أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين15%

أضواء على ثورة الحسين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 250

أضواء على ثورة الحسين
  • البداية
  • السابق
  • 250 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116699 / تحميل: 15332
الحجم الحجم الحجم
أضواء على ثورة الحسين

أضواء على ثورة الحسين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الاعتذار عن الإحاطة التامَّة

نحن عندما ننظر إلى أيِّ أمر مُعقَّد، أو مربوط بالحكمة الإلهيَّة، أو بتصرُّف أحد المعصومين مِن قول أو فعل، أو أحد الراسخين في العلم، فسوف نواجه وعورة في السير وصعوبة في الرؤية، إلى حَدٍّ قد يكون أحياناً أنَّنا نجد الباب مُغلقاً أمامنا تماماً، للصعود الذي نطمع به ونطمح إليه، في هذا السبيل، وذلك بعد ملاحظة الأُمور التالية:

الأمر الأوَّل: إنَّه تمَّ البرهان في مباحث العقيدة الإسلاميَّة، على أنَّ العلم الإلهي والحكمة الإلهيَّة لا مُتناهيان ومُطلقان ولا حَدَّ لهما، وأنَّ اطِّلاعه جلَّ جلاله على الواقعيَّات على مُختلف المستويات أكيد، وثابت على أوسع نطاق. بلْ كلُّ صفاته الذاتيَّة هكذا جلَّ جلاله وكثير مِن أسمائه، فهو لا مُتناهي العلم والقدرة والحِكمة، والعدل والرحمة، والحياة والوجود، والجود والنعمة، إلى غير ذلك. كما ثبت أنَّ العقل الإنساني مهما تسامى، فهو محدود بحدود لا يُمكنه أنْ يتعدَّاها، كما سنُشير إليه، ومِن البديهي أنَّ المحدود يستحيل أنْ يُدرِك اللاَّ محدود.

إذن؛ فليس للإنسان أنْ يُدرِك العلم الإلهي والحكمة الإلهيَّة كما هي، وإنَّما ينال منهما بقدر استحقاقه وقابليَّته، وبمقدار عطاء الله له، و(العلم نور يقذفه الله في قلب مَن يشاء) (١) .

الأمر الثاني: إنَّنا نشعر وجداناً بعدم إحاطتنا بالواقعيَّات على واقعها، لا مِن ناحية العقل (النظري) ولا مِن ناحية العقل (العملي)(٢) ؛ فإنَّ العقل

____________________

(١) الوافي للفيض الكاشاني. ج١ ص ٧. المقدِّمة الأُولى.

(٢) العقل النظري: هو إدراك ما ينبغي أنْ يُعلَم.

والعقل العملي: هو إدراك ما ينبغي أنْ يُعمَل

وهذا التعريف ذكره نصَّاً سماحة المؤلِّف في أحدى مُحاضرات التفسير.

٢١

لا شكَّ يُدرك عدداً مِن القضايا كبيراًَ جِدَّاً، بوضوح تامٍّ ووجدان كامل.

ولكنَّه حين يأتي إلى قضايا أُخرى بعدد كبير أيضاً فإنَّه يشكُّ فيها، ولا يستطيع أنْ يُعطي حولها قناعة أو جزماً مُعيَّناً؛ إمَّا لأنَّها غير واضحة لذاتها، أو للشكِّ في تحقُّق موضوعها وموردها، أو لوقوعها موقع التعارض والتزاحم مع قضايا أُخرى، ولعلَّ العقل يجهل المحصَّل أو النتيجة التي ينبغي البتُّ بها بعد التزاحم. ولاشكَّ أنَّنا لو كان عندنا إدراك للواقعيَّات لما تورَّطنا في مثل هذه الشكوك والجَهالات.

الأمر الثالث: إنَّنا حين نتحدَّث عن أمر تاريخيٍّ كواقعة الحسينعليه‌السلام ، فإنَّنا يُمكن أنْ نُتمثِّل بهذا المثال، وهو قولهم:(يرى الحاضر ما لا يرى الغائب) (١) ، ومِن الواضح أنَّهم كانوا حاضرين، ونحن غائبون، وهم مشاهدون ونحن غير مشاهدين. إذن فليس من حقنا أن نعترض على أية واقعة تاريخية لم نشاهدها ولم نُحِطْ بها خُبْراً؛ إذ لعلَّ أهلها والقائمين بحوادثها، قد علموا ما لم يُعلم مِن القرائن والحوادث والعَلاقات، وشخَّصوا التكليف لهم بأنْ يفعلوا كذا أو يتركوه، وليس لنا أنْ نفتح أفواهنا ضِدَّهم بشيء، ونحن غير مُلمِّين بالموضوع مِن جميع جهاته، مع أنَّهم لا شكَّ كمُعاصرين للأحداث ومُلاحظين لها حال وقوعها، أنَّهم مُلمُّون بها مِن جميع جهاتها.

الأمر الرابع: إنَّ عدداً مِن الأُمور النظريَّة والعلميَّة، مِمَّا يتعذَّر على عقولنا إدراك واقعيَّاتها، يُمكن مِن الناحية المنطقيَّة طرح أفكار محدودة، تحمل مُحتملات معقولة على شكل (أُطروحات)، نُحاول أنْ نجمع القرائن على صحَّتها مِن ناحية، ونَدفع بها الاَستدلال المضادَّ مِن ناحية أُخرى.

إنَّ المشكِّك حين

____________________

(١) مجمع الأمثال ج٢ ص٥٠٩، بتصرُّف.

٢٢

يطعن في أيِّ أمر، إنَّما يطعن في حكمة فاعله وصوابه، ويُحاول أنْ يستدلَّ بهذا على ذلك؛ ومِن هنا تأتي الأُطروحة أو تلك لأجل حمل الفاعل على الصحَّة والصواب، وأنَّ فعله قابل للقبول. ومعناه أنَّ الاستدلال الذي أراده الخصم قد فشل؛ إذ بدخول الاحتمال يبطل الاستدلال؛ لأنَّ الاستدلال مِن الناحية المنطقيَّة يحتاج إلى الجزم بنتيجته، وهذه الأُطروحات تُخلخل هذا الجانب وتُطيح به، ومعه يسري الفساد إلى نتيجة الاستدلال نفسها.

وهذا التكوين النظري(١) ، يُمكن تطبيقه على كثير مِن حوادث التاريخ، بالنسبة إلى كثير مِن المعروفين السابقين، وخاصَّة ما إذا كانوا معصومين. بلْ المعصومون أولى بالصحَّة في هذا الصدد، وأؤكِّد مِن حيث قبول أفعالهم وأقوالهم، بعد ثبوت عصمتهم ببرهان ليس الآن محلُّ ذكره؛ فإنْ لم نكن نعرف وجه الحكمة الحقيقية مِن بعض أُمورهم فلا أقلَّ مِن وجود أُطروحة أو أكثر لحملها على الصحَّة. مِمَّا يُبطل الاستدلال والتشكيك ضدَّهم جزماً.

الأمر الخامس: إنَّ الهدف أو الحكمة مِن كلِّ قول أو فعل وارد عن معصوم أو غيره، لا ينحصر أنْ يكون هدفاً واحداً، بلْ يُمكن أنْ يكون مُتعدِّداً، سواء ما نعلمه مِن الأهداف أم ما نحتمله منها، أم الأهداف التي تكون بالحكمة الإلهيَّة.

والمهمُّ الآن إمكان تعدُّد الأهداف لأيِّ تصرُّف؛ ومِن هنا يُمكن أنْ تتعدَّد الأُطروحات المحتملة، المصحِّحة لتلك التصرُّفات.

الأمر السادس: إنَّه ثبت في الفلسفة أنَّ أيَّ شيء في الخليقة فإنَّ لوجوده نحواً مِن الحكمة والهدف، أو قُلْ: العلَّة الغائيَّة(٢) ، كما يُعبِّرون هناك

____________________

(١) التكوين النظري: أيْ وجود صورة ذهنيَّة بدون الالتفات إلى أنَّها موجودة في الخارج أم لا.

(٢) العلة الغائيَّة: وهي السبب الذي لأجله يحصل الفعل. فيقول العلاَّمة الحَلِّي في كشف المراد: (إنَّ كلَّ =

٢٣

وكلُّ موجود مشمول لذلك، سواء كان أنساناً أم حيواناً أم جماداً أم ملائكة أم غيرها مِن الأُمور. لا يشذُّ عن ذلك حتَّى الأفعال الاختياريَّة للفاعلين المختارين مِن الناس أو غيرهم؛ فإنَّها بالرغم مِن أنَّها اختياريَّة منسوبة لأصحابها، ويستحقُّون عليها المدح أو القدح، إلاَّ أنَّها بصفتها خلقاً مِن خلق الله سبحانه، فهي منسوبة إليه جلَّ جلاله، ومِن ثمَّ يكون إيجادها - طبقاً لتلك القاعدة - ذا حكمة وعلَّة غائيَّة.

ومِن هنا يُمكن القول - أو يثبت الأمر -: إنَّ أيَّ فعل مِن أفعالنا فهو له نحوان مِن المقاصد: نحو يعود إلى الفاعل نفسه، ونحو يعود إلى الخالق جلَّ جلاله. لا يختلف في ذلك فعل الإنسان البسيط عن العظيم، والعالم عن الجاهل، ولا معصوم عن غير المعصوم، وهكذا. فمثلاً، يُمكن القول: إنَّ الحسينعليه‌السلام إنَّما قام بحركته العظيمة، مِن أجل غرضه الشخصي - بينه وبين نفسه - وذلك لأجل قيامه بواجب مِن الواجبات الموكولة إليه والمكلَّف بها تماماً، كما لو صلَّينا صلاة الظهر امتثالاً لأمر الله سبحانه علينا وجوباً مِن ناحية، وطمعاً بالثواب الناتج منها مِن ناحية أُخرى. وقد أمر الله الحسينعليه‌السلام - كما سيأتي شرحه - بهذه الحركة، فهو يمتثل هذا الأمر، مُتوخِّياً الثواب العظيم، والمقامات العُليا التي ذخرها الله سبحانه له، والتي لن ينالها إلاَّ بالشهادة.

ومحلُّ الشاهد - الآن - هو أنَّ التساؤلات عن حركة الحسينعليه‌السلام ، إنَّما هو مِن قبيل التساؤلات عن الحكمة الإلهيَّة فيها، وليس عن الأغراض الخاصَّة بالحسينعليه‌السلام منها - كما شرحناه -؛ ومِن هنا يكون الاعتراض عليها - أعني هذه الحركة - والطعن في أهدافها، إنَّما هو طعن بالحكمة الإلهيَّة مُباشرة،

____________________

= فاعل بالقصد والإرادة؛ فإنَّه إنَّما يفعل لغرض وغاية ما، وإلاَّ لكان عابثاً؛ فإنَّ الفاعل للبيت يتصوَّر الاستكنان أوَّلاً فيتحرَّك، أو إلى إيجاد البيت ثمَّ يوجد الاستكنان بحصول البيت). ص ٩٥ ط قُمْ.

٢٤

وليس في أغراض الحسينعليه‌السلام منها؛ لأنَّ أغراضه الشخصيَّة لم تكن - بكلِّ بساطة - إلاَّ الامتثال وتحصيل الثواب شأنه في ذلك شأن أيِّ مؤمن آخر، يمتثل عملاً واجباً أو مُستحبَّاً.

الأمر السابع: إنَّنا لا ينبغي - ونحن ننظر إلى فهم التاريخ الإسلامي - أنْ ننظر إلى القادة المعصومين (سلام الله عليهم) كقادة دنيويِّين، كما عليه تفكير طبقة مِن الناس، يدَّعون التمسُّك بالفكر الديني، ولكنَّهم مُتأثِّرون بالاتِّجاه المادِّي الدنيوي، فهم يعتبرون المعصومين قادة دنيويِّين كُبراء، بل هُمْ بهذه الصفة خير مِن خير القادة الموجودين خلال العصور كلِّها، في اتِّصافهم بعُمق التفكير وحصافة الرأي وشجاعة التنفيذ ونحو ذلك؛ ومعه يكونون همْ المسؤولون عن أهداف حركاتهم وأقوالهم وأفعالهم، ولا تكون تلك الأُمور منسوبة إلى الحكمة الإلهيَّة بأيِّ حال.

إلاَّ أنَّني أعتبر ذلك خطأ لا يُغتفر، بلْ لا بُدَّ في النظر إليهم كقادة، مِن أخذ كلِّ الأُصول الدينيَّة والعقائد الصحيحة بنظر الاعتبار. وقد ثبت أنَّهم معصومون مُسدَّدون مِن قِبَل الله سبحانه، فالسؤال عن الحكمة لا بُدَّ وأنْ يكون راجعاً إلى الحكمة الإلهيَّة، لا إلى آرائهم الشخصيَّة مَهما كانت مُهمَّة.

وأوضح دليل على ذلك: هو أنَّنا إذا اعتبرناهم قادة دنيويِّين؛ فإنَّنا ينبغي أنْ نعترف بفشهلم في كثير مِن المهمَّات التي قاموا بها فعلاً؛ وتكون كثير مِن أفعالهم خالية مِن الحكمة والمصلحة، بلْ تكون واضحة الفشل مِن الناحية الدنيويَّة. فمثلاً أنَّ الأمام الحسينعليه‌السلام قد خرج إلى الكوفة وبالتالي إلى كربلاء، وهو يعلم أنَّه سوف يموت، وأنَّ عائلته سوف تُسبى، وليس الأمر مُنحصراً به، بلْ يعلم بذلك عدد مُهمٌّ مِن الناس؛ ومِن هنا نصحه المتعدِّدون أنْ

٢٥

يُعيد النظر في عمله ويستدرك مُهمَّته(١) ، ولكنَّه مع ذلك كان مُهتمَّاً بها مُقبلاً عليها، مهما كانت النتائج. فلو نظرنا إليها نظراً دنيويَّاً لكانت في نظرنا حركة فاشلة تماماً. أو إذا جرَّدنا مِن الأمام الحسينعليه‌السلام قائداً دنيويَّاً كان رأيه خالياً مِن الرُّشد والحكمة، وحاشاه.

إذنْ؛ فالأمر لا بُدَّ عائد إلى الأمر الإلهي والحكمة الإلهيَّة، والله سبحانه يُريد بإيجاد هذه الحركة أهدافاً تعدل هذه التضحيات الجِسام، التي قدَّمها هذا

____________________

(١) ونذكر لك بعضاً مِن الذين كانوا مُشفقين على الحسينعليه‌السلام ونصحوه بعدم الخروج، وهم:

أوَّلاً: المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري - تاريخ أبن عساكر ج١٣ ص٦٩

ثانياً: عبد الله بن عباس - وسيلة المال في عَدِّ مناقب الآل ص ٦٨٧ مقاتل الطالبيِّين الكامل لابن الأثير ج٣ ص٢٧٦

ثالثاً: عبد الله بن جعفر - تاريخ الطبري ج٦ ص٢١٩ - البداية والنهاية ج٨ ص١٦٣ - البحار ج٤٤ ص٣٦٦.

رابعاً: أبو بكر المخزومي بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي القرشي وهو أحد الفقهاء السبعة ولد في خلافة عمر وكان يقال له راهب قريش لكثرة صلاته، وكان مكفوفاً وهو مِن سادات قريش توفِّي سنة ٩٥ هـ - مروج الذهب ج٣ ص٦ - الطبري ج٦ ص٢١٦.

خامساً: عبد الله بن جعدة - أنساب الأشراف ج١ ق١.

سادساً: جابر بن عبد الله - تاريخ الإسلام للذهبي ج١ ص٣٤٢.

سابعاً: عبد الله بن مطيع - العِقد الفريد ج٣ ص١٣٣ - البحار للمجلسي ج٤٤ ص٣٧١.

ثامناً: عمرو بن سعيد - تاريخ ابن عساكر ج١٣ ص٧٠.

تاسعاً: محمد بن الحنفية - تاريخ الإسلام للذهبي ج١ ص٣٤٢ ج٣ ص٢٧٦ - البحار ج٤٤ ص٣٣١

عاشراً: السيِّدة أمُّ سلمة - أسرار الشهادة للدربندي ص١٩٢ البحار ج٤٤ص٣٣١.

الحادي عشر: عبد الله بن الزبير - تاريخ أبن عساكر ج١٣ ص٦٧ - البحار ج٤٤ ص٣٦٤.

الثاني عشر: عبد الله بن سيمان والمنذر بن المشمعل الأسديَّان - البحار للمجلسي ج٤٤ ص٣٧٣ - الكامل لابن الأثير ج٤ ص١٧ - إسرار الشهادة ص٢٣٠.

٢٦

____________________

الثالث عشر: الطرماح بن الحكم - البحار للمجلسي ج٤٤ ص٣٦٩ - أسرار الشهادة ص٢٢٦. الرابع عشر: عبد الله بن عمر - أسرار الشهادة ص٢٢٠، مثير الأحزان لابن نما الحلِّي - اللهوف لابن طاووس - البحار ج٤٤ ص٣٦٥.

٢٧

الإمام العظيم (سلام الله عليه)، والإمام نفسه مؤيَّد ومُسَدَّد مِن قِبَل الله سبحانه؛ ومِن هنا استطاع أنْ يعلم بنحو أو آخر بالأمر الإلهي المتوجِّه إليه بإيجاد هذه الحركة. أمَّا بالأمر الموروث إليه مِن قِبَل جَدِّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . أو بالعلم اللدُّني(١) ، أو التسديد الإلهي الموجود لديه كواحد مِن المعصومينعليهم‌السلام .

وهنا يُمكن أنْ يُستدلَّ ببعض الأدلَّة الدينيَّة على إمكان النظر إلى المعصومينعليهم‌السلام كقادة دنيويِّين، نذكر منها أهمَّها، كما يلي:

الدليل الأوَّل: قوله تعالى:( ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ... ) (٢) ، الدالَّة على أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مأمور بمُشاورة أصحابه في أُموره، وهو إنَّما يحتاج إلى هذه المشاورة بصفته قائداً دنيويَّاً؛ إذ لو كان مؤيَّداً ومُسدَّداً لما احتاج إلى هذه المشاورة.

ثمَّ إنَّه إذا ثبت ذلك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنصِّ الآية الكريمة، ثبت في غيره مِن المعصومين بطريق أولى، بصفته خيرهم وأعظمهم.

ويُمكن الجواب على ذلك من وجوه نذكر بعضها:

الجواب الأوَّل: إنَّنا إذا أمكننا أنْ نُجرِّد مِن أيِّ قائد معصوم قائداً دنيويَّاً، فلا يُمكن أنْ يكون ذلك مُحتملاً في حقِّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنَّ ذلك الاتِّجاه الفكري، إذا حصل تشكيكه في كون سائر المعصومين ذوي تأييد وتسديد إلهيَّين، فإنَّه لا

____________________

(١) العلم اللَّدُني: وهو علم ربَّاني إلهامي، والعلم اللَّدُني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري عَزَّ وجلَّ. وها هو كالضوء مِن سراج الغيب، يقع على قلبٍ صافٍ فارغٍ لطيف (تفسير القاسمي ج١١ ص ٤٠٩٧ نقلاً عن الغزالي)، ونجد مصداق هذا العلم في قوله تعالى:( فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ) الكهف آية ٦٥، أيْ علم لا صنعة فيه للأسباب العاديَّة كالحِسِّ والفكر، حتَّى يحصل مِن طريق الاكتساب، والدليل على ذلك قوله: (... مِن لَّدُنَّا...) فهو علم وَهبيٌّ غير اكتسابيٍّ، يختصُّ به أولياءه. وآخر الآيات تدلُّ على أنَّه كان علماً بتأويل الحوادث (الميزان ج ١٣ ص٣٤٢).

(٢) آل عمران آية ١٥٩.

٢٨

يُمكن ذلك في نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنَّ ذلك الاتِّجاه الفكري يعترف بالإسلام، واعترافه هذا معناه الاعتراف بنزول الوحي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن وغير القرآن، و لا نعني مِن التسديد الإلهي إلاَّ ذلك. وإذا نفينا ذلك، فمعناه نفي نزول الوحي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بصفته قائداً دنيويَّاً كما يعتبرون؛ إذاً، فسوف يكون ذلك كفراً بالإسلام وخروجاً عنه؛ وبالتالي فلا يُمكن أنْ يجتمع الإيمان بالإسلام مع افتراض أنْ يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قائداً دنيويَّاً غير مُسدَّد.

ومِن الواضح أنَّ هذه الآية الكريمة - التي ذكرها المستدلُّ - نازلة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنَّه لا يكون غيره أولى بذلك منه، كما ذكره في الاستدلال.

الجواب الثاني: إنَّنا يُمكن أنْ نُناقش دلالة الآية على ذلك مِن عِدَّة وجوه: الوجه الأوَّل: إنَّ الآية الكريمة بنفسها دالَّة على أنَّ هؤلاء الذين يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مأموراً بمُشاورتهم، هُمْ أُناس واطئون مِن الناحية الثقافيَّة والإيمانيَّة، ومِن الواضح أنَّ مُشاورة مثل هذه الطبقة لا تكون مُنتجة للنتائج العظيمة التي يتوخَّاها المستدلُّ.

ودلالتها على ذلك في عدد مِن فقراتها - كما سنرى - فإنَّه تعالى يقول:( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (١) .

فأوَّلاً: قوله:( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ... ) ، يعني لولا هذه الرحمة المتزايدة، كما استحقاقهم هو الغضب عليهم وانتقاد تصرُّفاتهم والجزع مِن

____________________

(١) آل عمران أية ١٥٩.

٢٩

مُعاشرتهم.

ثانياً: قوله: ( ... لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ... ) ، بعنوان أنَّ النبي إذا كان غليظ القلب؛ فسوف يقسو عليهم بالنصيحة والتوجيه؛ إذن فسوف يضيقون به ذرعاً ويتركونه. وهذا الدليل على إيمان مُتدنٍّ؛ إذ لو كان الإيمان عالياً لكان اللازم لهم اتِّباع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على كلِّ حال، حتَّى لو ضرب ظهورهم أو أعناقهم.

ثالثاً: قوله:( ... فَاعْفُ عَنْهُمْ... ) ، الدالُّ على أنَّهم مُذنبون في حقِّه، يحتاجون إلى العفو عنهم.

رابعاً: قوله:( ... وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ... ) ، الدالُّ أنَّهم مُذنبون أمام الله سبحانه، يحتاجون إلى استغفار.

وهذا هو فرقه عن الوجه السابق. وبالعفو عنهم والاستغفار لهم سوف تزداد رحمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعطفه عليهم. وبالتالي؛ فإنَّ الأحجى والأرجح بهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ لا يُعامهلم حسب استحقاقهم بالعدل، بلْ حسب مُقتضيات الرحمة الإلهيَّة، فإنَّ ذلك أفضل للمصلحة العامَّة.

وعلى أيِّ حال، فمُشاورتهم وهم بهذا المستوى المتدنِّي، لا يُنتج نتائج القيادة النبويَّة، ولا يكون مُطابقاً للحكمة الحقيقيَّة على أيِّ حال. ومِن هنا لا يكون قوله: ( ... فَإِذَا عَزَمْتَ... ) ، يعني نتيجة للمشاورة معهم، بلْ نتيجة للأسباب الحقيقيَّة لذلك العزم بما فيها الوحي الإلهي.

الوجه الثاني: للجواب على الاستدلال بالآية الكريمة: إنَّ قوله تعالى: ( ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ... ) ليس بمعنى المشاورة الحقيقيَّة، التي يُريد أنْ يفهمها المستدلُّ، بلْ هي شكل مِن أشكال التخطيط السلوكي، يجعله الله سبحانه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله تعالى:( ... فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي

٣٠

الأَمْرِ... ) ؛ لكي ينال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مصالح عامَّة عديدة، يُمكن أنْ نفهم منها ما يلي:

أوَّلاً: أنْ يهديهم بسلوك الرحمة والشفقة معهم.

ثانياً: أنْ يكفي شرَّ ذي الشرِّ منهم.

ثالثاً: أنَّ مُشاورتهم نحو مِن الاختبار والامتحان لهم؛ ليرى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عمليَّاً أنَّهم ناصحون له في الآراء التي سيُبدونها والاقتراحات التي يقولونها أم لا.

رابعاً: أنَّ مُشاورتهم نحو مِن التدريب لهم على هذا الأُسلوب، حين يكونون هُمْ مُحتاجون إلى مُشاورة غيرهم، فلا ينبغي أنْ يتكبَّروا عن ذلك بعد أنْ كان نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله يتَّخذ هذا الأُسلوب بنفسه.

وهُمْ لا شكَّ أنَّهم مُحتاجون إلى المشاورة في تاريخ حياتهم الطويل؛ لأنَّهم ليسوا معصومين، وقد يُصبحون موجودين في زمان ومكان خالٍ مِن معصوم، يُمكنهم الاهتداء برأيه والاستعانة بتسديده، كما كانوا يعتمدون على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . الوجه الثالث: إنَّ هذا الأمر في هذه الآية الكريمة، يُمكن أنْ يكون وارداً بعنوان:(إيَّاك أعني فاسمعي يا جاره) (١) ، يعني أنْ يكون المخاطب بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد غيره، وعندنا عدد مِن الموارد القرآنيَّة، على هذا النحو كقوله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ

____________________

(١) يُضرب هذا المثل لمن يتكلَّم بكم ويُريد به شئياً غيره. وأوَّل مَن قال ذلك سهل بن مالك الفزاري؛ ذلك أنَّه مَرَّ ببعض أحياء طيٍّ، فسأل عن سيِّد الحيِّ، فقيل له: حارث بن سلام. فأمَّ رحله فلم يُصبه شاهداً، فقالت له: أُخته انزل في الرحب والسعة، فوقع في نفسه منها شيء، فجلس بفِناء الخباء يوماً وهي تسمع كلامه، فجعل ينشد ويقول:

يا أخت خير البـدو والحضارة

كـيف ترين في فتى فزارة

أصبح يهـوى حـرةً معطارة

إياك أعني فاسمعي يا جارة

مجمع الأمثال ج١ ص٨٣ - بتصرُّف - الفاخر لأبي طالب المفضَّل ص ١٥٨ - بتصرَّف ـ.

٣١

الذِّكْرَى ) (١) . إلى آخر المورد. وكقوله تعالى:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (٢) . إلى غير ذلك مِن الموارد.

الوجه الرابع: إنَّنا لو تنزَّلنا عن قبول الوجوه السابقة، فمعنى ذلك: أنَّ ظاهر القرآن الكريم دالٌّ على حاجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مُشاورة غيره مِن البشر، وليس مؤيَّداً ولا مُسدَّدا بالوحي الإلهي والحكمة الإلهيَّة؛ فيكون هذا الظهور غير مُحتمل دينيَّاً على الإطلاق، وكلُّ ظهور قرآني أو غيره يُنافي القواعد العامَّة العقليَّة أو النقليَّة، فإنَّه يسقط عن الحُجيَّة، ولا بُدَّ مِن تأويله بحيث يوافق تلك القواعد، فإنَّنا إذا تنزَّلنا وقَبِلنا في حقِّ أيِّ معصوم أنَّه قائد دنيويٌّ، فلا يُمكن ذلك بالنسبة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قائد الإسلام، والقول بذلك خروج عن دينه الحنيف.

وبهذا ينتهي الحديث عن الاستدلال بالآية الكريمة.

الدليل الثاني: لا بُدَّ أنْ نحمل القائد المعصوم على أنَّه قائد دنيوي، وأنَّنا مُكلَّفون بعرض محاسن الدين الإسلامي للكفَّار والفسَّاق والدنيويِّين عموماً - لو صحَّ التعبير - ومِن الواضح أنَّ هذه الطبقات لا تؤمن بالمعصوم معصوماً، بلْ غاية ما يُستطاع إقناعهم به هو كونه قائداً دنيويَّاً فَذَّاً حكمياً رشيداً ناجحاً في قيادته، فإذا توقَّف عرض محاسن الإسلام عليهم على هذا النحو مِن التفكير، أصبح صحيحاً ومُتعيِّناً.

____________________

(١) سورة عبس آية (١ - ٤).

(٢) سورة الحاقة آية (٤٤ - ٤٦).

٣٢

وجواب هذا الدليل: إنَّ الصحيح - رغم كلِّ ذلك - ليس هو ذلك. فإنَّ هؤلاء غير المتديِّنين بالإسلام، والمشار إليهم في الدليل يُمكن تقسيمهم إلى عِدَّة أقسام في حدود ما ينفعنا في المقام.

القسم الأول: أنْ يكون الفرد دنيويَّاً، ولكنَّه موافق لنا في المذهب، فلا يحتاج إلاَّ إلى تفهيمه بحقيقة عقيدته وصفات قادته في صدر الإسلام.

القسم الثاني: أنْ يكون الفرد دنيويَّاً، ولكنَّه يتَّخذ أيَّ مذهب آخر مِن مذاهب الإسلام الرئيسيَّة، فيتمُّ تفهيمه بالحقيقة عن طريق عرض التواريخ الواردة إلينا مِن جميع علماء وقادة الإسلام الأوائل؛ مِن حيث إنَّ كلَّ المذاهب تعتقد بالضرورة لقادتها كرامات ومُعجزات وتأييدات إلهيَّة ونحو ذلك، مِمَّا يكاد أنْ يكون بالغاً حَدَّ التواتر، فالأمر ليس خاصَّاً بمذهب دون مذهب، بلْ هو أمر مُتَّفق عليه بين سائر المذاهب؛ فحيث إنَّ كلَّ المذاهب تعتقد به، فلا ضير على أيِّ مذهب أنْ يعتقد به.

القسم الثالث: أنْ يكون الفرد دنيويَّاً، ولكنَّه يعتنق ديناً آخر غير الإسلام، وأهمُّه النصرانيَّة واليهوديَّة، فمثل ذلك يتمُّ تفهيمه بالحقيقة عن طريق عرض التواريخ الواردة في دينه نفسه عن قادته الأوائل؛ مِن حيث إنَّ دينه قائم على ذلك، بلْ كلُّ الأديان قائمة عليه، وهو أمر مُتسالم بينها، على أنَّ جميع الأنبياء والأولياء وأضرابهم أصحاب مُعجزات وكرامات وإلهامات وتسديدات، فلا ضير على أيِّ شخصٍ إذا اعتقد ذلك في قادة دينه. وهذه التوراة وهذا الإنجيل الموجودان طافحان بذلك في عشرات - بلْ مئات - المواضع منها. كما هو واضح لمن يراجعها.

والنسخ منها مُتوفِّرة في كلِّ العالم بلُغات عديدة والرجوع إليها سهل. مِمَّا يوفِّر علينا مُهمَّة الاستشهاد السريع على ذلك، بلْ الأمر يتعدَّى النصرانيَّة واليهوديَّة إلى غيرها مِن الأديان،

٣٣

كالبوذيَّة والهندوسيَّة والسيك وغيرهم، فإنَّهم جميعاً يؤمنون لقادتهم - بشكل وآخر - حياة مليئة بالكرامات والتسديدات، ومِن ثمَّ فهم ليسوا مِن قبيل البشر الاعتياديِّين على أيِّ حال.

القسم الرابع: أنْ يكون الفرد دنيويَّاً، ولكنَّه مُلحد لا يعتقد أيَّ دين. فمثل هذا الفرد أو هذا المستوى لا يُمكن البدء معه بالتفاصيل، بلْ لا بُدَّ مِن البدء معه بالبُرهان على أصل العقيدة؛ لنصل معه بالتدريج إلى التفاصيل.

وإذا تمَّ كلُّ ذلك؛ لم يبقَ دليل على إمكان التنزُّل عن الاعتقاد بالعصمة لقادتنا المعصومينعليهم‌السلام ، وكذلك ثبوت التأييد والتسديد الإلهي لهم.

كما ثبت وجوده بالدليل، وليس هنا محلُّ تفصيله.

إذاً؛ مُقتضى الأدب الإسلامي الواجب أمامهم، هو التسليم لأقوالهم وأفعالهم بالحكمة. وأنَّها مُطابقة للصواب والحكمة الإلهيَّة. والتوقيع لهم على ورقة بيضاء - كما يُعبِّرون - ليكتبوا فيها ما يشاءون.

وهذا مِن مداليل وجوب التسليم المأمور به في الآية الكريمة. وهو قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (١) .

وإذا ثبت لنا بنصِّ القرآن الكريم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ... ) (٢) وأنَّ( ... الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ... ) (٣) مع أنَّه خير الخلق وأفضلهم وأولاهم بالولاية.

وقد نصَّ القرآن الكريم على الإطراء عليه ووصفه بأوصاف عالية

____________________

(١) سورة الأحزاب آية ٥٦.

(٢) سورة آل عمران أية ١٢٨.

(٣) سورة آل عمران أية ١٥٤.

٣٤

جدَّاً، فهي في العديد مِن آياته،

كقوله:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .

وقوله:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٢) .

وقوله:( ... سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ... ) (٣) .

وقوله:( مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (٤) .

وقوله:( ... أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ... ) (٥) .

وقوله:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ... ) (٦) .

إلى غير ذلك.

فمَن تكون له هذه المزايا العظيمة وغيرها، مِمَّا نعرف أو لا نعرف؛ يستحقُّ - حسب فهمنا - أنْ يكون الأمر بيده.

ومع ذلك، فإنَّ الله سبحانه ينصُّ على نفي ذلك:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ... ) (٧) ، وإذا كان خير الخلق كذلك فغيره أولى بذلك.

إذاً، فليس شيء مِن تصرُّفات المعصومينعليهم‌السلام مِمَّا يرتبط بالمصالح العامَّة، مؤكل إليهم ولا ناتجاً عن رأيهم، وإنَّما هو وارد إليهم مِن الحكمة الإلهيَّة، إمَّا عن طريق جَدِّهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو عن طريق التسديد الإلهي الخاص بأي واحد منهم.

____________________

(١) سورة القلم أية ٤.

(٢) سورة النجم آية ٣ -٤.

(٣) سورة التوبة آية ٥٩.

(٤) سورة التكوير آية ٢١.

(٥) سورة النساء آية ٥٩.

(٦) سورة الفتح آية ٢٩.

(٧) سورة آل عمران آية ١٢٨.

٣٥

٣٦

تعارض الروايات

هناك إشكال موجود في عدد مِن الأذهان، يُفيد الجواب عليه بصدد المعنى الذي تحدَّثنا عنه، يحسن عرضه ومُحاولة الجواب عليه.

فإنَّه قد يخطر في الذهن: إنَّ الروايات مُتعارضة في نسبة التأييد والتسديد إلى المعصومين (سلام الله عليهم)، فبينما عدد مِن الروايات تنصُّ على وجوده، كالمضامين التالية:

قولهم:(إنَّ الإمام إذا أراد أنْ يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى به) (١) .

وقولهم:(إنَّنا نزداد في كلِّ جمعة، ولولا ذلك لنَفِذَ ما عندنا) (٢) .

وقولهم:(إنَّ الأعمال تُعرض على الإمام عليه‌السلام في كلِّ عام في ليلة القدر) (٣) .

وقولهم:(إنَّ العلم على أقسام: خطور في البال وقرع في السمع ونكت في القلب) (٤) .

وإنَّما يتحدَّثون عمَّن هو دون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للتسالم على نزول الوحي عليه، فلا حاجة له إلى كل ذلك.

وإذا تمَّ ذلك إجمالاً لغيره كان المعصومون أولى به مِن غيرهم، ويندرج في ذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليٍّعليه‌السلام :

____________________

(١) أصول الكافي للكليني ج١ باب ١٠١ ص٢٥٨ الحديث الثالث. بتصرُّف بصائر الدرجات ج٧ ص٣١٥.

(٢) أصول الكافي على هامش، مرآة العقول ج١ ص١٨٥، بصائر الدرجات ج٢ص٢١٣. بتصرُّف.

(٣) أصول الكافي للكليني ج١ ص٢٥١ الحديث الثامن بتصرُّف واقتضاب.

(٤) بصائر الدرجات للصفار ج٩ ص١٤٨. بتصرُّف. مُلحق بنفس الرحمان النوريقدس‌سره .

(٥) أصول الكافي ج١ ص٢٦٤ الحديث الثالث. أصول الكافي على هامش مرآة العقول ج١ ص١٩١. بتصرُّف.

٣٧

(إنَّك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع) (١) .

وقوله - أيضاً -:(يا علي ما عرف الله إلاَّ أنا وأنت) (٢) إلى غير ذلك مِن ألسنة الروايات.

في حين يوجد في بعض الروايات ما يدلُّ على ضدِّه، إمَّا بمضمون قول الإمامعليه‌السلام :(إنَّني رُبَّما بحثت عن الجارية فلم أجدها، مع أنَّها في الغرفة المجاورة) (٣) ، وأمَّا بمضمون قوله:(لم أدَّع ولم يدَّع أحد مِن آبائي أنَّنا نعلم الغيب) (٤) .

وفي مثل ذلك: قد يقول المستشكل: إنَّ الروايات هنا مُتعارضة، والروايات المتعارضة تسقط عن الحُجِّيَّة. وإذا سقطت عن الحُجِّيَّة لم يبقَ دليل على وجود الإلهام والتسديد للمعصومينعليهم‌السلام غير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنَّ الطائفة الدالَّة على ذلك تكون قد سقطت بالمعارضة.

ويُمكن الجواب على ذلك بعِدَّة وجوه نذكر أهمَّها:

الجواب الأوَّل: إنَّ مضمون الطائفة الثانية الدالَّة على حِيرة الأمامعليه‌السلام في البحث عن الجارية ونحو ذلك، إنَّما يكون في الحكمة الإلهيَّة لدفع احتمال الربوبيَّة عنهمعليهم‌السلام ؛ لأنَّ مَن تكون له مُميِّزات عُليا ومُهمَّة، لا شكَّ أنَّ الناس بالتدريج قد تعتقد به الربوبيَّة.

وهذا ما حصل فعلاً في التاريخ لعدد مِن الناس كعليٍّعليه‌السلام ، وبوذا والمسيح وغيرهم، وهذا ما لا يُريد الله حدوثه وسريانه في المجتمع رحمة بالناس عن الضلال والجهل.

فمِن هنا تحصل هذه الحوادث البسيطة أمام الناس؛ لكي يندفع احتمال

____________________

(١) نهج البلاغة. تحقيق د. صُبحي الصالح. خُطبة ١٩٢ ص ٣٠١. بتصرُّف.

(٢) المحتضر للحسن بن سليمان الحلِّي ص ٣٨. وص ١٦٥ - مُختصر البصائر ص١٢٥. بتصرُّف.

(٣) بصائر الدرجات ص ٥٧. أُصول الكافي على هامش مرآة العقول ج١ ص ١٨٦. بتصرُّف.

(٤) مرآة العقول للمجلسي ج٣ ص ١١٢. (ط). بتصرُّف.

٣٨

الربويَّة بوضوح وبالحسِّ وبالعَيان. وهذا لا يعني أنَّهم أُناس عاديُّون، بلْ يبقى مضمون الطائفة الأُولى مِن الأخبار - الدالَّة على التسديد لهم - قائماً.

الجواب الثاني: إنَّ مضمون الطائفة الثانية الدالَّ على حيرة الأمامعليه‌السلام في البحث عن الجارية ونحوها، يكون في الحكمة الإلهيَّة، لإثبات السيطرة الإلهيَّة والقهر الإلهي على المعصومين؛ لكي يفهم الناس أجمعون أنَّ هذه المميِّزات، التي دلَّت عليها الطائفة الأُولى وغيرها، إنَّما هي هبات مِن الله سبحانه وليس قائمة بهم ذاتاً، فالله هو الذي شرَّفهم وطهَّرهم، وعلَّمهم واجتباهم وهداهم، وعظَّهم وسدَّدهم وعصمهم، إلى غير ذلك مِن الصفات.

ولو انقطعوا عن العطاء الإلهي طَرفة عين، أو أُوكلوا إلى أنفسهم طَرفة عين؛ لكان بالإمكان انقطاع كلِّ هذا العطاء الإلهي؛ ولذا ورد عن الإمام:(اللَّهمَّ لا تكلني إلى نفسي طَرفة عين أبداً ولا أقلَّ مِن ذلك ولا أكثر يا ربَّ العالمين) (١) .

فلأجل إثبات السيطرة الإلهيَّة والتحسُّس بالعطاء الإلهي باستمرار، يكون مضمون الطائفة الثانية مِن الأخبار. حتَّى يكون محسوساً أنَّ الإمام مَهما كان عظيماً، فإنَّه إذا أوكِل إلى نفسه فسوف يحتار في مكان الجارية ولم يستطع أنْ يجدها. والأمر في كلِّ شيء هكذا أيضاً.

الجواب الثالث: إنَّ المعصومينعليهم‌السلام - عموماً - بما فيهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره لهم عالمان: عالم الظاهر الذي يُعايشون به الناس، وعالم الباطن الذي يتَّصلون عن طريقه بالله سبحانه، ويأخذون منه التسديد والتأييد. ومِن الممكن القول: إنَّ لكلٍّ مِن هذين العالمين قوانينه وقواعده الخاصَّة به، وإنَّ كلَّاً مِن هذين العالمين يؤثِّر ويشتغل بالاستقلال عن العالم الثاني؛ ومِن هنا كانت

____________________

(١) مفاتيح الجنان ص ٥٩٦.

٣٩

الطائفة الأُولى مِن الروايات، وهي الدالَّة على الإلهام والتسديد، تعبيراً عن العالم الباطن لهمعليهم‌السلام ، والطائفة الثانية الدالَّة على حيرة الإمام في البحث عن الجارية، تعبيراً عن العالم الظاهر لهمعليهم‌السلام ؛ فتكون كلتا الطائفتين صادقة في حَقِّهم عليهم السلام.

إلاَّ أنَّ هذا الجواب بالذات لا ينبغي المبالغة في نتائجه؛ لأنَّنا لو أخذناه على سعته للزم منه: أنَّهمعليهم‌السلام لا يستعملون الإلهام الباطني في علاقاتهم الظاهريَّة على الإطلاق، وهذا غير صحيح بكلِّ تأكيد. ومِن موارد النقض على ذلك تصريح الأمام الحسينعليه‌السلام بمقتله قبل خروجه إلى العراق(١) ، إلى غير ذلك الكثير منهم (سلام الله عليهم).

نعم، يُمكن أنْ يكون ذلك مُبرِّراً لبعض الأُمور فقط، كالذي ورد في الطائفة الثانية مِن المضمون، وكذلك يصلح أنْ يكون أحد التفاسير لإقبالهم (سلام الله عليهم) على الموت عن اختيار وطواعية، فقد يكون بعنوان غفلتهم عن نتائج ذلك المخطَّط؛ أخذاً بجانب الظاهر مِن الحياة الدنيا.

على أنَّ لذلك عِدَّة مُبرِّرات أُخرى، قد نتعرَّض لها في مُستقبل هذا البحث.

هذا، وأمَّا نفيهم (سلام الله عليهم) عن أنفسهم تلقِّي الوحي(٢) . المراد به أحد أُمور:

الأمر الأوَّل: التقيَّة في مُقابل الإرجاف بذلك مِن قبل المغرضين.

الأمر الثاني: إنَّ المنفي في الرواية هو عدم ادِّعاء ذلك. وهو لا ينفي وجوده الواقعي لهم.

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس ص ١٢ - مثير الأحزان لابن نما الحلِّي ص ٣٣ - أسرار الشهادة ص ٢٢٣

(٢) المختصر للشيخ حسن بن سليمان الحلِّي. ص ٢٠. وهذا المعنى موجود أيضاً في نفس الرواية التي تقول: (إنِّي أبحث عن الجارية فلا أجدها).

٤٠

الأمر الثالث: إنَّ المنفيَّ عن الرواية هو الوحي الخاصُّ بالنبوَّة(١) ؛ إذ لا إشكال بنزول الوحي على شكل آخر على عدد مِن الخَلف منهم إنسان وحيوان، كأمِّ موسى ومريم بنت عمران والنحل(٢) وغيرهم، بنصِّ القرآن الكريم؛ فليس غريباً أنْ ينزل الوحي، بسبب رحمة الله ونعمته، على أعاظم الخَلق عند الله سبحانه، بما فيهم المعصومون (سلام الله عليهم).

____________________

(١) وهو نوع مِن أنواع الإيحاء يكون بالخطاب، أيْ يسمع فيه النبيُّ كلاماً موجَّهاً إليه مِن قِبَل جبرائيلعليه‌السلام أو الله سبحانه وتعالى مُباشرة.

(٢) لأُمِّ موسى: ( إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ) سورة طه آية ٣٨، ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ... ) سورة القصص آية ٧.

مريم بنت عمران: ( ... فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا... ) سورة مريم آية ١٧، ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى... ) آل عمران أية ٤٢.

النحل - ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ... ) سورة النحل آية ٦٨.

٤١

أصحاب المعصومين

قد يخطر في الذهن السؤال، عمَّا إذا كان أصحاب المعصومين (رضوان الله عليهم)، وبعض الخاصَّة مِن أقاربهم، كالعباس بن علي، ومسلم بن عقيل، وحبيب بن مظاهر الأسدي(١) وأضرابهم، أيضاً يُمكن حمل أقوالهم وأفعالهم على الصحَّة والحكمة، كالمعصومين (سلام الله عليهم)، مع أنَّه لا مُلازمة في ذلك؛ للاحتمال الراجح - بلْ المتعيِّن - أنَّ للعصمة دخلاً في الإلهام والتوجيه لهمعليهم‌السلام ، وهي غير مُتوفِّرة في أصحابهم (عليهم الرضوان)؛ فلا يكون الدليل السابق شاملاً لهم. فإنْ كانت النتيجة صحيحة - أعني: مُطابقة أعمالهم للحكمة - فلا بُدَّ أنْ يكون ذلك بدليل آخر، لا بنفس الدليل السابق.

وجواب ذلك: إنَّ الدليل على ذلك مُتوفِّر في عدد مِن خاصَّة أصحاب الأئمَّة (سلام الله عليهم)؛ وذلك لعِدَّة وجوه:

الوجه الأوَّل: إنَّ مثل هؤلاء الخاصَّة معصومون بالعصمة غير الواجبة،

____________________

(١) حبيب بن مظاهر بن رئاب بن الأشتر الأسدي الفقعسي، أجمع أرباب المصادر أنَّه كان شخياً صحابيَّاً مِمَّا رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع وروى حديثه، ونزل الكوفة وصحب أمير المؤمنينعليه‌السلام وحضر معه جميع حروبه، وكان مِن شرطة الخميس، وهو مِمَّن كاتب الحسين للقدوم إلى الكوفة، وكانت له مواقف مُسجلَّة في صفحات التاريخ مع مسلم بن عقيل، وأخذ البيعة للحسين على يده. وبعد قتل مسلم وهاني اختفى في بيته وعشائره فراراً مِن السلطة آنذاك. وبعد أنْ ورد إليه رسول الحسين يخبره بنزول الحسين كربلاء خرج ومعه غلامه مُتخفِّياً، حتَّى وصل كربلاء قبل اليوم العاشر مِن المحرَّم، فكانت له يوم الطفِّ أيادي بطوليَّة ومواقف مُركَّزة في جانب المعسكر الحسيني، بحيث يقول التاريخ عنه: (إنَّه لما قُتل حبيب هدَّ مقتله الحسينعليه‌السلام ). مقتل آل بحر العلوم ص٤٨٩.

٤٢

كما أنَّ الأئمَّة معصومون بالعصمة الواجبة، فإنَّ العصمة على قسمين:

القسم الأوَّل: العصمة الواجبة، وهي التي دلَّ الدليل العقلي على ثبوتها بالضرورة للأنبياء وأوصيائهمعليهم‌السلام . كما هو مبحوث في العقائد الإسلاميَّة. وهذه المرتبة عطاء مِن قِبَل الله إليهم، لا ينالها غيرهم ولا يُمكن أنْ يكون الدليل عليها دليلاً على غيرهم أيضاً.

القسم الثاني: العصمة غير الواجبة، وهي مرتبة عالية جِدَّاً مِن العدالة، والانصياع لأوامر الله سبحانه ونواهيه، بحيث يكون احتمال صدور الذنب عن الفرد المتَّصف بها نادراً أو مُنعدماً؛ لمدى الملكة الراسخة لديه والقوَّة المانعة عن الذنوب فيه.

وفكرتها نفس الفكرة السابقة؛ لأنَّ معناها واحد مِن الناحية المنطقيَّة، إلاَّ أنَّها تُفرَّق عنها ببعض الفروق:

أوَّلاً: عدم شمول البرهان على العصمة الواجبة للعصمة الأُخرى.

ثانيا: عدم شمول العصمة الواجبة للخطأ و النسيان بخلاف الأُخرى.

ثالثاً: مُلازمة العصمة الواجبة مع درجة عالية مِن العلم بخلاف الأُخرى؛ فإنَّها قد تحصل لغير العالم كما تحصل للعالم.

رابعاً: انحصار عدد أفراد المعصومين بالعصمة الواجبة بالأنبياء والأوصياء. وأمَّا العصمة الأُخرى فبابها مفتوح لكلِّ البشر، في أنْ يسيروا في مُقدِّماتها وأسبابها حتَّى ينالوها، وليست الرحمة الإلهيَّة خاصَّة بقوم دون قوم.

إذا عرفنا ذلك؛ أمكننا القول بكلِّ تأكيد: إنَّ عدداً مِن أصحاب الأئمَّةعليهم‌السلام معصومون بالعصمة غير الواجبة هذه؛ ومعه يتعيَّن حمل أقوالهم وأفعالهم على العصمة والحكمة، شأنهم في ذلك شأن أيِّ معصوم.

الوجه الثاني: إنَّ أمثال هؤلاء الأصحاب والمقرَّبين للأئمَّة (عليهم

٤٣

السلام)، قد ربَّاهم المعصومونعليهم‌السلام ، وكانوا تحت رعايتهم وتوجيههم، وأمرهم ونهيهم ردحاً طويلاً مِن الزمن، إلى حدٍّ يُستطاع القول: إنَّهم فهموا الاتِّجاه المعمَّق والارتكازي - لو صحَّ التعبير - للمعصومين (سلام الله عليهم)؛ ومِن هنا كان باستطاعتهم أنْ يُطبِّقوا هذا الاتِّجاه في كلِّ أقوالهم وأفعالهم.

كما يُستطاع القول: إنَّ الأصحاب (رضوان الله عليهم) تلقُّوا مِن الأئمَّةعليهم‌السلام توجيهات وقواعد عامَّة في السلوك والتصرُّف، أكثر مِمَّا هو مُعلَن بين الناس بكثير؛ بحيث استطاعوا أنْ يُطبِّقوا هذه القواعد طيلة حياتهم.

الوجه الثالث: إنَّ هؤلاء مِن خاصَّة الأصحاب همْ مِن الراسخين في العلم، وقد أصبحوا كذلك لكثرة ما سمعوا، ورووا عن المعصومينعليهم‌السلام ابتداءً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانتهاء بالأئمَّةعليهم‌السلام ، مِن حقائق الشريعة ودقائقها وأفكارها.

وقد يخطر في البال: أنَّ عنوان( ... الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ... ) (١) خاصٌّ بقسم مِن الناس، ولا يُمكن أنْ يشمل قسماً آخر، فهو خاصٌّ إمَّا بالأئمَّة المعصومينعليهم‌السلام أو بمَن هو معصوم بالعصمة الواجبة، بما فيهم الأنبياءعليهم‌السلام . وأمَّا شمول هذا العنوان لغيرهم فهو محلُّ إشكال، وخاصَّة بعد أنْ ورد في بعض الروايات(٢) تفسيره بأحد هذين المعنيين.

وجوابه: إنَّ أخصَّ الناس مِمَّن يُمكن اتِّصافه بهذه الصفة، هُمْ المعصومون عامَّة والأئمَّة خاصَّة، وهُمْ القدر المتيقَّن مِن هذا العنوان - أعني: الراسخين في العلم - وهُمْ فعلاً كذلك. ولا يُمكن أنْ يُضاهيهم بدرجتهم أحد؛ ومِن هنا ورد التفسير في ذلك(٣) إلاَّ أنَّ هذا لا يُنافي أنْ يكون الباب مفتوحاً لكثيرين في أنَّ

____________________

(١) سورة آل عمران آية ٧.

(٢) أصول الكافي للكليني ج١ باب ٧٧ ص ٢١٣.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ج٢ ص ٧٠١.

٤٤

يتَّصفوا بهذه الصفة، بعد أنْ يصلوا إلى درجات عالية مِن طهارة النفس والإخلاص واليقين.

وإنَّ أهمَّ وأخصَّ مَن يُمكن أنْ يتَّصف بذلك همْ أصحاب الأئمَّةعليهم‌السلام ، مِمَّن تربُّوا على أيديهم وانصاعوا إلى توجيهاتهم.

فإذا تمَّ لنا ذلك؛ أمكننا أنْ نُعقِّب عليه ما يتَّصف به الراسخون بالعلم مِن مزايا وصفات تفوق غيرهم، بما لا يُقاس ولا يعرفه الناس، بما فيه الاطِّلاع على مراتب مِن تفسير وتأويل القرآن الكريم. وكذلك الاطِّلاع على كثير مِن واقعيَّات الأُمور، التي لا يعرفها إلاَّ الخاصَّة مِن الخلق، وإنَّما نحن نعترَّض ونستشكل لمدى جهلنا بهذه المراتب العُليا، ولمدى قصورنا وتقصيرنا لا أكثر ولا أقلَّ.

الوجه الرابع: إنَّ هؤلاء مِن خاصَّة أصحاب الأئمَّةعليهم‌السلام مِن (المقرَّبين)، بعد أنْ نلتفت إلى أنَّ سورة الواقعة مِن القران الكريم، قسَّمت البشر إلى ثلاثة أقسام لا تزيد و لا تنقص، هم:

أوَّلاً: أصحاب الشمال(١) أو أصحاب المشئمة(٢) وهُمْ أصحاب النار هُمْ فيها خالدون.

ثانياً: أصحاب اليمين(٣) .

ثالثاً: المقرَّبون(٤) .

إذاً؛ فالأخيار مِن الناس، غير (أصحاب الشمال) على قسمين: أصحاب يمين، ومُقرَّبون.

وهذان القسمان يختلفان كثيراً في الدرجات عند الله سبحانه، إلى

____________________

(١) سورة الواقعة. آية ٤١

(٢) سورة الواقعة اية ٥

(٣) سورة الواقعة. آية ٣٨ و ٩٠ و ٩١

(٤) وهم السابقون كما عبر عنهم القرآن فيقول الله تعالي( السابقون السابقون أولئك المقربون ) سورة الواقعة آية (١٠ - ١١).

٤٥

حَدٍّ يُستطاع القول: إنَّ العوالم التي يعيشونها في الجنان بعد هذه الحياة ليس مِن جنس واحد، بلْ هي مِن جنسين مُختلفين تماماً، ولا يُمكن إيضاح تفاصيله في هذه العُجالة. ويكفي أنْ نُشير إلى أنَّ الجنَّة الموصوفة في ظاهر القرآن الكريم، والتي يطمع بها سائر الناس، إنَّما هي جنَّة أصحاب اليمين، وأمَّا جنَّات المقرَّبين فهي شي آخر ومِن جنس مُختلف لا يُشبه ذاك على الإطلاق.

وينبغي الالتفات إلى أنَّ الباب بالرحمة الإلهيَّة مفتوح لكلِّ أحد، في أنْ يُصبح مِن أصحاب اليمين، أو المقرَّبين، بمُقدار ما أدَّى مِن عمل، وبمُقدار ما يُطيق مِن قواه العقليَّة والنفسيَّة والروحيَّة، ونحو ذلك مِن الأُمور.

فإذا تمَّ لنا ذلك أمكننا بكلِّ تأكيد أنْ نقول: إنَّ خاصَّة أصحاب الأئمَّةعليهم‌السلام ، همْ فعلاً مِن المقرَّبين، وليسوا فقط مِن أصحاب اليمين.

ومَن كان مِن المقرَّبين كان - مِن المهمين - المسددَّين مِن قِبَل الله سبحانه جزماً بنصِّ القرآن، ومثاله نزول الوحي على مريم بنت عمران(١) وآسية بنت مُزاحم(٢) زوجة فرعون، وأُمُّ موسى(٣) ، والعبد الصالح(٤) ، وكلُّهم ليسوا مِن الأنبياء ولا المرسلين.

وإذا ثبت كون خاصَّة أصحاب الأئمَّةعليهم‌السلام الراسخين في العلم ومِن المقرَّبين، فلا عجب في اتِّصافهم بأوصاف تفوق غيرهم بمراتب، مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(سلمان مِنَّا أهل البيت) (٥) وقوله:(ما أقلَّت الغبراء وما أضلَّت

____________________

(١) سورة آل عمران. آية (٤٢ -٤٣) - سورة مريم آية ١٧.

(٢) ( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) سورة القصص آية ٩.

(٣) سورة طه آية ٣٨ - سورة القصص آية ٧

(٤) ( فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ) سورة الكهف آية ٦٥.

(٥) الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي ج١٦ ص ٢٩٢ - أُسد الغابة لابن الأثر ج٢ ص ٣٢٨.

- وسلمان الفارسي هو أبو عبد الله، ويُعرف بسلمان الخير مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وسئل عن نسبه

٤٦

الخضراء ذي لهجة أصدق مِن أبي ذَرٍّ) (١) ، وما ورد مِن أنَّ حذيفة(٢) وميثم التَّمار(٣) وحبيب بن مُظاهر كان لديهم علوم خاصَّة، قد نُسمِّيها:

____________________

= فقال: أنا سلمان ابن الإسلام. أصله مِن فارس مِن رام هرمز. وقيل: إنَّه مِن جَيّ وهي مدينة أصفهان. وكان اسمه قبل الإسلام مابه بن بوذ خشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فيروز بن سهرك، مِن ولد آب الملك، وقد قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنَّ الجنَّة تشتاق إلى ثلاثة: عليٌّ، وعمار، وسلمان).  وكان سلمان مِن خيار الصحابة وزُهَّادهم وفضلائهم وذوي القُرب مِن رسول الله.  قالت عائشة: كان لسلمان مجلس مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالليل حتَّى كاد يغلبنا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وسُئل عليٌّعليهم‌السلام عن سلمان فقال:(... عُلِّم العلم الأوَّل والعلم الآخر، وهو بحر لا يُنزَف، وهو منَّا أهل البيت). وكان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه فرَّقه وأكل مِن كسب يده، وكان يسفُّ الخوص.وهو الذي أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحفر الخندق لما جاءت الأحزاب، فلمَّا أمر رسول الله بحفره احتجَّ المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلاً قويَّاً. فقال المهاجرون: سلمان منَّا. وقال الأنصار: سلمان منَّا. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (سلمان منا أهل البيت). توفِّي سنة ٣٥هـ آخر خلافة عثمان، وقيل: أوَّل سنة ٣٦ هـ. وقيل: توفِّي في خلافة عمر. والأوَّل أكثر. قال العباس بن يزيد: قال أهل العلم عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة. وقال أبو نعيم: كان سلمان مِن المعمِّرين، يُقال: إنَّه أدرك عيسى بن مريم وقرأ الكتابين. أُسد الغابة ج٢ ص ٣٢٨.

(١) أُسد الغابة لابن الأثير ج١ ص ٣٠١ - الكُنى والألقاب ج١ ص ٧٤. وأبو ذرِّ الغفاري هو جندب بن جنادة. وقيل: ندب بن السكن مهادري. أحد الأركان الأربعة، روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام : (إنَّه لم يرتدَّ، مات في زمن عثمان بالرَّبذة سنة ٣١ أو ٣٢ هـ بعد ما نُفي هناك. له خُطبة يشرح فيها الأُمور بعد النبي. وقال فيه النبي:(ما أضلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء على ذي لَهجة أصدق مِن أبي ذرٍّ) الكُنى والألقاب ج١ ص ٧٤.

(٢) حذيفة بن اليمان، وهو حذيفة بن الحسل، ويقال: حسبل بن جابر بن عمرو... بن عبد الله العبسي واليمان لقب حسل بن جابر، هاجر إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فخيَّره بين الهدرة والنُّصرة فاختار النُّصرة، وشهد مع النبي أُحْد، وقُتِل أبوه بها ويذكر عند اسمه. وحذيفة صاحب سرِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنافقين لم يعلمهم أحد إلاَّ حذيفة، أعلمه بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسأله عمر أفي عُمَّالي أحد مِن المنافقين قال: نعم. وكان عمر إذا مات ميِّت يسأل عن حذيفة فإنْ حضر الصلاة عليه صلَّى عليه عمر، وإنْ لم يحضر حذيفة الصلاة لم يحضر عمر.

وشهد حذيفة الحرب في نهاوند، فلما قُتِل النعمان بن مقرن أمير ذلك الجيش أخذ الراية، وكان فتح هندان والري والدينور على يده، وشهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين وتزوَّج فيها. وأرسله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الأحزاب سريَّة ليأتيه بخبر الكفَّار. وكان موته بعد قتل عثمان بأربعين ليلة سنة ٣٦ هـ. أُسد الغابة ج١ ص ٣٩.

٤٧

____________________

(٣) ميثم التمَّار: كان ميثم رضي‌الله‌عنه عبداً لامرأة مِن بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين عليه‌السلام واعتقه على كثير وأسراراً خفيَّة مِن أسرار الوصيَّة، فكان ميثم يُحدِّث ببعض ذلك فيشكُّ فيه قوم مِن أهل الكوفة، وينسبون علياً عليه‌السلام في ذلك إلى المخرقة والإيهام والتدليس حتَّى قال عليه‌السلام له يوماً بمحضر خلق كثير مِن أصحابه وفيهم الشاكُّ والمخلص: (يا ميثم، إنَّك تؤخد بعدي وتُصلب وتُطعن بحربة، فإذا كان ذلك اليوم الثالث ابتدر منحراك وفمك دماً فتُخضَّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، فتُصلب على باب دار عمرو بن حريث عاشر عشرة أنت أقصرهم خشبة وأقربهم مِن المِطهرة. وأمضِ حتَّى أُريك النخلة التي تُصلب على جدعها) فأراه إيَّاها. فكان ميثم يأتيها ويُصلِّي عندها ويقول: بوركت مِن نخلة! لك خلقت ولي غذيت. ولم يزل يتعاهدها حتَّى قطعت، وحتَّى عرف الموضع الذي يُصلب عليه في الكوفة وحدَّ في السنة التي قُتِل فيها، فدخل على أُمِّ سلمة رضي‌الله‌عنه فقالت: مَن أنت؟ قال: أنا ميثم. قالت: والله، لربَّما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يذكرك ويوصي بك عليَّاً عليه‌السلام في جوف الليل، فسألها عن الحسين عليه‌السلام فقالت: هو في حائط له. قال: أخبريه أنَّني أحببت السلام عليه، ونحن مُلتقون عند رب العالمين إنْ شاء الله، فدعت بطيب وطيَّبت لحيته، وقال: أما إنَّها ستُخضَّب بدم. فقدم الكوفة فأخذه عبيد الله بن زياد فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة، فقال له ميثم: إنَّك تُفْلِت وتخرج ثائراً بدم الحسين عليه‌السلام فتقتل هذا الذي يقتلنا، فلمَّا دعا عبيد الله بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله، يأمره بتخلية سبيله فخلاَّه وأمر بميثم أنْ يُصلب، فلمَّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على تحت خشبته وَرشَّه وتجميره، فجعل ميثم يُحدِّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد. فقال: ألجموه. وكان أوَّل خلق الله ألجم في الإسلام. الكُنى والألقاب ج٣ ص٢١٧.

٤٨

علم المنايا والبلايا، أو علم ما كان وما يكون، أو علم الجفر ونحو ذلك. ومثله ما ورد: أنَّ عليَّاًعليه‌السلام قال لابنه العباسعليه‌السلام وهو صغير:(قُلْ: واحد) . فقال: واحد. فقال له:(قُلْ: اثنين) . فرفض(١) ؛ لأنَّهعليه‌السلام يجد الوجود الإلهي والنور الإلهي هو الواحد الأحد، ولا شيء غيره.

إذاً؛ فلا يوجد اثنان ليقول: اثنين. وهذا كان ثابتاً له في صغره، فكيف يُصبح؟ وماذا ينال مِن مدارج اليقين في كبره؟. إلى غير ذلك مِن الروايات.

الوجه الخامس: إنَّ التصرُّفات المهمَّة، التي ترتبط بالمصالح العامَّة وبالحكمة الإلهيَّة في تدبير المجتمع وتسبيب أسبابه، هي دائماً محلُّ عناية الله

____________________

(٥٣) خاتمة المستدرك للعلامة النوري ج ٣ ص ٨١٥. نقلاً عن مجموعة الشهيد الأول (قدِّس سرُّه).

٤٩

سبحانه وتدبيره، وكلُّ شيء يتوقَّف على ذلك فهو حاصل لا محالة بقدرة الله سبحانه، وكلُّ مانع يمنع عنه فهو مُنتفٍ بقدرته أيضاً، لكنْ مع حفظ ظاهر الأسباب والمسبَّبات المعهودة بطبيعة الحال. والمقصود صدق ما ورد مِن (ان لله غايات وبدايات ونهايات في أفعاله جل جلاله)(١) ، وأنَّ الأُمور تسير كنظام الخرز يتبع بعضها بعضاً؛ الأمر الذي يُنتج أنَّ ما يُريده الله سبحانه في البشر حاصل لا محالة. و لا يستطيع أحد على الإطلاق تغييره، وإنْ خطر في ذهنه كونه مؤثِّراً أو فاعلاً لشيء مِن الأشياء، قلَّ أو كثر مِن هذه الجهة أو أيِّ جهةٍ أُخرى.

فإذا تمَّ لنا ذلك: أمكننا القول: بأنَّ تصرُّفات الأئمَّة (سلام الله عليهم) وأصحابهم لا شكَّ مُندرجة في هذا النظام الإلهي العام، ومؤثِّرة في سير التاريخ البشري عامَّة والإسلامي خاصَّة؛ وحيث عرفنا أنَّ كلََّ ما يُريده الله سبحانه في هذا التاريخ، فإنَّه لا بُدَّ مِن حدوثه، يعني حتَّى لو توقَّف على أيِّ سبب خارق للطبيعة؛ ومِن المستطاع القول - عندئد -: إنَّ الإلهام والتوجيه الإلهيَّين لهؤلاء ضروريٌّ في هذه المرحلة مِن التاريخ، بلْ في كلِّ مرحلة منه، بلْ ليس مِن الضروري في الفرد أنْ يعلم كونه موجَّهاً ومُسدَّداً مِن قبل الله سبحانه، بلْ قد يكون كذلك مِن حيث لا يعلم لمدى أهميَّة تأثيره في المصالح العامَّة والتاريخ الإسلامي أو العالم.

ولا شكَّ أنَّنا نستطع إبراز بعض النقاط لأصحاب الأئمَّةعليهم‌السلام ، لإيضاح مدى تأثير أعمالهم وأقوالهم في التاريخ القريب والبعيد:

النقطة الأُولى: كونهم منسوبين إلى الأئمَّةعليهم‌السلام مع أنَّ تأثير الأئمَّة أنفسهم في التاريخ أوضح مِن أنْ يخفى، وقد يكون ذلك عن طريق

____________________

(١) كشف المراد للعلاَّمة ص ٣٠٦

٥٠

أصحابهم. بلْ كثيراً ما يكون ذلك.

النقطة الثانية: كون الدين الإسلامي في صدر الإسلام كان محصوراً في منطقة محدودة، وغير مُنتشر في بقاع عديدة مِن العالم مِمَّا بلغه بعد ذلك.

النقطة الثالثة: قوَّة الأعداء المتربِّصين بالدين وأهل الدين، بالمكر والحيلة والغيلة، مِن الداخل ومِن الخارج على السواء.

النقطة الرابعة: الإعداد لظهور المهديعليه‌السلام في آخر الزمان؛ فإنَّ نجاح حركته إذ يُريد أنْ يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً(١) .

وكما هي وظيفته الإلهيَّة في ذلك.

أقول: نجاحها يتوقَّف على أسباب، وتلك الأسباب ينبغي أنْ يعدَّها الله قبله، وهو جلَّ جلاله فاعل ذلك لا محالة؛ لأنَّ ظهور المهديعليه‌السلام وعد والله لا يُخلف الميعاد.

وقد يخطر في الذهن: إنَّه يكفي الإعداد للظهور في العشر السنوات الأخيرة السابقة عليه في علم الله سبحانه.

قلنا: كلاَّ، فإنَّ الحال في هذه العشر سنوات أيضاً تحتاج إلى سبب، وسببه يحصل في العشر السنوات التي قبلها، وهكذا إلى أنْ يصل إلى عصر صدر الإسلام، ويتَّصل بالأئمَّة المعصومينعليهم‌السلام وأصحابهم. بلْ يتَّصل بما قبل الإسلام مُنذ نزول آدمعليه‌السلام فما بعده؛ لأنَّ ذلك كلَّه نظام واحد مُتَّصل ومُتسلسل، يتبع بعضه بعضاً في الحكمة الإلهيَّة كنظام الخرز.

الوجه السادس: إنَّ ما ذكرناه مِن الوجوه السابقة قد يُناقش في عمومها لكلِّ أصحاب الأئمَّة، أو قُلْ: لكلِّ تصرُّفاتهم، وإنْ كان الوضع السابق يجعلها شاملة على أيِّ حال. ولكنَّ المقصود الآن: أنَّ بعض التصرُّفات مِن بعض

____________________

(١) البرهان للمتَّقي الهندي: الباب ١١، الحديث (٢ -٣) - أعيان الشيعة للأميني ج٢ ص٤٦.

٥١

أصحابهم غير الخاصَّة منهم، يُمكن أنْ تكون على خطأ، أو قابلة للمناقشة بشكل وآخر. وليس بالضرورة أنْ تكون الأقوال والأفعال والتصرُّفات الموجودة في ذلك الحين، ضروريَّة الحمل على الصحَّة، ويكون التاريخ مسؤولاً عن تصحيحها، بلْ يُمكن نقدها واعتبارها باطلاً فعلاً، وتحميل مسؤوليَّتها على أصحابها - سواء اعتبرناهم معذورين فعلاً عنها غفلةً أو جهلاً أم غير معذورين - باعتبار التفاتهم إليها وتعمُّدهم لها. وهذا يكون موكولاً إلى الباحث التاريخي، ولا حاجة الآن إلى تسمية أحد بهذا الصدد.

٥٢

إلقاء النفس في التَّهلُكة

ينبغي لنا، ونحن بصدد الحديث عن حركة الحسينعليه‌السلام وثورته، أنْ نتصدَّى للجواب عن بعض الأسئلة الرئيسيَّة بهذا الصدد، ومِن أهمِّها ما قد يرد على بعض الألسن مِن أنَّ الحسينعليه‌السلام ألقى نفسه في التَّهلُكة، وإلقاء النفس في التهلُكة حرام بنصِّ القرآن(١) .

وهذا لا وجه لا يخصُّ الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإنْ كان فيه أوضح باعتبار القرائن المتوفِّرة الواضحة، التي تدلُّ على مقتله لو سار في هذا الطريق، وعدم إمكانه الحصول على الانتصار العسكري المباشر، ولكنَّها أيضاً شُبهة موجودة بالنسبة للأئمَّة الآخرينعليهم‌السلام ؛ مِن حيث سيرهم في طريق الموت في حين أنَّهم يعلمون بحصوله - كما هو المبرهن عليه والوارد عندنا في حقهم(٢) - وقد حصَّلنا فكرة كافية عن إحاطة علومهم فيما سبق.

إذاً؛ فهم يعلمون بحصول هذه الوفاة في هذا الطريق، فلماذا ساروا فيه؟! سواء كان المراد الأمام الحسين أم غيره مِن المعصومين. وهل السير في ذلك إلاَّ السير في طريق التهلُكة المحرَّمة بنصِّ القرآن الكريم؟!

ويُمكن الجواب على ذلك بعِدَّة وجوه نذكر أهمَّها:

الوجه الأوَّل: إنَّه يُمكن القول: إنِّ الآية الكريمة:( ... وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ

____________________

(١) وهو قوله تعالى: ( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) سورة البقرة. آية ١٩٥.

(٢) أُصول الكافي للكليني ج١ ص٢٥٨ - باب ١٠٢- أعلام الورى للطبرسي ص٣٤٠ - مُرآة العقول للمجلسي ج٣ ص١٠٨.

٥٣

إِلَى التَّهْلُكَةِ... ) (١) ، خاصَّة غير عامَّة، فإنَّ خصوصها وعمومها إنَّما هو ناشئ مِن المخاطب فيها في قوله:( ... وَلاَ تُلْقُواْ... ) ، والمخاطب فيها غير مُحدَّد.

وأوضح المصاديق الأُخرى مِن القرآن الكريم لذلك قوله تعالى:( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ) (٢) ؛ فإنَّ المخاطب فيها غير مُحدَّد، وإذا لم يكن مُحدَّداً لم يكن عمومها أكيداً، كما يَفهم سائر الناس.

وقد يُستشكل: أنَّ الظاهر هو العموم، وأنَّ الضمير يعود إلى سائر المسلمين. بما فيهم الأئمَّةعليهم‌السلام .

وجوابه: أنَّ هذا صحيح لو خُلِّي وطبعه، إلاَّ أنَّه توجد في الآية التي نتحدَّث عنها قرائن صارفة عن كون الخطاب للمعصومين (سلام الله عليهم).

فإنَّه تعالى يقول:( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (٣) ، ومِن الواضح أنَّ الأمرين الأوَّل والأخير:( وَأَنفِقُواْ... ) و( ... أَحْسِنُوَاْ... ) خاصٌّ بغير الأئمَّةعليهم‌السلام بلْ بغير المعصومين وغير الراسخين في العلم عموماً؛ لأنَّ أمثال هذه المستويات العُليا مِن الإدراك لا تحتاجه، وإنَّما يُعتبَر بالنسبة إليهم مِن توضيح الواضحات، بلْ يكون الخطاب هذه الأُمور قبيحاً، وحاشا لله وكلامه مِن القبح. إذاً؛ فالمخاطب غيرهم (سلام الله عليهم).

إذاً؛ فقد وقع النهي عن التهلُكة في سياق الخطاب لغيرهمعليهم‌السلام فنعرف مِن وحدة السياق - وهي قرينة عُرفيَّة مبحوثة في علم الأُصول -: أنَّ النهي عن التهلُكة، غير شامل لهم أيضاً. ومعه لا يُمكن القول: بأنَّ القرآن الكريم نصَّ عليهم بعدم إلقاء النفس في التهلُكة - كما يُريد

____________________

(١) سورة البقرة. آية ١٩٥

(٢) سورة مريم. آية ٧١.

(٣) سورة البقرة. آية ١٩٥.

٥٤

المستشكِل أنْ يقول -.

الوجه الثاني: إنَّه بعد أنْ ثبت أنَّ المعصومينعليهم‌السلام مُسدَّدون بالإلهام مِن قبل الله سبحانه؛ إذ يكون عندهم نوعاً مِن التكاليف: ظاهريَّة وباطنيَّة. أمَّا الظاهرية، فهي الموافقة لظاهر الشريعة والمعلَنة بين الناس. وأمَّا الباطنيَّة، فهي التعاليم التي يعرفونها بالإلهام، فإذا تعارض الأمران: الظاهري والباطني، كان الباطني أهمَّ كما هو أخصُّ أيضاً؛ فيتقيَّد إطلاق الآية الكريمة - لو تمَّ - بغير هذا المورد. فلا يكون هذا المورد على المعصوم حراماً، بلْ يكون واجباً بمُقتضى الإلهام الإلهي الثابت لديه. فيتقدَّم نحوه بخطوات ثابتة مُمْتثلاً أمر الله سبحانه، وراجياً ثوابه الجزيل ببذل النفس في هذا السبيل. وهذا الأمر لا يختلف فيه الإمام الحسينعليه‌السلام عن غيره مِن المعصومينعليهم‌السلام .

الوجه الثالث: إنَّه مِن الممكن أنْ لا يُراد مِن (التهلُكة) المنهيِّ عنها في الآية الكريمة... التهلُكة الدنيويَّة، بمعنى تحمُّل الموت أو المصاعب العظيمة، كما يُريد الناس أنْ يفهموا منها. بلْ يُراد منها الهلاك المعنوي، وهو الكفر وإلقاء النفس في الباطل والعصيان والانحراف، وهو أمر منهيٌّ عنه بضرورة الدين.

وبتعبير آخر: إنَّ المراد مِن التهلُكة ليس هو التهلُكة الدنيويَّة، بلْ التهلُكة الأُخرويَّة، وهو التسبيب إلى الوقوع في جهنَّم بالذنوب والباطل، ولا أقلَّ مِن احتمال ذلك، بلْ مِن الواضح أنَّ التعاليم الأُخرى الموجودة في سياقها - كما سمعنا فيما سبق - هي مِن الطاعات، إذاً؛ فتكون قرينة مُحتملة، على أنَّ المراد مِن هذا النهي: التحذير عن ترك الطاعات والوقوع في المعاصي(١) .

____________________

١ - وهنا يشيرُ سماحة المؤلِّف إلى أنَّ الآية الكريمة تُعطي أوامر في سياق قرآني واحد وهو: (أنفقوا - ولا تُلقوا - أحسنوا)، فإذا لاحظنا أنَّ الأمر الأوَّل والأخير (الإنفاق والإحسان) أنَّهما مِن الأُمور التي يُرجى عند العمل بها الحصول على الجزاء والثواب مِن الله عزَّ وجلَّ أُخرويَّاً، أيْ: أنَّ العبد عندما يُنفق أو يُحسن لوجه الله إنَّما يأمل أنْ يرى أثر عمله أو طاعته أُخرويَّاً وهو رضى الله سبحانه =

٥٥

وإذا تمَّ ذلك: لم يكن في الآية أيُّ دليل على ما يُريد الناس أو يميل إليه المستدلُّ، بلْ تكون بعيدة عن ذلك كلَّ البُعد.

الوجه الرابع: إنَّنا لو تنزَّلنا جدلاً عن الوجوه السابقة، وقلنا: بحرمة التهلُكة، فإنَّها إنَّما تحرُم ما دام صدق العنوان موجوداً، أو قلْ: إذا كان العرف يوافق على أنَّها تهلُكة فعلاً. وأمَّا إذا لم تكن كذلك خرجت عن موضوع التهلُكة فلم تُصبح مُحرَّمة. ولا شكَّ أنَّ المفهوم - عرفاً وعقلائيَّاً - أنَّ التهلُكة إنَّما تكون كذلك، والصعوبة إنَّما تكون صعوبة، فيما إذا كانت بدون عوض أو بدل، فلو مرَّ الإنسان بصعوبة بليغة مِن دون نتيجة صالحة لتعويضها كان ذلك (تهلُكة). وأمَّا إذا كانت نتائجها حسنة فليست تهلُكة بأيِّ حال.

ونحن نرى الناس كلَّهم - تقريباً بلْ تحديداً - يُضحُّون مُختلف التضحيات في سبيل نتائج أفضل ى، سواء مِن ناحية الأرباح الاقتصاديَّة أم المصالح الاجتماعيَّة أم النتائج السياسية أم الثمرات العلميَّة أم أيِّ حقل مِن حقول هذه الدنيا الوسيعة، فإنَّه يحتاج إلى تضحية قبل الوصول إلى نتائج. ومِن الواضح أنَّ هذه النتائج ما دامت مُستهدفة لم يعتبرها الناس تهلُكة أو خسارة، بلْ يعتبرونها ربحاً وفيراً، ورزقاً كثيراً؛ لأنَّها مُقدَّمات لها، على أيِّ حال.

فإذا طبَّقنا ذلك على حركة الحسينعليه‌السلام أمكننا مُلاحظتها مع

____________________

= وتعالى عليه، وبالتالي دخوله إلى الجنَّة فلا ينتظر الجزاء في الدنيا أو مِن الشخص المقابل، فإذا كانت نتيجة هذين الأمرين نتيجة أُخرويَّة يكون الأمر الثالث( ... وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ... ) أمراً أُخرويَّاً أيضاً؛ لأنَّه واقع بنفس السياق، فتكون التهلُكة تهلُكة أُخرويَّة وهو دخول جهنَّم؛ لترك الطاعات والوقوع في المعاصي.

وأشار إلى هذا المعنى عدد مِن المفسِّرين، ومنهم الفخر الرازي، الذي أعطى في تفسير هذا المقطع مِن الآية عِدَّة وجوه منها وجه قريب للمعنى السابق، فيقول: قوله: ( ... وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ... ) هو الرجل يُصيب الذنب الذي يرى أنَّه لا ينفعه معه عمل، فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلُكة؛ فالحاصل أنَّ معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله؛ لأنَّ ذلك يحمل الإنسان على ترك العبوديَّة والإصرار على الذنب. انتهى.

٥٦

نتائجها بكلِّ تأكيد، سواء النتائج المطلوب تحقُّقها منها في الدنيا أم المطلوب تحقُّقها في الآخرة؛ فإنَّها نتائج كبيرة ومُهمَّة جِدَّاً، ولعلَّنا في المستقبل القريب لهذا البحث سنحمل فكرة كافية عن ذلك. وليس مِن حقِّنا أصلاً أنْ نُلاحظ هذه الحركة مُنفصلة عن النتائج، خاصَّة بعد أنْ نعلم علم اليقين أنَّ الحسينعليه‌السلام إنَّما أرادها لذلك، وأنَّ الله سبحانه إنَّما أرادها منه لذلك. إذاً؛ فتسعيرها الواقعي وإعطاؤها قيمتها الحقيقيَّة، إنَّما تكون مع مُلاحظة نتائجها لا محالة.

ومِن الواضح - عقلاً وعرفاً وعقلائيَّاً - أنَّنا إذا لاحظناها مع نتائجها لم تكن (تهلُكة) بأيِّ حال، بلْ كانت تضحية بسيطة - مهما كانت مريرة - في سبيل نتائج عظيمة ومقامات عُليا في الدنيا والآخرة،لا تخطر على بال ولم يعرفها مخلوق، ويكون الأمر بالرغم مِن أهمِّيَّته القُصوى، بمنزلة التضحية بالمصلحة الخاصَّة في سبيل المصلحة العامَّة، وفي مثل ذلك لا يكون حقُّ أحد الإرجاف بأنَّها (تهلُكة). فإذا لم تكن تهلُكة لم تكن مشمولة لحكم التحريم في الآية الكريمة.

الوجه الخامس: إنَّه لا يُحتمَل فقهاً وشرعاً في الدين الإسلامي أنْ تكون كلُّ تهلُكة مُحرَّمة، بلْ الآية الكريمة إنْ وجِد لها إطلاق وشمول، فهي مُخصَّصة بكثير مِن الموارد؛ مِمَّا يجب فيه إلقاء النفس في المصاعب الشديدة أو القتل، أو يُستحب كالجهاد بقسميه الهجومي والدفاعي، ومثل كلمة الحقِّ عند سلطان جائر(١) ، ومثل تسليم المجرم نفسه إلى القضاء الشرعي؛ ليُقام عليه الحدُّ الذي قد يؤدِّي به إلى الموت كالرجم والجَلْد والقطع وغيرها. وكلُّها جزماً مِن مصاديق التهلُكة بالمعنى العام، ولكنَّها واجبة حيناً ومُستحبَّة أحياناً.

إذاً؛ فليس كلُّ تهلُكة مُحرَّمة، فكما أصبحت الأُمور المذكورة جائزة

____________________

(١) إسعاف الراغبين لمحمد الصبان على هامش نور الأبصار للشبلنجي ص٧٧ - التهذيب للطوسي ج٦ ص ١٨٧.

٥٧

ومُستثناة مِن عموم الآية الكريمة، فلتكُن ثورة الحسينعليه‌السلام كذلك.

وما يُمكن أنْ يكون دليلاً على الاستثناء أحد ثلاث أُمور مُتصوَّرة، أصبحت سبباً لقناعة الأمام الحسينعليه‌السلام بحركته:

الأمر الأوَّل: الإلهام الذي يأمره بالخروج في هذا السبيل أمراً وجوبيَّاً(١) .

الأمر الثاني: إنَّه تلقَّى الوجوب عن جَدِّه نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

الأمر الثالث: إنَّه رأى مصلحة عامَّة واضحة الصحَّة وبعيدة المدى، بحيث يكون سلوك هذا السبيل مِن قبيل التضحية بالأُمور الخاصَّة مِن أجل المصالح العامَّة.

بقيَّة الحديث عن التهلُكة

وإذا تمَّ لنا - كما حصل فعلاً مِمَّا قلناه - تأويل الآية بالشكل المعقول، الذي يصرفها عن محلِّ الكلام ومورد الإشكال؛ إذاً سوف لن يكون سير الحسينعليه‌السلام في هذا السبيل، وسير غيره مِن المعصومينعليهم‌السلام في طريق موتهم لا يكون أمراً مُحرَّماً، بلْ هو جائز يختاره برضاه وطيب نفسه مِن أجل رضاء الله عزَّ وجلَّ، والنتائج المطلوبة في المستقبل، ولكنَّنا مع ذلك نعرض في ما يلي الوجوه الأُخرى لتفسير ذلك مِمَّا قيل أو يُمكن أنْ يُقال في هذا الصدد.

____________________

(١) أصول الكافي ج١ ص٢٤٤ - بتصرُّف واقتضاب - أسرار الشهادة للدربندي ص٢٢٦.

(٢) البحار للمجلسي ج٤٤ ص٣٢٨ - مثير الأحزان لابن نما ص٢٢ - اللهوف لابن طاووس ص١١.

٥٨

الوجه الأوَّل: النظر إلى المعصومعليه‌السلام كقائد دنيويٍّ، ومِن المعلوم أنَّ القائد الدنيويَّ قد لا يلتفت، أو لا يتأكَّد مِن وقوعه في الموت في هذا الصدد الذي هو فيه، وإنَّما يأتيه سبب الموت على حين غرَّة. غير أنَّ هذا الوجه غير تامٍّ لأكثر مِن جواب.

أوَّلاً: المنع عن النظر إليهم كقوَّاد دنيوين، بعد كلِّ الذي برهنَّا عليه مِن كونهم مُسدَّدين مُلهمين مِن قبل الله سبحانه وتعالى.

ثانياً: إنَّنا حتَّى لو نظرنا إلى التسبيب الطبيعي، فإنَّه كثيراً ما يكون مِن الراجح جِدَّاً حصول الموت في الطُّرق التي سلكها الأئمَّة في التسبيب لموتهم.

وأوضح مصاديق ذلك حركة الحسينعليه‌السلام ؛ إذ كان هو يعلم بموته، وكذلك عدد مِمَّن ناقشه في سيره وأراد صرف رأيه عنه(١) ، كان مِمَّن يُرجِّح حصول مثل هذه الكارثة التي حصلت له.

ومعه فمِن سُخْف القول: إنَّ الإمامعليه‌السلام لم يكن مُلتفتاً إلى ذلك أو مُحتملاً له سلفاً؛ وإلاَّ فقد أنزلناه إلى مرتبة وضيعة مِن التفكير.

الوجه الثاني: ما هو المشهور بين بعض المفكِّرين في الدين، مِن أنَّ المعصوم وإنْ كان بحسب طبعه الأوَّل معصوماً عن الخطأ والنسيان، إلاَّ أنَّه في تلك الواقعة، يعني: حين يُريد الله سبحانه التسبيب إلى موته يجعله ناسياً أو جاهلاً بالنتائج، فيذهب في هذا الطريق وهو لا يعلم(٢) .

أقول: وهذا الوجه إنَّما يكون حراماً إذا كان عمديَّاً. وأمَّا إذا كان عن جهل أو نسيان، فلا يكون مُحرَّماً. لاستحالة تكليف الناسي والجاهل

____________________

(١) قد مرَّ ذكر أسمائهم سابقاً فراجع.

(٢) مرآة العقول للمجلسي ج٣ص١٢٢.

٥٩

مادام بهذه الصفة، والمفروض أنَّ هذه الصفة تلازم المعصومعليه‌السلام إلى حين تورُّطه في الحادث.

إلاَّ أنَّ هذا الوجه - أيضاً - ليس بصحيح؛ لأنَّه منقوض بما دلَّ مِن الروايات الواردة عنهمعليهم‌السلام ، على علمهم بحصول الموت لدى السير في هذا الطريق قبل التورُّط فيه، كالذي ورد عن الحسينعليه‌السلام حين يقول:(كأنِّي بأوصالي تُقطِّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منِّي أكراشاً جوفاً وأجربه سُغباً، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفِّينا أجور الصابرين) (١) .

ثمَّ قال في نفس الخُطبة:(... فمَن كان باذلاً فينا مُهجته موطِّناً على لقاء الله نفسه؛ فليرحل معنا؛ فإنِّي راحل مُصبِّحاً إنْ شاء الله تعالى) (٢) .

وكلُّ ذلك واضح الدلالة في علمهعليه‌السلام ، بموته وموت كلِّ أصحابه (سلام الله عليهم أجمعين).

وكذلك الإمام الرضاعليه‌السلام ، حين مشى بطريق الموت؛ فإنَّه قال فيما قال لأبي الصلت الهروي(٣) :(... فإنْ أنا خرجت إليك وأنا مكشوف الرأس

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس ص٢٦ - ابن نما الحلِّي ص٢٩ - كشف الغمَّة للأربلي ج٢ص٢٤١- مقتل الخوارزمي ج٢١ص٥.

(٢) نفس المصدر.

(٣) أبو الصلت الهروي: هو عبد السلام بن سالم الهروي، روى عن الرضاعليه‌السلام ، ثقة صحيح الحديث قاله النجاشي والعلاَّمة. له كتاب وفاة الرضاعليه‌السلام وكان كما يشعر به بعض الكلمات مُخالطاً للعامَّة وراوياً لأخبارهم، فلذلك التبس أمره على بعض المشايخ، فذكر أنَّه عامِّيٌّ. قال الأُستاذ الأكبر في التعليقة بعد نقل كلام الشهيد الثاني في تشيُّعه: لا يخفى أنَّ الأمر كذلك فإنَّ الأخبار الصادرة عنه في العيون والأمالي وغيرهما الصريحة الناصعة على تشيعه، بلْ كونه مِن خواصِّ الشيعة أكثر مِن أنْ تُحصى وعلماء العامَّة ذكروه.

قال اذهني في ميزان الاعتدال: عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي رجل صالح إلاَّ أنَّه شيعي. ونقل عن الجُعفي: أنَّه رافضي خبيث. وقال الدار قطني أنَّه رافضي مُتَّهم. وقال ابن الجوزي: إنَّه خادم للرضا شيعي مع صلاحه. وروي أنَّ المأمون حَبس أبا

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250