ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السّماءِ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) . فالآية الكريمة في سببية الرياح لتحريك السحاب وبسطه في السماء .

وقال تعالى :( وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (٣) . فقد نسبت الآية الكريمة اهتزاز الأرض وربوتها إلى الماء ونسبت أيضاً الإنبات إلى الأرض.

وقال تعالى :( خَلَقَ السّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى‏ فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ) (٤) ، فقد نسبت هذه الآية المباركة ثبات الأرض وعدم اضطرابها إلى الجبال .

وقد حدثتنا الآيات والروايات الشريفة عن وجود جنود لله وملائكة لهم وظائف معيّنة موكّلين بتنفيذها والقيام بها :

منها : التدبير ، قال تعالى :( فَالْمُدَبّرَاتِ أَمْراً ) (٥) .

وأخرج ابن حجر عن ابن أبي الحسين قال : ( سمت أبا الطفيل قال :

ــــــــــــــ

(١) البقرة : ٢٢ .

(٢) الروم : ٤٨ .

(٣) الحج : ٥ .

(٤) لقمان : ١٠ .

(٥) النازعات : ٥ .

٧٧

سمعت ابن الكواء يسأل علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن( الذاريات ذرواً ) ، قال : الرياح وعن( الحاملات وقراً ) ، قال : السحاب ، وعن( الجاريات يسراً ) ، قال : السفن وعن( المدبّرات أمراً ) ، قال : الملائكة وقال : وصحّحه الحاكم )(١) .

وقال ابن كثير في قوله تعالى :( فالمدبّرات أمراً ) قال عليعليه‌السلام ومجاهد وعطاء وأبو صالح الحسن وقتادة والربيع وأنس والسدي : هي الملائكة ؛ زاد الحسن تدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ، يعني بأمر ربّها عزّ وجلّ )(٢) .

ومنها : التقسيم ، قال تعالى :( فَالْمُقَسّماتِ أَمْراً ) (٣) .

عن محمد بن جبير بن مطعم ، قال : ( سمعت عليّاًعليه‌السلام يخطب الناس ، فقام عبد الله بن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى :( فَالْمُقَسّماتِ أَمْراً ) قال :الملائكة )(٤) .

وعن ابن عباس في قوله تعالى :( فَالْمُقَسّماتِ أَمْراً ) قال : ( الملائكة )(٥) .

وعن مجاهد في قوله : ( فَالْمُقَسّماتِ أَمْراً ) يقول : ( فالملائكة التي تقسّم أمراً في خلقه )(٦) .

ومنها : الحفظ ، قال تعالى :( لَهُ مُعَقّبَاتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (٧) ، قال ابن عباس : ( معقبات ملائكة حفظة تعقب الأُولى منها

ــــــــــــــ

(١) فتح الباري ، ابن حجر : ج ٨ ص ٤٥٩ ؛ ونحوه المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٢ ص ٤٦٧ ، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

(٢) تفسير ابن كثير : ج ٤ ص ٤٩٨ .

(٣) الذاريات : ٤ .

(٤) جامع البيان ، الطبري : ج ٢٦ ص ٢٤١ ؛ تفسير القرطبي : ج ١٧ ص ٣٠ ؛ تفسير ابن كثير : ج ٤ ص ٢٤٨ .

(٥) جامع البيان : الطبري : ج ٢٦ ص ٢٤٢ .

(٦) جامع البيان ، الطبري : ج ٢٦ ص ٢٤١ .

(٧) الرعد : ١١ .

٧٨

الأخرى)(١) .

وقال تعالى :( وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) (٢) .

ومنها : الرقابة وكتابة الأعمال ، قال تعالى :( كِرَاماً كَاتِبِينَ ) (٣) ، وقال تعالى :( إِذْ يَتَلَقّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٤) .

ومنها : إنزال الوحي الإلهي ، قال تعالى :( يُنَزّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى‏ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنّهُ لاَ إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتّقُونِ ) (٥) ، وقال تعالى :( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ ) (٦) .

ومنها : قبض الأرواح وتوفّي الأنفس ، قال تعالى :( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) (٧) ، وقال تعالى :( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتّى‏ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَيُفَرّطُونَ ) (٨) ، وقال تعالى :( قُلْ يَتَوَفّاكُم مَلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَى‏ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (٩) ، وغيرها .

ــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري : ج ٥ ص ٢١٨ .

(٢) الانفطار : ١٠ .

(٣) الانفطار : ١١ .

(٤) سورة ق : ١٧ ـ ١٨ .

(٥) النحل : ٢ .

(٦) الشورى : ٥١ .

(٧) محمّد : ٢٧ .

(٨) الأنعام : ٦١ .

(٩) السجدة : ١١ .

٧٩

والآيات القرآنية تثبت أنّ لكلّ ملك مقاماً معلوماً( وَمَا مِنّا إِلاّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) (١) ، وهذا يعني أنّ الملائكة متفاوتون في مقاماتهم ووظائفهم الموكولة إليهم من قِبل الله تعالى ، فمنهم الكروبيون ومنهم ما دون ذلك ، فلكل واحد منهم عمله ووظيفته الخاصة به ، فكل بحسب استعداده ومرتبته وقربه من الله تعالى ، فمثلاً جبرائيل موكّل بإنزال الوحي السماوي على الأنبياء والرسل ، وميكائيل موكّل بالأرزاق ، وعزرائيل موكّل بقبض الأرواح ، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصور .

وهنالك ملائكة مكلّفون بتدبير السحاب والرياح والمطر وتسجيل أعمال العباد وآخرون موكّلون بالجحيم والجنّة ، كلهم يعملون بإذن الله وإرادته .

إذن نستفيد من هذه البيانات القرآنية وجود نظام متسلسل قائم على نظام العلية والمعلولية ، والسببية والمسببية .

والأمر ذاته نجده في عالم الطبيعة كالزرع والإنبات وغيرها ، لا تأتي إلاّ ضمن سلسلة من العلل والوسائط ، وقائم على سنن إلهية لا تبدذل ولا تغيّر( فَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللهِ تَحْوِيل ) (٢) .

ولا شك أنّ كل هذه الوسائط والأسباب خاضعة لإرادة ومشيئة الله تعالى :( وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ اللهُ إِنّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (٣) .

هل الله تعالى محتاج إلى الوسائط ؟

إنّ تصوّر احتياج الله تعالى إلى تلك الوسائط ، ما هو إلاّ نوع من الضلالة الفاضحة ، إذ كيف يكون الله تبارك وتعالى محتاجاً إلى غيره( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) ، فله القدرة المطلقة على كل شيء .

ومجمل القول في هذا الأمر هو أنّ ضعف المرتبة الوجودية للأشياء ، وعدم استعدادها لاستقبال الفيض الإلهي مباشرة ، هو الذي أحوجها إلى الاستظلال بظل الموجودات الأعلى منها مرتبة ، وتتلقّى الفيض الإلهي عن طريقها ، فعلى سبيل المثال فإنّ الله تعالى هو الذي يحيي الأرض وما عليها

ــــــــــــــ

(١) الصافات : ١٦٤ .

(٢) فاطر : ٤٣ .

(٣) الإنسان : ٣٠ .

٨٠