أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين15%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116713 / تحميل: 15339
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثانياً: إنّ الاتّجاهات الأخرى في الكوفة تُمثّل جاليّات قليلة جدّاً.

ثالثاً: إنّ هناك عدد من نفوس الأفراد تُشكّك - على الأقل - في جواز حرب الحسين أمام الله سبحانه، وإن لم تجزم بحرمته وهذا يكفي.

وصحيحٌ أنّ الكوفة غَدرت بأبيه وأخيه، كما قالوا للحسينعليه‌السلام حين أرادوا إرجاع نظره عن السفر إليها، إلاّ أنّ هذا هو الظاهر الذي فعلهُ الأشرار وهم القلّة منهم، وهذا لا ينافي وجود مَن يواليه فعلاً أو يتورّع أمام الله سبحانه وتعالى عن حربه.

وصحيحٌ أنّ الحسينعليه‌السلام لو وصلَ إلى الكوفة فعلاً - وهي تحت حُكم عبيد الله بن زياد - لم يستطع أن يجد أحداً يبايعه، إلاّ أنّ هذا لا يُنتج معنى الإخلاص لابن زياد من قِبل الجميع، بل ينتج أنّ الناس كانوا يومئذٍ في خوف ورعب من إظهار الولاء للحسينعليه‌السلام ، وهذا لا يعني بكلّ وضوح استعداهم لحمل السيف ضدّه، أو قل: لحمله بهذه السعة وبهذه المرارة والقسوة.

النقطة العاشرة: جهود رسول الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة، مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، فإنّه أخذَ البيعة على نطاق واسع وألّب العواطف باتّجاه الحسينعليه‌السلام ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً وسمعَ الناس مواعظه وخطبه، وقرأوا الكتاب الذي كان معه من الحسينعليه‌السلام (١) ، حتّى أثمرَت جهوده بإرسال الكتب إليهعليه‌السلام للوفود إليهم والورود عليهم، وقالوا في كتابهم الأخير:(فأقبِل يا بن رسول الله، إنّما تَقبِل على جُندٍ لك مجنّدة والسلام) (٢) .

____________________

(١) أسرار الشهادة: ص٢٠٠، تاريخ الفتوح لابن أعثم: ج٥، ص٥٦.

(٢) مقتل الخوارزمي: ج١، ص١٩٥، تاريخ الطبري: ج٦، ص١٩٧.

١٨١

وبحسب ما هو المعروف من نظام النفوس أو القلوب - لو صحّ التعبير - أنّها لا يمكن أن تنقلب من هذه الصداقة الحميمة إلى العداوة القاسية بين عشيّة وضُحاها، بدون أن ترى الحسينعليه‌السلام ، أو أن تسمع منه شرّاً أو ترى منه ضرراً وحاشاه.

وقد يخطر في الذهن: إذاً فكيف قُتل الحسينعليه‌السلام ؟ إذ لو تمّ ما قلناه، إذاً لم يخرج إلى قتاله أحد إلاّ شرذِمة قليلة قابلة للسيطرة عليهم أو صدّهم بكلّ سهولة، ولم يحتج الأمر إلى تلك المظالم والآثام.

وجواب ذلك: أنّ الجيش المعادي للحسينعليه‌السلام ، في حدود ما نحتاج إليه من فكرة الآن، يمكن تقسيمه إلى قسمين:

القسمُ الأوّل: وهو الأغلب أو الأغلب جدّاً، وهم الواردون مع الأعداء خوفاً أو طمَعاً أو إحراجاً، أو نحو ذلك من المصاعب الدنيويّة، مع كونهم يتورّعون بقليلٍ أو بكثير عن ضرب معسكر الحسينعليه‌السلام ، إلاّ تحت ضغطٍ مماثل من قِبل قادتهم، وربّما كان بعضهم إذا تلقّى الأمر بالهجوم مع جماعة يجول بفرسه هنا وهناك، باعتبار أنّه متصدي للهجوم ولكنّه لا يَضرب، أو يَضرب بالأقلّ المجزي، أو لا يَضرب إلاّ تحت الإحراج الشديد(١) .

ولا ينبغي أن يخطر في البال: أنّ هؤلاء وأمثالهم ناجون من العقوبة الأخرويّة، وأنّهم أخيار أو إبرار، كلاّ ثمّ كلاّ، يكفي أنّهم يقفون موقفاً مُعادياً للحسينعليه‌السلام ويشاركون في ترويع أصحابه وأهل بيته، وينصرون أعداءه ويكونون مشمولين لقولهعليه‌السلام :(مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا، أكبّهُ الله على منخرَيه في النار) (٢) ، وهم وإن لم يحاربوا الحسينعليه‌السلام حقيقة، إلاّ أنّهم لم ينصروه بكلّ تأكيد.

____________________

(١) الإيقاد للعظيمي: ص١٢٩.

(٢) مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٢٧، البحار للمجلسي: ج٤٤، ص٣١٥.

١٨٢

والمهمّ الآن: أنّ هذا القسم من الناس هو الذي كان يُشكّل الجمهور الغفير من الجيش المعادي، وأنّ هذا المستوى من التفكير لديهم هو الذي أدّى إلى احتشاد الجمهور ضدّ الحسينعليه‌السلام .

القسم الثاني: وهم المعاندون ضدّ الحسينعليه‌السلام والحاقدون عليه، وهم قلّة موجودة في الكوفة فعلاً، ولا شكّ أنّهم استغلّوا الموقف للخروج، كما لا شكّ أنّ ابن زياد استغلّهم للقتال، كما أنّهم بلا شكّ يُشكّلون جماعة مهمّة وقابلة للتأثير الكبير في المجتمع الكوفي وما حوله، سواء حال جَمع الجيش أو حال القتال، ممّا يشكّل في كربلاء عدداً معتدّاً به من المحاربين، وهو الذي أوجبَ الانتصار العسكري بالمعنى المباشر للجيش المعادي للإمام الحسينعليه‌السلام .

١٨٣

توصياتٌ عامّة للخُطباء

يحسُن بنا قبل الدخول في التفاصيل الآتية أن نلمّ إلمامة، بما ينبغي أن يكون عليه حال الخطباء الحسينيّين، لكي يتطوّروا إلى الأفضل في الدنيا والآخرة، وبذلك يُحرزون خير الدارين وكلّ ما تقرّ به العين.

والنصائح العامّة تنقسم إلى قسمين: منها ما يرتبط بالمسؤوليّة الدينيّة العامّة، ومنها ما يرتبط بواقعة الحسينعليه‌السلام ، ونحن فيما يلي ذاكرون بعون الله الأهمّ ممّا يخطر على البال من كلا القسمين:

أوّلاً: البدء بالخطبة بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، لا بشيء آخر حتّى لو كان ذاكراً للحسينعليه‌السلام ، فإنّ كل ّكلام لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر، وبالبسملة يمكن للخطيب أن يُعاذ في خطبته من الشيطان وأن يُؤيَّد برحمة الرحمان.

ثانياً: الموعظة والإرشاد؛ فإنّه من الضروريات والواجبات في هذا المجتمع وفي كلّ مجتمع، وفي هذا الزمان وفي كلّ زمان، لكي تصل الموعظة إلى أهلها ويستفيد منها أكبر عدد ممكن، سواء كانت الموعظة مرتبطة بقضايا الحسينعليه‌السلام أم لا؟ فإنّ في تلك القضايا من العِبر والمواعظ ما لا حدّ لهُ، فضلاً عن غيرها.

ثالثاً: عدم إيذاء أحد من الناس أو من الطوائف في كلام الخطباء، وهو معنى (التقيّة) فإنّها واجبة على كلّ حال، ما لم يكن الأمر خارجاً عن موردها، يعني أن يَحرز الفرد أنّ كلامه سالم النتيجة.

١٨٤

رابعاً: التورّع عن نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومينعليهم‌السلام وغيرهم كذباً؛ فإنّ الكذب على المعصومين من أعظم الكبائر، والكذب على غيرهم كبيرة، سواء على الأشخاص التاريخيّين، أو على مؤلّفي المصادر، أو على أيّ مؤمنٍ ومؤمنة، وأوضح أسلوب يتّخذه في هذا الصدد أن يقول: (قيل)، أو (روي)، أو (يقال)، ونحو ذلك حتّى لا ينبغي له ذكر أحد من أسماء المؤلّفين، ما لم يَحرز باليقين وجوده في كتابه وصحّة انتساب الكتاب إليه باليقين أو بدليلٍ معتبر.

خامساً: أن يتوّرع من نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومينعليهم‌السلام وغيرهم، باعتبار لسان الحال، شعراً كان ما يقوله الخطيب أم نثراً، فصيحاً كان الكلام أم دارجاً، ما لم يَعلم أو يطمئنّ بأنّ لسان حالهم هو كذلك فعلاً، وقد ناقشنا ذلك مفصّلاً فيما سبق، فراجع.

سادساً: أن يتوّرع الخطيب عن ذِكر الأمور النظريّة والتاريخيّة أو غيرها، ممّا قد يُثير شُبهات حول الأمور الاعتقاديّة في أذهان السامعين، ويكون هو قاصراً أو عاجزاً عن ردّها ومناقشتها أو غافلاً عن ذلك، بل يجب عليه أن يختار ما سيقوله بدقّة وإحكام، وإلاّ فسوف يكون هو المسؤول عن عمله، فيقع في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم.

وينبغي أن يلتفت إلى أنّ هذا ممّا لا يُفرّق فيه بين أن يكون مرتبطاً بحوادث الحسينعليه‌السلام أو غير مرتبط، أو كان مُسلّم الصحّة في اعتقادهم أو غير مُسلّم.

سابعاً: أن يحاول الخطيب سترَ ما سترهُ الله سبحانه وتعالى من الأمور، فلا يُصرّح بأمورٍ قد حَدثت خلال الحرب أو القتل، قد توجِب ذلّة أو مهانة المقتول، أو ما يسمّى في عرفنا (بالبهذلة)، فيسكت عن كلّ شي يوجِب بهذلة المؤمنين الموجودين يومئذٍ، بل كلّ المؤمنين في كلّ جيل، وخاصّة الحسينعليه‌السلام ونسائه وأصحابه وأهل بيته.

١٨٥

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أمرين:

الأمرُ الأوّل: إنّ هذا الذي قلناه الآن غير ما سبق أن نفيناه من وجود الذلّة للحسينعليه‌السلام وأنصاره؛ فإنّهم لم يمرّوا في الذلّة بكلّ تأكيد، ولكنّ المقتولين مرّوا بالذلّة بكلّ تأكيد، وهذا ما تعمّده الأعداء وما يكون طبيعيّاً وجوده عند الحرب، إلاّ أنّ ستره واجب، والتصريح به حرام.

الأمرُ الثاني: إنّ هذا الذي قلناه غير ما سبقَ من حرمة نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين وغيرهم كذباً، بمعنى أنّ الخطيب حتّى لو كان عالِماً بالحال، أو متأكّداً منه، أو قامت عنده الحجّة الشرعيّة لديه، فإنّه أيضاً لا يجوز عليه أن يفتح فَمه بالأمور التي توجب مهانتهم رضوان الله عليهم.

ثامناً: أن لا يروي الخطيب أموراً مستحيلة بحسب القانون الطبيعي حتّى وإن ثَبتت بطريقٍ معتبر؛ لأنّها على أيّ حالٍ ستكون صعبة التحمّل على السامعين، ولعلّ أوضح أمثلة ذلك: ما يذكرهُ بعض الخطباء عن عليّ بن الحسين الأكبر (سلام الله عليه)، أنّه حين ضُرب على رأسه بالعمود تناثرَ مُخّه، وفي بعض المصادر أنّه سالَ مُخّه على كتفيه، ثمّ يقول الخطباء: إنّه في آخر رَمق من حياته دعا أباه الحسينعليه‌السلام ، فبادرَ بالذهاب إليه فأخبرهُ قائلاً:

(هذا جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد سقاني شُربة لا أظمأُ بعدها أبداً) (١) .

مع العلم اليقين أنّ مَن تناثرَ مُخّه، فهو ميّت لا محالة، ولا يستطيع الكلام ولا بكلمة واحدة، فضلاً عن انتظار مدّة إلى أن يصل إليه أبوه؛ فإنّ تَلف المخ طبيّاً يعني الوفاة،

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: ج٢، ص٣١، اللهوف لابن طاووس: ص٤٩، البحار: ج٤٥، ص٤٤.

١٨٦

وعدم إمكان استمرار الحياة بكلّ تأكيد، فيكون ما يقوله الخطباء من كلامٍ بعد ذلك مُمتنعاً بحسب القانون الطبيعي، إلاّ أنّ يقول: إنّ مُخّه لم يتناثر ولم يسل على كتفيه، عندئذٍ تكون له فرصة الكلام.

وقد يخطر في البال أمران:

الأمرُ الأوّل: إنّ هذا وأمثاله يمكن أن يحصل بنحو المعجزة؛ فإنّه وإن كان خارقاً للناموس الطبيعي، إلاّ أنّ كلّ معجزة خارقة له بطبيعة الحال، فليكن هذا منها.

وجواب ذلك: إنّنا بحسب ما نفهم، فإنّ واقعة كربلاء بكلّ تفاصيلها ليست قائمة على شيء من المعجزات، وإلاّ لم يكن الإمام الحسينعليه‌السلام في حاجة إلى الحرب، وإلى تحمّل هذا البلاء الدنيوي العظيم، بل كان يمكن بدعاء واحدٍ لله عزّ وجل أن يقتل كلّ أعدائه، وأن يعود إلى المدينة بأسلوب طيّ الأرض، أو أن يُسخّر الجنّ، أو الملائكة في القتال، أو أن يَصرف قلوب أو أذهان أعدائه عن مقاتلته أو قتله إلى غير ذلك من احتمالات السلامة، ولعلّنا نبحث هذا الأمر بمزيدٍ من التفاصيل حين تسنح الفرصة إليه قريباً.

الأمرُ الثاني: إنّه من المروي، بل المؤكّد حصول بعض المعجزات في ساحة كربلاء يومئذٍ، حين يوجد شخص أو أكثر، وربّما مُتعدّدون دعا عليهم الحسينعليه‌السلام ، فحصلَ فيه حادث مروّع:كالموت حَرقاً، أو غرقاً (١) ، أو غير ذلك، وإذا أمكنت المعجزة هناك مرّة أمكنت مرّات.

____________________

(١) كالذي جرى مع (ابن جوزة)، فقد ذَكر السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن مَجمع الزوائد للهيثمي: ج٩، ص١٩٣، ومقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٤٩، وروضة الواعظين للفتّال: ص١٥٩: (أنّ عبد الله بن جوزة أتى الحسينعليه‌السلام وصاحَ: يا حسين، أبشر بالنار، فقال الحسينعليه‌السلام :(كذِبتَ، بل أقدِم على ربٍّ غفور كريم فمَن أنتَ؟ فقال: أنا أبو جوزة، فرفعَ الحسينعليه‌السلام يديه حتّى بانَ بياض إبطيه وقال:اللهمّ جرّهُ إلى النار) ، فغضبَ ابن جوزة وأقحمَ فرسهُ إليه، وكان بينهم نهر فسقطَ عنها، وعَلِقت قدمهُ بالركاب وجالت به الفرس، وانقطعت قَدمه وساقه وفخذه وبقى جانبه الآخر بالركاب، وأخذت تضرب به كلّ حجرٍ وشجر، وألقتهُ بالنار المشتعلة في الخندق.

وكالذي جرى مع محمّد بن الأشعث حينما قال للحسينعليه‌السلام : أيّ قرابة بينك وبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فدعا عليه الحسينعليه‌السلام ، فخرجَ من المعسكر لقضاء حاجته، فلَدغهُ عقرب أسود لدغة تركتهُ متلوّثاً في ثيابه ممّا به، وماتَ باديَ العورة (مقتل المقرّم نقلاً عن روضة الواعظين للفتّال: ص١٥٩، الكامل لابن الأثير: ج٤، ص٢٧).

١٨٧

وجواب ذلك على مستويين:

المستوى الأوّل: إنّ المروي من أمثال هذه الحوادث قد حَدثت بأسباب طبيعيّة، مهما كانت ضعيفة، فهي وإن كانت استجابةً لدعاء الحسينعليه‌السلام ومن أقسام المعجزة، إلاّ أنّ الله سبحانه لم يشأ أن تَحدث فجأة وبدون سبب، وإذا عُرف السَبب زالَ العَجَب.

المستوى الثاني: إنّنا لو تنازلنا عن المستوى الأوّل وفرضناها معجزات ناجزة، فيمكننا أن نلتفت إلى أنّ المعجزات على قسمين في حدود ما نستهدفه الآن:

القسم الأوّل: معجزات قد تحصل لإقامة الحجّة على المعسكر المعادي، لجلب الانتباه إلى أنّ الحقّ إلى جانب الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وتركيز ذلك في أذهانهم، فإنّني أعتقدُ أنّهم لم يكونوا يحتاجون إلى ذلك في موقفهم أمام الله سبحانه، لوضوح ذلك للمعادين وغيرهم، ولكن قد تقتضي الحكمة الإلهيّة الزيادة في ذلك التركيز واثبات ذلك حسيّاً أمامهم؛ لإمكان أن يرجع بعضهم إلى التوبة، وإن لم يرجع لها فسوف يشعر بضخامة عمله ووخامة عاقبته، وهذا ما يندرج في إجابة دعاء الحسينعليه‌السلام في بعض الأفراد، كما سبق.

القسم الثاني: معجزات لا ربطَ لها بإقامة الحجّة على المعسكر المعادي، بل لعلّ الحكمة تقتضي عدم تحقّقها؛ ليكون البلاء الدنيوي الواقع على معسكر الحسينعليه‌السلام أشدّ، لتكون المقامات لهم أعلى، والثواب أجزل، ورضاء الله سبحانه وتعالى أفضل.

١٨٨

تاسعاً: من الأمور التي ننصح بها الخطيب الحسيني أيّاً كان:

أن يحاول برمجة مصادره جهد الإمكان في قالب موحّد ومنسجم، وليس متنافراً ومتناقضاً من ناحية، ولا متباعداً ومتناثراً من ناحية، بل يذكر أموراً متقاربة تاريخيّاً منسجمة نظريّاً، ويبذل أقصى إمكانه فيه.

عاشراً: أن يَدع ما أمكن التفلسف في الحوادث، أعني التعرّض إلى الحُكم والأسباب التي اقتضتها، ما لم يَحرز في نفسه الإصابة لذلك، وإلاّ فليدع ذلك إلى أهله، وهو خيرٌ له في الدنيا والآخرة من أن يكلّف نفسه ما لا يُطيق، أو أن يُكلّف السامعين ما لا يطيقون، فقد تثبُت الشُبهة في أذهانهم ويكون الخطيب عاجزاً عن ردّها، أو عن إقناع السامعين بالرد، فيتورّط بالحرام من حيث لا يعلم، وليس ذلك فقط، أعني فيما يخصّ كربلاء، أو حركة الحسينعليه‌السلام ، بل كلّ أمور الشريعة على هذا الغرار، فلا ينبغي لأيّ فردٍ التعدّي إلى التفلسف فيها ما لم يَحرز في نفسه الأهليّة والقدرة، وإلاّ فمن الأولى لهُ إيكال عِلمها إلى الله سبحانه:( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) (١) .

ومن أمثلة ذلك: ما سمعتهُ شخصيّاً من بعض الخطباء، حيث كان يُحلّل معنى ما ورد:(لا عَدوى في الإسلام) (٢) ، ولم يكن يُفلح في ذلك، وسمعتُ من بعضهم أيضاً: أنّه كان يُحلّل قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام ، على ما هو مروي في نهج البلاغة:(يا علي، إنّك ترى ما أرى وتسمعُ ما أسمع) (٣) .

____________________

(١) سورة آل عمران: آية ٧.

(٢) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج١٩، ص٣٨١.

(٣) نهج البلاغة: خطبة ١٩٢، ص٣٠١، تحقيق د. صبحي الصالح.

١٨٩

وكلاهما كان عاجزاً عن الوصول إلى حقيقة المعنى، فلو كانا قد تعرّضا إلى ما ينفع الناس من أمورهم الخاصّة والعامّة، لكانَ خيراً لهم وأحسن تأويلاً.

الحادي عشَر: أن يدع الخطيب التشكيك فيما تسالم العامّة - أعني جمهور الناس - على صحّته، فضلاً عن إنكاره بصراحة؛ فإنّه ينبغي أن يستهدف هدايتهم وتوجيههم نحو الطاعة والعقيدة، ومن الواضح أنّهم إذا وجدوا مثل هذا التشكيك في كلامه سوف ينتقدونه وسيسقط من أنظارهم، فيسبّب ذلك عدم سماعهم لمواعظه وإرشاده، أو بُعده عنهم، أو مقاطعتهم له عمليّاً.

ومن هذا القبيل: ما طرَقَ سَمعي من أنّ شخصاً معروفاً في هذا العصر، طبعَ كتاباً عن الحسينعليه‌السلام ، حاولَ فيه بوضوح أن يبرهن على أنّه (سلام الله عليه) لم يكن يعلم بمقتله قبل حصوله، فسقطَ الكتاب والمؤلِّف عن أعين الناس، كما هو أهلٌ له فعلاً، لو صحّ النقل(١) .

الثاني عشر: أن لا يَنسب الخطيب الحسيني وغيره إلى غير المعصومين من المؤمنين - فضلاً عن المعصومينعليهم‌السلام - الوقوع في الحرام، قلّ ذلك أم كثُر؛ فإنّ غير المعصومين وإن كان يمكن ذلك في حقّهم، إلاّ أنّه مع ذلك يجب السكوت عن مثله:

أوّلاً: لأنّهم علماء عظماء من تربية الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

ثانياً: لأنّ نسبة المحرّم إليهم لم يَثبت بطريقٍ معتبر لو وجِد، فيكون ذكرهُ من الكذب الحرام.

ثالثاً: لو تنزّلنا وفَرضنا ثبوته بدليلٍ معتبر، فالسترُ على فاعله أولى وأفضل.

رابعاً: لو تنزّلنا عن كلّ ذلك، فلا أقلّ من عدم تحمّل الجمهور لمثل هذه الروايات،

____________________

(١) كتاب (شهيد جاويد) بالفارسيّة، وقد تُرجم إلى العربيّة باسم واقعة كربلاء (ط).

١٩٠

ممّا يحصل رد فعلٍ غير مناسب لديهم، فإمّا أن يسقط الخطيب من أنظارهم، وإمّا أن يتجرّأوا على الحرام، بعنوان: أنّ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام ، كانوا يعملون الحرام فلماذا لا نعمله، وتكون الخطيئة في النتيجة في ذمّة الخطيب الناقل للرواية.

ويحسن بنا الآن أن نذكر لهذا الأمر مثالين يخطران على البال؛ لأجل التدليل بهما أوّلاً، ولأجل التعرّض إلى فلسفتهما وأسبابهما ثانياً:

المثال الأوّل: قولهُ عن نساء الحسينعليه‌السلام في وصف حالهنّ بعد مقتله، وذلك في زيارة الناحية:(فخرجنَ من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات، وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مُذلّلات، وإلى مصرعك مُبادرات) (١) .

حيث إنّ الظاهر الأوّلي لقوله: ناشرات الشعور، كونهنّ كذلك أمامَ الرجال الأجانب من المعسكر المعادي، وهو ممّا لا شكّ في حُرمته في الشريعة المقدّسة، فيكون ذكرهُ من نسبة المحرّم إلى نساء الحسينعليه‌السلام .

وجوابُ ذلك من وجوه:

الوجهُ الأوّل: ضعف هذه الرواية سنداً، فهي لا تقوم كدليلٍ معتبر على أيّ شيء فيها، فينتفي الأمر من أصله.

الوجه الثاني: لو تنزّلنا وفرضناها معتبرة، فالدليل إنّما يكون معتبراً في حدود ما يمكن تصديقه والأخذ به من المعاني والأفكار، وأمّا ما لا يمكن فيه ذلك فلا يكون الدليل معتبراً أو حجّة فيه، فإذا نَسَبت أيّة رواية إلى هؤلاء الأجلاّء أيّ محرّم - والعياذ بالله - كانت هي الساقطة عن الحجيّة، لا أنّ التصديق بمضمونها يكون ممكناً، وليست هذه الرواية ببدَعٍ عن ظواهر القرآن الكريم، حيث ثبتَ في علم الأصول أنّها إنّما تكون حجّة، إذا لم تكن منافية للدليل القطعي.

____________________

(١) زيارة الناحية المقدّسة المرويّة عن الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه).

١٩١

وأمّا إذا كانت منافية له، لم تكن حجّة كقوله تعالى:( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (١) ، أو قوله تعالى:( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (٢) ، بعد قيام الدليل العقلي القطعي على استحالة ثبوت مثل هذه الأمور للذات الإلهيّة المقدّسة.

الوجهُ الثالث: أنّ النساء كنّ مدهوشات وحائرات الفكر وغير شاعرات بواقعهنّ، لمدى الحُزن والأسى الذي تَملَكهنّ وسيطر عليهنّ لمقتل الحسينعليه‌السلام وأصحابه، فإذا كُنّ قد خرجنَ أمام الرجال الأجانب، فهنّ غير ملتفتات إلى واقعهنّ وغافلات عن الحكم الشرعي أو قل: ناسيات له، فلا يكون الحكم فعليّاً أو مُنجّزاً في حقّهنّ أو قل: إنّهن معذورات بالنسبة إليه، وهذا الوجه له درجة من الوجاهة، بعد التنزّل عن الوجهين السابقين، وهو المشهور بين الناس، ولعلّه هو المقصود في الزيارة لو كانت معتبرة سنداً، إلاّ أنّه مع ذلك لا يخلو من استبعادٍ لأمرين نذكرهما مع إحالة القناعة بهما إلى وجدان القارئ اللبيب:

الأمرُ الأوّل: إنّ النساء كنّ كثيرات كعشرة أو أكثر، ولم تكن واحدة أو اثنتين مثلاً، فإذا أمكنَ سيطرة الحزن بشدّة على واحدة أو اثنتين ونحو ذلك، لم يكن ذلك في الجميع باستمرار أو قل طيلة الوقت، فلا أقلّ من أنّ واحدة أو أكثر تلتفت لحالهنّ فيجب عليها تنبيههنّ على ذلك ويتمّ الأمر.

الأمر الثاني: إنّه يُستبعد جدّاً أن يكون مقتضى الحكمة الإلهيّة ذلك؛ لأنّ الحسينعليه‌السلام وأصحابه قُتلوا في سبيل الله والدين، فمن الصعب أو من السخف أن نتصوّر أنّ في التقدير الإلهي أن يصدر العصيان الصريح، والمنظر القبيح من نسائه الأشدّ ارتباطاً به من بعد مقتله مباشرة.

____________________

(١) سورة الفتح: آية ١٠.

(٢) سورة طه: آية ٥.

١٩٢

الوجه الرابع: للجواب على هذه الرواية: إنّه لم يقل في الرواية: ناشرات الشعور أمام الرجال الأجانب، أم أمام الأعداء ونحو ذلك، بل من الواضح أنّهن ناشرات الشعور فقط، وهذا من الممكن بل المتعيّن أن يكون ضمن التعاليم الدينيّة أو الحجاب الإسلامي، فإذا ضَممنا إلى ذلك هذه الفكرة، وهي: إنّ النساء في الشرق كنّ و لازلنَ، قد ورثنَ الأمر عن الأجيال السابقة ورأيناه عَياناًَ، وهو اعتياد النساء في حالة الحزن والمصيبة على الالتزام بنشر شعورهنّ وإرسالها وذلك لأمرين:

أحدهما: أنّ ذلك بنفسه علامة الحزن والحِداد.

وثانيهما: أنّ ذلك ناشئ من إعراضها عن الزينة حزناً، أو من ضيق نفسها عن التمشّط أساساً، إمّا حقيقةً، أو أنّ المرأة تريد أن تُظهر ذلك أمام الآخرين، أو أن تكون في هذا الحال كغيرها من النساء؛ فإنّ التزام النساء بعادات بعضهنّ البعض ممّا هو واضحٌ ومُسلّم.

فإذا ضَممنا هذه الفكرة إلى ما سبقَ أمكننا أن نقول: إنّ نساء الحسينعليه‌السلام ناشرات الشعور، حِداداً على هذا المصاب الجَلل، وحزناً وإظهاراً لزيادة المصاب، وليس في الأمر ولا في الرواية بالمرّة أنّهنّ كنّ ناشرات الشعور أمام الرجال الأجانب، بل كنّ كذلك في مجتمعهنّ الخاصّ، أعني النساء أمام بعضهنّ البعض.

فإن قال قائل: إنّ هذا الوجه مُحتمل وليس أكيداً، قلنا: إنّه بعد التنزّل عن كلّ ما سبق ممّا يقتضي كونه أكيداً، فإنّ مجرّد الاحتمال هنا يكفينا، كأطروحة موهِنة للاستدلال بهذه الرواية ضدّ نساء الحسينعليه‌السلام ، أو قيامهنّ بالمحرّمات، وإذا دَخلَ الاحتمال بطلَ الاستدلال.

المثال الثاني: لِمَا رويَ من قضايا الحسينعليه‌السلام ، ممّا يكون ظاهره العمل بشيءٍ من المحرّمات، مع التعرّض إلى جوابه:

١٩٣

ما وردَ في تاريخ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه): من أنّه حين أُخذَ مكتوفاً إلى عُبيد الله بن زياد، رأى قُلّة(١) ماء بارد فقال:اسقوني منها ، فقال له بعضهم: انظر إليها ما أبرَدها، لن تذوق منها حتّى تذوق الحميم، إلى أن تقول القصّة: إنّه صُبّ لهُ في قدح ماء وقرّبه إلى فمه لكي يشربه، فامتلأ القدح دَماً؛ لأنّه كان قد حَصلت له ضربة على شَفته العليا ووصلت إلى أسنانه فسكبَ الماء، فملؤوه لهُ مرّة أخرى، فامتلأ القدح دماً فسكبه، فلمّا كانت الثالثة قال:لو كان من الرزق المقسوم لشربتهُ (٢) .

ففي هذه الحادثة يمكن أن نلاحظ كملاحظة أوّليّة: عدم مشروعيّة مطالبة مسلم بن عقيلعليه‌السلام بالماء؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون ملتفتاً إلى جرحه الذي في فَمه أم لا، والجَرح لم يكن مضت عليه مدّة طويلة، ولعلّه كان ينزف لحدّ الآن.

أمّا عدم التفاته إليه فهذا مُستبعد جدّاً، باعتبار الدم الذي ينزف، وإن لم يكن له دم كان الألم موجوداً، ومن الصحيح أنّه (سلام الله عليه) يتحمّله ويصبر عليه، إلاّ أنّ ذلك لا يعني نسيانه، بحيث يستطيع أن يأكل أو يشرب كأيّ إنسانٍ اعتيادي.

فإذا كان ملتفتاً إلى الجَرح، فلماذا طلبَ الماء وهو يعلم سَلفاً باختلاطه بالدم؛ لأنّ الدم وإن لم يكن ينزف بشدّة، ولكنّه إذا شربَ الماء فسوف يدخل الماء في الجرح ويحدث نزف جديد يقيناً، فهذا فيه احتمالان باطلان لإتمام الاستشكال ومُحتمل ثالث صحيح للجواب عليه:

____________________

(١) القُلّة: بمعنى الجرّة، وقيل: الكوز الصغير (أقرب الموارد: ج٢، ص١٠٣٤ بتصرّف).

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢١٥، ط نجف، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢١٢، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٧٤، مقاتل الطالبيين: ص١٠٧.

١٩٤

أمّا الاحتمالان الباطلان فهما:

الأوّل: أن يكون مسلم بن عقيلعليه‌السلام مستعدّاً لشرب الماء المختلط بالدم بالرغم من نجاسته، وهذا باطلٌ؛ لأنّه حرام أوّلاً، وينصّ التاريخ على تركه وإراقة الماء ثلاث مرّات ثانياً.

الثاني: تبذير الماء بحيث كان كلّما امتلأ دَماً أراقهُ، وخاصّة في المرّة الثالثة حيث كان من المعلوم حصول نفس النتيجة، وهذا الاحتمال باطل أيضاً؛ لأنّه وإن كان تبذيراً إلاّ أنّه ليس بمحرّم على مسلم بن عقيل في ذلك المورد، لوجود المصلحة فيه - على ما سيأتي - ولكن لو صحّ أحد هذين الاحتمالين لتمّ الاستشكال، ولم يبقَ عندنا من جواب إلاّ الطعن بسند هذه القصّة نفسها، واحتمال كونها مكذوبة أساساً أو تأكيد ذلك؛ لأنّنا نَجلّ مسلم بن عقيل عن مثل هذا الإسفاف.

ولكنّ الاحتمال الثالث والأخير يصلح جواباً على الإشكال أساساً: وهو أنّنا ينبغي أن نلتفت إلى أنّ طلبهُ للماء كان في أوّل دخوله على عبيد الله بن زياد، فأراد أن يبرهن له عمليّاً وحسيّاً على حاله السيّئة دنيويّاً والبلاء الحاصل عليه قبل القبض عليه وشدّ وثاقه، فهو مُتعب جدّاً وعطشان جدّاً ومجروح جَرحاً بليغاً، مضافاً إلى كونه أسيراً ومكتوفاً، ولئن كان في شرب الماء نوع من الراحة لهُ، فهو قد أصبحَ بحالٍ بحيث لا يستطيع أن يشرب الماء ليرتاح حتّى بهذا المقدار، كلّ هذا فَهَمهُ عُبيد الله بن زياد من تنفيذ طلبه ومحاولته لشرب الماء، بل أكثر من ذلك وهو: أنّ الجرح بليغ إلى درجة لا يؤمَل معه انقطاع الدم حتّى في الصبّة الثالثة للماء.

وهذا الذي أشرنا إليه: من أنّ المصلحة تقتضي وجود هذه الصّبة فلا تكون تبذيراً، فقد كان طلبهُ بيان عملي لشرح حاله لا أكثر، وبهذا يندفع الإشكال السابق جملةً وتفصيلاً.

١٩٥

مُسلم بن عقيل في الكوفة

حيث تحدّثنا عن مسلم بن عقيل ويُعتبر الحديث عنه حديثاً عن أوّل قضايا الحسينعليه‌السلام تقريباً، أودُّ بهذه المناسبة أن أعرض عدّة أفكار، أعرضها في العناوين التالية:

الأخوّة

حين أرسل الإمام الحسينعليه‌السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة، كتبَ معهُ كتاباً يُعرّفه لأهلها ويصفهُ بأنّه:(أخي وابن عمّي، وثقتي من أهل بيتي، والمفضّل عندي) (١) ، فهذه عدّة صفات:

أمّا كونهُ ابن عمّه: فهو تعبير عن قرابته فعلاً؛ لأنّ عليّاً وعقيل (سلام الله عليهما) أخوان شقيقان، وهما أبوا الحسين ومسلم.

وأمّا كونهُ أخاه: فهو على ما أعتقد أهمّ هذه الصفات على الإطلاق؛ لأنّه لم يكن أخاً شقيقاً حقيقة ولا غير شقيق، فلابدّ من حَمله على أحد معنيين: إمّا المعنى المجازي، أو المعنى المعنوي، ولا تنافي بينهما؛ لأنّه في الظاهر أخ مجازي وفي الباطن أخ معنوي.

وفي هذا الصدد ينبغي أن نلتفت إلى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين آخى بين أفراد المهاجرين والأنصار وترك عليّاًعليه‌السلام ، شكى إليه علي بأنّه لم يُعيّن له أخاً؟ فقال:(جَعلتك أخاً لنفسي) (٢) ، ومن هنا وردَ تشريفه بهذه الصفة بأنّه المخصوص بالأخوّة، يعني مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه ليست أخوّة مجازيّة بل أخوّة معنويّة وحقيقية على المستوى الإلهي.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص١٩٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤٢، مقتل الخوارزمي: ج١، ص١٩٥، الإرشاد للمفيد: ص٢٠٤، ط نجف.

(٢) أسد ُالغابة لابن الأثير: ج٤، ص١٦، مناقب ابن شهرآشوب: ج٢، ص٨٥ بتصرّف.

١٩٦

ومحلّ الشاهد من ذلك أنّنا نسأل: لماذا نحمل أخوّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الأخوّة المعنويّة، ولا نحمل أخوّة الحسين على نفس المضمون، فإمّا أن نحملهما معاً على عالَم المجاز، وإمّا أن نحملهما معاً على عالَم المعنى، و لا يحقّ لنا أن نحمل بعضها هكذا وبعضها هكذا؟

وحيث تعيّن أن تكون أخوّة عليعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله معنوية، كذلك ينبغي أن تكون أخوّة مسلم بن عقيل للحسينعليه‌السلام معنوية، كلّ ما في الأمر أنّ الفرق بين الأخوّتين: هو الفرق بين الشخصين أعني عليّاً ومسلماً من ناحية، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والحسين من ناحية ثانية، فهذه الأخوّة أدنى من تلك الأخوّة؛ لأنّها تختلف عنها باختلاف الحسين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّها مع ذلك شريفة وعظيمة جدّاً، بحيث لا تُقاس معها أيّ أخوّة أخرى في البشريّة.

هذا، وأمّا قوله:(ثقتي من أهل بيتي) فهو واضح المعنى، غير أنّ فيه جهتين من الحديث لابدّ من خوضهما:

الجهة الأولى: أنّ الوثاقة لا مَحالة تختلف، فهناك الثقة، وهناك الأوثق، وهناك الأوثق منه، وهكذا.

أمّا كلام الإمام الحسينعليه‌السلام ، فيدلّ على أنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) ثقة للإمام المعصومعليه‌السلام ، وهذه أعلى أشكال الوثاقة بعد العصمة.

الجهة الثانية: أنّه قد يقع السؤال: أنّ في العبارة دلالة أو إشعاراً بأنّه أوثق من غيره من الهاشميّين(من أهل بيتي) ، ولا يوجد مَن هو في مستواه، مع أنّ فيهم الكثيرين ممّن يعدلونهُ في الوثاقة:كالعبّاس بن علي، وعليّ بن الحسين الأكبر، والقاسم بن الحسين السبط، فضلاً عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين (عليه وعليهما السلام) ، وهو الإمام المعصوم بعد الحسينعليه‌السلام ؟

١٩٧

وجواب ذلك على مستويين:

المستوى الأوّل: إنّ قوله:(ثقتي من أهل بيتي) ، لا دلالة فيه على أنّ ثقاتهعليه‌السلام منحصرون فيه، وإنّ غيره ليس من ثقاته، أو أدنى منه في وثاقته؛ فإنّ هذه الاستفادة وأمثالها تسمّى في علم الأصول من مفهوم الوصف، وهو باطل على ما هو المبرهن عليه هناك؛ فإنّك لو وصفتَ شخصاً كريماً لم يكن معناه أنّ الآخرين ليسوا كُرماء، أو لا يوجد كريم غيره، وخاصّة إذا فَصَلنا نقطة بين الصفتين: أعني(ثقتي) من ناحية، و(من أهل بيتي) من ناحية أخرى؛ فإنّ هذا المعنى يكون واضح جدّاً، ولا دليل على ارتباطهما من هذه الناحية.

وعلى أيّ حال، فلو كان ظاهر العبارة ذلك، لابدّ من حَرفها عن ظاهرها وتأويلها؛ لأنّ الظاهر إنّما يكون حجّة مع عدم قيام الدليل على بطلانه، ومن العلوم بالضرورة أنّ مثل هذا الظاهر - بعد التنزّل جَدلاً عمّا قلناه - يكون غير مُحتمل الصحّة.

هذا، وكلّ هذه المستويات من الكلام يمكن أن نقولها في الصفة الأخرى، وهي قوله:(والمفضّل عندي) ، فراجع وتأمّل، مضافاً إلى أنّها رواية غير معتبرة السند.

وأمّا قياسه - أعني مسلم بن عقيلعليه‌السلام بالإمام المعصومعليه‌السلام - فهو غير مُحتمل أصلاً في ضمير المؤمنين ووجدانهم، وإنّما مراد الحسينعليه‌السلام لو أراد تفضيله على الآخرين، فإنّما يريد غير المعصومين منهم بطبيعة الحال.

المستوى الثاني: أن ننظر إلى أنّ الحسينعليه‌السلام لماذا اختار مسلماً بالذات للسفارة عنه في الكوفة، مع أنّ أهل بيته عديدون، فإذا أجبنا - كما سنسمع بعد قليل - أنّه هو الوحيد الصالح منهم للسفارة، أمكننا عندئذٍ أن نفهم من العبارة أنّه(ثقتي من أهل بيتي، والمفضّل عندي): ممّن هو صالح لهذه السفارة والمهمّة، وعندئذٍ لا بأس أن يكون هو الوحيد الموصوف بها.

١٩٨

وعلينا الآن استعراض بعض الموانع المحتملة التي كانت تحول دون إرسال غيره في هذه المهمّة:

أوّلاً: كان هناك جماعة لا يناسبهم العمر اجتماعيّاً للقيام بهذه المهمّة مهما كانوا علماء حكماء؛ لأنّهم كانوا شبّاناً صغاراً:كالقاسم بن الحسن، والإمام السجّاد عليه‌السلام ، وكذلك عليّ بن الحسين الأكبر على بعض الروايات(١) .

ثانياً: كان هناك أكثر من واحد يتّصف بالعوق المانع عن أداء المهمّة: كالعمى في عبد الله بن جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، والضُعف العام عن الحرب، أو ضُعف الذراعين عن الضرب، كما وردَ عن محمّد بن الحنفية وهو ابن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

ثالثاً: يبدو أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام تجنّبَ عن عمدٍ إيكال المهمّة إلى أولاد عليعليه‌السلام وأحفاده، بل أخرَجها عن هذه العائلة تماماً، والوجه الذي يبدو من ذلك - بغضّ النظر عمّا يأتي -: هو إجلال هذه العائلة عن مهمّةٍ أدنى منها، ويمكن لكثيرين من غيرهم القيام بها، وسيكون مسلم بن عقيل هو خير مَن يكون من خارج الأسرة.

رابعاً: ما يذكرهُ عدد من الخطباء: من أنّ الحسينعليه‌السلام حين حَجبَ المهمّة، أو مَنعها عن أخيه العبّاسعليه‌السلام ، وابنه الأكبر وأضرابهم، إنّما ذَخرها بذلك لنيل الشهادة معه في كربلاء، وهو مقام أسمى وأعظم؛ فإنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام وإن كان من شهداء الحسينعليه‌السلام ، إلاّ أنّ الشهادة بين يدي الحسين وسمعه وبصره، ولأجل الدفاع المباشر عنه مهمّة أعلى وأصفى وأقدس أمام الله عزّ وجل، وهذا على أيّ حال مربوط بالعلم الإلهامي الذي يُعرِّفه الإمام الحسينعليه‌السلام من قضاء الله وقَدَره.

____________________

(١) حيث كان عُمرُ عليّ الأكبر - على ما هو الأشهر بين المؤرّخين وأرباب المقاتل والنَسب - نحو ٢٧ سنة، كما عن الطريحي في المنتخب، وعُمر السجّاد يوم الطف ٢٣ سنة، كما في الإيقاد للعظيمي، وكان عُمر القاسم يوم الطف لا يتجاوز الحُلم، كما في مقتل الخوارزمي.

١٩٩

احتلالُ الكوفة

قد يخطر على البال السؤال: أنّ مسلم بن عقيل لماذا لم يحتل الكوفة احتلالاً عسكريّاً ويسيطر على الحكم فيها، وخاصّة بعد أن تمّ لديه مبايعة اثني عشر ألفاً من أنصاره(١) ، وقد كانوا وَعَدوه أو وعَدوا الحسينعليه‌السلام - في بعض كتبهم إليه - أن يطردوا النعمان بن بشير، حاكم الكوفة ممثّلاً عن الحاكم الأموي، وقالوا:

(ثمّ إنّه ليس علينا إمام غيرك، فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة ولا عيد، ولو بَلَغنا إقبالك إلينا، أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء الله تعالى) (٢) .

وواضحٌ: أنّ إقبال مُمثّل الحسين ورسوله عليهم، كإقبال الحسين نفسه، فلماذا لم يفعلوا ذلك، ويتسبّبوا في أخذ زمام السلطة من قِبل مسلم بن عقيلعليه‌السلام ؟

والجوابُ على ذلك - بغضّ النظر عمّا قلناه في مقدّمات هذا البحث من أنّ عقولنا قد تقصر عن نيل الواقعيات أوّلاً، وأنّ هؤلاء العظماء عند الله كأمثال مسلم بن عقيل ممّن لهم التأييد والتسديد من الله سبحانه ثانياً، ومعهُ ينسدّ السؤال عن ذلك وغيره - يمكن بأمور:

الأمر الأوّل: إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) لم يكن مُخوّلاً من قِبل الحسينعليه‌السلام بالحرب، ولا باستلام الحكم في الكوفة؛ وإنّما كان مخوّلاً فقط لاستكشاف الحال في الكوفة وإرسال الخبر إلى الحسينعليه‌السلام ،

____________________

(١) هذا ما ذكرهُ المسعودي في مُروج الذهب: ج٣، ص٦٦، والكليني في كفاية الطالب: ص٢٨٢.

أمّا في مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٠ ذَكر أنّهم عشرون ألفاً، أمّا في تاريخ الطبري، والإرشاد للمفيد، ونهاية الإرَب للنويري، والإيقاد للعظيمي أنّهم ثمانية عشر ألفاً، وقد ذَكر ابن نما الحلّي في مُثير الأحزان أنّهم أربعون ألفاً.

(٢) الخوارزمي: ج١، ص١٩٤، الطبري: ج٦٥، ص١٩٧، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٦٦، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤١.

٢٠٠

ومن المعلوم أنّ السيطرة على الكوفة تحتاج إلى قتال، وهو ممّا لم يأذن به الحسينعليه‌السلام .

فإنّ نصّ جواب الحسينعليه‌السلام يقول:(أمّا بعد، فقد فهمتُ كلّ الذي اقتصَصتم وذَكرتم، ومقالة جُلّكم: إنّه ليس علينا إمام فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ، وأنا باعثٌ لكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرتهُ أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتبَ إليّ أنّه قد اجتمعَ رأي مَلأكم وذوي الحِجى منكم على مثل ما قدّمت به رُسلكم وتواترت به كتبكم، أقدِم إليكم وشيكاً إن شاء الله) (١) إلى آخر ما قال، وهو خالٍ من التخويل بالحرب، كما هو واضح.

الأمر الثاني: إنّ استلام حكم الكوفة من قِبل مسلم بن عقيل إن كان بدون حرب - كما يُشعر به كتاب أهلها الذي سمعناه حين يقولون عن حاكمها: (أخرجناهُ وألحقناه بالشام) هكذا بكلّ سهولة - لهانَ الأمر، بل أمكنَ القول شرعاً، بأنّه تجب السيطرة على الكوفة عندئذٍ، إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك جزماً، لعدّة أمور منها:

أوّلاً: وجود المنافين والمعاندين في الكوفة بمقدار معتدٍّ به، وهم بلا شكّ مستعدّون للوقوف ضدّ هذا الاتّجاه، سواء بالحرب لمنعه أو بالتآمر لإفشاله وإسقاطه لو تمّ، ومن هنا يصعب حصول الأمر بالنجاح التام والمستمر.

ثانياً: إنّ حاكم الكوفة يومئذٍ(النعمان بن بشير) ، وإن كان حسب ما وردَ في التاريخ: أنّه كان رجلاً متخاذلاً مشكّكاً يحبّ العافية، ويُفضّل الراحة والسلامة(١) ، ولكنّه مع ذلك ورد أنّه خَطبَ وهدّد الكوفيين بأنّ استعمالهم للسلاح ضدّه،

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص١٩٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤٢، مقتل الخوارزمي: ج١، ص١٩٥.

(٢) إعلام الورى للطبرسي: ص٢٢٤، الفتوح لابن أعثم: ج٥، ص٧٥.

٢٠١

يعني استعماله ضدّهم، ولن يستطيعوا أن يزيلوه بسهولة؛ وإنّما لابدّ من أن تنشب الحرب بينهم، وسيستعين في نفس الوقت بالمعاندين والمنافقين والفسقة الذين هم على استعداد لمعونته جزماً.

ونسمعهُ يقول في خطبته:(إنّي لا أقاتل مَن لم يقاتلني، ولا أثب على مَن لا يثِب عليّ..... ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم (يعني الحاكم الأموي)، فو الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبتَ قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر ولا مُعين، أمّا إنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل) (١) ، إلى آخر ما قاله، وهذا يعني عدّة أمور:

أوّلاً: مناجزتهم الحرب إذا هم حاربوا.

ثانياً: إعطاء الحريّة لهم في أن يفعلوا ما يشاءون ضمن التصرّف السلمي غير القائم على السلاح، وأعتقدُ أنّ هذا من النِعم الإلهيّة على مسلم بن عقيل وأنصاره استطاعوا فيه أن يُثبتوا وجودهم تامّاً.

ويكفينا تقييماً للحالة، لو استطعنا المقايسة بينها وبين ما أصبحَ عليه الحال عند حُكم عُبيد الله بن زياد، الذي عيّنه الحاكم الأموي بعد النعمان بن بشير.

ثالثاً: المسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه النعمان بن بشير هذا، من حيث إنّه كفّ عنهم شرّه، فاللازم أن يكفّوا عنه شرّهم، وإذا لم يحاربوه، لم يمكنهم عزلهُ والسيطرة على الحكم، وعلى أيّ حالٍ فقد استطاع النعمان بن بشير بذلك أن يبقى هو الحاكم ما دام غير معزول من قِبل سيّده الأصلي الحاكم الأموي.

الأمر الثالث: إنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام شعرَ أنّ قيام حرب واسعة في داخل المجتمع الإسلامي الجديد، الذي لم يكن قد تجاوز قَرنهُ الأوّل، سوف يكون كارثة على الإسلام كلّه،

____________________

(١) الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٦٧، الإرشاد للمفيد: ص٢٥٠، الأخبار الطوال: ص٢١١.

٢٠٢

وسيُقتل من المسلمين عامّة ومن المخلِصين خاصّة العدد الكثير، وسيفتح ثغرة وفرصة لأعداء الإسلام من الخارج والداخل للسيطرة على المجتمع سيطرة كاملة ومحكمة.

إذاً، فقد اقتنعَ مسلم بكلا الأمرين وهما:تعذّر السيطرة سلميّاً على الكوفة، والآخر: عدم المصلحة في السيطرة عليها عسكريّاً ، إذاً فلا ضرورة إلى تلك السيطرة حتّى لو كان مسموحاً له من قِبل الحسينعليه‌السلام بها ما لم يكن مأموراً بها، وهو جَزماً لم يكن كذلك.

الأمر الرابع: إنّ هناك أمراً قلّما يأخذهُ عامّة الناس بنظر الاعتبار، وهو:التناسل البشري ، يعني احتمال ولادة مؤمن من مؤمن، أو من كافر، أو منافق، غير أنّ هذا ممّا يؤخذ في الحكمة الإلهيّة جَزماً، فيكون من الحكمة المحافظة على بعض النفوس، لكي يوجد من ذراريها ولو بعد جيلٍ أو أجيال، جماعة من المؤمنين الذين يعبدون الله وينصرون دين الله بإخلاص، وإذا كانت أيّ حربٍ مانعة عن ذلك - والحرب بطبيعتها مانعة عن ذلك - إذاً فمن الضروري عدم وقوعها.

وهناك وجهٌ آخر مهم ذكرنا أُسسه في كتابنا(اليوم الموعود) ، إلاّ أنّ إيضاحه الكامل يتوقّف على ذِكر تلك الأسس فيطول المقام بنا، ومن هنا يكون الأحجى الإعراض عن ذلك مؤقّتاً.

٢٠٣

اغتيالُ ابن زياد

يقول لنا المؤرّخون ما مضمونهُ باختصار: إنّ شُريك بن عبد الله الحارثي ومسلم بن عقيل، كانا معاً نازلين في دار هانئ بن عروة المذحجي(١) ، فتمرّض شريك واشتدّ به المرض، فعلم بذلك عُبيد الله بن زياد حاكم الكوفة يومئذٍ، وكان له معهُ رفاقة، فأرسلَ إليه أنّه سيعوده في دار هانئ، وقبل مجيء ابن زياد تواطأ شريك مع مسلم على أن يغتال ابن زياد عند مجيئه، فلمّا كان من العشي أقبلَ ابن زياد وتخفّى مسلم في إحدى الغُرف كأنّه يستعدّ لاغتياله، ولكنّ هانئ اعترضهُ قائلاً:(إنّي لا أُحبّ أن يُقتل في داري) .

والمهمّ: أنّ مسلماً لم يقبل لقتل ابن زياد وخرجَ ابن زياد سالماً، فخرج مسلم من مكانه.

فقال له شريك: ما مَنعك من قتله؟ قال:خصلتان: أمّا إحداهما: فكراهة هانئ أن يُقتل في داره، وأمّا الأخرى: فحديث حدّثنيه الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان قيّد الفتك، ولا يَفتك مؤمن) (٢) .

فقال هانئ: أمَا والله، لو قتلتهُ لقتلتَ فاسقاً فاجراً كافراً غادراً، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري(٣) .

____________________

(١) هانئ بن عروة المرادي المِذحجي: لقد ذَكر المؤرّخون أنّه كان شديد التشيّع، ومن أشراف الكوفة وقرّائها، ومن خواصّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حضرَ حروبهُ الثلاث، وأدركَ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرّف بصحبته ،وكان له يوم قتله بضع وتسعون سنة، وكان شيخ مراد وزعيمها إذا ركبَ ركبَ معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع (واقعة الطف لبحر العلوم: ص٢٨٦).

(٢) الفَتك: (فَتك فلان بفلان) أي: قتلهُ على غفلة، أو انتهزَ منه فرصة فقتلهُ (أقرب الموارد: ج٢، ص٩٠١، مجمع البحرين: ج٥، ص٢٨٣ بتصرّف).

(٣) هذا ما وردَ في تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٤، وكذلك في مقاتل الطالبيين، والدمعة الساكبة: م١، ص٣٠٩ نقلاً عن البحار.

وقد ذكرَ هذه الرواية ابن الأثير في الكامل في التاريخ: ج٣، ص٢٧٠ إلاّ أنّه ذَكر أنّ مسلماً عندما سُئل عن عدم خروجه قال: (… وأمّا الأخرى، فحديث حدّثه عليّ عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الإيمان... إلخ) ، وهذا ما أوردهُ الخوارزمي أيضاً في مقتله: ج١، ص٢٠٢.

أمّا ابن نما الحلّي: فقد ذَكر في مُثير الأحزان: ص٢٠ أنّ زوجة هانئ هي التي مَنعت مسلم من قَتل عبيد الله بن زياد، ولم يَذكر الحديث.

٢٠٤

فمن هنا قد يخطر في البال: السؤال عن السبب الذي حَدا بمسلم بن عقيل على أن لا يقتل عبيد الله بن زياد، بعد أن أصبحَ كاللقمة السائغة بيده، وهو يَعلم أنّه عدوّه وعدوّ الحسينعليه‌السلام وعدوّ الله عزّ وجل، وإنّ قتلهُ مهمّ جدّاً في إمكان السيطرة على المجتمع في الكوفة، وتفريق القيادة من المنافقين الذين جَمعهم ابن زياد وتركيزها بيد أهل الحقّ.

والجواب على ذلك يكون من وجوه:

الوجه الأوّل: كراهة هانئ بن عروة أن يُقتل عبيد الله بن زياد في داره، ومسلم بن عقيل كان ضيفاً لدى هانئ، وكان ولا يزال يخدمه بالسمع والبصر ويؤدّي لمسلم أيّ مصلحة عامّة أو خاصّة، فإذا فعلَ في داره ما يكرهه حَصلت عدّة مضاعفات:

أوّلاً: الإحراج أمام هانئ نفسه أخلاقيّاً؛ فإنّ مقتضى المسؤوليّة الأخلاقيّة أن لا يفعل في داره ما لا يُحب، وخاصّة وهو بهذه الصفة العظيمة في الانتصار له.

ثانياً: تحريم تصرّفه في الدار بعد ذلك، لو كان قد فعلَ ما يكرههُ صاحبها، ممّا يضطرّه للانتقال إلى دار شخص آخر، وقد لا يجد شخصاً جامعاً للشرائط المتوفرة في هانئ، أو قل: لا يجد له مثيلاً في سكّان الكوفة.

ثالثاً: إحراج موقف هانئ من حصول هذا القتل في داره، الأمر الذي أثار في نفسه هذه الكراهة؛ فإنّه كان رئيساً لقبيلة مذحج، ولهُ اتصالات ومجاملات ومصالح في مختلف أوساط المجتمع، فإذا قُتل ابن زياد في داره كان ذلك إحراجاً لهُ أمام شريحة مهمّة في المجتمع، وهذا ما يكرهه، ولا يريد مسلم بن عقيل إثارة هذا الإحراج أمامه، وتفكير هانئ بهذا الشكل، تفكيرٌ على المستوى الدنيوي، ولكنّه قائم على أيّ حال.

وهو بطبيعة الحال، لا يَدرك ما ندركه أو نحتمله نحن الآن بعد ألف سنة وحوالي النصف من ذلك التاريخ، من وجود مصلحة عامّة في قتله، بحيث تجب عليه التضحية في سبيلها بكلّ غالٍ وعزيز، وإذا كان غافلاً عن ذلك - وهو غير معصوم على أيّ حال - فالله سبحانه يعذر الغافل.

٢٠٥

الوجه الثاني: لعدم اغتيال ابن زياد: ما ذكرهُ مسلم نفسه حسب الرواية(إنّ الإيمان قيّد الفتك، ولا يفتك مؤمن) .

إلاّ أنّ هذا بمجرّده لا يتمّ، إلاّ أن يرجع معناه إلى الوجه الآتي؛ وذلك لأنّ هذا الخبر يحتاج إلى الصحّة سَنداً ودلالة، أمّا السند، فيظهر حصول مسلم عليه مرسلاً غير موثوق؛ لأنّه عبّر عن أنّه حديث حدّثنيه الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الأمر الذي يدلّ على أن يجهل راويه، أو لا يوثّقه على أقلّ تقدير.

وأمّا من ناحية الدلالة، فهذا الأمر الذي كان عازماً عليه هو الغيلة أو الاغتيال، وليس الفتك فإنّه وإن كان قد يَرد في اللغة بهذا المعنى أيضاً، إلاّ أنّ لهُ معانٍ أخرى كالشجاعة بحيث لا يهاب أحداً، والاستقلال بالرأي عن الآخرين وغير ذلك(١) ، فلا يتعيّن أن يكون المراد من الخبر ذلك.

مضافاً إلى أنّ الاعتماد على خبرٍ من هذا القبيل، بل حتّى ولو كان صحيحاً، في دفع مصلحة عامّة في قتله، أو جلب مفسدة عامّة في حياته، كما قد حصلَ فعلاً، غير صحيح جزماً وغير مرضيّ لله عزّ وجل، ما لم يعِد الأمر إلى وجوه أخرى، أو إلى الوجه الآتي الذي سنذكره الآن.

الوجه الثالث: الأخلاقيّة في العلاقات مع الآخرين، الأصدقاء منهم والأعداء سِلماً كانت العلاقة أم حرباً أم قتلاً، ومن جملة الأسس الأخلاقيّة التي التزمَ بها المسلمون ونَصحت بها تعاليم الإسلام عدم البدء بالحرب والضرب، وإنّما يكون أهل الحقّ هم ثاني الضاربين لو صحّ التعبير، ليكون موقفهم أمام الله والناس هو الدفاع فقط، وكان ولازال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو نبيّ الرحمة، وليس من مقتضى الرحمة البدء بالهجوم، حتّى أنّ الحسينعليه‌السلام في ساحة كربلاء العسكرية التزمَ بذلك، وهذه مصلحة أخلاقيّة جليلة في الحرب والقتل والقتال،

____________________

(١) ومثله قولهم الفاتك: أي الجريء الشجاع، وقال ابن دريد: هو الذي إذا همّ بشيء فَعل (أقرب الموارد: ج٢١،ص٩٠١).

٢٠٦

ذات تأثير عام في إحسان الظنّ بالمعسكر المحقّ وجلب القلوب نحوه، وهي مصلحة عامّة تعدل الكثير من المصالح العام الأخرى التي قد ندركها ممّا تكون مصالح وقتيّة وإن كانت صحيحة، في حين أنّ هذه القاعدة الأخلاقية دائمة الصحّة جيلاً بعد جيل.

فإذا عرفنا ذلك، استطعنا تقييم وتمييز موقف ابن عقيل من ابن زياد، من حيث إنّ ابن زياد لم يكن محارباً في ذلك الحين ولا ناوياً لقتل أحد، إذاً، فهو لم يبدأ بالقتال ولم ينوِ السوء، فلا يجوز بَدؤه به أو نية السوء ضدّه؛ لأنّه خلاف القاعدة الأخلاقية المشار إليها.

الوجه الرابع: ما ذكرناه فيما سبق: من كون مسلم بن عقيلعليه‌السلام مُسدّداً مُلهماً، ولا أقلّ من احتمال ذلك، إذاً فيمكن أن يكون قد واجه نهياً عن قتل عُبيد الله بن زياد، كما يُحتمل أن يكون هذا النهي مأخوذاً عنده من الحسينعليه‌السلام ، أو من جدّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بخصوص هذه الواقعة أو ما يشملها، فيجب عليه الامتثال، وقد سبقَ أن قلنا في أمثال ذلك: إنّ مجرّد الاحتمال يكفينا؛ لأنّه إذا دخلَ الاحتمال بطل الاستدلال، يعني يفسد السؤال عن إعراضهعليه‌السلام عن اغتيال ابن زياد، وإنّ ذلك كان على خلاف المصلحة أو السياسة العامّة.

الوجه الخامس: ما أشرنا إليه أو إلى مثله، من أحد الوجوه التي قلناها في نفي سيطرة مسلم بن عقيل على الكوفة، وهو اقتضاء الحكمة الإلهيّة الإبقاء على بعض الفاسقين والكافرين، من أجل ميلاد بعض المؤمنين من ذراريهم ولو في جيلٍ متأخّر، ولو عدّة مئات من السنين أو أكثر، فليكن ابن زياد كذلك.

وهذا لا يتوقف على علم مسلم بن عقيل أو التفاته إلى ذلك، بل إمّا أن يكون ملتفتاً، وإمّا أنّ الله سبحانه صَرَفه عن قتله لهذه الجهة، والاحتمال في ذلك يكفينا لقطع الاستدلال المعاكس، كما كرّرنا في أمثاله.

الوجه السادس: ما ذكرناه أيضاً هناك من الأمر المربوط بكتابنا(اليوم الموعود) ، فإنّه أيضاً من الأمور المربوطة بتلك الأسس، فراجع.

٢٠٧

السيطرةُ على الكوفة مؤخّراً

إذ قد يخطر على البال: أنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، ما دام لم يسيطر على الكوفة في زمن النعمان بن بشير ولم يقتل عبيد الله بن زياد، فلا أقلّ من أن يحاول السيطرة على الكوفة عندما أصبح ابن زياد حاكماً عليها، إذ كان الشرّ قليلاً وغير واضح في زمن ابن بشير، في حين أصبحَ واضحاً في زمن عبيد الله بن زياد، ومن هنا كانت السيطرة على الكوفة أرجح جدّاً من ذلك الزمن السابق، فلماذا لم يفعل ذلك مسلم؟

وجوابُ ذلك: إنّه يمكن القول بورود جميع الأجوبة التي قلناها فيما سبق عن سيطرة مسلم بن عقيل في الماضي (يعني في عهد النعمان بن بشير)، كلّها تأتي عن سيطرته الآن، مع زيادات معتدّ بها كما سنذكر، ويكفينا أن نلتفت إلى أنّ زيادة الشرّ تقتضي زيادة الصعوبة في السيطرة، الأمر الذي يجرّ إلى أمورٍ غير محمودة كما سنرى، وهذه الصعوبة تتمثّل في أمور:

الأمرُ الأوّل: الزيادة في الضيق لجانب مسلم بن عقيل أعني في الحرّية العامّة، وإعطاء الجانب الأفضل والتحرّك الأشمل لأعدائه.

الأمرُ الثاني: وجود تجسّس دقيق وكامل على كلّ أقوال وأفعال ابن عقيل وأصحابه، ويمكن أن تكون العيون كثيرة، غير أنّ التاريخ ينصّ على واحدٍ بعينه يسمّى(معقل) ، استطاع الوصول بدهاء إلى الدار التي يرتادها مسلم وأصحابه، فكان أوّل داخل وآخر خارج بعنوان كونه مؤيِّداً لهم، وينقل كلّ ما سمعه ورآه إلى عبيد الله بن زياد.

٢٠٨

الأمرُ الثالث: السرّية والتكتّم التي تعمّدها جانب مسلم بن عقيل وأصحابه، بغضّ النظر عن التجسّس المشار إليه، ومع التكتّم المتعمّد يصعب جدّاً وضع برنامج واضح وواسع لأجل السيطرة على المجتمع، كما يتوقّع السائل أن يكون.

الأمرُ الرابع: إمكان التشكيك في العدّة والعدد اللذَين يمكن لابن عقيل أن يجمعهما في ذلك المجتمع؛ فإنّ أفراد الناس هناك لم يكونوا معتادين على الحرب ومصاعبها وويلاتها، وإنّما استطاع عبيد الله بن زياد أن يجمع منهم جيشاً ضخماً بعد التفكير بعدّة خطط ماكرة، اكتسبها بصفته مُمثّلاً للدولة الحاكمة لا أكثر، وهذا ما لا يستطيع طبعاً مسلم بن عقيل توفيره للناس بصفته معارِضاً للدولة، فيكون احتمال حصوله على الجيش الكافي في العدّة والعدد احتمالاً غير قوي، وحسبُنا أن ننظر إلى أهمّ الأفكار التي حاولَ عبيد الله بن زياد بثّها في المجتمع صدقاً أو كذباً ليستقطب الناس إلى جانبه:

أوّلاً: التهديد العسكري، حيث زعمَ لهم أنّ هناك جيشاً مُقبلاً عليهم من الشام ضخم جدّاً، يريد استئصالهم إن هم عصوا الدولة.

ثانياً: التهديد الشخصي بالسجن والضرب، بل والقتل أيضاً.

ثالثاً: التهديد الاقتصادي بالمقاطعة مع كلّ معارِض.

رابعاً: الطمع، بإضافة مبلغ من المال إلى راتب كلّ واحد يكون إلى جانبه، ويخرج في حرب الحسينعليه‌السلام ،

٢٠٩

ويُنقل ذلك تاريخيّاً على شكلين: أشهرهما:إضافة عشرة دنانير ذهبية إلى أيّ فرد ، والآخر:مضاعفة الراتب الذي يصله .

خامساً: الإحراج الاجتماعي عن طريق العلاقات والصداقات المبثوثة في تلك المدينة المنكوبة.

وكلّ هذه الأمور قائمة ضدّ مسلم بن عقيل، ومن المتعذّر أن يكون مثلها إلى جانبه، سوى التضحية في الرضوخ للحقّ لا أكثر، وهو ممّا يقلّ العاملون به في أيّ مجتمع، وخاصّة تحت ظروف من ذلك القبيل.

وقد بادرَ عبيد الله بن زياد إلى تغيير كفّة المجتمع إلى جانبه بمجرّد وروده، وألقى في الناس خطبة تتكفّل بيان تلك التهديدات والأطماع، مع بثّ شرطته وأنصاره بين الناس، لأجل الطمع والتخويف والإحراج، ممّا أنتجَ ما ينقلهُ بعض الخطباء الحسينيّين من أنّ الأم أصبحت تأتي إلى ابنها، والزوجة إلى زوجها، والبنت إلى أبيها، والأخ إلى أخيه، فيحذرّونهم مغبّة مناصرة مسلم ويقال لهم:

(مالَكَ والدخول بين السلاطين) ، ويأخذون بيده ويُرجعونهُ إلى بيته، ومهما يكن في هذا النقل التاريخي من المبالغة إن أخذناه على سعته، كما سبقَ أن قلنا: إنّ الكوفة والمجتمع الكوفي لا يمكن أن ينقلب تماماً من الولاء إلى العداء بين عشيّة وضحاها، وقد أقمنا على ذلك ما يكفي من القرائن والدلائل، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون قد حدثَ مثل هذا التخذيل فعلاً على نطاق ضيّق قلّ أو كثُر؛ فإنّه على أيّ حال مُضر بجانب مسلم بن عقيل، ويُضاعف عليه الصعوبة والبلاء.

٢١٠

مَعقل

يقول المؤرّخون: إنّ مَعقلاً حين أراد التجسّس لابن زياد، أقبلَ إلى المسجد، فرأى مسلم بن عوسجة يُصلّي فيه فسألَ عنه؟ فقيل له: هذا يبايع للحسين بن علي، فجاءه وجلس إلى جانبه، حتّى إذا فرغَ من صلاته سلّم عليه وأظهرَ لهُ أنّه رجل من أهل الشام، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميري، وممّن أنعمَ الله عليه بحبّ أهل البيت وحُبّ مَن أحبّهم وتباكى له، وقال له: إنّ عنده ثلاثة آلاف درهم يريد بها لقاء رجل من أهل البيت، بَلَغه أنّه قدمَ إلى الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقبلَ منهُ مسلم بن عوسجة وأخذ منه البيعة على يده فوراً.

ثمّ أخذهُ إلى مسلم بن عقيل، فأخذَ عليه البيعة والمواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ، فأعطاهُ(مَعقل) من ذلك ما رضي به، ثمّ أمرَ مسلم أبا ثمامة الصائدي(١) بقبض المال منه، وكان قد عيّنه مسلم لقبض الأموال من الناس وتجهيزهم بما يحتاجونه من السلاح والعتاد، وظلّ معقل يختلف إلى دار هانئ كلّ صباحٍ ومساء، فهو أوّل داخل وآخر خارج، فينطلق بجميع الأخبار والأسرار، فيقرؤها في أُذن ابن زياد(٢) ، ممّا أدى في النتيجة إلى فشل مهمّة هذه الجماعة المحقّة وتفرّقها عن مسلم بن عقيل.

فهنا قد يرد السؤال عن السبب في انخداع مسلم بن عوسجة ومسلم بن عقيل وأصحابهما، بهذا الرجل المعيّن ضدّهم،

____________________

(١) أبو تمّام الصادئدي: هو عمرو بن عبد الله بن كعب الصائدي، من شهداء الطف، كان من فرسان العرب ووجوه الشيعة، وكان بصيراً بالأسلحة، ولهذا لما جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قامَ معه وصار يقبض الأموال، ويشتري بها الأسلحة بأمر مسلم بن عقيل.

وفي كتاب (نَفَس المهموم) أنّ أبا تمّام قال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله، نفسي لك الفدى، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تُقتل حتّى أُقتل إنشاء الله، وأحبُ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنى وقتها، قال: فرفعَ الحسين رأسه ثمّ قال: (ذكرتَ الصلاة جَعلكَ الله من المصلّين الذاكرين، نعم، هذا أوّل وقتها) (الكُنى والألقاب: ج١، ص٣٣).

(٢) الإرشاد للمفيد: ص٢٠، مُثير الأحزان لابن نما: ص٢١، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤٢.

٢١١

ولئن كان مسلم بن عوسجة رجلاً اعتيادياً، مهما كان عالي الإيمان، فإنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، قد أثبتنا له أنّه مؤيّد ومُسدّد بالإلهام، فكيف لم يلتفت إلى ذلك؟!

وجواب ذلك يكون على عدّة مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ هذا موجود في قضاء الله وقدره، وكلّما كان ذلك، فلابدّ من حدوثه، ومطابق للحكمة الإلهيّة، سواء عَلمنا بسببه أو جهلنا.

المستوى الثاني: مستوى مَن نعلم أو نحتمل عدم تسديده وتأييده بالإلهام المباشر - لو صحّ التعبير - وهم أصحاب مسلم بن عقيل سواه، فمن الواضح أنّ العادة في تلك الأجيال، وهي عادة استمرّت مئات وآلاف السنين، حتّى لم تكن كتابة وأوراق تدلّ على الشخصيّة، كما في الدول الحاليّة، فكان الناس يسألون الفرد عن اسمه وانتسابه، ويُصدّقون منه ذلك على السجيّة والعادة المتّبعة، وواضحٌ أنّه لو كذَبَ أيّ شخص في اسمه أو نَسبه، فسوف يقع في أنواع من المصاعب اجتماعياً واقتصادياً، أو يُحتمل وقوعه في ذلك على بعض التقادير، فكان الناس يُصَدَّقون في أقوالهم تلك، وكانوا يُصدِّقون أقوال الآخرين في ذلك، وليس أصحاب مسلم بن عقيل سلام الله عليه وعليهم إلاّ جماعة من ذلك المجتمع المعتاد على ذلك.

فإذا انضمّ إلى ذلك حُسن الظاهر والملاينة والمسايسة، فقط أصبحَ الفرد ناجحاً في الامتحان أو الاختبار الاجتماعي، وانتهى الأمر.

المستوى الثالث: مستوى النظر إلى المواثيق المغلّظة التي أخذها مسلم بن عقيل وأصحابه على(معقل) ، وقد أعطاهم من نفسه ما يريدون، ولم يكونوا يتصوّرون أنّ شخصاً ما من المسلمين يمكن أن يحيف بالعهد، أو يحيف باليمين،

٢١٢

وإنّما قيام العلاقات بين الأفراد والمجتمعات كانت ولا زالت على شرف الالتزام بالعهود، وإلاّ كان الفرد ساقطاً بالمرّة أمام الله والناس، ولم يكن يخطر على البال أنّ هذا الإنسان من الساقطين وبهذه الدرجة.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى ما وردَ في تفسير قوله تعالى عن قول إبليس:

( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (١) ، من أنّ آدم وزوجته لم يتصوّرا شخصاً يُقسم بالله كذباً، يعني أنهّما حين سمعا إبليس يُقسم بالله سبحانه صدّقاه وأكلا من الشجرة.

أقول: فكذلك الحال في مسلم وأصحابه من حيث إنّ العهد مُلزم في الدنيا، واليمين مُلزم في الآخرة، فماذا بقيَ ممّا يكون أن يفعلوه أمامه؟

المستوى الرابع: إنّ مُسلماً وأضرابه من خاصّة أصحاب المعصومينعليهم‌السلام ، وإن قلنا بأنّهم مؤيّدون ومسدّدون بالإلهام، إلاّ أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يؤخذ على أوسع نطاق:

أوّلاً: لأنّهم ليسوا معصومين بالعصمة الواجبة، كما يُعبّر عنها في (علم الكلام)، والمعصوم بالعصمة الواجبة يكون معصوماً من الخطأ والنسيان، مضافاً إلى عصمته من الذنوب والمحرّمات، بخلاف المعصوم بالعصمة غير الواجبة، فإنّه يكون معصوماً من الذنوب لا من الخطأ والنسيان.

ثانياً: إنّ الإلهام والتسديد إلى أمثال هؤلاء يختلف في السعة والضيق أو القلّة والكثرة، ينالُ منه كلّ منهم بمقدار قابليّته واستحقاقه وعمله وغير ذلك من الأسباب، وليس بالضرورة أن يناله بشكلٍ مطلق ومستمرّ، إذاً فمن الجائز أن يُحجب الإلهام والتسديد عن الفرد حيناً أو أحياناً، بمقدار ما تقتضي الحكمة الإلهيّة ذلك.

وهناك مستويات أخرى للجواب لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

____________________

(١) سورة الأعراف: آية (٢٠ ـ٢١).

٢١٣

تفرّقُ الناس عنه

ولعلّ السؤال الأخير الذي يمكن عَرضهُ في هذا الصدد: ما قالهُ بعض الأذكياء لبعض العلماء عمّا رويَ في التاريخ، من أنّ مسلم بن عقيل تفرّق عنه أصحابه كلّهم في يومٍ واحد أو عشيّة واحدة، حتّى أصبحَ يتلدّد في أزقّة الكوفة في ظلام الليل لا يجد مَن يؤويه(١) ، مع العلم أنّ من الكوفيين مَن هم على درجة عالية من الإخلاص للحقّ المتمثّل في مسلم بن عقيل والحسينعليهما‌السلام أمثال:حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، وآخرين، بدليل أنّ هذين المذكورَين قد استشهدا مع الحسين في كربلاء، إذاً فإخلاصهم مُحرز فلماذا تفرّقوا عن مسلم في تلك الليلة وتركوه وحيداً حائراً؟

وقد أجاب ذلك العالِم: بأنّهم أعدّوا أنفسهم للشهادة بين يدي الحسينعليه‌السلام ، أقول: وهذا وحدهُ لا يكفي للإقناع؛ لأنّ حادثة الحسينعليه‌السلام كانت في ضمير المستقبل بالنسبة إليهم، ولم يكونوا يعلمون من حصولها شيئاً، فكيف نتعقّل كونهم استهدفوها بصراحة؟

ولكنّ تفصيل الجواب أن يقال: إنّ المخلِصين الكاملين كانوا قلّة لا يستطيعون وحدهم الدفاع عن مسلم بن عقيل، ولا حفظ حياته وحياتهم.

فلمّا رأوا فشل الحركة وتفرّق الجيش عنه، لم يشعروا بوجوب المحافظة على حياته شرعاً، لليقين بكونه مقتولاً لا محالة، حتّى ولو كانوا هم إلى جنبه بل سيقتلون معه أيضاً، إذاً فمسؤوليّة الدفاع عنه والحفاظ عليه ساقطة عنهم يقيناً، إذاً فخيرٌ لهم أن يحافظوا على حياتهم، وهم كوفيون يَعرفون المدينة وطبيعة سكّانها، وهو غريب جديد العهد بهذا المجتمع.

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس: ص٢٣، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٩، مقاتل الطالبيين: ص١٠٢.

٢١٤

وأمّا سببُ محافظتهم على أنفسهم، فلا ينبغي الإشكال فيه في الدنيا والآخرة.

أمّا في الدنيا فواضح؛ لصعوبة تعريض النفس للقتل، وخاصّةً إذا كان بلا موجب وبشكل غير مُنتج كما عَرفنا.

وأمّا في الآخرة (أعني في التكليف الشرعي في الدين)؛ فلأنّ بقاءهم خيرٌ من موتهم، لاحتمال أن يُفيدوا المجتمع بقليلٍ أو بكثير، وأن لا يُخلو الساحة بالمرّة لعُبيد الله بن زياد وجماعته يفعلون ما يشاءون، دون وازعٍ من دين، أو ضمير، أو رقيب، أو حسيب.

مضافاً إلى احتمال تأييدهم للحسينعليه‌السلام ؛ فإنّهم كانوا عالِمين بأنّه مُقبل عليهم وقريب الوصول إليهم، بالرغم من طول السفر وبُعد الشقّة، إذاً فلعلّهم يستطيعون رؤيته، أو معونته، أو نصرته، أو امتثال أوامره، صحيحٌ أنّهم لم يكونوا يعلمون بحادثة كربلاء كما وقعت؛ لأنّها لم تكن قد وقعت، إلاّ أنّ نصرتهم للإمام الحسينعليه‌السلام إجمالاً - ولقاءه وامتثال أوامره أيّاً كانت - هذا ممّا كان هؤلاء الخاصّة يستهدفونهُ بصراحة ووضوح، فإن بقيَ الحسين وانتصرَ بقوا معه، وإن قُتل قُتلوا معه، وعلى أيّ حال فينبغي لهم في التكليف الشرعي الذي يعرفونه، أن يحافظوا على حياتهم الآن ليطبّقوا مثل هذا التكليف في المستقبل عند لقاء الحسينعليه‌السلام .

بقيَ السؤال الذي يخطر في الذهن: وهو أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام لماذا بقيَ مُتلدِّداً في أزقّة الكوفة، وقد كان من الأفضل له أن يلتجئ إلى بيت أحد الثقاة من أصحابه، أو أن يخرج إلى البرّ ويلتحق بالأعراب فلا يعرفهُ أحد.

والجواب عن ذلك يكون على مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) رجلٌ غريب في الكوفة، لا يعرف بيوتها ولا طُرقاتها، وقد كان أصحابه يقصدونه من منازلهم وهو لا يعلم أين تقع منازلهم، ولم يكن خلال هذه المدّة التي عاشَ فيها في الكوفة متيّسراً لهُ المشي في الطُرقات والتعرّف على البيوت؛ لأنّه كان بمنزلة القائد، فلابدّ لهُ من البقاء في مركزه، وإنّما يشتغل له الأتباع فقط.

٢١٥

المستوى الثاني: إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) أدركَ لا محالة ما التفتنا إليه قبل قليل، من تفرّق خاصّته عنه، وأدركَ سبب ذلك، وهذا السبب ممّا ينبغي أن يحترمه تجاههم، مضافاً إلى إدراكه كراهتهم البقاء معه في ذلك الحين، وكان إذا أراد متابعتهم فسوف يعمل ما يكرهونه ويدخل بيوتهم عنوة عنهم، ويبقى فيها فيكون حراماً عليه.

المستوى الثالث: إنّه لا يوجد في ذلك الحين من أصحابه مَن يستطيع حمايته على الإطلاق؛ لأنّ بعضهم كان قد سُجن:كهاني بن عروة، والمختار بن عبيدة الثقفي، وآخرون، إذاً فدُورُهم مُغلقة في وجهه، وهم منكوبون قبل نكبته، وبعضهم مراقَب ومطارَد، وليس أسهل على الحكّام من أن يجدوا مسلماً في بيت أحد أصحابه، فإنّها أرجح الاحتمالات لوجوده، بخلاف ما إذا تخفّى في محلّ غير مُلفت للنظر كما فعل.

المستوى الرابع: إنّ خروجه بالبرّ لم يكن مُنجياً له؛ لأنّه لم يكن يملك فرساً، أو أيّة دابة في ذلك الحين، وإنّما كان يمشي راجلاً في الطُرقات ومتعباً بعد يومٍ حافل بالنشاط والحركة.

إذاً، فحتّى لو خرجَ إلى البرّ فسوف لن يستطيع أن يبتعد كثيراً، حتّى يطلع الصبح وسوف يَدركه أعداؤه لا محالة، بل سوف يُقبض عليه عاجلاً؛ لأنّ ابن زياد جَعلَ في المدينة وأطرافها عيوناً ساهرة تراقب الحال باستمرار، فما أسهل ما يقع مسلم بن عقيل بيد أحد هؤلاء أو جماعة منهم، إذاً فما فعلهُ (سلام الله عليه) كان أفضل الاحتمالات وهو: الالتجاء إلى محلّ غير مُلفت للنظر على الإطلاق، عسى الله أن يكتب لهُ فيه الخير.

المستوى الخامس: إنّه قد يقع السؤال عن إمكانه النجاة بالمعجزة، أو طيّ الأرض ونحو ذلك، وقد ناقشنا ذلك فيما سبق، والتفتنا إلى أنّه لم يكن في الحكمة الإلهيّة حصول المعجزات لنصرة أهل الحق، بل يبقى الأمر مطابقاً للقانون الطبيعي باستمرار، وإلاّ لم تكن أيّة حاجة إلى أيّ حربٍ خاضها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أمير المؤمنين، أو الحسينعليهم‌السلام ، أو أيّ شخصٍ آخر.

٢١٦

تألّبُ الناس ضدّه

وكما نفينا فيما سبق إمكان المبالغة في تألّب الناس ضدّ الحسينعليه‌السلام ، كذلك ننفي هنا المبالغة في تألّب الناس ضدّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)؛ وذلك أنّ مقتضى كلام الخطباء الحسينيين عنه: أنّهعليه‌السلام جَمع الناس في أحد الأيّام كجيش محارِب وزوّدهم بالأسلحة، وأمّر عليهم الأمراء والقوّاد، ونادى بشعار المسلمين يوم بدر:(يا منصور، أمِت أمت) (١) .

واجتمعت إليه الكوفة برمّتها، حتّى إذا كان المساء نفسه تفرّقوا عنه، حتّى بقيَ وحده يتلدّد في أزقّة الكوفة، فلمّا كان الصباح نفسه تألّبوا جميعاً ضدّه وقاتلوه، حتّى النساء والأطفال كانوا يرمونه من السطوح بالحجارة، ويشعلون النار في أطناب القصب ويرمونها عليه.

وهذه (خريطة) ذهنية غير معقولة، ولئن كان يمكن حصولها في مدّة طويلة، فلا يمكن حصولها في مدّة قصيرة في عشيّة واحدة، فلئن كان يمكن تفرّق الناس عنه لمدى الضغط والمكر الذي مارسه ابن زياد وأصحابه، غير أنّه لا يمكن تألّبهم ضدّه إلى هذه الدرجة، فإذا عَلمنا أنّه كان يحارب وحده حين هجموا عليه في الدار، بقصد إلقاء القبض عليه،

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٧، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٧١، ط مصر.

٢١٧

إذاً لم يكن الحاكم في حاجة إلى جيش عَرمرم ضدّه مهما كان شجاعاً ومقاتلاً بارعاً، ويكفي أن يجد ابن زياد من أصحابه عدّة مئات يكفونه المؤونة، بدون حاجة إلى أن نتصوّر إلى أنّ الكوفة كلّها قد انقلبت ضدّه في عشيّة واحدة.

وقد نظرتُ في المصادر التاريخيّة فوجدتُ أنّ الرمي من سطوح المنازل ضدّ مسلم بن عقيل، مذكورٌ فعلاً(١) ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الشعب كلّه فعل ذلك؛ وذلك:

أوّلاً: إنّه لا وجود لذكر النساء والأطفال الفاعلين لذلك.

ثانياً: إنّنا لو سلّمنا ذلك، فإنّما هم شَرذِمة من عوائل أعدائه.

ثالثاً: إنّ أصحاب بعض البيوت من أعدائه من الرجال فعلوا ذلك.

رابعاً: إنّ الجيش المعادي له الذي أرسلهُ ابن زياد للقبض عليه، وجدَ من الحيَل للسيطرة عليه أن يدخل البيوت عَنوة ويرميه البعض من السطوح بالحجارة والنار، فإذا كان ذلك محتملاً، والاحتمال مبطل للاستدلال، فلماذا نفترض ما هو مُستبعد في نفسه، وهو انقلاب الشعب كلّه ضدّه في عشيّة وضُحاها.

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب: ج٢، ص٢١٢، مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٠٩.

٢١٨

تأسيسهُ للجيش

سَمعنا قبل قليل ما نقلهُ التاريخ من تأسيسه (سلام الله عليه) - في أيّامه الأخيرة من حياته، ومن وجوده في الكوفة - جيشاً مهمّاً أمّر عليه القادة ونادى بشعار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصبحَ هو القائد العام له، ولكنّهم تفرّقوا عنه بسبب مكر أعدائه.

والمهمّ الآن أنّه قد يخطر في الذهن سؤالان:

الأوّل: إنّه لماذا أراد تأسيس الجيش مع أنّنا عرفنا فيما سبق أنّه غير مخوّل بذلك، وإنّ نصّ الرسالة التي أرسلها الإمام الحسينعليه‌السلام معه لا تساعد على ذلك؟

الثاني: إنّه لماذا لم يحتل بهذا الجيش قصر الإمارة في نفس اليوم ويقضي على عبيد الله بن زياد ويستلم الحكم، ولقد كان ذلك أفضل بكلّ تأكيد له وللحسينعليه‌السلام وللدين عموماً، من هذا التأخير الذي حَصل والذي أدّى إلى فشل تلك المهمّة؟

أمّا السؤال الأوّل، فيمكن أن يجاب عنه بعدّة مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ تأسيس هذا الجيش لمجرّد الدفاع عن الوضع الذي كان فيه مسلم بن عقيلعليه‌السلام وأصحابه - أو قل: إنّه محاولة لإرجاع الوضع المرتبك الذي استطاع ابن زياد زرعهُ ضدّه، إلى أوّل حالة من حرّية التحرّك والكلام - لم يكن فيه بأس على الإطلاق؛ لأنّه لا يستلزم إهراق أيّ دم.

المستوى الثاني: إنّ تأسيس الجيش والسيطرة على الحكم في الكوفة وإن لم يكن مذكوراً في كتاب الحسينعليه‌السلام ، غير أنّ مسلم بن عقيل ضمناً مخوّل لا محالة بأن يفعل في الكوفة كلّ ما يرى فيه المصلحة والإصلاح، فإن وجدَ في حال الكوفة ومن حال أصحابه إمكان أو وجوب تأسيس مثل هذا الجيش، لم يكن فيه بأس، حتّى لو استلزمَ الحرب وإراقة الدماء، لكنّنا سبقَ أن قلنا: إنّ مسلماً (سلام الله عليه) كان يتجنّب ذلك جهد الإمكان، لكي لا يكون مسؤولاً أمام الله سبحانه في التسبيب لضرب المجتمع بعضه بعضاً وهو جديد عهد بالإسلام، وقد فعل ذلك إلى آخر لحظات حياته.

مضافاً إلى أنّنا يحسن أن نلتفت إلى أنّه إذا كان قاصداً للسيطرة على الحكم، فالمظنون جدّاً أنّها سوف تتمّ بدون إراقة دماء على الإطلاق، أو بدماء قليلة جدّاً، لإمكان السيطرة على قصر الإمارة بسهولة وسرعة مع نجاح الجيش العقيلي وانضباطه.

٢١٩

المستوى الثالث: إنّ تأسيس هذا الجيش، ليس لكلّ ما ذكرناه، بل لاستقبال الحسينعليه‌السلام به حين يرِد الكوفة، فَيرِد على جيش منظّم ومن نقطة قوّة عالية وكافية، وهذا سبب محترم جدّاً لانتصاره وسيطرته على العراق كلّه لو شاء الله لهُ الاستمرار.

ومسلمعليه‌السلام وإن لم يصرِّح بذلك لأحدٍ، لكنّه من الأرجح جدّاً أن يكون قد احتملَ ذلك، وإذا تمّ لهُ الجيش لم يكن في الإدارة المعادية له في الكوفة أيّة أهميّة عملية وهي ضعيفة عندئذٍ، بل يمكن السيطرة عليها لحظة ورود الحسينعليه‌السلام ، أو قبل ذلك لو اقتضت المصلحة ذلك.

وأمّا الجواب على السؤال الثاني:

فلعلّ نفس إثارة السؤال يُعتبر هَذراً وسُخفاً، وإن كان طالما خطرَ في عددٍ من الأذهان، لوضوح أنّ العمل الجادّ والحقيقي يكاد أن يكون مستحيلاً في اليوم الأوّل، حين لم يكن الجيش مرتّباً ولا مضبوطاً لحد الآن، وإنّما يُعتبر اليوم الأوّل جَمعاً للأفراد وتسجيلاً لهم في هذا الجيش.

وينصّ التاريخ أنّ الكوفة بقيت خلال ذلك اليوم في حركة ولغط طيلة ذلك اليوم(١) ، وليس هناك من هدفٍ لهم إلاّ التجمّع وتطبيق الشعار الذي قاله مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، وأمّا مسلم نفسه فمعَ استمرار هذا الارتباك واللغط وكثرة الحركة، فمن المتعذّر عليه إصدار الأمر باحتلال قصر الإمارة بهذه السرعة والسهولة، ولعلّ فيه أو في خارجه مَن يحارب إلى جانبه فيصل الأمر إلى ما لا تُحمد عُقباه.

ونحن لو التفتنا إلى تفرّق الناس عن مسلمعليه‌السلام لمجرّد التهديد والخديعة،

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٠٧، مُروج الذهب للمسعودي: ج٣، ص٦٩.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250