أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين0%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف: السيد محمد الصدر
تصنيف:

الصفحات: 250
المشاهدات: 110581
تحميل: 14159

توضيحات:

أضواء على ثورة الحسين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110581 / تحميل: 14159
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

وقد يخطر في الذهن: أنّ البكاء ليس دائماً على أمور الدنيا، بل له مبرِّرات عديدة ممّا هو صحيح دينيّاً، نذكر منها ما يلي:

أوّلاً: البكاء من الذنوب.

ثانياً: البكاء شوقاً إلى الثواب.

ثالثاً: البكاء خوفاً من العقاب.

رابعاً: البكاء لأجل قلّة الصبر على البلاء.

خامساً: البكاء لأجل إقامة الحجّة على الخصوم.

فمن هنا يمكن أن يكون بعض هذه الأسباب موجوداً لدى الحسينعليه‌السلام وأصحابه.

جوابهُ: أمّا الأسباب الثلاثة الأولى فهي خارجة عن محلّ كلامنا هذا؛ لأنّنا نتكلّم عن البكاء الناتج بسب الواقعة نفسها، وأمّا البكاء لأجل قلّة الصبر فهو غير صحيح للحسينعليه‌السلام ؛ لأنّه معصوم، وأمّا غيره فلعدّة أمور منها:

أوّلاً: قال تعالى:( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) (١) ، إذاً فالبلاء أو أيّ شيء آخر لا يكون إلاّ بمقدار التحمّل، ويستحيل أن يكون أكثر من ذلك، بمشيئة الله سبحانه.

ثانياً: الاستبشار الذي ذكرناهُ وكرّرنا الحديث عنه، فإنّه ممّا يُقوّي العزيمة ويشدّ الهمّة ويمنع الانهيار، فلا يكون لقلّة الصبر مورد بالنسبة لهم، ليسبِّب لهم البكاء.

وأمّا السبب الأخير: وهو إقامة الحدّة على الأعداء، فهو صحيح، إلاّ أنّه ليس من وظيفة الشهداء أنفسهم؛ وإنّما هي وظيفة مَن بقيَ منهم ومن ذويهم ونسائهم، لكي يكشفوا للعالَم الخارجي عن أهميّة الأمر وعَظمة قضيّة الحسينعليه‌السلام .

____________________

(١) سورة البقرة: آية ٢٨٦.

١٤١

مضافاً إلى أنّ الأسلوب الوحيد لإقامة الحجّة ليس هو البكاء، بل ليس هو الأسلوب الأفضل؛ وإنّما الأسلوب الأفضل هو الكلام والإفهام، والبكاء أسلوب صامت وسلبي مهما كان مؤثراً، نعم، حين لا يكون الكلام ممكناً يكون أسلوب البكاء لإقامة الحجّة متعيّناً، وهو ما فَعلتهُ فاطمة الزهراء سلام الله عليها بعد أبيها، وفَعلتهُ زينب بنت علي (عليه وعليها السلام) بعد أخيها الحسين وأصحابه، وفعلهُ الإمام السجّادعليه‌السلام بعد أبيه، إلى غير ذلك من الموارد.

وأمّا لماذا كان الكلام متعذِّراً أو صعباً بالنسبة لهؤلاء، فهذا ما لا ينبغي أن نطيل الكلام فيه الآن.

١٤٢

يا ليتَنا كنّا مَعكم

هناك عبارة يُكرِّرها خطباء المنبر الحسيني حتّى أصبحت متعارفة وتقليديّة وهي قولهم:يا ليتنا كنّا معكم فنفوزَ فوزاً عظيماً (١) .

والخطاب - بصيغة الحال - للحسينعليه‌السلام وأصحابه، وأودُ الآن بمناسبة حديثي عن هؤلاء العظماء أن أتعرّض إلى معنى هذه العبارة؛ فإنّ في ذلك: عبرة أوّلاً، وموعظة ثانياً، وتربية للخطباء ثالثاً، لعلّهم يأخذون ما سوف أقول بنظر الاعتبار.

واللفظ الذي هو الأهمّ والأشدّ تركيزاً في هذه الجملة هو(معكم) ؛ فإنّ المعيّة قد تكون: مكانيّة، وقد تكون زمانيّة، وقد تكون معنويّة؛ فإنّ المتكلّم بهذه الجملة مرّة يتمنّى أن يكون مع شهداء كربلاء في الزمان والمكان المعينيّن اللذين كانوا فيهما، وأخرى يتمنّى أن يكون معهم معنويّاً.

والأداةُ(ليت) للتمنّي، والمشهور في علوم العربيّة أنّ التمنّي لا يكون إلاّ للمستحيل، ويوردون كشاهدٍ على ذلك قول الشاعر:

ألا ليتَ الشبابَ يعود يوماً

فأُخبرهُ بما فعلَ المشيب(٢)

وسناقش ذلك بعد قليل ونعود إلى الحديث عن (المعيّة).

____________________

(١) البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٢٨٦، أمالي الصدوق: ص١١٢.

وهي من رواية للإمام الرضا عليه‌السلام يقول فيها لابن شبيب: (إنْ سرّكَ أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استُشهد مع الحسين عليه‌السلام ، فقل متى ذكرته: يا ليتني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيماً) .

(٢) ديوان أبو العتاهية: ص٣٢.

١٤٣

أمّا تمنّي الفرد للكون معهم في نفس الزمان والمكان الذي كانوا فيه، فيُراد عادة تمنّي الحصول على الشهادة معهم لكي يفوز فوزاً عظيماً، وهو أمرٌ جليل ولطيف في حدّ نفسه إلاّ أنّه قابل للمناقشة من أكثر من جهة:

الجهةُ الأولى: أنّ تمنّي العود إلى الماضي من تمنّي المستحيل طبيعيّاً، وتمنّي المستحيل مستحيل، أو قل: إنّه لا يتصوّره ولا يقتنع به إلاّ مَن خولِط في عقله، وليس من تمنّي الأسوياء ما كان مستحيلاً.

الجهةُ الثانية: إنّ مجرّد وجود الفرد هناك في الماضي - لو تمّ له - لا يعني كونه يفوز بالشهادة أو يفوز فوزاً عظيماً، بعد أن نأخذ بنظر الاعتبار هذه النفوس الضعيفة الأمّارة بالسوء المعتادة على الترف والضيق من مصاعب الحياة.

ومن الواضح أنّ حركة الحسينعليه‌السلام كلّها مصاعب وبلاء وضيق من الناحية الظاهريّة أو الدنيويّة، ومن هنا لا يكون من المؤكّد أنّ الفرد إذا كان موجوداً في ذلك الزمان والمكان أن يكون ناصراً للحسينعليه‌السلام ، بل لعلّه يكون في الجيش المعادي تحت إمرة عبيد الله بن زياد؛ لأجل الحصول على المال أو الشهرة أو دفع الشرّ والتهديد، تماماً كما مالَ أهل الكوفة إليه بعد إعطائهم الولاء للحسينعليه‌السلام ومسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ومن أجل شيء من الطمع والخوف.

وإذا كان الفرد أحسن نفساً و أكثر ثقافة، فلا أقلّ من أن ينهزم من المعسكر، فلا يكون مع مُعادي الحسين، كما لا يكون مع الحسين نفسه، تماماً كما ورد عن أبي هريرة أنّه قال:(الصلاة خلف عليّ أتم، وطعام معاوية أدسم، والوقوف على التل أسلم) (١) ، وإذا لم يكن مع الحسينعليه‌السلام فسوف يحصل:

أوّلاً: إنّه لن ينال الشهادة ولن يفوز فوزاً عظيماً.

____________________

(١) هذا القول من أبي هريرة عبّر عن موقفه في حرب صفّين، وقد ذكرهُ محمود أبو ريّة في كتاب شيخ المضيرة أبو هريرة ص٥٦ عن شذرات الذهب في أخبار مَن ذَهب لابن عماد الحنبلي: ج١، ص٦٤.

١٤٤

وثانياً: إنّه سينال اللعنة الأبديّة طبقاً لقولهعليه‌السلام :(مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصرنا، أكبّه الله على مَنخريه في النار) (١) .

وعلى أيّ حالٍ، فمن أين يأتي التأكّد على أنّ الفرد إذا كان في ذلك الزمان وذلك المكان مع الحسينعليه‌السلام ، لفازَ فوزاً عظيماً، بل لعلّه يَخسر خسراناً مبيناً، كما ألمعنا قبل قليل؛ لأنّ مجرّد المصاحبة في المكان لا يعني أكثر من ذلك.

وقد يُستدلّ على أنّ المطلوب من أيّ فردٍ مُحبّ للحسين، يَحسن به أن يتمنّى ذلك، فيستدلّ عليه بالشعر المنسوب إلى الحسينعليه‌السلام :

شيعتي ما إن شربتم عذبَ ماءٍ فاذكُروني

أو سَمعتم بقتيلٍ أو جريحٍ فاندِبوني

فأنا السبطُ الذي من دون جُرمٍ قتلوني

وبجُرد الخيل بعد القتل عَمداً سَحقوني(٢)

فقد تمنّى الحسينعليه‌السلام أن يكون معهُ شيعته يوم عاشوراء، وهو المطلوب، وجواب ذلك من عّدة وجوه منها:

الوجه الأوّل: إنّ هذا الشِعر ليس للحسينعليه‌السلام قطعاً، بل هو ممّا قيل على لسانه قطعاً، وأدلّ دليل على ذلك: أن يَذكر فيه مقتلهُ وما حدثَ بعد مقتله، وهو ما لا يمكن أن يكون من قوله سلام الله عليه، وفي ما سمعناه ما يشير إلى ذلك.

مضافاً إلى قوله:وبجُرد الخيل بعد القتل ظلماً سَحقوني ، إلى غير ذلك.

____________________

(١) الخوارزمي: ج١، ص٢٢٧، البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٣١٥، أمالي الصدوق: ص١٢٣.

(٢) أسرار الشهادة للدربندي: ص٣٩٨، وأشار إليها جعفر التستري في خصائصه ذاكراً البيت الأوّل فقط.

١٤٥

إذاً، فهذا الشعر إنّما قاله الشاعر بعد أن سمعَ قول الخطباء(يا ليتنا كنّا معكم) ، فأحبّ أن يكون هذا التمنّي صادراً عن الحسينعليه‌السلام أيضاً، إذاً فلا يكون لهذا الشعر قيمة إثبات تاريخيّة أكثر من هذه الجملة التي يُكرّرها الخطباء.

الوجه الثاني: إنّ مثل هذا التمنّي لو كان صادراً عن الحسينعليه‌السلام أو محبّيه، فإنّما يراد به تمنّي الاجتماع معنويّاً - كما سوف نذكر - لا ماديّاً، أو تمنّي الاجتماع ماديّاً ومعنويّاً حتّى يتمّ الأمر، وإلاّ فمن الواضح - كما أسلفنا - أنّ الاجتماع المادّي في الزمان والمكان وحده لا يكفي.

وأمّا المعيّة المعنويّة: وهي الاتّحاد في الهدف والمحبّة والإيمان، فقد يُستشكل فيه من حيث إنّ (ليت) إنّما تأتي للتمنّي المستحيل على ما هو المشهور كما أسلفنا، ومن الواضح أنّ المعيّة المعنويّة ليست مستحيلة، بل بابها مفتوح لكلّ والج وواسع بسعة رحمة الله سبحانه، فينال منها كلّ فردٍ حسب استحقاقه، فمن هنا ناسبَ أن تُستعمل (ليت) للمستحيل، وهو الكون المادّي معهم لا المعنوي.

وجواب ذلك: إنّ اختصاص التمنّي بالمستحيل غير صحيح تماماً وإن ذهبَ إليه المشهور؛ وذلك لعدّة وجوه منها:

أوّلاً: ما أشرنا إليه فيما سبق من أنّ تمنّي المستحيل مستحيل، إلاّ من المجانين ومَن خُولطوا في عقولهم، أو إنّه يتحدّث حديثاً مجازيّاً بعيداً عن الواقع تماماً، كبيت الشعر الذي استشهدوا به(ألا ليتَ الشباب يعود يوماً).

ثانياً: إنّ التمنّي وأضرابه من موارد ما يسمّى في علوم البلاغة بالإنشاء: كالاستفهام، والترجّي، وهي حالات نفسيّة وجدانيّة محسوسة في النفس تختلف في معانيها ومداليلها، فالترجّي المدلول عليه بالأداة (لعلّ) إنّما يعني مجرّد الاحتمال كقولنا: لعلّ فلاناً عادَ من سفره، أو لعلّي أُسافر غداً.

١٤٦

وأمّا التمنّي فهو: إرادة حصول شيء في المستقبل والرغبة فيه كقولنا: ليتني أُسافر غداً، أي أحبُّ ذلك وأرغبُ به، ولا ربطَ له بمجرّد الاحتمال.

فالتمنّي والترجّي أمران مختلفان تماماً، كما لا ربطَ لهُ بالأمور المستحيلة بل يستحيل أن يتعلّق التمنّي بالمستحيل.

ثالثاً: إنّ في القرآن الكريم موارد استُعملت فيها الأداة (ليت) فيما هو ممكن وليس بمستحيل، وظاهر القرآن حُجّة على كلّ مَن يناقش في ذلك، كقوله تعالى:( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ) (١) ، مع العلم أنّ الموت في أيّ وقتٍ ممكن بقدرة الله سبحانه، وقوله تعالى:( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ) (٢) ، يعني: ميّتاً قد زالت معالِم قبره، وهو أمر ممكن على أيّ حال.

بل حتّى ما يبدو مستحيلاً من الاستعمالات كقوله تعالى:( يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (٣) ، وقوله تعالى:( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ) (٤) ونحوها، إنّما تكون مستحيلة باعتبار النظام الإلهي للخلق، لا باعتبار قدرة الله على انجاز ما يتمنّونهُ إلاّ أنّه لا يُنجّزه؛ لأنّهم لا يستحقّون ذلك.

ومحلّ الشاهد من كلّ ذلك: أنّ التمنّي للممكن أمرٌ ممكن، فإذا عَرفنا أن المعيّة المعنويّة مع أصحاب الحسينعليه‌السلام أمر ممكن في أيّ مكانٍ وزمان؛

____________________

(١) سورة مريم: آية ٢٣.

(٢) سورة النبأ: آية ٤٠.

(٣) سورة الزُخرف: آية ٣٨.

(٤) سورة الأنعام آية: ٢٧.

١٤٧

لأنّها تُعبّر عن المعيّة القلبيّة والفكريّة، وهي المعيّة الأهم والألزم، فإذا كانت ممكنة كان تمنّيها ممكناً، ويمكن أن يقصدها الفرد حين يقول: يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً، والحقُّ أنّ المعيّة المعنويّة توجِب الفوز العظيم بلا إشكال.

ولكنْ يحسن بنا أن نلتفت إلى أنّ هذا التعبير وارد في القرآن عن قول فردٍ فاسق، أو مُتدنّي الإيمان وقليل اليقين؛ لأنّه سبحانه يقول:( وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) (١) .

إذاً فتكرار هذا المضمون من قِبَل الفرد لا يكاد يكون معقولاً؛ لأنّه سيعتبر نفسه مُتدنّي الإيمان أو قليل اليقين، وهذا لا يكون إلاّ مع الغفلة عن المضمون الحقيقي للعبارة كما هو الأغلب، أو لأجل كسر النفس والوقيعة فيها، كما هو شأن الزُهّاد والسالكين.

كما ينبغي أن نلتفت إلى أمرٍ أهمّ حول الآية الكريمة وهو: إنّه سبحانه يقول:( وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ.... الخ) (٢) ، وهذا يعني - بالنسبة إلى الأفراد الاعتياديين، بغضّ النظر عن المعاني التي أسلفناها - أمران:

الأمرُ الأوّل: إنّ الحسينعليه‌السلام أصابهُ فضلٌ من الله بالشهادة، والفرد يتمنّى أن ينال من هذا الفضل، وقد سبقَ أن قلنا: إنّ هذا الفضل من دواعي الاستبشار لا من دواعي البكاء، مع العلم أنّهم يجعلونهُ مُقدّمة للبكاء كما هو المعهود أكيداً، ومعهُ فلا يكون وضعه في هذا الموضع مناسباً.

____________________

(١) سورة النساء: آية ٧٢ - ٧٣.

(٢) سورة النساء: آية ٧٣.

١٤٨

الأمرُ الثاني: إنّ الفضل الذي نالهُ الحسين وأصحابه من الله سبحانه ليس مجانيّاً ولا يمكن أن يكون كذلك، ولذا وردَ:(إنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة) (١) ، فقد دفعَ الحسينعليه‌السلام تحمّلهُ لأنواع البلاء الدنيوي، بما فيه نفسه ونفوس أهل بيته وأصحابه فداءً لذلك الفضل العظيم، فهل سيكون الفرد على استعداد حقّاً في المشاركة مع الحسينعليه‌السلام في بلائه، كما هو على استعداد أن يشاركه في جزائه، أم يتمنّى الفرد أن يحصل على ثواب الحسينعليه‌السلام مجاناً، مع أنّ الحسينعليه‌السلام نفسه وهو المعصوم لم يحصل عليه إلاّ بالثمن الغالي، إنّ هذا من سُخف القول حقّاً!

كما يحسن بنا أن نتساءل في هذا الصدد: إنّنا لماذا نتمنّى أن نكون مع الحسين خاصّة لنفوز فوزاً عظيماً، مع أنّ الآية الكريمة مطلقة من هذه الناحية، بل هي خاصّة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والكون معه أيضاً فوز عظيم بلا إشكال، فهل نتمنّى ذلك أو نتمنّى الكون مع أمير المؤمنين أو أحد الأئمّة المعصومين، وإنّ لنا إماماً حيّاً مسؤولاً عنّا فعلاً ونحن مسؤولون عنه أيضاً، فهل نتمنّى أن نكون معه، وليتَ شِعري؛ فإنّ الكون مع إمامنا الحيّ ليس سهلاً على الإطلاق، بل هو امتحان عسير وبلاء كبير ويحتاج إلى إيمان عظيم وتسليم جسيم، يكفينا ما ورد:(ما هذا الذي تمدّون إليه أعينكم، وهل هو إلاّ لبس الخشن وأكل الجَشب) (٢) ، وفي خبرٍ آخر:(وهل هو إلاّ السيف والموت تحت ظلّ السيوف) (٣) .

____________________

(١) أمالي الصدوق: مجلس٣٠، ص١٣٥، البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٣٢٨، الخوارزمي: ج٢، ص١٨٧، أسرار الشهادة للدربندي: ص١٩١.

(٢) الكافي للكليني: ج٨، ص١٣٣ بتصرّف واقتضاب.

(٣) أمالي الصدوق: ص٥١٧ بتصرّف.

١٤٩

فإنّه (سلام الله عليه) يُطبّق الإسلام كما طبّقهُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولن يكون ذلك في مصلحة أهل الدنيا ومُتّبعي الشهوات والمعتادين على اللّذات، بل سيكون هذا العدل المطلق اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً ونفسيّاً وعقليّاً ودنيويّاً وأخرويّاً، وهذا لا محالة يكون على الفرد الاعتيادي - كما قلنا - امتحاناً عسيراً وبلاءاً كبيراً، إذاً فالتمنّي للكون مع إمامنا الحيّ ليس سهلاً بأيّ معنىً قصدناه.

ولكن - مع ذلك - فقد يُحسن الخطباء صُنعاً حين يخصّون الحسينعليه‌السلام بالذِكر لأمرين أو أكثر:

الأمرُ الأوّل: إنّ الحديث في المجلس عنه والمأتم المنعقد، لهُعليه‌السلام .

الأمر الثاني: إنّ الحديث في المجلس وإن لم يكن عنه (سلام الله عليه)، بل عن غيره من المعصومينعليهم‌السلام ، إلاّ أنّه لابدّ من ذكره خلال الحديث، وإلاّ لم تطمئنّ النفس ولم يهدأ الخاطر ولم يتمّ الاستحباب الشرعي الكامل.

الأمر الثالث: إنّ شفاعة الحسينعليه‌السلام أوسع من غيره من المعصومينعليهم‌السلام جميعاً، كما وردَ(١) ، ووردَ أنّ عدداً من المعصومين لا يصل إليهم إلاّ الخاصّة كعليعليه‌السلام ، والرضاعليه‌السلام ، والمهديعليه‌السلام ، في حين يصل إلى الحسينعليه‌السلام الخاصّة والعامّة، فهو يشفع للجميع وزياراتهم لديه مقبولة، وشفاعتهُ واسعة يوم القيامة.

إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نتوخّى أن نضمّ إلى هذا الأمر الشعور على مستويين:

المستوى الأوّل: إنّ شفاعة الحسينعليه‌السلام لن تكون عامّة بالمعنى الكامل، بل بشرطها وشروطها، كما وردَ في الخبر، تماماً كما قال الإمام الرضاعليه‌السلام في حديث سلسلة الذهب:

____________________

(١) البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٢٢١.

١٥٠

 (لا إله إلاّ الله حِصني ومَن دخل حِصني أمِنَ من عذابي، ثمّ قال:بشرطها وشروطها وأنا من شروطها) (١) .

المستوى الثاني: أن لا نفهم من سعة شفاعة الحسينعليه‌السلام سعتها دنيويّاً، بل سعتها أخرويّاً، ولكن وجِد العديد ممّن يقول: إنّ سُفرة الحسينعليه‌السلام أوسع، ويريد به الأرباح الماديّة المجلوبة بسبب ذكره (سلام الله عليه) أكثر من الأرباح المجلوبة بسبب ذكر غيره.

وهذا وإن كان صحيحاً عمليّاً وداخلاً ضمن النِعَم الإلهيّة على الحسين ومُحبّي الحسينعليه‌السلام ، إلاّ أنّ المطلوب أخلاقيّاً هو عدم النظر إلى حطام الدنيا مهما كان مهمّاً، وقَصر النظر على ثواب الآخرة.

ومن الواضح أخلاقيّاً ودينيّاً أنّ مَن قَصدَ الدنيا وحدها، أو مَن قصدَ الدنيا والآخرة معاً، فليس له الثواب في الآخرة إطلاقاً، وإنّما يأخذ الثواب مَن خصّ قصدهُ في الآخرة تماماً.

وهذا لا يعني عدم جواز الأجرة على ذكرهعليه‌السلام ، وخاصّةً ممّن كان عمله ذلك ورزقه متوقّفاً عليه؛ وإنّما يعني أن يَسقط هذا عن نظر الاعتبار في نيّته، و يجعلهُ بمنزلة الرزق صدفة أو تفضّلاً من الله عزّ وجل، وليس بإزاء مأتم الحسينعليه‌السلام بأيّ حالٍ من الأحوال.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا للصدوق: ج٢، ص١٣٤.

١٥١

رواةُ واقعة الطف

أعتقدُ أنّ الرواة الأوائل أو المباشرين لحادثة الطف، منحصرون في الأقسام التالية، فينبغي أن ننظر إلى وَثاقتهم من ناحية، وإلى مقدار شرحهم للحوادث ونحو ذلك من الخصائص:

القسمُ الأوّل: الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام المتأخّرون عن الحسينعليه‌السلام ، وخاصّةً الثلاثة الذين كانوا بعده بالمباشرة وهم: الإمام السجّاد، والإمام الباقر، والإمام الصادقعليهم‌السلام ؛ فإنّ لهؤلاء قسطاً من ذِكر واقعة الطف.

إلاّ أنّني أعتقد أنّنا - مع ذلك - لا نستطيع أن نأخذ عنهم التفاصيل كما نريدها؛ لأنّهمعليهم‌السلام كانوا يتحدّثون بمقدار ما تقتضي المصلحة في زمانهم، فكانوا يركّزون على الجانب المعنوي لواقعة الطف والدفاع عن قضيّة الحسينعليه‌السلام ، و لا يكون همّهم رواية أو نقل الحوادث، إلاّ ما جاء عَرَضاً خلال الحديث، إذاً فلا ينبغي أن نتوقّع سَماع حديثهم عن التفاصيل الكثيرة التي نريدها.

القسمُ الثاني: النساء من ذراري الحسينعليه‌السلام وأصحابه بعد عودتهنّ إلى المدينة المنوّرة، فإنّهن لم يُصَبن بسوء وبقينَ أحياء بعد مقتل رجالهنّ، ورجعنَ إلى محلّ سكنهنّ، فمن الممكن لهنّ أن يتحدّثنَ عمّا رأينهُ عن تلك التفاصيل، وتُعتبر كلّ واحدة منهنّ كشاهد حال حاضر للواقعة.

إلاّ أنّنا لا ينبغي أن نُبالغ في ذلك؛ لأمرين على الأقل:

١٥٢

الأمرُ الأوّل: حاصل لدى وجود الواقعة نفسها في كربلاء؛ وذلك لأنّ النساء كنّ موجودات في الخيام، ولسنَ مُشرفات على الواقعة ولا مُتابعات للحوادث، ولا يعرفنَ أشخاص الرجال الأجانب بأسمائهم، فمن هذه الناحية ستكون فكرتهنّ عن التفاصيل غائمة ومُجملة لا محالة.

الأمرُ الثاني: حاصل لدى وجودهنّ في المدينة المنوّرة، حيث كانت المصلحة الدينيّة والاجتماعيّة تقتضي إقامة المزيد من المآتم على واقعة الطف، وإظهار المزيد من الحزن البكاء على مَن قُتل فيها، إذاً فقد انشغَلت النساء بمهمتهنّ المقدّسة تلك، ولم تجد إحداهنّ الفرصة الكافية لرواية التفاصيل.

القسمُ الثالث: الأطفال القلائل الذين نجوا من واقعة الطف، واستطاعوا الهرب منها:كأحمد بن مسلم بن عقيل ، أو عادوا مع النساء:كالحسن المثنّى (١) وغيرهم(٢) ، فإنّهم أصبحوا كباراً بالتدريج، فمن الممكن لهم عندئذٍ أن يَرووا ما رأوا وما سمعوا.

إلاّ أنّنا مع ذلك لا ينبغي أن نبالغ في إمكان أخذ التفاصيل من هؤلاء تاريخيّاً؛ لعدّة أمور لعلّها تندرج في أمرين:

الأمرُ الأوّل: حالهم في واقعة الطف نفسها، فإنّهم:

١- كانوا محجوزين في الخيام مع النساء ولا يشاهِدون التفاصيل.

____________________

(١) الحَسَن المثنّى: ذكرهُ المفيد في الإرشاد وقال: (وأمّا الحسن بن الحسن بن عليعليه‌السلام ، فكان جليلاً رئيسيّاً فاضلاً ورعاً، وكان يلي صدقات أمير المؤمنينعليه‌السلام في وقته، ولهُ مع الحجّاج خبر ذكرهُ الزبير بن بكّار، وكان قد حضرَ مع عمّه الحسينعليه‌السلام الطف، فلمّا قُتل الحسينعليه‌السلام وأُسِّر الباقون من أهله، جاءهُ أسماء بن خارجة فانتزعهُ من بين الأسرى).

وقد تزوّج من بنت عمّه فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام ، فأولدها عبد الله المحض، وإبراهيم العمر، والحسن المثلّث، ومن غيرها داوود، وجعفر، ومحمد، ورقيّة، وفاطمة، وقد توفيَ بالسُم الذي دسّه له سليمان بن عبد الملك فماتَ وعمره (٥٣ سنة) رجال السيّد بحر العلوم: ج١، ص٢١ بتصرّف، ط نجف.

(٢) عُمدة الطالب: ص٧٨، مقاتل الطالبيين: ص١١٩، ط دار المعرفة ببيروت.

١٥٣

٢- لا يعرفون أسماء الرجال الموالين والمعادين لكي يرووا تفاصيل أعمالهم.

٣- إنّ فهمهم الطفولي يومئذٍ لم يكن يساعد على الاستيعاب، وكان عُمر أحدهم يومئذٍ قد لا يزيد عن خمس سنوات بالمعدّل، ولم يكونوا بمعصومين لكي نقول: إنّ الفهم منهم لا يختلف باختلاف سِني العمر.

الأمرُ الثاني: إنّني لا أعتقدُ أنّهم مذكورون في أسناد الروايات الناقلة للتفاصيل عن واقعة الطف إلاّ نادراً، ولو كان الرواة المتأخّرون نسبيّاً قد سَمعوا منهم لذَكروهم في السند، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الحذف من السند كان لداعي التقيّة يومئذٍ؛ فإنّ نقلَ قصّة الحسينعليه‌السلام كان مورداً للتقيّة المكثّفة والصعبة في زمن الأمويين الذين قتلوه ورضوا بمقتله، بل الأمر كذلك في زمن أكثر الخلفاء العبّاسيين أيضاً.

القسمُ الرابع: الأعداء الذين حاربوا الحسينعليه‌السلام فعلاً في واقعة كربلاء، وكانوا حاضرين خلالها، ولكنّهم نجوا من الموت ورجعوا إلى بلداهم فأمكنهم أن ينقلوا القصّة ويسمع منهم الناس عنها الشيء الكثير.

ويُروى: إنّ المختار الثقفي حينَ أعلن الأخذ بثأر الحسينعليه‌السلام ، كان يقبض على أعدائه واحداً واحداً، فيسأله عمّا فعلهُ في واقعة الطف، فيقتلهُ بالشكل الذي قَتلَ به الشهداء هناك(١) ، فقد حصلَ من ناحية الأعداء روايات تفصيليّة عن حوادث كربلاء، وهناك أخبار أخرى من غير هذا الأسلوب رويت عن:حميد بن مسلم، وزيد بن أرقم، وغيرهما.

فهل نستطيع أن نعتبر هذه الأخبار عنهم هي من أخبار الثقاة، مع أنّنا نعلم أنّهم أشدّ الناس فسقاً وعناداً ضدّ الإمام المعصوم، بل ضدّ الله ورسوله أيضاً، فإذا لم يكن الخبر خبر ثقة فكيف يمكننا الأخذ به؟

____________________

(١) مُروج الذهب: ج٣، ص٨٦.

١٥٤

وقد يخطر في البال هنا: إنّ هذا الشخص أو غيره من الأعداء حين يروي شيئاً من الحوادث إنّما يقرّ على نفسه بالجريمة، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز، فمن الممكن الأخذ بخبره من هذه الجهة.

إلاّ أنّ هذا غير صحيح لعدّة أسباب أو وجوه:

الوجهُ الأوّل: إنّ قاعدة إقرار العقلاء إنّما تَجعل الخبر معتبراً بالنسبة إلى العقوبة للمتكلّم به، أو تحميله مسؤوليّته بشكلٍ وآخر، ولا تَجعل الخبر مُعتبراً بمعنى كونه مشهوداً له بالصحّة بشكل مطلق.

الوجهُ الثاني: إنّ هذا الشخص أو ذاك ممّن كان في معسكر الأعداء، قد لا يروي الحادثة عن نفسه، وإن تكلّم عن نفسه أعني عمّا قاله وفعلهُ في كربلاء، إلاّ أنّه يروي ذلك مدافعاً عن نفسه، يعني يريد أن يثبت أنّه قد رَحم الآخرين وتعطّف عليهم في الوقت الذي شدّد عليهم غيره، وهذا شامل لعدد من النقول الواردة، ومعه لا تكون إقراراً حتّى نُثبت حجيّتها بقاعدة الإقرار.

إذاً، ينتج أنه ينبغي الحذر كثيراً حين نسمع من أو عن أمثال هؤلاء الأعداء أخبارهم عن واقعة كربلاء، ومن المؤكّد أن أخبارهم ليست أخبار ثقاة بل هو خبر ضعيف، باصطلاح أهل الحديث؛ لأنّها رواية فاسق ومُعاند للحقّ ومَن الذي يقول بحجيّة الخبر الضعيف؟

١٥٥

الرواةُ المتأخّرون

لكنّ الذي يُهوّن الخَطب أنّنا نأخذ التفاصيل من كُتب علمائنا الموثوقين الأجلاّء:كالشيخ المفيد في الإرشاد ،والشيخ الإربلّي في كشف الغمّة ،وأبي مَخنف ،والخوارزمي في مقاتلهم،والشيخ التُستري في كتابه عن الحسين عليه‌السلام وأضرابهم.

إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نكون حَذرين في النقل لعدّة أمور:

الأمرُ الأوّل: إنّ كثيراً ممّا نَقلوا من الروايات هي ضعيفة السند ومرسلة، وعلى كلّ تقدير لا يمكن الآخذ بها فقهيّاً.

وقد يخطر في البال: إنّ هؤلاء العلماء هم الذين تكفّلوا صحّتها على عاتقهم، فهي معتبرة وصحيحة في نظرهم، وهذا يكفي في النقل وإن كانت مرسلة أو ضعيفة بالنسبة إلينا.

وجوابهُ: بالنفي طبعاً، يعني لا يكفي ذلك؛ لأنّ صحّتها التي يعتقدون بها إنّما هي صحّة اجتهاديّة وحدسيّة، وليست حسيّة لتكون حجّة على الآخرين، أو قل على الأجيال المتأخّرة، كما هو مبحوث عنه في علم الأصول.

الأمرُ الثاني: إنّه ينبغي التأكّد من نسبة الكتاب إلى مؤلّفه فقد يكون كلّه مُنتحلاً أو بعضه، أو يكون مزيداً عليه أو محذوفاً منه وغير ذلك من الاحتمالات، وإذا وردَ الاحتمال بطل الاستدلال، ولعلّ أهمّ وأوضح ما هو مشكوك بالنسبة إلى مؤلّفه هو مقتل أبي مخنف، وهو ممّا يَعتمد عليه الناس كثيراً، وأبو مَخنف رجل صالح وموثّق، إلاّ أنّ نسبة كتابه إليه مشكوكة.

الأمرُ الثالث: إنّه ينبغي التأكّد أنّ النقل في الكتاب إنّما هو بنحو الرواية لا بنحو الحدس؛ فإنّه وجِد خلال التأريخ مَن كَتبَ عن واقعة الطف من زاوية الحَدس والكشف العرفاني لا بنحو الرواية، وحاولَ فهمها من وجهة نظره تلك، وهذا هو الذي يبدو من الشيخ التستري في كتابه(الخصائص الحسينيّة) حيث يقول مثلاً:

(إنّ الحسين عليه‌السلام حَصلت له حالة الاحتضار ثلاث مرّات) ، فإنّ هذا إن صحّ، فقد أخذهُ بالكشف العرفاني بلا رواية؛ فإنّه لا توجد أيّة رواية بذلك، وهكذا كثير من التفاصيل.

١٥٦

ومن المعلوم في الأصول: إنّ هذه الحدوس والكشوف إن كانت حجّة، فهي حجّة على صاحبها بصفته عالِماً بصحّتها، ولا يمكن أن تكون حجّة على غيره مع احتماله لتوهّم الآخر وانفعاله، ومن ثمّ فقد لا يكون ما قاله مطابقاً للواقع، إلاّ أن يحصل لنا أو لأيّ شخصٍ العلم بالمطابقة، أو حسن الظنّ بالقائل بحيث يُعلم أنّ كشوفه الوجدانيّة دائمة المطابقة للواقع، ومن أين لنا ذلك؟

١٥٧

مجوّزات النَقل شرعاً

وما يمكن أن يكون مُجوّزاً للنقل شرعاً عن المعصومين (سلام الله عليهم) من الروايات، في واقعة كربلاء أو غيرها عدّة أمور:

الأمرُ الأوّل: صحّة السَند؛ فإنّ السند وهو مجموعة الرواة الناقلون له إن كانوا كلّهم ثقاة جازَ الإخبار به، وتكفل مسؤوليّته أمامَ الله سبحانه.

الأمرُ الثاني: نسبة القول إلى صاحبه، بعد العلم بانتساب الكتاب إليه، فنقول: قال فلان أو روى فلان كذا، أو نقول: رويَ أو قيل، أو نقول: قال أرباب المقاتل أو المؤلّفون في واقعة كربلاء ونحو ذلك ...

وبذلك تخرج عن العهدة أمام المعصومينعليهم‌السلام ، وتكون صادقاً في قولك؛ لأنّ هذا الذي نقلتَ عن كتابه قد قال ذلك فعلاً، لكن هذا مشروط بشرطين:

١- أن يكون الأمر مرويّاً عن كتابٍ ما، وأمّا إذا لم يكن مرويّاً إطلاقاً وأنت تقول عنه: رويَ كذا، فهذا غير جائز بل هو الكذب نفسه.

٢- أن يكون الكتاب صحيح النسبة إلى مؤلّفه، وإلاّ فسيكون نسبة القول إلى مؤلّفه نسبة كاذبة، فأنتَ تَكذب على المؤلِّف وإن لم تَكذب على المعصومينعليه‌السلام .

الأمرُ الثالث: من مجوّزات النقل المشهورة بين الخطباء والشعراء الحسينيّين:النقل بلسان الحال ، فكأنّهم يرون أنّ الحديث يكون صادقاً مع التقيّد بهذا المعنى، ومن هنا أباحَ الشعراء لأنفسهم إضافة أقوال وأفعال كثيرة جدّاً إلى واقعة الطف،

١٥٨

بعنوان أنّها بلسان الحال لا بلسان المقال.

وهذا ليس خطأ كلّه، بل يُحمل جانباً من الصواب من الناحية الفقهيّة؛ فإنّ النقل بالمعنى عن الروايات جائز إن كانت الرواية بدورها مُحرَزة الصحّة، كما أنّ النقل بلسان الحال جائز إذا أحرزنا أنّ حال المتكلّم في تلك الساعة على ذلك، إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نكون على حذرٍ شديد من هذه الناحية، لعدّة وجوه:

الوجهُ الأوّل: إنّنا لا نستطيع أن نعلم حالهم رضوان الله عليهم، لا الحسينعليه‌السلام ، ولا أصحابه، ولا نساءه، ولا أيّ واحدٍ هناك منهم؛ لأنّهم أعلى وأجلّ من أن نعلم ما يدور في خواطرهم وما تُخفيه سرائرهم، في حين أنّنا بعيدون عنهم زمناً ومكاناً وثقافة ومستوى، وغير ذلك، إذاً فنحن جاهلون بحالهم لا أنّنا عالمون به لنستطيع التعبير عنه بأيّ حالٍ من الأحوال، وإنّما يجوز الحديث بلسان الحال مع إحراز المطابقة للواقع، وأنّى لنا ذلك؟

الوجهُ الثاني: إنّ ما يكون بلسان الحال إنّما هو الأقوال لا الأفعال، فلو تنزّلنا جَدلاً عن الوجه الأوّل أو تمّ لدينا ذلك الوجه، فإنّما يجوز النقل بلسان الحال في الأقوال وحدها، أمّا نقل الأفعال والتلفيق فيها بعنوان كونها بلسان الحال، فهذا لا معنى له ولا بيان له.

الوجهُ الثالث: إنّنا لو تنزّلنا جَدلاً عن الوجه الأوّل أو تمّ لنا ذلك الوجه، فإنّه يتمّ بمعنى أنّ الحالة العامّة التي كانوا فيها معلومة لنا إجمالاً.

وأمّا التفاصيل فمن غير المحتمل أن ننال منها شيئاً، فمثلاً ما الذي خطرَ في ذهن الحسينعليه‌السلام حين أخذَ رضيعه معه ليسقيه الماء، أو في أيّة حادثة معيّنة أخرى؟ هذا متعذّر فهمه تماماً في حدود البُعد الزمني والثقافي والإيماني عنهعليه‌السلام .

١٥٩

وفي صدد النقل بلسان الحال يمكن أن نذكر مَنشأين لجواز النقل بهذا الشكل، فإن تمّ أخذنا به، وإن لم يتم أعرَضنا عنه:

المنشأ الأوّل: ما وردنا من الروايات عن واقعة كربلاء، فإنّها تدلّنا على الحال الذي كانوا فيه، فنستطيع أن نتحدّث زيادة على ذلك في حدود الحال الذي فهمناه من تلك الروايات.

وجوابهُ:

أوّلاً: إنّ الرواية ينبغي أن تكون صحيحة ومعتبرة سنداً، لكي يمكننا استكشاف الحال من خلالها.

ثانياً: إنّ المفروض أنّنا نتحدّث عن أقوال وأفعال زائدة عمّا هو المروي؛ لأنّه بلسان الحال، فلا نستطيع أن نقول: (رويَ ذلك) لنكون صادقين؛ لأنه لم يُروَ إطلاقاً.

ثالثاً: إنّ المفروض أحياناً أنّنا نروي حوادث وأقوالاً غير متشابهة على الإطلاق عمّا هو مروي ووارد، لا في الروايات الصحيحة ولا الضعيفة، فكيف يتمّ لنا ذلك شرعاً وهل هو إلاّ من الكذب الصريح؟

المنشأ الثاني: لجواز النقل بلسان الحال، العُرف، فما كان يناسب من الناحية العرفيّة أن يكون حالهم عليه، جازَ التعبير عنه، وما لا يناسب ذلك لم يجز التعبير عنه، واتباع العرف أمر جائز عرفاً وحجّة كما ثبتَ في علم الأصول.

إلاّ أنّ هذا غير صحيح لعدّة مناقشات تَرد عليه:

أوّلاً: إنّ العرف إنّما تَثبت حجيّته في علم الأصول في موارد معيّنة لا يمكن تعدّيها، ولا قياس غيرها عليها، وهي حجيّة الظواهر المأخوذ بها عرفاً وحجيّة المعاملات المتعارفة في العرف.

وأمّا الكذب والكلام الزائد، فهو وإن كان عرفاً سائراً، إلاّ أنّه منهي عنه قطعاً في الشريعة ومُحرّم أكيداً.

١٦٠