أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين15%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116239 / تحميل: 15257
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ومن المعلوم أنّ السيطرة على الكوفة تحتاج إلى قتال، وهو ممّا لم يأذن به الحسينعليه‌السلام .

فإنّ نصّ جواب الحسينعليه‌السلام يقول:(أمّا بعد، فقد فهمتُ كلّ الذي اقتصَصتم وذَكرتم، ومقالة جُلّكم: إنّه ليس علينا إمام فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ، وأنا باعثٌ لكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرتهُ أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتبَ إليّ أنّه قد اجتمعَ رأي مَلأكم وذوي الحِجى منكم على مثل ما قدّمت به رُسلكم وتواترت به كتبكم، أقدِم إليكم وشيكاً إن شاء الله) (١) إلى آخر ما قال، وهو خالٍ من التخويل بالحرب، كما هو واضح.

الأمر الثاني: إنّ استلام حكم الكوفة من قِبل مسلم بن عقيل إن كان بدون حرب - كما يُشعر به كتاب أهلها الذي سمعناه حين يقولون عن حاكمها: (أخرجناهُ وألحقناه بالشام) هكذا بكلّ سهولة - لهانَ الأمر، بل أمكنَ القول شرعاً، بأنّه تجب السيطرة على الكوفة عندئذٍ، إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك جزماً، لعدّة أمور منها:

أوّلاً: وجود المنافين والمعاندين في الكوفة بمقدار معتدٍّ به، وهم بلا شكّ مستعدّون للوقوف ضدّ هذا الاتّجاه، سواء بالحرب لمنعه أو بالتآمر لإفشاله وإسقاطه لو تمّ، ومن هنا يصعب حصول الأمر بالنجاح التام والمستمر.

ثانياً: إنّ حاكم الكوفة يومئذٍ(النعمان بن بشير) ، وإن كان حسب ما وردَ في التاريخ: أنّه كان رجلاً متخاذلاً مشكّكاً يحبّ العافية، ويُفضّل الراحة والسلامة(١) ، ولكنّه مع ذلك ورد أنّه خَطبَ وهدّد الكوفيين بأنّ استعمالهم للسلاح ضدّه،

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص١٩٨، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤٢، مقتل الخوارزمي: ج١، ص١٩٥.

(٢) إعلام الورى للطبرسي: ص٢٢٤، الفتوح لابن أعثم: ج٥، ص٧٥.

٢٠١

يعني استعماله ضدّهم، ولن يستطيعوا أن يزيلوه بسهولة؛ وإنّما لابدّ من أن تنشب الحرب بينهم، وسيستعين في نفس الوقت بالمعاندين والمنافقين والفسقة الذين هم على استعداد لمعونته جزماً.

ونسمعهُ يقول في خطبته:(إنّي لا أقاتل مَن لم يقاتلني، ولا أثب على مَن لا يثِب عليّ..... ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم (يعني الحاكم الأموي)، فو الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبتَ قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر ولا مُعين، أمّا إنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل) (١) ، إلى آخر ما قاله، وهذا يعني عدّة أمور:

أوّلاً: مناجزتهم الحرب إذا هم حاربوا.

ثانياً: إعطاء الحريّة لهم في أن يفعلوا ما يشاءون ضمن التصرّف السلمي غير القائم على السلاح، وأعتقدُ أنّ هذا من النِعم الإلهيّة على مسلم بن عقيل وأنصاره استطاعوا فيه أن يُثبتوا وجودهم تامّاً.

ويكفينا تقييماً للحالة، لو استطعنا المقايسة بينها وبين ما أصبحَ عليه الحال عند حُكم عُبيد الله بن زياد، الذي عيّنه الحاكم الأموي بعد النعمان بن بشير.

ثالثاً: المسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه النعمان بن بشير هذا، من حيث إنّه كفّ عنهم شرّه، فاللازم أن يكفّوا عنه شرّهم، وإذا لم يحاربوه، لم يمكنهم عزلهُ والسيطرة على الحكم، وعلى أيّ حالٍ فقد استطاع النعمان بن بشير بذلك أن يبقى هو الحاكم ما دام غير معزول من قِبل سيّده الأصلي الحاكم الأموي.

الأمر الثالث: إنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام شعرَ أنّ قيام حرب واسعة في داخل المجتمع الإسلامي الجديد، الذي لم يكن قد تجاوز قَرنهُ الأوّل، سوف يكون كارثة على الإسلام كلّه،

____________________

(١) الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٦٧، الإرشاد للمفيد: ص٢٥٠، الأخبار الطوال: ص٢١١.

٢٠٢

وسيُقتل من المسلمين عامّة ومن المخلِصين خاصّة العدد الكثير، وسيفتح ثغرة وفرصة لأعداء الإسلام من الخارج والداخل للسيطرة على المجتمع سيطرة كاملة ومحكمة.

إذاً، فقد اقتنعَ مسلم بكلا الأمرين وهما:تعذّر السيطرة سلميّاً على الكوفة، والآخر: عدم المصلحة في السيطرة عليها عسكريّاً ، إذاً فلا ضرورة إلى تلك السيطرة حتّى لو كان مسموحاً له من قِبل الحسينعليه‌السلام بها ما لم يكن مأموراً بها، وهو جَزماً لم يكن كذلك.

الأمر الرابع: إنّ هناك أمراً قلّما يأخذهُ عامّة الناس بنظر الاعتبار، وهو:التناسل البشري ، يعني احتمال ولادة مؤمن من مؤمن، أو من كافر، أو منافق، غير أنّ هذا ممّا يؤخذ في الحكمة الإلهيّة جَزماً، فيكون من الحكمة المحافظة على بعض النفوس، لكي يوجد من ذراريها ولو بعد جيلٍ أو أجيال، جماعة من المؤمنين الذين يعبدون الله وينصرون دين الله بإخلاص، وإذا كانت أيّ حربٍ مانعة عن ذلك - والحرب بطبيعتها مانعة عن ذلك - إذاً فمن الضروري عدم وقوعها.

وهناك وجهٌ آخر مهم ذكرنا أُسسه في كتابنا(اليوم الموعود) ، إلاّ أنّ إيضاحه الكامل يتوقّف على ذِكر تلك الأسس فيطول المقام بنا، ومن هنا يكون الأحجى الإعراض عن ذلك مؤقّتاً.

٢٠٣

اغتيالُ ابن زياد

يقول لنا المؤرّخون ما مضمونهُ باختصار: إنّ شُريك بن عبد الله الحارثي ومسلم بن عقيل، كانا معاً نازلين في دار هانئ بن عروة المذحجي(١) ، فتمرّض شريك واشتدّ به المرض، فعلم بذلك عُبيد الله بن زياد حاكم الكوفة يومئذٍ، وكان له معهُ رفاقة، فأرسلَ إليه أنّه سيعوده في دار هانئ، وقبل مجيء ابن زياد تواطأ شريك مع مسلم على أن يغتال ابن زياد عند مجيئه، فلمّا كان من العشي أقبلَ ابن زياد وتخفّى مسلم في إحدى الغُرف كأنّه يستعدّ لاغتياله، ولكنّ هانئ اعترضهُ قائلاً:(إنّي لا أُحبّ أن يُقتل في داري) .

والمهمّ: أنّ مسلماً لم يقبل لقتل ابن زياد وخرجَ ابن زياد سالماً، فخرج مسلم من مكانه.

فقال له شريك: ما مَنعك من قتله؟ قال:خصلتان: أمّا إحداهما: فكراهة هانئ أن يُقتل في داره، وأمّا الأخرى: فحديث حدّثنيه الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان قيّد الفتك، ولا يَفتك مؤمن) (٢) .

فقال هانئ: أمَا والله، لو قتلتهُ لقتلتَ فاسقاً فاجراً كافراً غادراً، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري(٣) .

____________________

(١) هانئ بن عروة المرادي المِذحجي: لقد ذَكر المؤرّخون أنّه كان شديد التشيّع، ومن أشراف الكوفة وقرّائها، ومن خواصّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حضرَ حروبهُ الثلاث، وأدركَ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرّف بصحبته ،وكان له يوم قتله بضع وتسعون سنة، وكان شيخ مراد وزعيمها إذا ركبَ ركبَ معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع (واقعة الطف لبحر العلوم: ص٢٨٦).

(٢) الفَتك: (فَتك فلان بفلان) أي: قتلهُ على غفلة، أو انتهزَ منه فرصة فقتلهُ (أقرب الموارد: ج٢، ص٩٠١، مجمع البحرين: ج٥، ص٢٨٣ بتصرّف).

(٣) هذا ما وردَ في تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٤، وكذلك في مقاتل الطالبيين، والدمعة الساكبة: م١، ص٣٠٩ نقلاً عن البحار.

وقد ذكرَ هذه الرواية ابن الأثير في الكامل في التاريخ: ج٣، ص٢٧٠ إلاّ أنّه ذَكر أنّ مسلماً عندما سُئل عن عدم خروجه قال: (… وأمّا الأخرى، فحديث حدّثه عليّ عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الإيمان... إلخ) ، وهذا ما أوردهُ الخوارزمي أيضاً في مقتله: ج١، ص٢٠٢.

أمّا ابن نما الحلّي: فقد ذَكر في مُثير الأحزان: ص٢٠ أنّ زوجة هانئ هي التي مَنعت مسلم من قَتل عبيد الله بن زياد، ولم يَذكر الحديث.

٢٠٤

فمن هنا قد يخطر في البال: السؤال عن السبب الذي حَدا بمسلم بن عقيل على أن لا يقتل عبيد الله بن زياد، بعد أن أصبحَ كاللقمة السائغة بيده، وهو يَعلم أنّه عدوّه وعدوّ الحسينعليه‌السلام وعدوّ الله عزّ وجل، وإنّ قتلهُ مهمّ جدّاً في إمكان السيطرة على المجتمع في الكوفة، وتفريق القيادة من المنافقين الذين جَمعهم ابن زياد وتركيزها بيد أهل الحقّ.

والجواب على ذلك يكون من وجوه:

الوجه الأوّل: كراهة هانئ بن عروة أن يُقتل عبيد الله بن زياد في داره، ومسلم بن عقيل كان ضيفاً لدى هانئ، وكان ولا يزال يخدمه بالسمع والبصر ويؤدّي لمسلم أيّ مصلحة عامّة أو خاصّة، فإذا فعلَ في داره ما يكرهه حَصلت عدّة مضاعفات:

أوّلاً: الإحراج أمام هانئ نفسه أخلاقيّاً؛ فإنّ مقتضى المسؤوليّة الأخلاقيّة أن لا يفعل في داره ما لا يُحب، وخاصّة وهو بهذه الصفة العظيمة في الانتصار له.

ثانياً: تحريم تصرّفه في الدار بعد ذلك، لو كان قد فعلَ ما يكرههُ صاحبها، ممّا يضطرّه للانتقال إلى دار شخص آخر، وقد لا يجد شخصاً جامعاً للشرائط المتوفرة في هانئ، أو قل: لا يجد له مثيلاً في سكّان الكوفة.

ثالثاً: إحراج موقف هانئ من حصول هذا القتل في داره، الأمر الذي أثار في نفسه هذه الكراهة؛ فإنّه كان رئيساً لقبيلة مذحج، ولهُ اتصالات ومجاملات ومصالح في مختلف أوساط المجتمع، فإذا قُتل ابن زياد في داره كان ذلك إحراجاً لهُ أمام شريحة مهمّة في المجتمع، وهذا ما يكرهه، ولا يريد مسلم بن عقيل إثارة هذا الإحراج أمامه، وتفكير هانئ بهذا الشكل، تفكيرٌ على المستوى الدنيوي، ولكنّه قائم على أيّ حال.

وهو بطبيعة الحال، لا يَدرك ما ندركه أو نحتمله نحن الآن بعد ألف سنة وحوالي النصف من ذلك التاريخ، من وجود مصلحة عامّة في قتله، بحيث تجب عليه التضحية في سبيلها بكلّ غالٍ وعزيز، وإذا كان غافلاً عن ذلك - وهو غير معصوم على أيّ حال - فالله سبحانه يعذر الغافل.

٢٠٥

الوجه الثاني: لعدم اغتيال ابن زياد: ما ذكرهُ مسلم نفسه حسب الرواية(إنّ الإيمان قيّد الفتك، ولا يفتك مؤمن) .

إلاّ أنّ هذا بمجرّده لا يتمّ، إلاّ أن يرجع معناه إلى الوجه الآتي؛ وذلك لأنّ هذا الخبر يحتاج إلى الصحّة سَنداً ودلالة، أمّا السند، فيظهر حصول مسلم عليه مرسلاً غير موثوق؛ لأنّه عبّر عن أنّه حديث حدّثنيه الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الأمر الذي يدلّ على أن يجهل راويه، أو لا يوثّقه على أقلّ تقدير.

وأمّا من ناحية الدلالة، فهذا الأمر الذي كان عازماً عليه هو الغيلة أو الاغتيال، وليس الفتك فإنّه وإن كان قد يَرد في اللغة بهذا المعنى أيضاً، إلاّ أنّ لهُ معانٍ أخرى كالشجاعة بحيث لا يهاب أحداً، والاستقلال بالرأي عن الآخرين وغير ذلك(١) ، فلا يتعيّن أن يكون المراد من الخبر ذلك.

مضافاً إلى أنّ الاعتماد على خبرٍ من هذا القبيل، بل حتّى ولو كان صحيحاً، في دفع مصلحة عامّة في قتله، أو جلب مفسدة عامّة في حياته، كما قد حصلَ فعلاً، غير صحيح جزماً وغير مرضيّ لله عزّ وجل، ما لم يعِد الأمر إلى وجوه أخرى، أو إلى الوجه الآتي الذي سنذكره الآن.

الوجه الثالث: الأخلاقيّة في العلاقات مع الآخرين، الأصدقاء منهم والأعداء سِلماً كانت العلاقة أم حرباً أم قتلاً، ومن جملة الأسس الأخلاقيّة التي التزمَ بها المسلمون ونَصحت بها تعاليم الإسلام عدم البدء بالحرب والضرب، وإنّما يكون أهل الحقّ هم ثاني الضاربين لو صحّ التعبير، ليكون موقفهم أمام الله والناس هو الدفاع فقط، وكان ولازال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو نبيّ الرحمة، وليس من مقتضى الرحمة البدء بالهجوم، حتّى أنّ الحسينعليه‌السلام في ساحة كربلاء العسكرية التزمَ بذلك، وهذه مصلحة أخلاقيّة جليلة في الحرب والقتل والقتال،

____________________

(١) ومثله قولهم الفاتك: أي الجريء الشجاع، وقال ابن دريد: هو الذي إذا همّ بشيء فَعل (أقرب الموارد: ج٢١،ص٩٠١).

٢٠٦

ذات تأثير عام في إحسان الظنّ بالمعسكر المحقّ وجلب القلوب نحوه، وهي مصلحة عامّة تعدل الكثير من المصالح العام الأخرى التي قد ندركها ممّا تكون مصالح وقتيّة وإن كانت صحيحة، في حين أنّ هذه القاعدة الأخلاقية دائمة الصحّة جيلاً بعد جيل.

فإذا عرفنا ذلك، استطعنا تقييم وتمييز موقف ابن عقيل من ابن زياد، من حيث إنّ ابن زياد لم يكن محارباً في ذلك الحين ولا ناوياً لقتل أحد، إذاً، فهو لم يبدأ بالقتال ولم ينوِ السوء، فلا يجوز بَدؤه به أو نية السوء ضدّه؛ لأنّه خلاف القاعدة الأخلاقية المشار إليها.

الوجه الرابع: ما ذكرناه فيما سبق: من كون مسلم بن عقيلعليه‌السلام مُسدّداً مُلهماً، ولا أقلّ من احتمال ذلك، إذاً فيمكن أن يكون قد واجه نهياً عن قتل عُبيد الله بن زياد، كما يُحتمل أن يكون هذا النهي مأخوذاً عنده من الحسينعليه‌السلام ، أو من جدّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بخصوص هذه الواقعة أو ما يشملها، فيجب عليه الامتثال، وقد سبقَ أن قلنا في أمثال ذلك: إنّ مجرّد الاحتمال يكفينا؛ لأنّه إذا دخلَ الاحتمال بطل الاستدلال، يعني يفسد السؤال عن إعراضهعليه‌السلام عن اغتيال ابن زياد، وإنّ ذلك كان على خلاف المصلحة أو السياسة العامّة.

الوجه الخامس: ما أشرنا إليه أو إلى مثله، من أحد الوجوه التي قلناها في نفي سيطرة مسلم بن عقيل على الكوفة، وهو اقتضاء الحكمة الإلهيّة الإبقاء على بعض الفاسقين والكافرين، من أجل ميلاد بعض المؤمنين من ذراريهم ولو في جيلٍ متأخّر، ولو عدّة مئات من السنين أو أكثر، فليكن ابن زياد كذلك.

وهذا لا يتوقف على علم مسلم بن عقيل أو التفاته إلى ذلك، بل إمّا أن يكون ملتفتاً، وإمّا أنّ الله سبحانه صَرَفه عن قتله لهذه الجهة، والاحتمال في ذلك يكفينا لقطع الاستدلال المعاكس، كما كرّرنا في أمثاله.

الوجه السادس: ما ذكرناه أيضاً هناك من الأمر المربوط بكتابنا(اليوم الموعود) ، فإنّه أيضاً من الأمور المربوطة بتلك الأسس، فراجع.

٢٠٧

السيطرةُ على الكوفة مؤخّراً

إذ قد يخطر على البال: أنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، ما دام لم يسيطر على الكوفة في زمن النعمان بن بشير ولم يقتل عبيد الله بن زياد، فلا أقلّ من أن يحاول السيطرة على الكوفة عندما أصبح ابن زياد حاكماً عليها، إذ كان الشرّ قليلاً وغير واضح في زمن ابن بشير، في حين أصبحَ واضحاً في زمن عبيد الله بن زياد، ومن هنا كانت السيطرة على الكوفة أرجح جدّاً من ذلك الزمن السابق، فلماذا لم يفعل ذلك مسلم؟

وجوابُ ذلك: إنّه يمكن القول بورود جميع الأجوبة التي قلناها فيما سبق عن سيطرة مسلم بن عقيل في الماضي (يعني في عهد النعمان بن بشير)، كلّها تأتي عن سيطرته الآن، مع زيادات معتدّ بها كما سنذكر، ويكفينا أن نلتفت إلى أنّ زيادة الشرّ تقتضي زيادة الصعوبة في السيطرة، الأمر الذي يجرّ إلى أمورٍ غير محمودة كما سنرى، وهذه الصعوبة تتمثّل في أمور:

الأمرُ الأوّل: الزيادة في الضيق لجانب مسلم بن عقيل أعني في الحرّية العامّة، وإعطاء الجانب الأفضل والتحرّك الأشمل لأعدائه.

الأمرُ الثاني: وجود تجسّس دقيق وكامل على كلّ أقوال وأفعال ابن عقيل وأصحابه، ويمكن أن تكون العيون كثيرة، غير أنّ التاريخ ينصّ على واحدٍ بعينه يسمّى(معقل) ، استطاع الوصول بدهاء إلى الدار التي يرتادها مسلم وأصحابه، فكان أوّل داخل وآخر خارج بعنوان كونه مؤيِّداً لهم، وينقل كلّ ما سمعه ورآه إلى عبيد الله بن زياد.

٢٠٨

الأمرُ الثالث: السرّية والتكتّم التي تعمّدها جانب مسلم بن عقيل وأصحابه، بغضّ النظر عن التجسّس المشار إليه، ومع التكتّم المتعمّد يصعب جدّاً وضع برنامج واضح وواسع لأجل السيطرة على المجتمع، كما يتوقّع السائل أن يكون.

الأمرُ الرابع: إمكان التشكيك في العدّة والعدد اللذَين يمكن لابن عقيل أن يجمعهما في ذلك المجتمع؛ فإنّ أفراد الناس هناك لم يكونوا معتادين على الحرب ومصاعبها وويلاتها، وإنّما استطاع عبيد الله بن زياد أن يجمع منهم جيشاً ضخماً بعد التفكير بعدّة خطط ماكرة، اكتسبها بصفته مُمثّلاً للدولة الحاكمة لا أكثر، وهذا ما لا يستطيع طبعاً مسلم بن عقيل توفيره للناس بصفته معارِضاً للدولة، فيكون احتمال حصوله على الجيش الكافي في العدّة والعدد احتمالاً غير قوي، وحسبُنا أن ننظر إلى أهمّ الأفكار التي حاولَ عبيد الله بن زياد بثّها في المجتمع صدقاً أو كذباً ليستقطب الناس إلى جانبه:

أوّلاً: التهديد العسكري، حيث زعمَ لهم أنّ هناك جيشاً مُقبلاً عليهم من الشام ضخم جدّاً، يريد استئصالهم إن هم عصوا الدولة.

ثانياً: التهديد الشخصي بالسجن والضرب، بل والقتل أيضاً.

ثالثاً: التهديد الاقتصادي بالمقاطعة مع كلّ معارِض.

رابعاً: الطمع، بإضافة مبلغ من المال إلى راتب كلّ واحد يكون إلى جانبه، ويخرج في حرب الحسينعليه‌السلام ،

٢٠٩

ويُنقل ذلك تاريخيّاً على شكلين: أشهرهما:إضافة عشرة دنانير ذهبية إلى أيّ فرد ، والآخر:مضاعفة الراتب الذي يصله .

خامساً: الإحراج الاجتماعي عن طريق العلاقات والصداقات المبثوثة في تلك المدينة المنكوبة.

وكلّ هذه الأمور قائمة ضدّ مسلم بن عقيل، ومن المتعذّر أن يكون مثلها إلى جانبه، سوى التضحية في الرضوخ للحقّ لا أكثر، وهو ممّا يقلّ العاملون به في أيّ مجتمع، وخاصّة تحت ظروف من ذلك القبيل.

وقد بادرَ عبيد الله بن زياد إلى تغيير كفّة المجتمع إلى جانبه بمجرّد وروده، وألقى في الناس خطبة تتكفّل بيان تلك التهديدات والأطماع، مع بثّ شرطته وأنصاره بين الناس، لأجل الطمع والتخويف والإحراج، ممّا أنتجَ ما ينقلهُ بعض الخطباء الحسينيّين من أنّ الأم أصبحت تأتي إلى ابنها، والزوجة إلى زوجها، والبنت إلى أبيها، والأخ إلى أخيه، فيحذرّونهم مغبّة مناصرة مسلم ويقال لهم:

(مالَكَ والدخول بين السلاطين) ، ويأخذون بيده ويُرجعونهُ إلى بيته، ومهما يكن في هذا النقل التاريخي من المبالغة إن أخذناه على سعته، كما سبقَ أن قلنا: إنّ الكوفة والمجتمع الكوفي لا يمكن أن ينقلب تماماً من الولاء إلى العداء بين عشيّة وضحاها، وقد أقمنا على ذلك ما يكفي من القرائن والدلائل، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون قد حدثَ مثل هذا التخذيل فعلاً على نطاق ضيّق قلّ أو كثُر؛ فإنّه على أيّ حال مُضر بجانب مسلم بن عقيل، ويُضاعف عليه الصعوبة والبلاء.

٢١٠

مَعقل

يقول المؤرّخون: إنّ مَعقلاً حين أراد التجسّس لابن زياد، أقبلَ إلى المسجد، فرأى مسلم بن عوسجة يُصلّي فيه فسألَ عنه؟ فقيل له: هذا يبايع للحسين بن علي، فجاءه وجلس إلى جانبه، حتّى إذا فرغَ من صلاته سلّم عليه وأظهرَ لهُ أنّه رجل من أهل الشام، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميري، وممّن أنعمَ الله عليه بحبّ أهل البيت وحُبّ مَن أحبّهم وتباكى له، وقال له: إنّ عنده ثلاثة آلاف درهم يريد بها لقاء رجل من أهل البيت، بَلَغه أنّه قدمَ إلى الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقبلَ منهُ مسلم بن عوسجة وأخذ منه البيعة على يده فوراً.

ثمّ أخذهُ إلى مسلم بن عقيل، فأخذَ عليه البيعة والمواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ، فأعطاهُ(مَعقل) من ذلك ما رضي به، ثمّ أمرَ مسلم أبا ثمامة الصائدي(١) بقبض المال منه، وكان قد عيّنه مسلم لقبض الأموال من الناس وتجهيزهم بما يحتاجونه من السلاح والعتاد، وظلّ معقل يختلف إلى دار هانئ كلّ صباحٍ ومساء، فهو أوّل داخل وآخر خارج، فينطلق بجميع الأخبار والأسرار، فيقرؤها في أُذن ابن زياد(٢) ، ممّا أدى في النتيجة إلى فشل مهمّة هذه الجماعة المحقّة وتفرّقها عن مسلم بن عقيل.

فهنا قد يرد السؤال عن السبب في انخداع مسلم بن عوسجة ومسلم بن عقيل وأصحابهما، بهذا الرجل المعيّن ضدّهم،

____________________

(١) أبو تمّام الصادئدي: هو عمرو بن عبد الله بن كعب الصائدي، من شهداء الطف، كان من فرسان العرب ووجوه الشيعة، وكان بصيراً بالأسلحة، ولهذا لما جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قامَ معه وصار يقبض الأموال، ويشتري بها الأسلحة بأمر مسلم بن عقيل.

وفي كتاب (نَفَس المهموم) أنّ أبا تمّام قال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله، نفسي لك الفدى، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تُقتل حتّى أُقتل إنشاء الله، وأحبُ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنى وقتها، قال: فرفعَ الحسين رأسه ثمّ قال: (ذكرتَ الصلاة جَعلكَ الله من المصلّين الذاكرين، نعم، هذا أوّل وقتها) (الكُنى والألقاب: ج١، ص٣٣).

(٢) الإرشاد للمفيد: ص٢٠، مُثير الأحزان لابن نما: ص٢١، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٤٢.

٢١١

ولئن كان مسلم بن عوسجة رجلاً اعتيادياً، مهما كان عالي الإيمان، فإنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، قد أثبتنا له أنّه مؤيّد ومُسدّد بالإلهام، فكيف لم يلتفت إلى ذلك؟!

وجواب ذلك يكون على عدّة مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ هذا موجود في قضاء الله وقدره، وكلّما كان ذلك، فلابدّ من حدوثه، ومطابق للحكمة الإلهيّة، سواء عَلمنا بسببه أو جهلنا.

المستوى الثاني: مستوى مَن نعلم أو نحتمل عدم تسديده وتأييده بالإلهام المباشر - لو صحّ التعبير - وهم أصحاب مسلم بن عقيل سواه، فمن الواضح أنّ العادة في تلك الأجيال، وهي عادة استمرّت مئات وآلاف السنين، حتّى لم تكن كتابة وأوراق تدلّ على الشخصيّة، كما في الدول الحاليّة، فكان الناس يسألون الفرد عن اسمه وانتسابه، ويُصدّقون منه ذلك على السجيّة والعادة المتّبعة، وواضحٌ أنّه لو كذَبَ أيّ شخص في اسمه أو نَسبه، فسوف يقع في أنواع من المصاعب اجتماعياً واقتصادياً، أو يُحتمل وقوعه في ذلك على بعض التقادير، فكان الناس يُصَدَّقون في أقوالهم تلك، وكانوا يُصدِّقون أقوال الآخرين في ذلك، وليس أصحاب مسلم بن عقيل سلام الله عليه وعليهم إلاّ جماعة من ذلك المجتمع المعتاد على ذلك.

فإذا انضمّ إلى ذلك حُسن الظاهر والملاينة والمسايسة، فقط أصبحَ الفرد ناجحاً في الامتحان أو الاختبار الاجتماعي، وانتهى الأمر.

المستوى الثالث: مستوى النظر إلى المواثيق المغلّظة التي أخذها مسلم بن عقيل وأصحابه على(معقل) ، وقد أعطاهم من نفسه ما يريدون، ولم يكونوا يتصوّرون أنّ شخصاً ما من المسلمين يمكن أن يحيف بالعهد، أو يحيف باليمين،

٢١٢

وإنّما قيام العلاقات بين الأفراد والمجتمعات كانت ولا زالت على شرف الالتزام بالعهود، وإلاّ كان الفرد ساقطاً بالمرّة أمام الله والناس، ولم يكن يخطر على البال أنّ هذا الإنسان من الساقطين وبهذه الدرجة.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى ما وردَ في تفسير قوله تعالى عن قول إبليس:

( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (١) ، من أنّ آدم وزوجته لم يتصوّرا شخصاً يُقسم بالله كذباً، يعني أنهّما حين سمعا إبليس يُقسم بالله سبحانه صدّقاه وأكلا من الشجرة.

أقول: فكذلك الحال في مسلم وأصحابه من حيث إنّ العهد مُلزم في الدنيا، واليمين مُلزم في الآخرة، فماذا بقيَ ممّا يكون أن يفعلوه أمامه؟

المستوى الرابع: إنّ مُسلماً وأضرابه من خاصّة أصحاب المعصومينعليهم‌السلام ، وإن قلنا بأنّهم مؤيّدون ومسدّدون بالإلهام، إلاّ أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يؤخذ على أوسع نطاق:

أوّلاً: لأنّهم ليسوا معصومين بالعصمة الواجبة، كما يُعبّر عنها في (علم الكلام)، والمعصوم بالعصمة الواجبة يكون معصوماً من الخطأ والنسيان، مضافاً إلى عصمته من الذنوب والمحرّمات، بخلاف المعصوم بالعصمة غير الواجبة، فإنّه يكون معصوماً من الذنوب لا من الخطأ والنسيان.

ثانياً: إنّ الإلهام والتسديد إلى أمثال هؤلاء يختلف في السعة والضيق أو القلّة والكثرة، ينالُ منه كلّ منهم بمقدار قابليّته واستحقاقه وعمله وغير ذلك من الأسباب، وليس بالضرورة أن يناله بشكلٍ مطلق ومستمرّ، إذاً فمن الجائز أن يُحجب الإلهام والتسديد عن الفرد حيناً أو أحياناً، بمقدار ما تقتضي الحكمة الإلهيّة ذلك.

وهناك مستويات أخرى للجواب لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

____________________

(١) سورة الأعراف: آية (٢٠ ـ٢١).

٢١٣

تفرّقُ الناس عنه

ولعلّ السؤال الأخير الذي يمكن عَرضهُ في هذا الصدد: ما قالهُ بعض الأذكياء لبعض العلماء عمّا رويَ في التاريخ، من أنّ مسلم بن عقيل تفرّق عنه أصحابه كلّهم في يومٍ واحد أو عشيّة واحدة، حتّى أصبحَ يتلدّد في أزقّة الكوفة في ظلام الليل لا يجد مَن يؤويه(١) ، مع العلم أنّ من الكوفيين مَن هم على درجة عالية من الإخلاص للحقّ المتمثّل في مسلم بن عقيل والحسينعليهما‌السلام أمثال:حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، وآخرين، بدليل أنّ هذين المذكورَين قد استشهدا مع الحسين في كربلاء، إذاً فإخلاصهم مُحرز فلماذا تفرّقوا عن مسلم في تلك الليلة وتركوه وحيداً حائراً؟

وقد أجاب ذلك العالِم: بأنّهم أعدّوا أنفسهم للشهادة بين يدي الحسينعليه‌السلام ، أقول: وهذا وحدهُ لا يكفي للإقناع؛ لأنّ حادثة الحسينعليه‌السلام كانت في ضمير المستقبل بالنسبة إليهم، ولم يكونوا يعلمون من حصولها شيئاً، فكيف نتعقّل كونهم استهدفوها بصراحة؟

ولكنّ تفصيل الجواب أن يقال: إنّ المخلِصين الكاملين كانوا قلّة لا يستطيعون وحدهم الدفاع عن مسلم بن عقيل، ولا حفظ حياته وحياتهم.

فلمّا رأوا فشل الحركة وتفرّق الجيش عنه، لم يشعروا بوجوب المحافظة على حياته شرعاً، لليقين بكونه مقتولاً لا محالة، حتّى ولو كانوا هم إلى جنبه بل سيقتلون معه أيضاً، إذاً فمسؤوليّة الدفاع عنه والحفاظ عليه ساقطة عنهم يقيناً، إذاً فخيرٌ لهم أن يحافظوا على حياتهم، وهم كوفيون يَعرفون المدينة وطبيعة سكّانها، وهو غريب جديد العهد بهذا المجتمع.

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس: ص٢٣، تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٩، مقاتل الطالبيين: ص١٠٢.

٢١٤

وأمّا سببُ محافظتهم على أنفسهم، فلا ينبغي الإشكال فيه في الدنيا والآخرة.

أمّا في الدنيا فواضح؛ لصعوبة تعريض النفس للقتل، وخاصّةً إذا كان بلا موجب وبشكل غير مُنتج كما عَرفنا.

وأمّا في الآخرة (أعني في التكليف الشرعي في الدين)؛ فلأنّ بقاءهم خيرٌ من موتهم، لاحتمال أن يُفيدوا المجتمع بقليلٍ أو بكثير، وأن لا يُخلو الساحة بالمرّة لعُبيد الله بن زياد وجماعته يفعلون ما يشاءون، دون وازعٍ من دين، أو ضمير، أو رقيب، أو حسيب.

مضافاً إلى احتمال تأييدهم للحسينعليه‌السلام ؛ فإنّهم كانوا عالِمين بأنّه مُقبل عليهم وقريب الوصول إليهم، بالرغم من طول السفر وبُعد الشقّة، إذاً فلعلّهم يستطيعون رؤيته، أو معونته، أو نصرته، أو امتثال أوامره، صحيحٌ أنّهم لم يكونوا يعلمون بحادثة كربلاء كما وقعت؛ لأنّها لم تكن قد وقعت، إلاّ أنّ نصرتهم للإمام الحسينعليه‌السلام إجمالاً - ولقاءه وامتثال أوامره أيّاً كانت - هذا ممّا كان هؤلاء الخاصّة يستهدفونهُ بصراحة ووضوح، فإن بقيَ الحسين وانتصرَ بقوا معه، وإن قُتل قُتلوا معه، وعلى أيّ حال فينبغي لهم في التكليف الشرعي الذي يعرفونه، أن يحافظوا على حياتهم الآن ليطبّقوا مثل هذا التكليف في المستقبل عند لقاء الحسينعليه‌السلام .

بقيَ السؤال الذي يخطر في الذهن: وهو أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام لماذا بقيَ مُتلدِّداً في أزقّة الكوفة، وقد كان من الأفضل له أن يلتجئ إلى بيت أحد الثقاة من أصحابه، أو أن يخرج إلى البرّ ويلتحق بالأعراب فلا يعرفهُ أحد.

والجواب عن ذلك يكون على مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) رجلٌ غريب في الكوفة، لا يعرف بيوتها ولا طُرقاتها، وقد كان أصحابه يقصدونه من منازلهم وهو لا يعلم أين تقع منازلهم، ولم يكن خلال هذه المدّة التي عاشَ فيها في الكوفة متيّسراً لهُ المشي في الطُرقات والتعرّف على البيوت؛ لأنّه كان بمنزلة القائد، فلابدّ لهُ من البقاء في مركزه، وإنّما يشتغل له الأتباع فقط.

٢١٥

المستوى الثاني: إنّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) أدركَ لا محالة ما التفتنا إليه قبل قليل، من تفرّق خاصّته عنه، وأدركَ سبب ذلك، وهذا السبب ممّا ينبغي أن يحترمه تجاههم، مضافاً إلى إدراكه كراهتهم البقاء معه في ذلك الحين، وكان إذا أراد متابعتهم فسوف يعمل ما يكرهونه ويدخل بيوتهم عنوة عنهم، ويبقى فيها فيكون حراماً عليه.

المستوى الثالث: إنّه لا يوجد في ذلك الحين من أصحابه مَن يستطيع حمايته على الإطلاق؛ لأنّ بعضهم كان قد سُجن:كهاني بن عروة، والمختار بن عبيدة الثقفي، وآخرون، إذاً فدُورُهم مُغلقة في وجهه، وهم منكوبون قبل نكبته، وبعضهم مراقَب ومطارَد، وليس أسهل على الحكّام من أن يجدوا مسلماً في بيت أحد أصحابه، فإنّها أرجح الاحتمالات لوجوده، بخلاف ما إذا تخفّى في محلّ غير مُلفت للنظر كما فعل.

المستوى الرابع: إنّ خروجه بالبرّ لم يكن مُنجياً له؛ لأنّه لم يكن يملك فرساً، أو أيّة دابة في ذلك الحين، وإنّما كان يمشي راجلاً في الطُرقات ومتعباً بعد يومٍ حافل بالنشاط والحركة.

إذاً، فحتّى لو خرجَ إلى البرّ فسوف لن يستطيع أن يبتعد كثيراً، حتّى يطلع الصبح وسوف يَدركه أعداؤه لا محالة، بل سوف يُقبض عليه عاجلاً؛ لأنّ ابن زياد جَعلَ في المدينة وأطرافها عيوناً ساهرة تراقب الحال باستمرار، فما أسهل ما يقع مسلم بن عقيل بيد أحد هؤلاء أو جماعة منهم، إذاً فما فعلهُ (سلام الله عليه) كان أفضل الاحتمالات وهو: الالتجاء إلى محلّ غير مُلفت للنظر على الإطلاق، عسى الله أن يكتب لهُ فيه الخير.

المستوى الخامس: إنّه قد يقع السؤال عن إمكانه النجاة بالمعجزة، أو طيّ الأرض ونحو ذلك، وقد ناقشنا ذلك فيما سبق، والتفتنا إلى أنّه لم يكن في الحكمة الإلهيّة حصول المعجزات لنصرة أهل الحق، بل يبقى الأمر مطابقاً للقانون الطبيعي باستمرار، وإلاّ لم تكن أيّة حاجة إلى أيّ حربٍ خاضها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أمير المؤمنين، أو الحسينعليهم‌السلام ، أو أيّ شخصٍ آخر.

٢١٦

تألّبُ الناس ضدّه

وكما نفينا فيما سبق إمكان المبالغة في تألّب الناس ضدّ الحسينعليه‌السلام ، كذلك ننفي هنا المبالغة في تألّب الناس ضدّ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)؛ وذلك أنّ مقتضى كلام الخطباء الحسينيين عنه: أنّهعليه‌السلام جَمع الناس في أحد الأيّام كجيش محارِب وزوّدهم بالأسلحة، وأمّر عليهم الأمراء والقوّاد، ونادى بشعار المسلمين يوم بدر:(يا منصور، أمِت أمت) (١) .

واجتمعت إليه الكوفة برمّتها، حتّى إذا كان المساء نفسه تفرّقوا عنه، حتّى بقيَ وحده يتلدّد في أزقّة الكوفة، فلمّا كان الصباح نفسه تألّبوا جميعاً ضدّه وقاتلوه، حتّى النساء والأطفال كانوا يرمونه من السطوح بالحجارة، ويشعلون النار في أطناب القصب ويرمونها عليه.

وهذه (خريطة) ذهنية غير معقولة، ولئن كان يمكن حصولها في مدّة طويلة، فلا يمكن حصولها في مدّة قصيرة في عشيّة واحدة، فلئن كان يمكن تفرّق الناس عنه لمدى الضغط والمكر الذي مارسه ابن زياد وأصحابه، غير أنّه لا يمكن تألّبهم ضدّه إلى هذه الدرجة، فإذا عَلمنا أنّه كان يحارب وحده حين هجموا عليه في الدار، بقصد إلقاء القبض عليه،

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٠٧، الكامل لابن الأثير: ج٣، ص٢٧١، ط مصر.

٢١٧

إذاً لم يكن الحاكم في حاجة إلى جيش عَرمرم ضدّه مهما كان شجاعاً ومقاتلاً بارعاً، ويكفي أن يجد ابن زياد من أصحابه عدّة مئات يكفونه المؤونة، بدون حاجة إلى أن نتصوّر إلى أنّ الكوفة كلّها قد انقلبت ضدّه في عشيّة واحدة.

وقد نظرتُ في المصادر التاريخيّة فوجدتُ أنّ الرمي من سطوح المنازل ضدّ مسلم بن عقيل، مذكورٌ فعلاً(١) ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الشعب كلّه فعل ذلك؛ وذلك:

أوّلاً: إنّه لا وجود لذكر النساء والأطفال الفاعلين لذلك.

ثانياً: إنّنا لو سلّمنا ذلك، فإنّما هم شَرذِمة من عوائل أعدائه.

ثالثاً: إنّ أصحاب بعض البيوت من أعدائه من الرجال فعلوا ذلك.

رابعاً: إنّ الجيش المعادي له الذي أرسلهُ ابن زياد للقبض عليه، وجدَ من الحيَل للسيطرة عليه أن يدخل البيوت عَنوة ويرميه البعض من السطوح بالحجارة والنار، فإذا كان ذلك محتملاً، والاحتمال مبطل للاستدلال، فلماذا نفترض ما هو مُستبعد في نفسه، وهو انقلاب الشعب كلّه ضدّه في عشيّة وضُحاها.

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب: ج٢، ص٢١٢، مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٠٩.

٢١٨

تأسيسهُ للجيش

سَمعنا قبل قليل ما نقلهُ التاريخ من تأسيسه (سلام الله عليه) - في أيّامه الأخيرة من حياته، ومن وجوده في الكوفة - جيشاً مهمّاً أمّر عليه القادة ونادى بشعار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصبحَ هو القائد العام له، ولكنّهم تفرّقوا عنه بسبب مكر أعدائه.

والمهمّ الآن أنّه قد يخطر في الذهن سؤالان:

الأوّل: إنّه لماذا أراد تأسيس الجيش مع أنّنا عرفنا فيما سبق أنّه غير مخوّل بذلك، وإنّ نصّ الرسالة التي أرسلها الإمام الحسينعليه‌السلام معه لا تساعد على ذلك؟

الثاني: إنّه لماذا لم يحتل بهذا الجيش قصر الإمارة في نفس اليوم ويقضي على عبيد الله بن زياد ويستلم الحكم، ولقد كان ذلك أفضل بكلّ تأكيد له وللحسينعليه‌السلام وللدين عموماً، من هذا التأخير الذي حَصل والذي أدّى إلى فشل تلك المهمّة؟

أمّا السؤال الأوّل، فيمكن أن يجاب عنه بعدّة مستويات:

المستوى الأوّل: إنّ تأسيس هذا الجيش لمجرّد الدفاع عن الوضع الذي كان فيه مسلم بن عقيلعليه‌السلام وأصحابه - أو قل: إنّه محاولة لإرجاع الوضع المرتبك الذي استطاع ابن زياد زرعهُ ضدّه، إلى أوّل حالة من حرّية التحرّك والكلام - لم يكن فيه بأس على الإطلاق؛ لأنّه لا يستلزم إهراق أيّ دم.

المستوى الثاني: إنّ تأسيس الجيش والسيطرة على الحكم في الكوفة وإن لم يكن مذكوراً في كتاب الحسينعليه‌السلام ، غير أنّ مسلم بن عقيل ضمناً مخوّل لا محالة بأن يفعل في الكوفة كلّ ما يرى فيه المصلحة والإصلاح، فإن وجدَ في حال الكوفة ومن حال أصحابه إمكان أو وجوب تأسيس مثل هذا الجيش، لم يكن فيه بأس، حتّى لو استلزمَ الحرب وإراقة الدماء، لكنّنا سبقَ أن قلنا: إنّ مسلماً (سلام الله عليه) كان يتجنّب ذلك جهد الإمكان، لكي لا يكون مسؤولاً أمام الله سبحانه في التسبيب لضرب المجتمع بعضه بعضاً وهو جديد عهد بالإسلام، وقد فعل ذلك إلى آخر لحظات حياته.

مضافاً إلى أنّنا يحسن أن نلتفت إلى أنّه إذا كان قاصداً للسيطرة على الحكم، فالمظنون جدّاً أنّها سوف تتمّ بدون إراقة دماء على الإطلاق، أو بدماء قليلة جدّاً، لإمكان السيطرة على قصر الإمارة بسهولة وسرعة مع نجاح الجيش العقيلي وانضباطه.

٢١٩

المستوى الثالث: إنّ تأسيس هذا الجيش، ليس لكلّ ما ذكرناه، بل لاستقبال الحسينعليه‌السلام به حين يرِد الكوفة، فَيرِد على جيش منظّم ومن نقطة قوّة عالية وكافية، وهذا سبب محترم جدّاً لانتصاره وسيطرته على العراق كلّه لو شاء الله لهُ الاستمرار.

ومسلمعليه‌السلام وإن لم يصرِّح بذلك لأحدٍ، لكنّه من الأرجح جدّاً أن يكون قد احتملَ ذلك، وإذا تمّ لهُ الجيش لم يكن في الإدارة المعادية له في الكوفة أيّة أهميّة عملية وهي ضعيفة عندئذٍ، بل يمكن السيطرة عليها لحظة ورود الحسينعليه‌السلام ، أو قبل ذلك لو اقتضت المصلحة ذلك.

وأمّا الجواب على السؤال الثاني:

فلعلّ نفس إثارة السؤال يُعتبر هَذراً وسُخفاً، وإن كان طالما خطرَ في عددٍ من الأذهان، لوضوح أنّ العمل الجادّ والحقيقي يكاد أن يكون مستحيلاً في اليوم الأوّل، حين لم يكن الجيش مرتّباً ولا مضبوطاً لحد الآن، وإنّما يُعتبر اليوم الأوّل جَمعاً للأفراد وتسجيلاً لهم في هذا الجيش.

وينصّ التاريخ أنّ الكوفة بقيت خلال ذلك اليوم في حركة ولغط طيلة ذلك اليوم(١) ، وليس هناك من هدفٍ لهم إلاّ التجمّع وتطبيق الشعار الذي قاله مسلم بن عقيل (سلام الله عليه)، وأمّا مسلم نفسه فمعَ استمرار هذا الارتباك واللغط وكثرة الحركة، فمن المتعذّر عليه إصدار الأمر باحتلال قصر الإمارة بهذه السرعة والسهولة، ولعلّ فيه أو في خارجه مَن يحارب إلى جانبه فيصل الأمر إلى ما لا تُحمد عُقباه.

ونحن لو التفتنا إلى تفرّق الناس عن مسلمعليه‌السلام لمجرّد التهديد والخديعة،

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: ج١، ص٢٠٧، مُروج الذهب للمسعودي: ج٣، ص٦٩.

٢٢٠

فكيف لا يكون تفرّقهم عنه إذا دخلوا تحت ضغط الحرب الحقيقية، وهذا أمرٌ لا يفوت إدراكه لمسلمعليه‌السلام وقد عاشرهم هذا الردح من الزمن.

إذاً فتأسيسه للجيش ليس للحرب الفعلية؛ وإنّما للدفاع الفعلي، أو قل للاطمئنان الفعلي ودَفع مكر الأعداء عنه أوّلاً، وانتظار دخول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة ثانياً، ثمّ يكون هو المتكفّل بما يفعل ويأمر بعد أن ساعدهُ مسلمعليه‌السلام بتأليب القلوب والنفوس إلى جانبه، غير أنّ كلّ ذلك أو غير ذلك، ممّا لا يَذعن له أعداؤه بطبيعة الحال، ومن هنا تسبّب ابن زياد إلى إفشال هذه المهمّة على كلّ حال.

٢٢١

أسئلةٌ حول واقعة الطف

بعد أن انتهينا من المهمّ من موارد ومقدّمات واقعة الطف - لو صحّ التعبير - فلنا الآن أن نلتفت إلى الواقعة نفسها؛ لنسمع ما قد يُثار حولها من استفهامات يمكننا أن نعرضها في الجهات التالية:

الجهة الأولى: إنّه وردَ في التاريخ أنّ الحسينعليه‌السلام جَمع أصحابه ليلة اليوم العاشر من المحرّم، وأذِنَ لهم بالانفصال عنه والتفرّق في البلدان لكي ينجوا من القتل، وقال فيما قال:(ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً، فانطلقوا في حِلٍّ ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام، وهذا الليل قد غَشيكم فاتّخذوهُ جَمَلاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذَروني وهؤلاء القوم؛ فإنّهم لا يريدون غيري، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري) (١) ، فرفضوا ولم يتفرّقوا، فهنا قد تَرد عدّة أسئلة:

إحداها: لماذا أذِن لهم بالتفرّق عنه مع حاجته إليهم في الدفاع عنه؟

ثانيها: لماذا لم يتفرّقوا عنه، وماذا كان هدفهم في ذلك؟

ثالثها: إنّهم كان يجب عليهم أن يهربوا؛ لأنّ التعرّض للقتل حرام، فلماذا لم يفعلوا؟

أمّا عن السؤال الأوّل: فأوّل خطوة ينبغي اتخاذها بهذا الصدد هو: نفي ما زَعمه السائل من أنّ الحسينعليه‌السلام كان محتاجاً إلى أصحابه في الدفاع عنه، بل لم يكن من حاجة إلى ذلك أصلاً؛ لأنّه يعلم أنّه مقتول لا محالة، ولم يكن في وضعٍ يؤهّله للنجاة طبيعياً بكلّ صورة، ولم يكن كلّ أصحابه بالعدد الكافي للدفاع عنه، وإنّما يدور الأمر بين مقتله وحده أو قتله مع أصحابه، أمّا التسبيب إلى نجاته فهو غير محتمل إطلاقاً.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٦، ص٢٣٨، الكامل لابن الأثير: ج٤، ص٢٤، الخوارزمي: ج١، ص٢٤٦.

٢٢٢

وقد كان ذلك غير محتمل في زمنٍ سابق حال وجوده في الحجاز، أو حين بَلَغه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهو في الطريق، أو حين جعجعَ به الحرّ الرياحي، ففي مثل وقته هذا وقد تجهّز عليه الجيش كلّه، يكون العلم بالنتيجة أولى وروداً وأوضح ثبوتاً، هذا مضافاً إلى ما حصلَ فعلاً تاريخيّاً: وهو أنّ أصحابه صَمدوا معه وحاربوا إلى جنبه، ومع ذلك لم يدفعوا عنه القتل وهذا كان معلوماً سَلفاً، وقد ثبتَ بالتجربة صدقه.

فإذا انتفت حاجتهُ إليهم عمليّاً لم يكن هناك إشكال شرعي في الإذن لهم بالتفرّق، و لا يجب عليه الاحتفاظ بهم؛ لأنّهم سوف لن يسعفوه بشيء.

بل الأمر قد يكون بالعكس: وهو أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد يحسّ بتكليفه الشرعي بلزوم أمرهم بالانصراف، إنقاذاً لهم من الموت الذي يمكن أن يكونوا في غنىً عنه، مضافاً إلى جهة أخرى وهي: الحفاظ على النفوس، يعني الحفاظ على جماعة من المؤمنين الذين يصلحون للدعوة إلى قضية الحسينعليه‌السلام وهداية الناس، وقد قامعليه‌السلام بهذه المهمّة، ومن هنا قد يتخيّل الفرد أنّه يجب عليهم أن يتفرّقوا لأجل إحراز هذه النتائج، وسيأتي الكلام عنه.

إلاّ أنّ الحقيقة أنّ المقصد الرئيسي - حسب ما نفهم - لم يكن هو ذلك، بل كان لأجل اختبار هِممهم في نصره وفي السير في سبيل الشهادة، وتحصيل طاعة الله ورضاه سبحانه من هذه الناحية، ومن هنا يمكن أن يقعوا تحت طائلة نفسية قوية في التضاد، أو في الشعور المتضاد في ضرورة البقاء وضرورة الذهاب، إلاّ أنّهم مع ذلك لم يفكّروا طرفة عينٍ في الذهاب،

٢٢٣

بل أدركوا بكلّ وضوح ضرورة البقاء مع الحسين ونيل الشهادة بين يديه، جزاهم الله خير جزاء المحسنين، وبذلك صاروا أفضل الشهداء على الإطلاق(١) .

فهذا هو مختصر الكلام في الجواب عن السؤال الأوّل.

____________________

(١) ويمكن الاستدلال على أنّ أصحاب الحسينعليه‌السلام هم أفضل الشهداء؛ وذلك على مستويين:

الأوّل: وهو قول الإمام الحسينعليه‌السلام عندما خطبَ بأصحابه، ومَن معهُ من آل هاشم ليلة العاشر من المحرّم حيث قال:(أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً إلخ) ، نقلهُ ابن طاووس في اللهوف، والفتّال في روضة الواعظين، والطبري في تاريخه، وابن الأثير في الكامل، والخوارزمي في مقتله، والمفيد في الإرشاد، وابن شهرآشوب في المناقب، وغيرهم كثير).

وبهذا يكون قد صرّح الإمام عليه‌السلام أنّ أصحابه أفضل الأصحاب فقوله: ( لا أعلم ) ينفي فيها عن وجود أصحاب أفضل من أصحابه قد وجِدوا قبل زمانه، سواء كان قبل الإسلام أو بعد الإسلام، ممّن صاحبَ جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أباه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو أخاه الحسن عليه‌السلام ، بل يتعدّى الأمر إلى ما بعد زمانه باعتبار أنّ الأئمّة عليهم‌السلام - ومن ضمنهم الإمام الحسين عليه‌السلام - يعلمون من جدّهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يحدث بعدهم إلى يوم القيامة.

الثاني: إنّا لو أخذنا أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبالخصوص البدريّون - باعتبار أنّه الصحابة الأوائل، أو أفضل الصحابة بشهادة جميع المذاهب الإسلاميّة وفيهم يُضرب المثل، وجَعلِهم القدوة لمن أراد الجهاد في سبيل الله، فترى الإمامعليه‌السلام يخاطب أبا الفضلعليه‌السلام عند زيارته:(وأشهدُ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريّون) - وقارنّا بينهم وبين أصحاب الحسينعليه‌السلام ، لوجَدنا فروقاً كثيرة بين الفريقين وبالأخص ممّن قُتل بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر، وبين يدي الحسينعليه‌السلام في كربلاء، فمن هذه الفروق وبما يَسمح به المقام:

١- إنّ أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله البدريين حينما خَرجوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بدرٍ، كان عنوان خروجهم الغنيمة، وذلك بالاستيلاء على قوافل قريش، ولكن عندما فاتهم أبو سفيان وجاء أبو جهل ومَن معه وأصرّ على محاربة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عند ذلك وطّد الرسول نفسه ومَن معه للقتال، فتغيّر العنوان من حرب اقتصادية إلى حرب عسكرية.

٢٢٤

____________________

بينما أصحاب الحسينعليه‌السلام فقد كانوا يعلمون منذ البداية أنّه لا يوجد غنيمة؛ وإنّما ذهابهم إلى موتٍ لابدّ منه، فالحسين أخبرهم بهذا منذ بداية خروجه، فنراه مثلاً في إحدى خُطبه يقول:(..... وكأنّي بأوصالي هذه تُقطّعها عَسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء......... إلخ) .

إذاً أصحاب الحسين كانوا يعلمون أنّهم قادمون إلى الموت وليس إلى الغنيمة، بل للقتال فقط.

٢- إنّ أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعِدوا بإحدى الطائفتين: ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ) (الأنفال: آية ٧) أي: إمّا الإبل (والتي تَحمل الأموال والغنائم)، وإمّا النفير (أي القتال، ونتيجة الحرب تكون لهم)،

٢٢٥

____________________

وكلا الطائفتين فيها فائدة دنيوية إضافةً إلى الثواب الأخروي.

أمّا الحسينعليه‌السلام فلم يُخبر أصحابه إلاّ بطريقٍ واحد، وهو الموت الذي يؤدّي بهم إلى دخول الجنّة.

٣- من الناحية العسكرية: إنّ الجيش الذي واجهَ الرسول في بدر، لم يكن جيش دولة منظّمة؛ إنّما كان جيش قَبَلي (أي عشائري)، وتركيبتهُ تركيبة قَبَلية.

أمّا الجيش الذي زَحفَ إلى الحسينعليه‌السلام ، فقد كان جيشاً نظامياً فهو يمثّل جيش دولة كبرى، وهذه الدولة استفادت من تجاربها بحروبها مع الغرب والشرق: (كالروم، والفرس) ببناء جيش منظّم، إذاً فتركيبتهُ من الناحية الفنّية العسكرية يختلف تماماً عن الجيش الذي واجه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر.

٤- من الناحية التعبوية: فلو أخذنا النسبة بين أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين المشركين الذين قاتلوهم في بدر، فهي الثلث تقريباً؛ لأنّ المسلمين كانوا (٣١٣)، بينما المشركين كانوا في حدود الألف تقريباً.

أمّا لو أخذنا النسبة بين أصحاب الحسينعليه‌السلام إلى نسبة الجيش الزاحف عليهم، لوجدناهم ثلث عشر العشر على أقلّ تقدير، فلو أخذنا الرواية التي تقول: إنّ أعداء الحسين الذين قاتلوه في كربلاء (٣٠ ألف)، والتي هي عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأخذنا أكبر رقم ذُكر عن عدد أصحاب الحسين والذي هو مئة ألف، فنجد النسبة بينهما ثلث عُشر العشر؛ لأنّ عُشر (٣٠٠٠٠) هو (٣٠٠٠)، وعُشر الثلاثة آلاف هو ثلاثمئة وثُلثها مئة.

٥- إنّ أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان لديهم وضوح في المعركة بشكلٍ كامل؛ ذلك لأنّ معركة بدر كانت بين كفرٍ صريح يمثّله أبو جهل وعتبة وأضرابهم، وبين الإسلام الذي يمثّله المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو واضح ليس فيه لبس.

بينما في معركة الطف كانت هناك عدّة فتن وشُبهات تغصّ بها الأمّة الإسلامية، فمن تلك الفتن مثلاً: إنّ كلا المتقاتلين ينتمون إلى الأمّة الإسلاميّة فهما ذات قبلة واحدة ظاهراً، إضافة إلى الفتن الأخرى كفتنة الخلافة، وهل هي بالتعيين أم بالشورى؟ وفتنة مقتل الخليفة الثالث، وما ترتّب عليه من الحروب الثلاثة: (الجمل، وصفّين، والنهروان) ، والأحاديث التي خرّجها بنو أميّة في طاعة وليّ الأمر المطلقة، سواء كان عادلاً أو جائراً وأنّ الحسين قد خرجَ على إمامه وخليفة عصره (أي يزيد)، وأنّه بخروجه يُلقي نفسه في التهلكة المحرّمة، وشقّ عصا المسلمين بذلك، وجَعل الفتنة بينهم، وقَتل الكثير منهم إلخ، ممّا كان يجعل وجود شبهات وتساؤلات حول نهضة الحسين عليه‌السلام .

٢٢٦

____________________

٦- إنّ أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عند خروجهم لواقعة بدر تركوا عوائلهم في المدينة، وبذلك قد اطمئنّوا عليهم وأنّهم في أمان.

أمّا الحسينعليه‌السلام وكثير من أصحابه كانت عوائلهم معهم، وهنا يكون خوفهم على عوائلهم من السبي والأذى أمراً راجحاً جدّاً، فيكون سبباً مهماً في تخاذلهم ورجوعهم عن القتال للحفاظ على تلك العوائل والأعراض.

٧- إنّ الرسول وأصحابه سُدّدوا بتسهيلات كثيرة من السماء: كنزول الملائكة للقتال معهم، وهطول المطر لإطفاء ظمأهم وتسديد الرَمية التي يرمونها، والربح التي اقتلعت أخبية الأعداء، والحصى التي رمى بها الرسول جبهة المشركين فانهزموا على إثر ذلك، والنُعاس كما في قوله:( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ) (الأنفال: آية ١١) لتستريح أعصابهم.

والأمر الآخر أيضاً: إنّ الله قلّل عدد المشركين في أعين المسلمين إلخ، إذاً فهناك تسديدات وتسهيلات سماويّة لأصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أمّا الحسينعليه‌السلام وأصحابه فالأمر يختلف؛ إنّما شاء الله أن تسير الأمور في واقعة الطف بشكل طبيعي، بل وبوجود بعض الابتلاءات للحسينعليه‌السلام وأصحابه، كابتلائهم بالعطش بقطع الماء عنهم.

فلو عَلمنا - كما أشرنا إلى ذلك مُسبقاً - أنّ شهداء بدر على ما قيل هم أفضل الشهداء، فمع هذه الفروق وغيرها يكون أصحاب الحسينعليه‌السلام قد تفوّقوا عليهم وبذلك تكون الأفضليّة لهم.

٢٢٧

وأمّا السؤال الثاني: وهو عن سبب التحاقهم به وعدم تفرّقهم عنه - بالرغم ممّا سبقَ قبل قليل من احتمال وجوب ذلك في ذِممهم - فجواب ذلك يتمّ على عدّة مستويات نذكر منها:

المستوى الأوّل: إنّ المهمّ في نظر المؤمن ليس هو النظر إلى التكليف الشرعي بالذات، بل إلى رضاء الله عزّ وجل، وإنّما يكون تطبيق التكليف وطاعته مقدّمة لذلك وأسلوباً لتحصيله، فإذا أحرزَ الفرد أنّ هناك منبعاً لرضا الله عزّ وجل أفضل وأهم وأعلى من مجرّد تطبيق بعض الأحكام، كما أحرز أصحاب الحسينعليه‌السلام ، كان لهم بل لزمهم اختيار الأفضل والمحلّ الأعلى لا محالة.

المستوى الثاني: إمكان المناقشة في ذينك التكليفين اللزوميين اللذين أشرنا إليهما فيما سبق، وذلك بالقول إنّهما كانا ساقطَين تماماً عن ذمّة هؤلاء الجماعة الناصرين للحسينعليه‌السلام ، بالرغم من أنّ مقتضى القواعد المعروفة ثبوتها في كثيرٍ من الموارد الأخرى.

أمّا التكليف الشرعي بهداية الناس والدفاع الكلامي عن قضية الحسين خاصّة والدين عامّة؛ فلأنّ ذلك كلّه لم يكن يتوقّف عليهم ولا يستند إليهم،

٢٢٨

بل هم يعرفون وجود ناس آخرين على قدر الحاجة متفرّقين في البلدان يمكن أن يقوموا بهذه المهام، ومن المعلوم أنّه مع وجود ما يكفي للحاجة يكون التكليف الإلزامي الكفائي ساقطاً عن الآخرين.

وأمّا الجواب على السؤال الثالث - وهو المحافظة على النفس وحرمة إلقاء النفس في التهلكة، أو قل وجوب الهرب عن مثل هذا السبب: فلا شكّ أنّهم عَلموا بجواز البقاء مع الحسينعليه‌السلام ، حتّى لو أذنَ لهم بالتفرّق؛ فإنّه لم يأذن لهم إلزاماً، وإنّما أذِن لهم جوازاً للقتل، وإذا عرفوا منه - وهو آمرهم وإمامهم ومصدر شريعتهم - جواز البقاء والتعرّض للقتل، إذاً فقد سقطَ تكليفهم بذلك أمامَ الله عزّ وجل، فلم يبقَ أمامهم إلاّ البقاء وتحصيل المقامات العليا التي ينالونها بالشهادة.

المستوى الثالث: مستوى الامتحان أو التمحيص الذي مرّوا به وأحسّوا به.

وقد أسلفنا أنّه من الواضح أنّ المقصود الرئيسي للحسينعليه‌السلام في الإذن لأصحابه بالانصراف: هو امتحان درجة همّتهم في نَصره واستعدادهم للفداء دونه، ومن هنا وردَ في الرواية:(ولقد بَلوتهم، فلم أجدُ فيهم إلاّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل إلى محالب أمّه) (١) .

فهذه هي نتيجة التمحيص والامتحان وهي نتيجة ناجحة، ولو كانوا قد قالوا غير ذلك لفشلوا في نظر الحسينعليه‌السلام ، ولم يؤدّوا تكليفهم الكامل أمام الله وأمام إمامهم ومصدر شريعتهم، والظاهر أنّ فيما ذكرناه الكفاية عن الدخول في المزيد من التفصيل.

____________________

(١) الدمعة الساكبة: ص٣٢٥.

٢٢٩

الجهة الثانية: قالوا في تاريخ واقعة الحسينعليه‌السلام : إنّ العبّاسعليه‌السلام حين ذهبَ ليملأ القربة بالماء، وحاربَ أعداءه إلى أن وصلَ إلى ضفّة النهر، قالوا: ثمّ اغترفَ غرفة من الماء وأدناها من فمه ليشرب، ثمّ رمى بها من يده وقال:

يا نفسُ من بعد الحسين هوني

وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون

وتشربينَ بارد المعينِ

تالله ما هذا فعالُ ديني(١)

فقد يخطر في البال السؤال عمّا إذا كان الأولى بالعبّاسعليه‌السلام شُرب الماء، للتقوّي على الأعداء، ومن ثَمّ نصرة الحسينعليه‌السلام ، ومن ثمّ نصرة الدين أساساً؟

إلاّ أنّه ينبغي أن يكون الجواب واضحاً بعد كلّ الذي سبقَ أن عرفناه؛ وذلك على عدّة مستويات، نذكر منها:

المستوى الأوّل: إنّه لم يكن يوجد أيّ سبب في ذلك الحين ممّا يؤدي إلى نجاة الحسينعليه‌السلام من القتل، فحتّى لو شَرب العبّاس الماء بالمقدار الذي يحتاجه جسمه أو أكثر، وتشجّع وقاتلَ أكثر ممّا قاتل، فإنّه لم يكن بالممكن أن ينجو هو ولا أخوه الحسينعليه‌السلام من القتل، بل السبب لقتلهم موجود ومتحكّم لا محالة.

المستوى الثاني: إنّه وجدَ من الخيانة لأخيه وذويه أن يكون ريّاناً بالماء وهم عطاشا، وهذا ما يُصرّح به التاريخ(٢) ، وقد نطقَ به الشعر الذي نقلناه عنه بصراحة، وهو أدب إسلامي عالي أمام الله سبحانه، ومن هنا قال:(تالله ما هذا فعال ديني) .

____________________

(١) البحار للمجلسي: ج٤٥، ص٤١، رياض المصائب: ص٣١٣.

(٢) نفس المصدر.

٢٣٠

المستوى الثالث: إنّه شعرَ بتكليفه في ذلك الحين بوجوب الإعراض عن شُرب الماء وأطاع تكليفه ذاك، وهذا الشعور يكون بأحد أساليب: إمّا بالإلهام، أو بالرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو عن فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، كما نُقل في بعض الروايات(١) .

المستوى الرابع: إنّهعليه‌السلام أراد أن يموت عطشاناً عَمداً أمام الله سبحانه؛ لأنّ ذلك أكثر أجراً وأعلى مقاماً، ومن هذا القبيل ما رويَ عن أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام عندما دُعي إلى مأدبة، فأكلَ ثلاث لقم فقط ثمّ سحبَ يده، فقال له ابن عبّاس: هلاّ أكلتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال:(إن هي إلاّ ثلاث وأريد أن ألقى ربّي خميصاً) (٢)

إذاً فكان أمير المؤمنين يريد أن يلقى الله جوعاناً، فكذلك ابنه العبّاس يريد أن يلقى الله عطشاناً.

وينبغي أن نلتفت أنّ المستوى الأوّل هو الأهمّ فقهيّاً، وهو الذي فتحَ الباب للعبّاسعليه‌السلام إلى أحد المستويات الثلاثة الأخرى؛ لوضوح أنّ شرب الماء لو كان سبباً للنجاة كان واجباً، ولا تقوم أمامه المستويات الأخرى إطلاقاً، إلاّ أنّنا عرفنا أنّه لا يُحتمل فيه ذلك.

الجهة الثالثة: إنّه نقلَ إلينا التاريخ: أنّ عليّ بن الحسين الأكبرعليه‌السلام خرجَ إلى الحرب فترةً من النهار ثمّ رجعَ إلى الحسينعليه‌السلام فقال:(يا أبه، العطش قد قَتلني وثِقل الحديد قد أجهدَني، فهل إلى شُربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء) ،

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: ج١، ص١٦٢.

(٢) الكامل لابن الأثير: ج٣، ص١٩٥.

٢٣١

فبكى الحسينعليه‌السلام وقال:(واغوثاه، من أين آتي لك بالماء، قاتِل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك رسول الله، فيسقيك بكأسه الأوفى شُربة لا تظمأ بعدها أبداً) (١) .

ورويَ أنّ الحسينعليهم‌السلام قال له:(يا بُني هات لسانك، فأخذَ لسانه فمصّه ودفعَ إليه خاتمه الشريف: وقال له:يا بُني أمسكهُ في فَمك وارجع إلى قتال عدوّك) (٢) .

أقول: وفي النتيجة أنّه لم يَدفع له شربة ماء، فقد يُثار السؤال عن السبب في ذلك وخاصّة عن استعمال المعجزة في هذا الصدد؟

وجوابُ ذلك على عدّة مستويات نذكر منها:

المستوى الأوّل: ما يشبه ما ذكرناه في المستوى الرابع من الحديث عن العبّاسعليه‌السلام : من أنّ المصلحة عند الله عزّ وجل تقتضي أن يستشهد عطشاناً هكذا أراد له أبوه، وهكذا أراد لنفسه، وقيل: لغرضٍ من أبيه.

المستوى الثاني: إنّ المستوى الطبيعي أو السبب الطبيعي كان متعذّراً تماماً، ولذا قال الحسينعليه‌السلام في الرواية:(واغوثاه، من أين آتي لك بالماء؟).

وأمّا مستوى المعجزة: فقد سبقَ أكثر من مرّة أنّ أسلوب الإسلام من عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فما بعده، لم يكن قائماً على ذلك( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (٣) ، ولا شكّ أنّ أسلوب المعجزة يختلف عن ذلك.

المستوى الثالث: ما تقولهُ الرواية من أنّه مدّ لهُ لسانه وأعطاه خاتمهُ، وكلّنا نعرف أنّ اللُعاب يمكن أن يتحلّب مع وجود شيء في الفم، فيشعر الفرد بشيء من الارتواء، ويُساعده ذلك على تحمّل الحرب.

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: ج٢، ص١٣، اللهوف لابن طاووس: ص٤٨، ابن نما الحلّي: ص٥١.

(٢) نفس المصدر، البحار للمجلسي: ج٤٥، ص٤٤.

(٣) سورة الأنفال: آية ٤٢.

٢٣٢

الجهة الرابعة: قالوا - كما في بعض المقاتل عن رضيع للحسينعليه‌السلام -: (ثمّ أتى به نحو القوم يطلب له الماء، وقال:(إن لم ترحموني، فارحَموا هذا الطفل) ، فاختلفَ العسكر فيما بينهم، فقال بعض:إنّ كان ذنبٌ للكبار فما ذنب الصغار ، وقال آخرون:لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية ، وكادت الفتنة أن تقع بينهم، فصاح ابن سعد في حرملة بن كاهل:اقطع نزاع القوم ، قال: فوضعتُ السهم في كبد القوس، وقلت: أللوالد أم للولد؟ قال: بل الولد، فرميتهُ وهو في حِجر أبيه فذبحته من الوريد إلى الوريد، فتلقّى الحسين الدم بكفّه ورمى به نحو السماء)(١) .

فقد يخطر في الذهن: إنّه لماذا أخذَ الحسين رضيعه إلى جانب الأعداء؟ مع أنّه من الواضح حصول قتله على أيديهم، وهو أمر لا يخفى على الحسينعليه‌السلام ، حتّى بالتسبيب الطبيعي فضلاً عن العلم الإلهامي، ويمكن الجواب على ذلك على عدّة مستويات نذكر منها:

المستوى الأوّل: إقامة الحجّة على الأعداء، وفضحهم في النتيجة، إذ يثبت بالحسّ والعيان قتلهم للأطفال والعُزّل، وهو أمرٌ يثبت على عدّة مستويات منها: أمام أفراد الجيش المعادي نفسه، ومنها: أمام الجيل المعاصر للحسينعليه‌السلام ، ومنها: أمام الأجيال المتأخّرة عنه، ودلالة ذلك: ما سمعناه عن المؤرّخين من وقوع الخلاف بين أفراد الجيش المعادي، فقال بعض المنصفين منهم:(إذا كان ذنبٌ للكبار فما ذنب الصغار) ، وقال بعض المعاندين:(لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية) ، فقد حصلَ التمحيص والامتحان آنيّاً، فضلاً عن إقامة الحجّة في المدى القريب والبعيد.

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٥٧، مثير الأحزان لابن نما: ص٥٢، اللهوف لابن طاووس: ص٤٩.

٢٣٣

وينبغي أن نلتفت أيضاً: إلى أنّ هذا المستوى من التفكير يقتضي التسليم بأنّ الحسينعليه‌السلام رأى أنّ إقامة الحجّة أمام الأعداء، ذو مصلحة أكيدة حتّى لو فدى في سبيلها ولدهُ الرضيع، وهذا أمرٌ مقنع وجداناً؛ لأنّ ما حصل من فضيحة هؤلاء لم يكن له مثيل.

المستوى الثاني: إنّ الحسينعليه‌السلام أراد التضحية بولده أمام الله سبحانه قبل موته واستشهاده، ومثلهُ ما رويَ عن العبّاسعليه‌السلام ، حيث قال لأخوته الذين كانوا معه في واقعة الطف:(تقدّموا يا بَني أمّي لكي أحتسِبكم أمامَ الله سبحانه) (١) ، فهو يَعتبر استشهاد أخوته عملاً وطاعة له شخصياً، ففي مثل ذلك فكّر الحسينعليه‌السلام .

المستوى الثالث: إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام نفّذ قضاء الله وقدره الذي يعلمه بالإلهام أو بالرواية، والذي لم يكن منه بُدّ، بل كان واجباً عليه تنفيذه كوجوب صلاة الظهر علينا، وقد ضحّى به امتثالاً لأمر الله سبحانه وتسليماً لقضائه.

ومن هنا وردَ عن لسانه:(شاء الله أن يراهنّ سبايا) ، وعن طفله:(شاء الله أن يراه مذبوحاً)، والمشيئة إمّا أن تكون تكوينية يعني من القضاء والقدر، أو تشريعية يعني التكليف والوجوب، وهي على كلا التقديرين محبوبة لأهل الله سبحانه ومنهم الحسينعليه‌السلام ، وهناك مستويات أخرى من الوجوب لا حاجة إلى التطويل بها.

الجهة الخامسة: رويَ أنّه كان من جملة أساليب المحاربة ضدّ الحسينعليه‌السلام بعد مقتل أصحابه وأهل بيته: أنّه رماهُ أحد القوم بسهم محدّد مسموم له ثلاث شُعب وقعَ على صدره، وفي بعض الروايات: وقعَ على قلبه، فأخذَ السهم فأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب)(٢) .

____________________

(١) إعلام الورى للطبرسي: ص٢٤٨، البحار للمجلسي: ج٤٥، ص٣٨ بتصرّف.

(٢) اللهوف لابن طاووس: ص٥١، الخوارزمي: ج٢، ص٣٤، البحار: ج٤٥، ص٥٣.

٢٣٤

فهنا قد يحصل سؤالان:

السؤال الأوّل: كيف يمكن أن يكون للسهم ثلاث شُعب وهذا غير معهود في التاريخ، بل لا يصلح مثل ذلك للرمي كسائر السهام؟

والسؤال الثاني: عن إخراجه من قفاه، وهل يمكن ذلك؟ وإذا أمكنَ فهو يؤدّي إلى الوفاة فوراً، مع أنّ هذا لم يحصل؟

أمّا الجواب عن السؤال الأوّل: فبعد تسليم صحّة سند الرواية، لا نجد أنّها تشير إلى أنّ الشُعب الثلاث متساوية في الارتفاع أم لا، ولا أنّها قد أصابت جميعاً صدر الحسينعليه‌السلام ، بل من الممكن أنّه يكون لهُ رأس واحد كبير ورأسان أصغر منه، والتأثير الأساسي - سواء في الرمي أو في الإصابة - للكبير دون الصغيرين؛ وإنّما تأثيرهما جانبي أو قليل ولا يمنعان الرامي من الرمي، ولا السهم من الانطلاق، مضافاً إلى أنّه من المحتمل أن تكون الشُعب الثلاث من خلف النبلة لا من أمامها.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني: بعد تسليم صحّة سند الرواية أيضاً، احتمال أن يكون الضمير في قولنا: أخرجهُ من قفاه، يعني السهم، أي: سَحبَ السهم من قفاه، وهو أمرٌ اعتيادي وما لابدّ من وقوعه، لو كان في الفرد جرأة على سحب السهام من جسمه، وإنّما تدفّق الدم بكثرة باعتبار كثرة انغراسه في جسم الحسينعليه‌السلام ووجود شُعب فيه.

هذا، مضافاً إلى أنّ الضمير المشار إليه إذا رجع إلى الحسينعليه‌السلام ، أمكن القول بأنّ السهم لم يقع في وسط صدره، بل في أحد جانبيه نسبياً.

ومن هنا لم يكن إخراجه من القفا مستلزماً لتشقّق القلب أو إحدى الرئتين، لتحدث الوفاة السريعة.

٢٣٥

وأمّا عدم تأثير السمّ فيه سريعاً، مع أنّه وردنا في التاريخ كون السهم مسموماً(١) كما سمعنا؛ فإنّ ذلك يُعزى إلى تدفّق الدم بكثرة، الأمر الذي أوجبَ خروج المواد السامّة مع الدم بعد سحب السهم نفسه.

هذا، وفي كلّ ذلك فإنّ الاحتمال مُبطل للاستدلال وقاطع للسؤال، ولا نحتاج إلى الجزم أو التأكيد على أحد الوجوه بالذات.

الجهة السادسة: ورَدَنا في التاريخ: (أنّه بعد أن حاربَ الحسينعليه‌السلام أعداءه وسقط على الأرض، أمرَ قائد الجيش المعادي جماعة منهم أن يركبوا الخيول ويدوسوا بحوافرها جسد الحسينعليه‌السلام ، فانتدبَ لهُ عشرة من الفوارس، فداسوا جسد الحسين بخيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره)(٢) .

وقد سمعتُ شخصاً مَن يستشكل على ذلك بما مؤدّاه: (إنّني راكب مُجيد للخيل وأعرف طبائعها، فهي تقفز القفزة الطويلة وتتحاشى في طريقها العوائق، ومن المعلوم أنّ جسد الإنسان مهما يكن ضخماً لا يُعدّ عائقاً مهمّاً عن سير الفرس، ممّا يُسبّب استبعاد أن يتعمّد الفرس وضع حوافره على جسد الإنسان، بل سوف يتجنّبه لا محالة).

مضافاً إلى سؤالين آخرين لا يخلوان من أهمية:

السؤال الأوّل: إنّ الخيل لو داست الجسد الشريف أو جسد أي إنسان، فسوف لن تؤثّر فيه أثراً يُذكر لصلابة لحمه وقوّة عظمه.

والسؤال الثاني: إنّ المتوقّع أن تتحامى الخيل وتتجنّب عن عمد الدوس على الجسد الشريف وتعصي راكبيها، وإن كانت حيوانات؛ لأنّ الجسد الشريف من وضوح الأهمية والعظمة بحيث لا يخفى حتّى على الحيوانات، وخاصّةً لحيوان ذكي كالفرس، أو لأنّ هذه مهانة لا ينبغي أن يريدها الله عزّ وجل لوليّه الجليلعليه‌السلام ، فلابدّ أن يَصرف هذه الحيوانات عند عملها هذا على كلّ حال.

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس: ص٥١.

(٢) تاريخ الطبري: ج٦، ص١٦١، الإرشاد للمفيد: ص٢٤٢، مناقب ابن شهرآشوب: ج٣، ص٢٥٩، اللهوف: ص٥٧، ابن نما: ص٥٩، الخوارزمي: ج٢، ص٣٨.

٢٣٦

أمّا الجواب عن السؤال الأوّل - وهو الرئيسي الذي عرضناه في هذه الجهة، وهو عن تجنّب الفرس الدوس على جسد إنسان، بل نراها تطفر فوقه لا محالة -: وهذا صحيح لو نظرنا إلى طبيعة الفرس في الظروف الاعتيادية، أو قل: إذا نظرنا إلى السير الاعتيادي للفرس، إلاّ أنّ هذا النظام سوف يختلّ بكلّ وضوح لو أراد راكبها على أن يكون فارساً ماهراً، بأن يأمرها أو يقهرها على أن تدوس على أيّ شيء، فهي سوف تفعل لا محالة.

وهذا واضح لا ينبغي الشكّ فيه، ومعه ينسدّ ذلك السؤال تماماً بل يبدو سُخفه وضِعته.

وأمّا السؤال الثاني: وقد كان عن صلابة الجسد بحيث لا يمكن أن تؤثر فيه الخيل، فهو أسخف من سابقه؛ لأنّنا إن تحدّثنا عن اليدين والرجلين، كان لهذا السؤال قسطٌ من الوجاهة، وأمّا لو تحدّثنا عن الجسد نفسه، أو ما يسمّى بالجذع طبياً - وهو المتكوّن من الصدر والبطن - فلا وجه للسؤال أصلاً.

وأمّا السؤال الثالث: وهو عن تجنّب الحيوان فعل ذلك هيبة للحسينعليه‌السلام وإجلالاً؟

فجوابهُ: إنّ هذا إنّما يكون بالمعجزة دون غيرها، وقد كرّرنا عدم إمكان وقوعها في مثل ذلك، وإذا أراد الله سبحانه مزيد البلاء لمزيد الثواب للحسينعليه‌السلام ، ففي قدرته جلّ جلاله أن يحجب هيبة الحسين وعظمته عن هؤلاء الحيوانات، ويدعها تعمل على المستوى الطبيعي، ومن المعلوم أيضاً أنّ الله عزّ وجل حين يريد المزيد من البلاء، فإنّ جزءاً مهمّاً منه سيكون هو تحمّل المهانة لا محالة، وهذا لا ينافي ما قلناه في أوّل هذا البحث من أنّ الحسينعليه‌السلام لم يجد الذلّة،

٢٣٧

ولم يمرّ بها على الإطلاق؛ لأنّ غاية ما يثبت هنا: هو أنّ الأعداء أرادوا له الذلّة، وهذا أمرٌ أكيد لا نستبعده عنهم، أمّا وقوعها حقيقة عليه أو وقوعه فيها، فهذا ما نحاشيه سلام الله عليه؛ فإنّ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

الجهة السابعة: قالوا: (وأقبلَ فرس الحسين بعد سقوطهعليه‌السلام عنه، يدور حوله ويُلطّخ عُرفه وناصيته بدمه، فصاحَ ابن سعد بقومه:دونَكم الفرس؛ فإنّه من جياد خيل رسول الله ، فأحاطت به الخيل، فجعلَ يضرب برجليه حتّى قتلَ رجالاً وأفراساً كثيرة، فقال ابن سعد:دعوهُ ننظر ما يصنع ، فلمّا أمنَ الطلب، أقبلَ نحو الحسينعليه‌السلام ، فأخذَ يمرِّغ ناصيته بدمه ويشمّه ويصهل صهيلاً عالياً، ثمّ توجّه إلى المخيّم بذلك الصهيل الحزين)(٢) ، وفي بعض الأخبار المنقولة أنّه:(ضربَ رأسه بعمود الخيمة حتّى مات) (٣) .

فقد يقع السؤال: عن إمكان إدراكه وتشخيصه للموقف بغضّ النظر عن حصول المعجزة، وهو حيوان وليس بإنسان بطبيعة الحال.

وجواب ذلك: إنّنا إن أخذنا بفكرة المعجزة، أمكنَ القول بأنّ معاشرة المعصومين (سلام الله عليهم) من قِبل الإنسان والحيوان معاً، مؤثّرة في تكامله وفهمه، كلّ واحدٍ بمقداره واستحقاقه واستعداده، أمّا كيفيّة تقبّل ذلك بالنسبة إلى الحيوان، فهو أمر غير واضح؛ لأنّ مستوى فهم الحيوانات أمر غير واضح بدوره، إلاّ أنّ عدم وضوحه لا يعني عدم ثبوته ولو بنحو الاحتمال القاطع للاستدلال.

____________________

(١) سورة المنافقين: آية ٨.

(٢) أمالي الصدوق: ص١٤، مجلس ٣٠، الخوارزمي: ج٢، ص٣٧، البحار: ج٤٥، ص٥٧.

(٣) البحار: ج٤٥، ص٦٠، الدمعة الساكبة: ص٣٤٧، أسرار الشهادة: ص٤٣٦.

٢٣٨

وإن لم نأخذ بفكرة المعجزة، فمن الأكيد أنّ الفرس من أذكى الحيوانات وأرقاها، وهي عند علماء الحيوان تأتي بعد القرد مباشرة وخاصّة الأفراس العربية الأصيلة، وقد كان فرس الحسينعليه‌السلام واحداً منها، فهي تَعرف صاحبها وتحبّه، وتعرف ذويه وتصبر على ما ينوبها في سبيله من جوعٍ أو عطش، وتحسّ بإكرام صاحبها لها وغير ذلك من الأمور، فليس عَجباً أن يفعل فرس الحسينعليه‌السلام ذلك، نعم، يبقى قتله لنفسه منوطاً بفكرة المعجزة أو بصحّة الرواية.

الجهة الثامنة: (نقلَ التاريخ عن زيد بن أرقم وهو أحد الصحابة - وقد كان يومئذٍ بالشام - أنّه سمعَ رأس الحسينعليه‌السلام يتلو قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (١) ، فقال زيد بن أرقم:سيدي، رأسك أعجب وأغرب) (٢) .

فهل نُصدِّق هذه الرواية أو نستبعدها باعتبار أنّه من المستحيل طبيعياً أن ينطق الموتى مطلقاً، أو قل: أن ينطق الرأس وهو متصل بصاحبه، فضلاً عمّا إذا كان مقطوعاً، فضلاً عمّا إذا كان مرّ على قطعه رَدح من الزمن؟

إلاّ أنّ هذا الاستبعاد في غير محلّه؛ لعدّة مستويات من التفكير نذكر منها:

المستوى الأوّل: إنّه من الواضح أنّ مثل هذه الروايات لا ينبغي أن نعرضها أمام القانون الطبيعي؛ لأنّها قائمة على خصوص المعجزة، وليس لها من القانون الطبيعي أيّ نصيب، وإذا حَدثت المعجزة أمكنَ ذلك وغيره، وبالمعجزة نطقَ رأسان في البشرية المعروفة هما:رأس يحيى بن زكريا عليهما‌السلام ، ورأس الحسين عليه‌السلام .

المستوى الثاني: إنّ نُطق الرأس؛ إنّما كان لإقامة الحجّة على أهل الشام الذين كانوا يجهلون شأن الحسين وإمامته وصدق قضيته، بل كان الحكّام لديهم يغرسون في أذهانهم أنّ هذا الموكب لسبايا غير مسلمين من الروم،

____________________

(١) سورة الكهف: آية ٩.

(٢) البحار للمجلسي: ج٤٥، ص١٢١.

٢٣٩

أو الزنج، أو الديلم، أو القبط ونحو ذلك، وكان لابدّ لهذا الجانب - أعني لموكب الحسينعليه‌السلام - أن يُثبّت صِدق قضيّته، وفي الواقع أنّهم لم يُقصّروا في ذلك بعد أن تكلّم الإمام زين العابدين وزينب بنت عليعليهما‌السلام وآخرون، وحَدثت له عدّة مآتم في الشام فورياً.

ومحلّ الشاهد الآن: أنّ الحسين نفسه شاركَ في هذه الحملة الواسعة للهداية والإعلام، وذلك بقراءته القرآن وهو فوق رأس رمح طويل، كانت مشاركته أوكد من كلّ المشاركات؛ لأنّه الشخص الرئيسي والأهمّ أوّلاً، ولأنّ مشاركته اعجازية ثانياً، وهاتان الصفتان لم تحصل لأيّ من المشاركين الآخرين في معسكر الحسينعليه‌السلام وإن عَلا شأنهم.

المستوى الثالث: إنّي شخصياً كنتُ موجوداً في ليلة من الليالي قبل خمس وعشرين سنة تقريباً، في جلسة من جلسات تحضير الأرواح، وقد خطرَ لي أن أسأل إحداها قائلاً:هل تكلّم رأس الحسين عليه‌السلام ؟ وكان في حسباني أن تقول: نعم، أم لا، فكان من العَجب أنّها قالت:تكلّم سبع مرّات ، فقلنا: لعلّه تكلّم بهذا المقدار ولم يُنقل من التاريخ إلينا، وإذا أمكنَ ذلك مرّة أمكنَ مرّات عديدة وليس في قدرة الله بمستغرَب.

وحصلتُ على كتاب بعد خمس وعشرين سنة بعنوان(الحسين في الفكر المسيحي) تأليف(أنطوان بارا) : وهو مسيحي مُنصف مَجّدَ الحسين ورثى لهُ، وقارنَ شهادتهُ بما يعتقدونه من مقتل المسيح وشهادته، وإذا بي أجد في هذا الكتاب النقول التاريخية عن كلام رأس الحسينعليه‌السلام ، فأحصيتُها فإذا بها سبعة، كما سمعتُ من تلك الروح قبل خمس وعشرين سنة، ورُبّ صدفة خيرٌ من ميعاد.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250